كثر الحديث عن الطب البديل في وسائل الإعلام المكتوبة و السمعية و البصرية، غير أنه للأسف الشديد، في أغلب الأحيان، يشوه بتقديم مفهوم خاطئ و انطباع مغلوط عن هذا الطب إلى الناس.
فقد أصبح الطب البديل يساوي عندنا مصدر تسمم بالجملة، بل هناك من وصفه بالكارثة، واختزل في فن العطارة، و شنت حرب على رواد هذا النوع من الطب L' Herboristerie "" "تعشابت"
و أن الهدف من ممارسة هذا النوع من الطب هو ربح المال بالدرجة الأولى.
إن اختزال الطب البديل في فن العطارة "تعشابت" هو خطأ كبير، ففن العطارة "تعشابت" لا تشكل بتاتا فرعا من فروع الطب البديل، فهناك فرق شاسع بين L'Herboristerie et la Phytothérapie.
فالفيتوتيرابي هي الفرع الذي يتعلق بالتداوي بالأعشاب الطبية في الطب البديل، بمعنى أن العشاب ليس اختصاصيا في الطب البديل.
كما أن الطب البديل لا يعتمد على التداوي بالأعشاب وحدها بل على العديد من التخصصات كالتداوي بالزيوت العطرية، الحجامة، الوخز بالإبر، الكي، الضغط بالأصابع، و التدليك و غيرها من التخصصات…
تعترف الدول المتقدمة بهذا النوع من الطب، و قننته، و أصبح طبا معتمدا في كندا، و ألمانيا، و الولايات المتحدة، بل دخل في نظام التغطية الصحية، نصفه نحن بالكارثة كأننا نجهل معناه و اختصاصاته…
في هذا الجزء سنناقش موضوع الطب البديل من الجانب التاريخ للمغرب و كيف صنفه الأجانب و اعتبروه كارثة يسيء للطب و يسيء لنا كمغاربة.
تعتبر أقدم طرق العلاج التي مارسها المغاربة بدائيا وعادت بقوة إلى الحياة، و في عدد من المذكرات التي كتبها أصحابها عن رحلاتهم إلى المغرب خلال مائتي سنة الأخيرة، كتب بعضهم بكثير من السخرية عن عملية الحجامة وقالوا إنها طريقة غاية في البدائية، وسخروا من الذين كانوا يمارسونها في الأسواق الأسبوعية بانتظام والذين كان المغاربة عموما يعتبرونهم «أطباء» لأنهم كانوا يخلصونهم من آلام كثيرة باستعمال عملية الحجامة التي كانت تتم بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تتم بها اليوم.
المثير بهذا الخصوص أن الحجامة لم تكن معروفة في الأوساط الأوربية، لكنها تبقى طريقة عتيقة في التخلص من الدم الفاسد الذي يكون في العادة سببا في الكثير من الأمراض والمضاعفات الصحية الخطيرة التي لم يكن المغاربة يملكون أي دواء لعلاجها.
بعكس الأوروبيين الذين كانوا متقدمين في ذلك الوقت طبيا، لذلك كانوا ينظرون إلى الحجامة على أنها طريقة بدائية يقوم بها المغاربة فقط لأنهم لم يكونوا يتوفرون على أدوية لعلاج الأمراض التي تتربص بهم.
الأطباء الأجانب الذين زاروا المغرب منذ 1860 وصولا إلى مرحلة الحماية، لم يحاولوا فهم سر الحجامة ولا فعاليتها، وحكموا عليها من البداية بأنها طريقة بدائية ومحلية لا تقدم أي علاج للأمراض التي يحملون هم أدويتها في جرابهم.
والحقيقة أن الحجامة تعود إلى فترة ازدهار الطب الإسلامي، وكتبت عنها مؤلفات كثيرة لأطباء كان لهم دور كبير في تأسيس علوم الطب التي تُدرس في الجامعات الأوربية والأمريكية أيضا، ولم يدرك زوار المغرب هذا الأمر في حينه، لذلك كانت مذكرات الكثيرين منهم تسخر بحدّة من الطريقة التي كان يمارس بها المغاربة الحجامة في الأسواق الأسبوعية، نظرا لغياب المستشفيات أو العيادات الطبية التي يمكن أن تُقدم فيها هذه الخدمات.
