عباس خضر - في مناقشة رسالة جامعية

نوقشت الرسالة المقدمة من السيدة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) للحصول على الدكتوراه في الأدب من جامعة فؤاد الأول يوم الخميس الماضي بكلية الآداب، وكانت لجنة المناقشة مكونة من معالي الدكتور طه حسين بك، وهو الأستاذ المشرف على الرسالة، ومن الأستاذ إبراهيم مصطفى والدكتور زكي حسن والدكتور فؤاد حسنين والأستاذ مصطفى السقا.

وموضوع الرسالة (رسالة الغفران لأبي العلاء المعري - تحقيق ودرس) وقد بدأت السيدة صاحبة الرسالة بالحديث عن موضوعها، فقالت إن ما حببه إليها واسترعى اهتمامها به هو الحياة الإنسانية عند أبي العلاء، وهي تتجلى خاصة في رسالة الغفران، وذكرت جهدها في جمع النسخ المخطوطة ومقابلتها وتفسير ألفاظها والتعريف بمن جاء فيها من الأعلام وما ورد بها من الأماكن، ثم بينت أهم الموضوعات التي تناولتها بالدراسة، من دراسة حول النص، والمعالم الكبرى في رسالة الغفران، وموضوعات هذه الرسالة، وخصائصها، ومكانها من أدب أبي العلاء، ومقارنة هذا اللون من الأدب بأشباهه في الأدب الأوربي. وما إلى ذلك.

والموضوع - كما ترى - خشن. . . وخاصة تحقيق النص؛ فكان موضع العجب ومثار الإعجاب أن تنهض بأعبائه سيدة ويظهر أن قيامها بهذا العمل قد أغرى بها الأستاذة الممتحنين، فاشتدوا في مناقشتها وحاسبوها حساباً عسيراً أشبه بمواقف الحساب في العالم الآخر الذي تحدثت عنه رسالة الغفران. . . كما يظهر أن هذا الجهد العسير قد حملها على الاعتزاز به - قبل المناقشة والمحاسبة - فكانت تتحدث عنه مزهوة ولم تنتظر حكم المحكمين ولم تعبأ بكل ما قيل عن التواضع ومزاياه. . . فأنبري لها معالي الدكتور طه حسين بك وسلقها على هذا المسلك، ولكنها صمدت له، وكان المظنون أن تنسحب باكية، فكان صمودها موضع العجب ومثار الإعجاب مرة أخرى، وظلت تلاقي المكاره التي حفت بها (جنة الدكتوراه) حتى ظفرت بها أخيراً بتقدير ممتاز وقد بدأ الدكتور طه حسين بك مناقشته بالثناء على هذا العمل الأدبي الذي قامت به السيدة، فوصفه بأنه عمل خطير، قائلاً: إنها قدمت نصاً محققاً ميسر الفهم قد بعد أشد البعد عن التشويه والاضطراب، وقد كانت دراسة أبي العلاء مهملة فحمل عليه كثير من الأكاذيب، وقد أحسنت بهذا العمل إلى أبي العلاء وإلى العلم، وقدمت إلى عالم الأدب خدمة جليلة تستحق عليها شكراً أي شكر وثناء أي ثناء، وتغيرت نبرة معاليه في صوته المعبر وهو ينتقل من هذا الثناء، فيقول: كل هذا لاشك فيه، وإنما الشيء الذي فيه شك هو أنك تشعرين شعوراً قوياً بجلال العمل، وهذا أول ما تؤاخذين به من نقد، فأنت أثرة مستأثرة جئت تلتمسين الموافقة على جهدك وقد وافقت أنت عليه من قبل، ولم تنتظري التشجيع فشجعت نفسك بنفسك، وأثنيت عليها ثناء مسرفاً، وليس أبغض إلى الله من الثناء على النفس لما فيه من الرياء والغرور، وكنت أحب أن تقبلي علينا متواضعة راضية، بما قدمت من جهد منتظرة رأينا فيك وفي عملك، وأنت لا تكتفين بذلك وإنما تهاجمين غيرك في الموازنة بين النص الذي تقدمينه وبين ما نشر قبله. وكان يجب أن تتركي لنا هذا، ولكنك تأبين إلا أن تتناولي النصوص مشنعة، وليس التشنيع من الحث العلمي، وإنما هو أقرب إلى الصحافة وإلى الصحافة المهوشة. . وعسى أن تكون خطورة هذه المسألة من أنك لم تنسى بعد ما يتصف به الطلاب الشبان من الطموح إلى التفوق والحرص على السبق وإرضاء الأستاذ فكأنك حريصة على أن تكون الأولى كما يفعل التلاميذ في المدارس الثانوية. عقلك عالم ولكن خلقك شاب، والشاب الذي لم يجرب هو الذي يريد أن يسبق. والنصيحة التي أقدمها إليك تنحصر في جملة واحدة قد أخذناها عن شيوخنا في الأزهر وهي: من تواضع لله رفعه.

