عذري مازغ - رسالة غرام، وجحيم المدرسة القروية

1

عندما كان الطفل برددوش يافعا في المدرسة الإبتدائية، كان مغرما بفتاة من نفس قسمه، كانت قد بدأت تتنضج بالتدريج مفاتنها الأولى، وكان ذلك الإنجذاب الساحر عنده مبهما إلى حد كان يرنو فقط أن يضع رأسه بين ذراعيها لتوقع هي بأناملها الرقيقة لمستها الساحرة، كان عشق طفل يتوق أن ينام في حضن أمه.. عشق لم يغادر بعد حنان الأمومة إلى مايشعل جوارحه عشقا بالفاحشة.. كان كل عشق برددوش هو أن يكتب رسائل غرامية صغيرة بصغر الاحساس فيها، رسائل يملأ بها جيوبه الصغيرة ليقرأها على صديقيه الحميمين في الصف، دون أن تصل نهائيا إلى معشوقته التي لأجلها كتبت، ويعلق عليها الصديقان بأنها رائعة الأسلوب والتعبير وتضاهي كتابات الكبار، وأن طفلته الصغيرة، ستفتتن بها وستموت فيه. كانت متعته في تللك الرسائل هي انطباعات الأصدقاء حولها أكثر من أن تصل إلى صاحبة الجلالة، بسبب من خجله الدفين الذي انغرس في دواخله منذ استوعب سلطة الأسد من زئير والده الذي ما أن يدخل إلى المنزل حتى ينغلق الكل على نفسه بما فيهم والدته المسكينة، لا أغاني في المذياع، لاصياح ولا لهو ولاشيء آخر. كان المسكين يكتبها لنا أكثر مما كان يكتبها لفتاته، وكان يشرح لنا فيها شعره الكبير الذي لم نفهمه آنذاك، يرصعه بكلمات كبيرة وقديمة قدم التاريخ، لا نفهم منها سوى إيقاعاتها الجملية (من الإبل) التي تنقع الغبار عند شعراء الجاهلية..
وحدث أن أحد الأصدقاء كان معجبا بتلك الرسائل، فطلب منه استعارة واحدة منها ليستعين بها في كتابة رسالة لمعشوقته هو الآخر، ولم يمانع برددوش في منحه واحدة ممن كانت تملأ جيوبه، على أن لاينقلها حرفيا حتى لا تعرف محبوبته هو على أنها نفس الرسالة التي تلقتها، وما كان من هذا الصديق، بسبب من كسله أن منح الرسالة ذاتها لمعشوقته، الشيء الذي لم تستسغه الفتاة التي بدأت بتوبيخه، فما كان منه أن اعترف لها بأن الرسالة ليست منه، وأنه فقط نقلها إليها، فما كان منها أن شكت برددوش إلى المعلم ليقيم له محاكمة تاريخية هزت كيان المدرسة، جنايتها الكبيرة أنه كتب رسائل غرامية تصف صديقته وجارته عبوزان بأجمل الصفات... ومضت المحاكمة في جو رهيب رفعت الفتاة الواشية إلى مقام الصديقين بينما برددوش الخجول المنكمش على ذاته نال خمسين جلدة من سلك اللامبا القوي ونال توبيخ التلاميذ، كما وصل انحطاطه إلى مسامع والده الأسد، فيما كان المعلم الذي أقام الدنيا وأقعدها بسبب محاكمة طفل صغير كان يكتب رسائل ليفاخر أصدقاءه، كان هو يكتب رسائل يدسها في طحين العجين الذي يمدنا به لتصنع له أمهاتنا وأخواتنا الكبيرات خبزا، رسائل لأخواتنا اللاتي لم يكن يعرفن لا الكتابة ولا القراءة.