جاء في عدد من المراجع، وحتى في الروايات الشفهية التي جمعها بعض طلبة شعبة التاريخ في إطار البحوث التاريخية للتخرج، بخصوص الطب الشعبي في المغرب خلال القرن 18 و19، أن أجدادنا كانوا يستغلون الأسواق الأسبوعية باعتبارها تجمعات منتظمة لكل الفئات الاجتماعية في المغرب، ليضربوا موعدا أسبوعيا مع المرضى للتداوي بطريقة الحجامة التي كان الناس يعتقدون يقينا أنها تشفي كل الأمراض الباطنية مهما كانت خطورتها.
كانت العملية تتم باستعمال أنبوبين معدنيين يستعملهما «الحجام»، وهو الاسم الذي يطلق على الشخص الذي يشرف على عملية الحجامة، ويثبتهما خلف رأس المريض، ليتصلا بالأواني الزجاجية الشبيهة بالكؤوس، والتي يجتمع فيها الدم الفاسد الذي يتم مصه خارج فروة الرأس الحليق أو نقط محددة من ظهر المريض، وهكذا يخلصه «الحجام» من كميات الدم الفاسد في جسمه.
يقول لاورنس في مذكراته وهو يصف حالة أحد المرضى اليهود: "بمجرد وصول المولى عبد الحفيظ إلى السلطة، قام بوضع حد للمجازر التي يعرفها الملاح. لكنني ما إن قمت بجولة في الشوارع القذرة، حتى رأيت أدلة على ما وقع هناك في كل الجهات، المشاهد المروعة تتكرر أمام كل بيت. وتلقيت ترحابا كبيرا وكرما في الضيافة من تلك الأسر الفقيرة.
في مكان قصي، كان هناك رجل مسنّ معذب ممدد على الحصير. هل أحضر له طبيبا؟ إنه مستعد لإعطاء كل ما يملك إن استطعت أن أخفف خوفه من سكين كبير اخترق بطنه.
الطبيب الوحيد المتوفر إسباني، ورفض أن يدخل الملاح، لأنه كان ينوي أن يعوض الدكتور الإنجليزي في البلاط، وزيارة حي متدهور كالملاح يمكن أن تعرقل العملية".
هذا المقطع لوحده، كاف لإعطاء صورة عن الحاجة الماسة إلى طبيب عصري في المجتمع المغربي بعد أن بدأ اليأس يدب في نفوس المغاربة من الطب البديل الذي كانت نتائجه غير مضمونة.
أما بخصوص الزيوت المسمومة، فقد كان الأمر يتعلق بزيت تستعمل في محركات الطائرات، كانت قد تسربت في ظروف غامضة إلى السوق الاستهلاكية في أول سنة لحصول المغرب على الاستقلال، أي سنة 1956، وقام بعض الذين حصلوا على تلك الزيوت بمزجها بزيت الطعام التي تباع في الأسواق طلبا للربح السريع وغير المشروع، وهكذا تعرض المواطنون الذين استهلكوا تلك الزيوت لتسمم حاد بقيت أعراضه ترافق الأحياء منهم إلى اليوم.
شرعت العائلات في غلي الأعشاب في الماء ومنها للمرضى عل الألم يفارق أمعاءهم، ولم يفلح الأطباء أيضا في معرفة سبب المرض الخطير الذي انتشر بين الناس بسرعة ولم يدركوا أن الأمر يتعلق بالزيت المستعملة في الطبخ والتي كانت ممزوجة بزيت الطائرات، وبقي الطب البديل والشعبي عاجزا عن شفاء المرضى الذين تعبوا من غلي الأعشاب في الماء، إلى أن لاحظ أحد الأطباء أن الزيت التي يستعملها سكان المنطقة، مكناس والنواحي، تبدو مختلفة اللون، وقام بتحليلها في المختبر ليكتشف أنها تحتوي على نسبة من زيت محركات الطائرات، وهكذا تم تشخيص سبب التسمم ويسدل الستار على القضية باعتقال المتورطين في مزج زيت الطعام بزيت المحركات.
