بدت عدسة المجهر قذرة، ولكن الخطوط والنقط الدقيقة جعلت تتشكل ببطء شديد على البلورة الرقيقة. أثار انتباهي الشكل الهلامي الذي ظهر فجأة على مساحة الرؤية فمسحت العدسة بمنديل ورقي، ولكن عنايتي الفائقة بالنظافة لم تمنع الشك الذي بدأ ينمو بشكل شيطاني في داخل رأسي. كان الذي سيظهر لي تحت العدسة هو حتماً سلسلة من الميكروبات، لا علاقة له بالشيء الذي بدأ يتشكل تدريجي، ولكنه، فيما ألصق عيني بالمجهر من جديد، بات أكيداً أن الخطوط والنقط قد جعلت تتكامل في شكل رأس بشري..
هل تعلمون ماذا حدث لي منذ أسبوع، وعلى وجه الدقة في الأول من الشهر القمري الذي أصبح هلاله الآن أكثر وضوحاً من لحظة ولادته؟
هل تعلمون ما الذي حدث؟ لقد رأيتها مهشمة الرأس وكان الدم واضحاً على وجهها رغم المسافة المديدة التي تفصلني عنها.
كانت على الرصيف المقابل وكنت أنتظر الإشارة الخضراء، وقفت هي متلملمة، ثوبها كان بنفسجياً فاتحاً (واحداً من الألوان الثلاثة التي أحبها: الأسود والأبيض والبنفسجي)، نحيلة ولكن صدرها كان ممتلئاً. هل تعلمون ماذا حدث تماماً؟
إذ ما زلت أذكر كل شيء: نظرت إليها وكانت تتطلع باستعلاء إلى شارة المرور، وانتصبت أمام عيني فجأة صورة لا تنسى:
المرأة مهشمة الرأس والدم الأسود يغطي وجهها كأعشاب الملاعب المهملة. وعندما أصبح الممر سالكاً تمتمت في سري "الحمد لله" ومضيت في طريقي فيما هي اتجهت نحوي وعيناي تهللان بالفرح لخلاصها، ولكن سيارة مسرعة مرقت كالشهقة التي خرجت من صدري وأنا أرى الفتاة التي كانت آ منة قبل لحظات معدودة فإذا بها تقتطع من مكانها لتطير وتحط على الأرض كتلة متكومة، واختلط الموت بالضجة وفيما تجمع المارة كالذرات الرطبة حول المصابة كنت أقف في مكاني كالمسمار.
بعد لحظات تبين أن المرأة قد ماتت لتوها، وتيقنت من ذلك عندما لمحت الدم يغطي هشيم الرأس فانسحبت مذعوراً بينما اجتذب الموت جميع المارة. ماذا فعلت؟ أقسم أني لم أضمر لها حقداً. قرأت في وقائع اليوم التالي خبراً مفاده أن رجلاً حقوداً على الجنس البشري قد صدم صبية بسيارته فقتلها على الفور.
اجتذبتني العدسة من جديد، ولكني قاومت وقاومت حتى انتفخت عروق رقبتي، فتركت مكاني إلى النافذة حيث وقفت هناك أنفث الدخان من خلال القضبان الحديدية السوداء.
تذكرته بوضوح، تلك القضبان.. آه أيتها القضبان.
ماذا كان اسم الصبية؟ لا لا أريد أن أعيد سيرتها فهي شؤم. ماذا يضيرني في ذلك، اسمها كان "آ. ب. ت"، هذا ما عرفته بعد المقلب الذي وقعت فيه دونما توقع أو حتى استعداد مسبق. ساقتني قدماي نحو مركز الشرطة أتحرى عن واقعة الدهس التي أفرج عن مسببها بعد ذلك بكفالة مالية لأن أحداً من أهلها أو معارفها لم يظهر على ساحة التحقيق، وبالرغم من أن اسمها كان واضحاً في بطاقة الهوية، إلا أن الاتصالات لم تسفر عن معرفة أحد من عائلة "آ. ب. ت" لذا عندما فاجأني الضابط بسؤاله:
-ما علاقتك بالقتيلة؟
تلعثمت فلم أجب، ونضح تبيني بالعرق البارد حين سأل عن هويتي فأخرجتها بهدوء لأقدمها له باضطراب. فيما كان يتفحصني دهشته بعد قليل لكوني لا أمت بصلة إلى المرأة، كنت أقول له:
-كنت ماراً في طريقي إلى المختبر.
ولكن عينيه لم تتركا لي مجالاً لوصف الحادثة، قال بصوت مبتور:
-ما علاقتك بالقتيلة؟
أصر الرجل على أن أوقف في سجنه الصغير ريثما يستكمل التحقيق ولكنني استجمعت شجاعتي وصحت:
-هذا خرق للقانون.