وبعد ذلك لاحظ معاليه أنها تذكر كلمة (المنهج) مطلقة من غير إضافة لشيء كالجامعة مثلاً، وخاطبها قائلاً: مادمت حريصة على المنهج فتعالي أناقشك، وناقشها في عدة مسائل، منها أنها تحدثت عن سياسة العرب الإسلامية أيام رسالة الغفران من أفق عال من حيث التحدث عن الملوك والأمراء، وأهملت عنصر الحياة الشعبية والاجتماعية مع ما لهذا من أثر في أدب أبي العلاء، كتشاؤمه الذي يرجع إلى اضطراب الحياة الاجتماعية واختلاف الطبقات. ومما ناقشها فيه قولها: إن أبا العلاء رجل محروم مكبوت، لأنه لما يئس من العفة تشاءم.

قال الدكتور طه: إن أحداً لم يسيء إلى أبي العلاء كما أسأت إليه بهذا القول، هل كان أبو العلاء حريصاً على الاستمتاع ثم زهد عن عجز؟ تقولين هذا ثم تدعين أنك تكبرينه، ولم تأت بنص واحد يثبت أن كان حريصاً على اللذات، لقد كان أبو العلاء يرى أن اللذات الكبرى هي التي لا ألم وراءها كان يرى الإنسان حقيراً وحياته لا تستحق العناية، كان يقول:

ولم أعرض عن اللذات إلا ... لأن خيارها عني خنسنه

لقد خدعك ما يكتبه الأوربيون عن الكبت والحرمان وقد سمعت في مصر وفي الشام ما قيل من أن أبا العلاء حمل على المرأة لأنه لم يستطع أن ينالها، وهذا ليس من الإكبار لأبي العلاء في شيء.

وأذكر أني قرأت هذا الرأي الذي أشار إليه معالي الدكتور طه حسين بك، في كتاب (رأي في أبي العلاء) للأستاذ أمين الخولي، وقد سمعت ما قاله الدكتور في تفنيده وتفنيد ما جاء متصلا به في الرسالة موضوع المناقشة، فلم تقتنع نفسي بهذا التفنيد، لأن تحقير أبي العلاء للذات الحياة لا يمنع أن تكون رغبته فيها كامنة، ولا أقول بأنه يرائي، إنما كان تحقيره قائماً في شعوره الظاهر على سطح ما استسر في غريزته، وعلى ذلك ليس من الممكنات الإتيان بنص يثبت حرصه على اللذات، وليس ما يقوله في الزهد والإعراض عنها دليلاً على عدم الرغبة لما كبتت ولدت النفور. ولست أدري لماذا لا نأخذ في هذه المسألة بما يكتبه لأوربيون عن الحرمان والكبت والشعور الظاهر والعقل الباطن.

ولولا أن صوت الدكتور طه حسين معبراً لما وقفت عند ذكره الصحافة في مقابل البحث العلمي. ولست أريد أن أعرض لما عساه أن يكون قد قصده من أن اشتغال صاحبة الرسالة بالصحافة غلب عليها في جزء من دراستها وهو الخاص بالطعن والتشنيع على من سبقوها في تحقيق رسالة الغفران، ولكني أقول إن فضل الصحافة في تقديم الأدب إلى الناس لا ينكر، وإن قسماً كبيراً جداً من إنتاج أدبائنا وخاصة كبارهم رآه القراء أول ما رأوه على صفحات المجلات والجرائد، وأقول أكثر من ذلك: إن كل أدبائنا الكبار منسوبون إلى الصحافة وقد كاد العميد الكبير أن يكون نقيب الصحفيين كما يعرف القراء مما جرى في آخر عهد الوزارة السابقة، ولعل اسم معاليه لا يزال إلى الآن مقيد في جدول الصحفيين.


ذ. عباس خضر


مجلة الرسالة - العدد 876
بتاريخ: 17 - 04 - 1950
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...