هذه القصة كانت مثالا كبيرا وقتها على حاجة المغاربة إلى طب حديث، في وقت كانت فيه المستشفيات في طور التأسيس، وكان الناس وقتها لم يستأنسوا بعد بالطب الحديث، حيث أن التداوي بالأعشاب والمراهم الطبيعية، أكثر شعبية من أدوية الأطباء.
عندما زار أحد أشهر الأطباء الإنجليز المغرب في 1886، كان أول ما دونه في مذكراته الموجودة اليوم في أرشيف جامعة كاليفورنيا، حول ما أثار اهتمامه من وضعية الطب. حتى أنه تحسر في مقدمة كتابه وقال إن الزمن يدور دورته ليرى العالم كيف أن العرب والمسلمين، الذين كانوا متفوقين في الطب وأسسوا لبعض فروعه، يعيشون الآن تخلفا كبيرا ويعاني مواطنوهم من أمراض مزمنة لا يستطيعون علاجها.
وبحسب المراجع التاريخية الكثيرة التي تؤرخ للوضعية الاجتماعية والاقتصادية للمغاربة في تلك الفترة، أي قبل القرن 19 وما بعده بقليل، فإن ما خطه هذا الطبيب يبدو مطابقا للواقع وربما قد يكون قد قصّر في وصف واقع الحال كما هو، إذ إن بعض المؤلفات، خصوصا منها التي ألفتها النساء، ترسم واقعا قاتما وأكثر سوادا، لمعاناة المغاربة الأولين مع الأمراض العادية والمزمنة.
الطبيب الإنجليزي، باعتباره متخصصا رغم أنه لم يأت إلى المغرب في إطار مجال عمله، وإنما كان في مهمة عسكرية، بحكم أنه كان مجندا في المستعمرات الإفريقية، وكان فقط في طريق عودته إلى بلده الأصلي عبر شمال إفريقيا، فقرر أن يبقى لفترة قصيرة في المغرب وجد نفسه خلالها مجبرا على الكتابة من أجل مشروع مذكراته الذي لم ير النور إلا بعد وفاته بسنوات.
يقول في إحدى الصفحات التي يصف فيها واقع الطب في المغرب خلال سنة 1886: " في الطريق إلى العرائش، كانت هناك ممرات غابوية كثيرة. في المرة الأولى التي كنت أتجه فيها شمالا فوق صهوة الحصان مرفوقا بعدد من المسافرين الذين كانوا يقصدون الشمال للعودة إلى أوروبا، رأيت مجموعة من الناس متجمعين حول الأرض وكأنهم يتفقدون شيئا ما، وكانوا يصرخون وبدا واضحا أنهم متوترون، عندما اقتربنا منهم، تحدث معهم اثنان من المغاربة الذين كانوا يعملون مرشدين لنا، وقالوا لنا إنهم يتجمعون حول أحد أقاربهم، والذي تعرض لطلقة بندقية من بعيد على يد مجهولين، وأنه الآن ينزف بشدة، حاولت الاقتراب لرؤية الطريقة التي كانوا يحاولون بها إيقاف النزيف من منطقة إبطه، كانوا يضعون مناديل لم تكن نظيفة، ولم يقوموا بتنظيف الجرح، أضرم أحدهم النار وقامت بعض النسوة بغلي بعض الأعشاب وقدموها له، بينما كان واحد منهم يراقب المنديل حتى إذا ابتل بالدم، قام باستبداله بآخر أكثر اتساخا، عرضت عليهم مساعدة، وقمت بتنظيف الجرح بعدة الأدوية التي لا تفارقني، وبقوا ينظرون إلي وأنا أزيل البارود. عندما رأى أحد الرجال المسنين الجرح غائرا، دفعني بقوة وأحضر إبرة وخيطا عاديا، كانت إبرة سميكة وضخمة أمسكها بأصابعه المتسخة، ومررها من النار التي أضرمتها المرأة لتغلي فوقها الأعشاب، إلى أن احمرّت، وغمسها في الماء البارد وشرع في عملية خياطة الجرح بعد أن نظفته، كان المريض يتألم بشدة، ويعض شفتيه ويتصبب عرقا، وسرعان ما دخل في غيبوبة، توقعت أن ينجو لأن الرجل المسن قام بخياطة الجرح وكأنه يخيط قطعة ثوب، لكن المناديل المتسخة التي كانوا يضعونها فوق جرحه قبل تنظيفه، كانت لتودي بحياته لأنها كانت تمتص كمية كبيرة من الدم، أما الأعشاب التي قاموا بغليها في قدر، فالمرجح أنها قد تكون نافعة لعلاج مغص في الأمعاء أو الإسهال".
