يونس بن عمارة - القط الذي يبدو من بعيد و كأنه كومة قش أو اصلُ كلمة دهر


من فكرة في ذهني تكوّن رجل .. هذا الرجل اصبح كائنا مستقلا ومن هناك فانه سار في صحراء قاحلة لا يعلم منتهاها الا الحق .. وكان الرجل يسير بلا زاد ولا اي متاع ..لكنه ان عطش عطشا كافيا وجد الماء في المرحلة التالية لسيره ثم ان جاع جوعا كافيا وجد الطعام في المرة المقبلة لانتهائه من السير .. لأنه يسير ثم يرتاح لينام ثم ينهض فيسير مجددا ، سيرٌ طويل مُضنٍ بلا هدف بلا داع بلا اية غاية في ذهن الرجل الا شيئا واحدا (ان يعرف اصل كلمة دهر من اين اتت ) ولهذا وُجد اصلا في ذهني كفكرة .

وكلامنا عن الجوع الكافي والعطش الكافي لا يعرفه ابناء العصر الحديث فلا يمكن شرحه لأنه لم يجوعوا ولم يعطشوا والماء متوافر والاكل دوما موجود …

ومرة بزغت فكرة في ذهن الرجل وهو كيف للماء او الطعام ان يصل اليه ، ومن يوصله وانا في هذه الصحراء وحيدا ، هكذا ظن الرجل ، هو يظن انه وحيد .. لا احد هنا ، لهذا تعجب وهكذا في المرحلة القادمة لسيره بعد ان نام ..لم يجد الماء وعطش عطشا مضاعفا .. فلما تعلّم الا يسأل والا يأكله الفضول ، وجد الماء وطيلة عشر سنوات من السير ولم تنتهي الصحراء … وانظر الى اننا قلنا انه تعلم لكنه لم يتعلم الكثير فلو فهم الامور لكان علم ان التعلم يتطلب معلما وهو يظن انه وحيد لا احد معه ..فالعلم هو معلم ومتعلم والعلم اي ثلاث اشياء شخصان وفكرة ، لكننا دعونا لا نطلب منه اكثر مما هو عليه ، ومن البداية من بداية معرفته بنفسه كان كل ما وجده هو الصحراء لذلك لا يعرف اصله ولا مبداه من اين اتى وهو يظن انه قد وُضِع هنا لأمر ما او عقوبةَ لشيء قام بفعله والادهى انه نسى ما ذلك الشيء فلم يعهد نفسه الا كبيرا لذلك فكر ..وكل ما يفعله اثناء السير هو التفكير انه فقد الذاكرة والقي به هنا فلا جذر ولا اصل له لكنه كان شاكرا لأنه على الاقل يملك هدفا وهو أن يعرف اصل الكلمة .وهذا على الاقل في هذه الصحراء :شيء له قيمة .

وبعد سنوات طوال وجوع واعياء لا حد لهما، وجد من بعيد فيما يظهر له كالسراب : كومة من القش مكتوبة على شكل كلمة دهر ..فحث الخُطا اليها، لم يجري ولم يهرول لأنه يعرف انه لا احد سيسبقه اليها .. ولما سيسبقه اصلا والناس لا تسعى لاكوام القش،هذا لو كان يعرف فكرة الناس اصلا فكل ما وعى من الوجود هو نفسه والصحراء وكلمة دهر ، وما طمأنه ولم يجعله يهرول انه طوال تلك السنين لم تظهر تلك الاشياء لتختفي فجأة..فهذا مناف للحكمة ان وجدت حكمة في هذه الصحراء وفي حياته البائسة ، لكنها وخلاف توقعاته : اختفت وكان ظنه خاطئا .. وكان عليه ان يسير لمدة عشر سنوات اخرى ويكبر ويشيب راسه ويتعب جدا ليجد في الاخير كومة من الثياب اخرى تتكون على شكل كلمة دهر بالعربية وهنا مذ راها هرول اليها بجد وجرى اليها ولكن و يا اسفاه مرة ثانية وجدها اختفت لما فكر ان يهرول …

هنا بزغت فكرة اخرى في ذهن الرجل الذي لا يعرف من اين اتت هذه الفكرة وهي كالآتي : الا يهتم من الان فصاعدا الا بالسير ولن يهتم لكومة القش تلك .. وطوال عشر سنين اخرى مرهقة متعبة وطويلة كاللاشيء كالفراغ و كالكاوس chaos كالبطء، وثقيلة كالملل وكجردل مُلىء رصاصاً بل ككومة من الاشعار الحديثة بورق غليظ وبكعوب انيقة مرهقة ..مثل كل هذا اتمم الرجل سيره وفي رأس عشر سنوات وهو لا يعرف الزمن ولهذا حكاية اخرى طويلة كيف تمكن من معرفة الزمن لن نحكيها الان لاني لا اعرفها .بزغت من بعيد كومة قش تشكل كلمة دهر بالعربية ..