فابتسم وجعلني أدخل الزنزانة صاغراً، فوجدتني بين ثلاثة رجال جثموا هناك في الظلمة يدمدمون. حاولت أن أتكلم بصوت مسموع، ولكن يداً خشنة قبضت على ذراعي، وهمست رائحة كريهة في أذني:
-لا تتكلم بصوت يسمعك فيه ضابطنا.
وتسللت إلى أذني الثانية لهجة مخنثة:
-ضربني البارحة لأني ضحكت. هيء. هيء. هيء.
بعد لحظات استقر الظلام في عيني فأبصرت المكان مشرباً بالخضرة الضاربة في كل مساحة، والزوايا كانت لينة فأحسست الغثيان. قال الرجل الثالث بعد أن استدار إلي وكان وجهه ملتصقاً بالحائط:
-ماذا سرقت؟
-لم أسرق شيئاً.
-أنت زان.
فلم أجب، آنذاك تبخرت الضحكات المكتومة بما فيها المؤنثة لتحيطني بجو من السخرية لم أوجد به من قبل. رجل في الأربعين مثلي يحجز في زنزانة قذرة ويكون مجالاً لسخرية أوباش ثلاثة؟
صحت منادياً على الضابط ولكنه أمعن في إهمالي فأوعز إلى مساعد سمين حشر رأسه بين القضبان وقال كمدرب حيوانات:
-هس.. هس.. هس.. هس لا تصرخ، الرئيس يزعجه الصراخ.
لبثت صامتاً دقائق طويلة وممطوطة، كنت أعد أنفاسي، وكنت أستمع إلى لهاث أحد الرجال يخرج من أنفه. كنا جميعاً صامتين ننظر إلى القضبان. بعد قليل همس الرجل الثالث وكان قد أخذ مكانه بقربي:
-لم يقل لنا الأستاذ ما هي تهمته.
-سوء تفاهم.
فاختنقت ضحكة أفلتت من فم المخنث لجمها الخوف من الضابط وتابع الثالث استجوابه:
-أنت تتقن الإجابة، ولكن لا يبدو عليك أنك محام.
-ومن قال لك؟
-وماذا يعمل الأستاذ؟
وجاء صوت المساعد كالمفرقعة ينهانا عن الكلام فسكتنا.
عضضت على شفتي والغيظ قد انتشر في أرجائي المتداعية، كان التعب قد استبد بي حتى كرهت تلك المرأة ذات الثوب البنفسجي. جعلت أفكر بها من جديد. كانت ساقاها نحيلتين وأنا أحب السيقان النحيلة، إنها أشبه بالأعمدة الدقيقة الصنع في معبد جليل التكوين. ثدياها الملفوفان بالقماش الناعم كانا يحيطان بمنخفض واسع برزت منه عظام الصدر. عندما حمدت الله على سلامتها كنت أشتهيها، رجل وحيد مثلي يحق له أن يحلم بامرأة شهية. الركبتان آه الركبتان المنزلقتان لو أنهما ركعتا على الأرض لركعت أنا وتقابلنا وجهاً لوجه، أنفاً لأنف، جبينا لجبين، فماً لفم، ريقاً لريق. لو أنها استلقت لاستلقيت أيضاً...
استدعاني الضابط إلى مكتبه، وكان رقيقاً بشكل أثار شكوكي. جلست أمامه بتهذيب بالغ ولم أرفض السيجارة التي قدمها لي، قال لي بأبوة كبيرة (رغم أني اكتشفت مؤخراً أنه أصغر مني سناً):
-هيا وحدثنا عن الموضوع من أوله.
قلت منجذباً إلى وجهه السمح:
-كنت متجهاً إلى عملي..
-وماذا تعمل؟
-محضر فني في قسم الكيمياء.
-وما علاقة الفتاة بالكيمياء؟
فاستجبت للمزاح الذي أطلقته أسارير الضابط فهتفت بمرح:
-الإنسان يا سيدي معادلات معقدة لا يحلها سوى الكيمياء.
قال الرجل بجفاف مفاجئ:
-ثم ماذا حدث؟
-كنت أقف على الطرف الآخر فشاهدتها.
-ثم ماذا حدث؟
-شيء لا يصدق.
-ما الذي لا يصدق؟
-الشيء الذي حدث.