في بعض المقاطع الأخرى من مذكراته قارن بين الطب في المغرب وقتها وبين ما كانت تقوم به بعض القبائل في المستعمرات الإفريقية التي زارها، وكتب فقرة مفادها أن واقع الطب في المغرب كان أفضل بكثير، مما كانت تعيشه القبائل البدائية، خصوصا في ما يتعلق بالأعشاب واستعمال بعض النباتات في شفاء أمراض كثيرة. لكنه أكد أن تلك الحلول لم تكن لتصمد أمام الأمراض المزمنة والعدوى القاتلة التي كانت تحصد آلاف الأرواح في أيام قليلة.
قصة طريفة لصحافي جاهل بالطب اضطر لتوزيع الأدوية على القرويين
هذا الصحافي هو لاورنس هاريس، والذي كان في رحلته شمالا بعد أن كان عائدا من فاس إلى طنجة ليلتحق بجريدته بعد أن أنهى مهمته في المغرب والتي كانت تتمثل في إنجاز حوار صحافي لصالح جريدة «التايمز» مع المولى عبد الحفيظ الذي كان قد وصل لتوه إلى الحكم.
في رحلة العودة إلى طنجة ومنها إلى بريطانيا، كان هناك مرافق للصحافي، ليرشده إلى طريق العودة وكان اسمه «العربي» وتسبب له في واقعة طريفة حكاها في مذكراته:
"حاول العربي أن يبهر الناس الذين كانوا يستمعون إلى قصصه، ونسج عدة أكاذيب عني وكيف أنني أستطيع شفاء الناس، وكيف اخترته ليكون خادمي لأنه ذكي بشكل خارق، لو أنه يفكر فقط في عاقبة كلامه.
جلسنا للعشاء، أضيئت الغرفة بما تبقى من الشموع، لأننا لم نعد نحتاجها بعد الآن. قام العربي بوضع أزيد من عشرين شمعة في إناء صفيحي، ووضع شموعا أخرى في أرجاء الغرفة. كان منظرا لم يشهده سكان القرية من قبل. ما إن انتهى العشاء حتى تقاطر إلي الناس بسبب ثرثرة العربي بخصوص قدرتي على شفاء الأمراض وعلاجها.
جاءت إلي نساء وأطفال بأمراض حقيقية وأوبئة، ولكي أعالجها جميعا، سيلزمني أن أبقى مستيقظا الليل بأكمله، وأن أتوفر على خبرة طبيب جراح في مستشفى لندن!
الصبيان كانا يستمتعان بالمنظر، يحملان الأوراق دون تمييز ويضعانها على صدر الطاولة، بلغ الأمر ذروته عندما بدأت بدون تدبير، توزيع بعض أدوية السعال، أولئك الذين كانوا متجمهرين بدؤوا في السعال متظاهرين بالمرض ليحصلوا على الدواء أيضا، وهو ما خلق نوعا من الضجيج لم أستطع معه سماع نفسي عند الحديث.
الأطفال والنساء والشيوخ والبنات، الجميع بدأ في السعال بدون مناسبة، رافعين أيديهم كي يحصلوا على دواء السعال، كان مستحيلا أن يحصل الجميع على الدواء، لأنني كنت أملك القليل مما احتجته في الرحلة، لم تكن مهمتي أن أعالجهم، لكن ما العمل!
قبل أن أحاول منعهم، حلّ العربي المشكل بطريقة مبتكرة، من بين الأدوية التي كنت أتوفر عليها، كانت هناك علبة تحتوي على كبسولات للإسهال، وكل كبسولة تحتوي على جرعتين، وبدأ الوغد يوزعها على الناس، ليشربوها بنهم وكأنهم يأكلون الحلويات.