2

كانت المدرسة أشبه بسجن صغير تختمر فيه أجسادنا الصغيرة المنذورة لغضب الآلهة برياحين الأحذية البلاستيكية، وكان التعذيب سمة تلك المرحلة من الدراسة الإبتدائية، تعذيب مشرعن اجتماعيا ودينيا، لأن موقع سياط الفقيه والمعلم على أجسادنا الصغيرة، لا تحرقه نار الآخرة كما كان يقول الآباء، وكان كل من يعيش معنا في البيت يستبيح ذلك السياط ويعلنه علينا حين نشاغب، لم نطمئن يوما إلي مرحنا أو لعبنا إلا في أيام العطل حين يسافر المعلمون إلى ذويهم أو حين يغيبون لأسباب معينة وكنا نعرفهم بأسمائهم المناسبة، الذي كان يتساهل معنا بالساهل والذي كانت تنزعج منه فرائسنا بالواعر (القاسي) . وكان برددوش، شاعر الغراميات الصغير، من يوم المحاكمة الرهيبة إلى أن وافته المنية ضحية استفزاز كل طفل يريد أن ينال منه في شيء، كانت الرسائل تهمة ثابتة في حقه بدليل المحاكمة، وكان أي منا يستطيع إعادة صك الإتهام كلما أراد إخضاعه، ولم تنفعه معنا قوة بنية جسمه، فهو كان أطولنا وكان أقوانا أيضا، لكنه كان أخضعنا بسبب من ذلك، أصبح منزويا تحوم حوله ملامح اليتم الذي حمله، في مرض عضال، إلى أن ينفث أخر انفاسه في أحد أيام الجمعة، بعد شهر من محاكمته.
كان كما لو أنه رفض العيش في مجتمع تسوده قوانين الجحيم، وذهب ليكمد جراحه بسكينة الجنة كما يقول الآباء... وكانت الطفلة عبوزان أكثر من باكاه في ذلك اليوم الحزين..

3

حملت فينا مظاهر العزاء في وفاة برددوش حقدا دفينا للمرأة الفتاة التي وشت به إلى المعلم لتوقعه في أول محاكمة علنية تشهدها طفولتنا في التاريخ، وتكرست في دواخلنا تلك الصورة النمطية لهذا الكائن الوديع الذي رسمته الكتب المدرسية، تلك الشخصية الغرة التي تنفزع في المطبخ ما أن يتمظهر لها فأر صغير يلوذ بروحه، أو مرور حشرة تائهة في التقاط الفتاة، طفلة تجمع الزهور في الحديقة وتنام محاطة بملائكة من الدمية في السرير، وهي صور في كل تجلياتها تفرز إيحاءات وظيفية تحدد بدئيا مصيرها المعلوم ، وبعد كل هذا كان ملبسها القصير في كل كتب المطالعة يشكل صورة نمطية لما يريده القائمون على التعليم أن تكونه، في الفزع أمام فأر، في انحنائها لاقتطاف الزهور، في نومها الوديع بين الملائكة، نمطية إيحائية تختزلها في كل صورة أطرافها العارية.
ما أن ودعنا برددوش حتى بدأت ملامح أخرى تظهر في تصرفات المعلم الجليل، كان كمن شعر بعقدة الذنب نحو قضائه الجهنمي لتصبح فتاة العفة والطهر ضحية أخرى من ضحاياه، حيث ما أن تفشل في تحصيل درس ما حتى يناديها لتقف أمامنا ليثير درسا آخر من نمطية ساديته كما لو كان ينتقم لنفسه من تداعيات المحاكمة البليدة التي أقامها على طفل شاعر، كان يمد يده إلى صدرها ليشد على رأس ثديها الصغير الذي لم ينضج بعد، ثم يبدأ يحكي علينا قصص خرافاته التي تعلمها على النسوة، كان يناديها أمامنا باسم عائشة قنديشة التي ألهمت الذاكرة الشعبية بما يديم علينا أبشع الأوصاف التي امتطت ركب مخيلتنا الصغيرة، مما اضطر الطفلة الجميلة للهروب هي الأخرى من جحيم المدرسة الابتدائية وتقبل على أول زوج لم يكن جسدها الصغير يستوعب لهفة الذكورة المتعطشة للإغتصاب.
إلى روح برددوش الشاعر أهدي هذه الذكرى وإلى تلك الفتاة التي أصبحت أما قبل الأوان، وبئس مدرسة قروية حملت إلينا نشيد الهمجية، ونحن أطفال.


التفاعلات: أريج محمد أحمد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...