ثم راجعت نفسي فتوقفت عن الكلام، هل يصدقني مثل هذا الرجل؟ ثم أني لست مكرهاً على الإدلاء بأية كلمة ما دمت لا أقف على أرض الاتهام. صاح الرجل وقد نفد صبره:
-هل تحاول خداعي؟
نظرت إلى رأس القلم الثمين الذي جعل يدق به الطاولة من عقبه، وتمنيت من أعماقي أن يخطئ فيدق الطاولة بالرأس الذهبية، وما هي إلا لحظة مرت على غضب الضابط حتى انتفض كالملسوع وقد تطايرت ذرات الحبر وجعل ينظر إلى رأس القلم المكسور، وعندما انتقل بعينيه الداميتين إلي أحسست بابتسامة تجهض من عيني وانتقلت إلى الزنزانة تدفعني يدا المساعد الكبيرتان كمروحتين.
يبدو أنني كنت الجاهل الوحيد في هذه المدينة، فشهرة رئيس المخفر طبقت الآفاق، سكان القرى المحيطة يعلمون الكثير عن هذا الضابط، والناس في الأحياء القريبة والبعيدة يتحاشون بطشه فيبتعدون عن طريقه.
قال المخنث متسائلاً:
-ضربك بالعصا وتبتسم؟!
-لم يضربني، بل ضرب قلمه.
هتف الثالث بشوق:
-أي قلم؟
-ضرب قلم الحبر بالطاولة فكسر الرأس الذهبي.
-لا بد أنه هدية من إحدى داعرات علب الليل المنتشرة في منطقته.
قال الكريه من أنفه:
-لقد ضعت يا بني، أعرف رجلاً لجأ إلى القانون لمقاضاة رئيس المخفر، فضيق صاحبنا عليه الخناق حتى هرب الرجل من المدينة.
-ولكني لم أتسبب في كسر قلمه.
وتساءلت في نفسي هل صحيح أني لم أتسبب في كسر قلمه؟
ألم أتمنى ذلك!
كان لا بد من الألفة مع الموقوفين الثلاثة، تبادلنا السجائر، ومن ثم النكات، تلتها بعض الأحاديث الشخصية.
-لم أتزوج بعد، يبدو أني نسيت.. الأعمال كثيرة.
-صاحباتك كثيرات إذن؟
كان الذي سألني يملك فندقاً مشبوهاً، والمخنث الذي وقف بقربه واحد من مقتنيات فندقه، والثالث ادعى أنه مخبر صحفي وكان قد شيع أخباراً سيئة عن رئيس المخفر فأوقفه.
قلت لهم بثقة:
-لن يطول الأمر بي، يوماً يحتجزني.. ثم؟
فضحك الصحفي وقال متهكماً:
-رجل طيب.. يبدو أنك لم تغادر مخبرك.. من المختبر إلى البيت والعكس صحيح.
وضحك الجميع بما فيهم أنا.
في نهاية الليلة، أيقظني صوت المساعد فرفعت ذقني عن المقعد الخشبي (آنذاك أحسست بألم بالغ) فرأيت من خلال عيني المطموستين بالتعب وجه المساعد الخشن. قال لي "اتبعني" فتسللت من الزنزانة وأنا على يقين من الإفراج عني فتوددت إلى الرجل قائلاً:
-لن أنسى لطفك يا سيدي أثناء زيارتي القصيرة لكم.
فلم يجب، فتح باب الرئيس بأدب ليتركني أمامه وانسحب كالجرذ. قال الضابط والكلمات تتدحرج في فمه الذي أوصل رائحة الخمر إلي:
-هيا وحدثني بالتفصيل عن الموضوع.
-أي موضوع يا سيدي؟
-الموضوع الذي تخفيه عني.
-لا أخفي عنك شيئاً كنت ماراً في طريقي وحدث ما حدث.
استوى الرجل مترنحاً، ولكنه ما لبث أن تماسك والمسدس الذي أخرجه من الجراب قد أمده بالثبات. صاح بهدوء:
-أستطيع أن أصوب إلى رأسك، كنت بطل الرماية في الكلية.
فابتلعت ريقي وابتسمت في وجهه، ورغم الضوء الشاحب في الغرفة القديمة والتي بدت كمقر سابق لشهبندر التجار (هي كانت فعلاً)، فإنه لمح الابتسامة فابتسم بدوره.
أحسست بالراحة وأنا أقول له:
-هل أستطيع أن أعود إلى بيتي؟
-هل عندك أولاد؟
-لا، لا لم أتزوج بعد.
-أحمد ربك فلن تخلف من ورائك أيتاماً.
-ولكنك لا تتكلم جداً يا سيدي.
فزلزلت الأرض أركانها، فيما صوته يدوي غاضباً:
-هل أنا مهرج؟
-لا.
-من أنا إذن؟
-الرئيس.. هنا.
-وإذا أمرت؟
-تطاع.
طوى المسدس إلى أسفل وهز برأسه فيما يقول:
-أحسنت.. تستطيع أن تذهب.