تلك الواقعة جعلتني أعجّل بمغادرة القرية مع أولى ساعات الصباح الباكر، لم أجرؤ على الانتظار لأرى نتيجة ممارستي الطب، عند تمام الثانية والنصف صباحا أيقظت زعيم القرية، والذي كان نائما أمام بابي مباشرة، وأخبرته أنه يتوجب علي أن أبدأ رحلتي فورا، أكد لي أنه من الخطر السفر قبل طلوع الشمس، لكنه وافق على رحيلي في حينها عندما منحته بضع دولارات، كي يرافقني هو واثنين من رجاله إلى أن تطلع الشمس، انطلقنا من القرية في تمام الثالثة والنصف، رفقة ثلاثة رجال ببنادق محشوة، تحركنا ساعات متواصلة في صمت، واتضح لي أن الرفقة المسلحة غير ضرورية، وما هي إلا حيلة من زعيم القرية حتى يبتز مني بعض المال".
هذه الواقعة بقدر ما تحمل من الطرافة قدرا كبيرا، بقدر ما تقدم صورة لا تتناقض مع ما قدمه الآخرون، بخصوص تأخر الطب في المغرب ومعاناة المغاربة مع النقص الكبير في مجال الأدوية والمراهم الطبية والعقاقير والمستحضرات، وهذا المرافق الذي كان اسمه «العربي» خصص له لاورنس حيزا مهما من مذكراته لأنه كان يحكي له كثيرا من القصص المتعلقة بالحياة العامة في المغرب وكان لاورنس يوظفها كثيرا في صياغة مذكراته. ومن ذكاء «العربي» أنه حاول استغلال الحاجة إلى الدواء، ليخبر الناس أن مرافقه طبيب حتى يضمن مكانا للمبيت ويتمتع بكرم الضيافة الذي كان نادرا أو مستحيلا عندما يكون الضيوف أجانب وأوروبيين، لكن عندما تعلق الأمر بخدمات الطبيب، كان الجميع مستعدين لاستضافته رغم أنه لم يكن يفهم شيئا في الطب.
عندما قصفت فرنسا مدينة الدار البيضاء سنة 1909، وهو القصف الشهير الذي تحدث عنه العالم أجمع، بحكم أن الضربة العسكرية الفرنسية للمغرب كانت موجعة، ولم يكن عقد الحماية قد وُقّع بعد، كان القصف في الأصل ردا على الاعتداءات التي تعرض لها المستوطنون الفرنسيون في الدار البيضاء على يد السكان الأصليين وسكان القرى القريبة من الدار البيضاء.
فمباشرة بعد مقتل المواطنين الفرنسيين في منازلهم ومحلاتهم التجارية التي أنشؤوها في الدار البيضاء، حتى سارع المغاربة الغاضبون إلى إضرام النيران في المنازل والمحلات وشرعوا في طرد الفرنسيين وبقية الأجانب وإفزاعهم لإجبارهم على مغادرة المدينة، وهو الأمر الذي وجدت فيه فرنسا ذريعة لترد عسكريا وتقصف الدار البيضاء ببواخر حربية كانت تحمل مدفعيات ثقيلة دكّت الدار البيضاء فوق رؤوس المغاربة لتعيد فرنسا إعمارها من جديد وتضاعف عدد الفرنسيين بها.
قبل القصف، أي الفترة التي وقعت فيها الاعتداءات على الفرنسيين، تقول بعض المصادر إن المغاربة الذين هاجموا منازل الفرنسيين، والذين كانوا في الغالب ينتمون إلى عبدة ودكالة وكانوا وقتها من أقوى رجال القبائل المجاورة للدار البيضاء، أخذوا محتويات المنازل معهم وحطموا كل ما لم يستطيعوا أخذه معهم، ومن الأشياء التي قاموا بأخذها، كميات كبيرة من الأدوية التي كان الفرنسيون يجلبونها معهم، وكان بعضهم، بحكم علاقاتهم مع الفرنسيين يعلمون أنها كانت تستعمل لعلاج الزكام والسعال، ومراهم أخرى كانت خاصة بالأمراض الجلدية، وكلها أدوية كان المغاربة يعتقدون أن لها مفعول السحر على حياتهم.