لم يهتم الرجل وواصل سيره حتى اقترب منها ولحسن الحظ هذه المرة لم تختفي فعرف ان الامر هو عدم الاهتمام واللامبالاة هو الذي جعلها لا تختفي .

لكنه لما اقترب منها وجد ان ما ظنه منذ ثلاثين سنة كومة قش لم يكن الا هرا قطا سياميا كان ينظر الى الافق ..و من بعيد يظهر كانه كومة من الثياب . ولا تسل كيف كان يُكوّن كلمة دهر وهو هر فانا لا اعرف .

سأل الرجل : هل انت الدهر ؟

اجاب القط ببساطة : لا . انا فقط هر .

-لماذا اذن اراك من بعيد تكوّن كلمة دهر ؟

اجاب الهر : لا ادري .

-وما الذي تفعله هنا ؟

-انت تسال كثيرا لا بد انك انسان .

-نعم .الم تر انسانا قط ؟

-وهل رأيت انت واحدا من قبل ؟

-لا ، انا وحدي منذ زمن .لكني متعجب كيف لك ان تتكلم وانت هر ؟

-راقب الفاظك يا بشري ، انك لما تساءلت في حياتك من قبل مُنع عليك الماء والطعام . لا داعي لهذا .

-انا متشوق للحديث ، لي ثلاثون سنة لم احدث احداً. ( قالها وكان له ثلاثون سنة وهو يحضر لهذه الجملة ) .

– ولما كنت متشوقا للحديث لما تحدثني تسال سؤالا غبيا لما انا اتحدث؟ استغل الامر وحسب .

-حسنا المهم لدي و في حياتي هو ان اعرف كلمة دهر من اين اتت ؟

-لا ادري فعلا لا اظن انه يمكن ان افيدك ..لكنهم يقولون من زمن بعيد سحيق قبل ان تخلق انت او الصحراء او حتى الافكار .. ان احدهم احب فتاة وكان غيورا بشكل جنوني .. لذلك فانه لم يمنع العالم ان يعرف شكلها وهيئتها وحسب .بل اراد ايضا ان يمنع ان توجد في اللغة وكلام الناس . وهكذا اخفى اسمها فلا يعرف احد اسم تلك الفتاة ..لكني بالصدفة وجدت قطا يعرف القليل من اللغات التي قيل ان خالق هذه الصحراء كوّن بها هذا العالم .

وافهمني ان كلمة دهر هي كلمتان وليس كلمة واحدة .. وهي كالاتي : (اسم الفتاة ) ولنقل ان اسمها بينلوبي مثلا ..بينلوبي تخص دا هِر . والهر بالالمانية تعني السيد . فالمعنى ان بينلوبي تخص هذا السيد ودا حرف اشارة في لغة لا اعرفها .. وكما اخبرتك لما اراد ان يخفي اسم الفتاة فعل هذا وهكذا وُجدت كلمة دهر في هذا العالم طبعا .. لانه يُحكى انه في عالم اكبر من هذا ويعيش فيه بشر كثيرون ان لها اصولا اخرى .

كان الرجل مستمتعا جدا بالحديث هذا ..لانه منذ دهر لم يستمع لأي شيء .لكنه نسي ان يسأل القط كيف له ان يعرف انه منع من الماء بسبب الفضول وقد حدث هذا وكان لوحده وحسب ؟؟. سأل الرجل :

  • لكنه لم يحذف اسم الفتاة فحسب . بل حذف كلمة “تخص” ايضا اي بينلوبي تخص دا هِر ، فما السبب في حذف كلمة ‘تخص’ ؟؟
  • لأنه يا عزيزي نحويا ‘تخص’ ترجع للفتاة لان فيها حرفا ت يعود عليها ، فلغيرته ايضا الحقها بالحذف فلم يظهر منها شيء .
وهكذا انتهت المحادثة .

ويقال في الحكايا ان الرجل واصل مسيره مسرورا بسماعه تلك الاجابة آملا -والامل حق- ان يجد القط اللغوي قبل ان تحين وفاته .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...