-أأعود إلى بيتي.
كان الرفاق الثلاثة قد أيقظهم الانتظار وبادرني المخنث بالتهنئة على سلامتي فقلت له:
-ماذا كنت تتوقع.. ألا أعود؟!
فقال الصحفي هامساً:
-لست هنا أول مرة.. فقد وضعني الرجل منذ سنة في برميل أقذار.
-ولكن لماذا؟
-رجل مرح... يعنى بتسلية نفسه.
-ولكني لم أسبب له ضرراً.
-هو الذي يحب أن يسبب الأضرار يا عزيزي، هذا من حقه.
كانت الزنزانة تجار بالملل الغاضب. الجدران مائلة وتهدد بالسقوط والأرض رطبة كجرح متقيح ينز. لم أنا هنا. أريد أن أعود إلى مختبري وإلى سريري الحديدي المريح. يجب أن أحتج. قررت أن أتقدم باحتجاج شديد اللهجة كما يفعلون في المنظمات الدولية، قد أكتفي باعتذار رسمي، آنذاك أغفر له جميع أخطائه. أيها الثلاثي الطيب إنما أنا رابعكم المهيض الجناح. يا أهل الكهف، وشعرت بالظلام تنسجه الكتابة شبكة عنكبوت هائلة الحجم. رأس الرئيس معلقة على الشباك كنملة سقطت في الفخ، استيقظت خوف أن يحدث شيء. قرصت من فخذي فعلمت أن المخنث قد أعلن حربه علي.
مرت لحظات قبل أن أحس بأصابعه الديدانية تبعثر القشعريرة على سطح الجلد الناعم، انتفضت في مكاني وقد قبضت على كفه فلامست عظامي فندت عنه آهة. كانت ذراع مليئة بالشعر تلتف حول عنقي وتضغط فيما آهتي تختلط بآهة المخنث. همس الصحفي في أذني:
-تتطاول على شاب رقيق، يا لك من متعسف!
فقلت بصوت المخنوق الذي خرج من حنجرتي بصعوبة:
-هو الذي اعتدى علي.
فقال صاحب الفندق المشبوه:
-لقد زادت تصرفاتك عن حدها، وما عدنا نحتملك.
في الصباح الذي لم نميز نوره من ظلام المكان، أفرج عن المخنث ليلحق به صاحبه بعد قليل، ثم الثالث، بقيت وحيداً في الزنزانة أتأمل بهدوء مأزقي. في البدء كانت الفتاة، ثم رئيس المخفر، وجاء الثلاثة الذين خلفوا في نفسي حقداً هائلاً.
قلت لنفسي: "ولكن ما ذنبهم؟".
وكانت آخر مرة أرى وجه الرئيس هي الآن فيما أنظر من خلال عدسة المجهر. عدت إلى النافذة أغطي السماء بسحب الدخان، لقد أخافتني العدسة، هل يمكن لحقدي أن يصل إلى ذلك الشكل. سأتغلب على مشاعري وأتابع حياتي التي كانت هادئة. لقد كسر قلمه بنظرة وأريد أن أكسر رأسه، ولكنه أفرج عنك. حومت في المختبر الذي أظلم بياض جدرانه.
استعرضت حياتي، حياة الوحيد الذي عقد قرانا غير شرعي على أنابيب بأطوال مختلفة وعدسات وموازين دقيقة. تبالي هل يمكن لعيني أن تصيب!
لا يمكن لما رأيته تحت العدسة أن يكون أمراً حقيقياً، فتأكدت. فزعت لأن رأسه المجزوزة كانت ماثلة أمام عيني، بالألوان الطبيعية كانت واضحة، والعينان المغمضتان عينا قتيل، خرجت إلى الجدران فكان وجهه على كل مربع من مربعات البورسلان. صرخت فاهتزت كفتا الميزان واختل توازن السوائل وسقطت ذبابة في محلول ثمين وتطاير مسحوق ناعم يتعلق في الهواء. طرق الباب فخرجت أنا جارفاً أمامي الهدوء والوقار والطمأنينة. في الشارع ركضت كالفزع، سقطت على الإسفلت بقعة لهفة. عبرت الليل وخرجت إلى النهار. قرأت الجرائد، بين السطور، دسست فضولي، وفي الصفحة الثالثة كانت صورة الجريمة البشعة التي ارتكبها رجل مجهول ضد رئيس مخفر فجز رقبته بسكين، كانت صورة الجريمة تلك تملأ الأعمدة بالصور والكلام فهرعت إلى أقرب مصدر للماء أحاول أن أغسل كفي فلم أفلح لأن نقطة واحدة لم تنزل من الصنبور الذي بدا أنه لم يستعمل منذ مدة طويلة.