حتى أن أحد الفرنسيين كتب أن المغاربة لم يكونوا يصدقون السرعة الفورية للأدوية الفرنسية وكانوا يعتقدون أن تلك العقاقير تحتوي على أسرار سحرية تجعل الشفاء سريعا، وكانت تلك نقطة قوة عدد من الفرنسيين الذين نجحوا سريعا في استمالة قلوب عدد من المغاربة ليعملوا عندهم.
إذ أن الأدوية التي كان هؤلاء الفرنسيون يقدمونها للناس مجانا، لعلاج أمراض بسيطة كانوا يعانون منها لسنوات طويلة، كان كافيا لشراء المودة معهم وتكسير الجليد الذي كان قائما بين المغاربة وبين كل ما هو أجنبي، خصوصا وأن بعض الفقهاء كانوا قد أصدروا فتاوى تحرم التعامل مع الأوربيين وتصفهم بالغزاة الذين يرمون إلى نشر المسيحية في أوساط المسلمين.
وعلى ذكر نشر المسيحية، فإن الأدوية التي كان يوزعها الرهبان الذين استقروا في المغرب، كان لها دور أيضا في استمالة المغاربة ليتقبلوا وجود الرهبان والكنائس بينهم، خصوصا في الأماكن التي كانت مشهورة بقدرات القبائل فيها على القتال.
قبل أن تقصف فرنسا الدار البيضاء بأيام قليلة، كان أحد الفرنسيين الذين تعرضت منازلهم للنهب على يد الثوار المغاربة، يقف مندهشا أمام خزانة الأدوية التي كان يضعها في غرفة مكتبه، لأنه وجد أن الذين اقتحموا المنزل، لم يسرقوا أي شيء من المقتنيات التي كان يضعها في المنزل، واكتفوا بكسر زجاج خزانة خشبية وأخذ كل محتوياتها التي كانت عبارة عن أدوية متنوعة. لم يكن هؤلاء الناس بطبيعة الحال يعرفون استعمال كل دواء على حدة، لكن السبب الذي جعلهم يأخذونها بعد كسر الزجاج، هو الحاجة الكبيرة إلى الدواء، وإدراكهم الكبير أن المراهم الفرنسية كانت فعالة جدا لعلاج عدد كبير من الأمراض التي يعجز الطب البديل في المغرب وقتها، عن علاجها، خصوصا وأن حالات كثيرة أنقذها أوربيون أمام أنظار المغاربة، من موت محقق بعد معاناة أشهر، كانت الأدوية الأوربية تعالجها في ساعات قليلة فقط، وتجعل المرضى يقومون من فراش المرض، وكأنهم عولجوا بسحر وليس بالدواء.
زارت السيدة «كاثلين» المغرب في فترة حساسة جدا، وكتبت كتابها «مشاهد من الحياة في المغرب»، والذي لم تقدم أي ترجمة عربية له إلى الآن، وتتوفر نسخة منه في الأرشيف بلغتها الأصلية، أي الإنجليزية، قوة الكتاب تتمثل في أن مؤلفته امرأة استطاعت النفاذ إلى حياة المرأة المغربية وهو الأمر الذي كان مستحيلا بالنسبة للكتاب الكثيرين الذين مروا من المغرب، والذين فشلوا جميعا في تخصيص مقاطع من كتابهم عن المرأة المغربية وما يقع خلف أسوار البيوت المغربية ولم يتعد ما كتبوه بعض الأوصاف القليلة التي استقوها عن طريق التقصي.
تقول السيدة كاثلين إن تجربتها في المغرب كانت فريدة بحكم أنها استطاعت أن تنشئ علاقات صداقة متينة مع بعض النساء المغربيات اللواتي كن يتصرفن أمامها على سجيتهن، ومن الأمور المهمة التي شدت انتباهها، هو إلمام بعض النساء بأمور التداوي بالأعشاب واستعمالها، بعكس ما كان رائجا في أوربا عن كون النساء المغربيات يعشن على هامش الحياة التي يسيطر عليها الرجال.
فقد أصبح الطب البديل يساوي عندنا مصدر تسمم بالجملة، بل هناك من وصفه بالكارثة، واختزل في فن العطارة، و شنت حرب على رواد هذا النوع من الطب L' Herboristerie "" "تعشابت"
و أن الهدف من ممارسة هذا النوع من الطب هو ربح المال بالدرجة الأولى.
إن اختزال الطب البديل في فن العطارة "تعشابت" هو خطأ كبير، ففن العطارة "تعشابت" لا تشكل بتاتا فرعا من فروع الطب البديل، فهناك فرق شاسع بين L'Herboristerie et la Phytothérapie.
فالفيتوتيرابي هي الفرع الذي يتعلق بالتداوي بالأعشاب الطبية في الطب البديل، بمعنى أن العشاب ليس اختصاصيا في الطب البديل.
كما أن الطب البديل لا يعتمد على التداوي بالأعشاب وحدها بل على العديد من التخصصات كالتداوي بالزيوت العطرية، الحجامة، الوخز بالإبر، الكي، الضغط بالأصابع، و التدليك و غيرها من التخصصات…
تعترف الدول المتقدمة بهذا النوع من الطب، و قننته، و أصبح طبا معتمدا في كندا، و ألمانيا، و الولايات المتحدة، بل دخل في نظام التغطية الصحية، نصفه نحن بالكارثة كأننا نجهل معناه و اختصاصاته…
في هذا الجزء سنناقش موضوع الطب البديل من الجانب التاريخ للمغرب و كيف صنفه الأجانب و اعتبروه كارثة يسيء للطب و يسيء لنا كمغاربة.
تعتبر أقدم طرق العلاج التي مارسها المغاربة بدائيا وعادت بقوة إلى الحياة، و في عدد من المذكرات التي كتبها أصحابها عن رحلاتهم إلى المغرب خلال مائتي سنة الأخيرة، كتب بعضهم بكثير من السخرية عن عملية الحجامة وقالوا إنها طريقة غاية في البدائية، وسخروا من الذين كانوا يمارسونها في الأسواق الأسبوعية بانتظام والذين كان المغاربة عموما يعتبرونهم «أطباء» لأنهم كانوا يخلصونهم من آلام كثيرة باستعمال عملية الحجامة التي كانت تتم بطريقة مختلفة عن الطريقة التي تتم بها اليوم.
المثير بهذا الخصوص أن الحجامة لم تكن معروفة في الأوساط الأوربية، لكنها تبقى طريقة عتيقة في التخلص من الدم الفاسد الذي يكون في العادة سببا في الكثير من الأمراض والمضاعفات الصحية الخطيرة التي لم يكن المغاربة يملكون أي دواء لعلاجها.
بعكس الأوروبيين الذين كانوا متقدمين في ذلك الوقت طبيا، لذلك كانوا ينظرون إلى الحجامة على أنها طريقة بدائية يقوم بها المغاربة فقط لأنهم لم يكونوا يتوفرون على أدوية لعلاج الأمراض التي تتربص بهم.
الأطباء الأجانب الذين زاروا المغرب منذ 1860 وصولا إلى مرحلة الحماية، لم يحاولوا فهم سر الحجامة ولا فعاليتها، وحكموا عليها من البداية بأنها طريقة بدائية ومحلية لا تقدم أي علاج للأمراض التي يحملون هم أدويتها في جرابهم.
والحقيقة أن الحجامة تعود إلى فترة ازدهار الطب الإسلامي، وكتبت عنها مؤلفات كثيرة لأطباء كان لهم دور كبير في تأسيس علوم الطب التي تُدرس في الجامعات الأوربية والأمريكية أيضا، ولم يدرك زوار المغرب هذا الأمر في حينه، لذلك كانت مذكرات الكثيرين منهم تسخر بحدّة من الطريقة التي كان يمارس بها المغاربة الحجامة في الأسواق الأسبوعية، نظرا لغياب المستشفيات أو العيادات الطبية التي يمكن أن تُقدم فيها هذه الخدمات.
جاء في عدد من المراجع، وحتى في الروايات الشفهية التي جمعها بعض طلبة شعبة التاريخ في إطار البحوث التاريخية للتخرج، بخصوص الطب الشعبي في المغرب خلال القرن 18 و19، أن أجدادنا كانوا يستغلون الأسواق الأسبوعية باعتبارها تجمعات منتظمة لكل الفئات الاجتماعية في المغرب، ليضربوا موعدا أسبوعيا مع المرضى للتداوي بطريقة الحجامة التي كان الناس يعتقدون يقينا أنها تشفي كل الأمراض الباطنية مهما كانت خطورتها.
كانت العملية تتم باستعمال أنبوبين معدنيين يستعملهما «الحجام»، وهو الاسم الذي يطلق على الشخص الذي يشرف على عملية الحجامة، ويثبتهما خلف رأس المريض، ليتصلا بالأواني الزجاجية الشبيهة بالكؤوس، والتي يجتمع فيها الدم الفاسد الذي يتم مصه خارج فروة الرأس الحليق أو نقط محددة من ظهر المريض، وهكذا يخلصه «الحجام» من كميات الدم الفاسد في جسمه.
يقول لاورنس في مذكراته وهو يصف حالة أحد المرضى اليهود: "بمجرد وصول المولى عبد الحفيظ إلى السلطة، قام بوضع حد للمجازر التي يعرفها الملاح. لكنني ما إن قمت بجولة في الشوارع القذرة، حتى رأيت أدلة على ما وقع هناك في كل الجهات، المشاهد المروعة تتكرر أمام كل بيت. وتلقيت ترحابا كبيرا وكرما في الضيافة من تلك الأسر الفقيرة.
في مكان قصي، كان هناك رجل مسنّ معذب ممدد على الحصير. هل أحضر له طبيبا؟ إنه مستعد لإعطاء كل ما يملك إن استطعت أن أخفف خوفه من سكين كبير اخترق بطنه.
الطبيب الوحيد المتوفر إسباني، ورفض أن يدخل الملاح، لأنه كان ينوي أن يعوض الدكتور الإنجليزي في البلاط، وزيارة حي متدهور كالملاح يمكن أن تعرقل العملية".
هذا المقطع لوحده، كاف لإعطاء صورة عن الحاجة الماسة إلى طبيب عصري في المجتمع المغربي بعد أن بدأ اليأس يدب في نفوس المغاربة من الطب البديل الذي كانت نتائجه غير مضمونة.
أما بخصوص الزيوت المسمومة، فقد كان الأمر يتعلق بزيت تستعمل في محركات الطائرات، كانت قد تسربت في ظروف غامضة إلى السوق الاستهلاكية في أول سنة لحصول المغرب على الاستقلال، أي سنة 1956، وقام بعض الذين حصلوا على تلك الزيوت بمزجها بزيت الطعام التي تباع في الأسواق طلبا للربح السريع وغير المشروع، وهكذا تعرض المواطنون الذين استهلكوا تلك الزيوت لتسمم حاد بقيت أعراضه ترافق الأحياء منهم إلى اليوم.
شرعت العائلات في غلي الأعشاب في الماء ومنها للمرضى عل الألم يفارق أمعاءهم، ولم يفلح الأطباء أيضا في معرفة سبب المرض الخطير الذي انتشر بين الناس بسرعة ولم يدركوا أن الأمر يتعلق بالزيت المستعملة في الطبخ والتي كانت ممزوجة بزيت الطائرات، وبقي الطب البديل والشعبي عاجزا عن شفاء المرضى الذين تعبوا من غلي الأعشاب في الماء، إلى أن لاحظ أحد الأطباء أن الزيت التي يستعملها سكان المنطقة، مكناس والنواحي، تبدو مختلفة اللون، وقام بتحليلها في المختبر ليكتشف أنها تحتوي على نسبة من زيت محركات الطائرات، وهكذا تم تشخيص سبب التسمم ويسدل الستار على القضية باعتقال المتورطين في مزج زيت الطعام بزيت المحركات.
هذه القصة كانت مثالا كبيرا وقتها على حاجة المغاربة إلى طب حديث، في وقت كانت فيه المستشفيات في طور التأسيس، وكان الناس وقتها لم يستأنسوا بعد بالطب الحديث، حيث أن التداوي بالأعشاب والمراهم الطبيعية، أكثر شعبية من أدوية الأطباء.
عندما زار أحد أشهر الأطباء الإنجليز المغرب في 1886، كان أول ما دونه في مذكراته الموجودة اليوم في أرشيف جامعة كاليفورنيا، حول ما أثار اهتمامه من وضعية الطب. حتى أنه تحسر في مقدمة كتابه وقال إن الزمن يدور دورته ليرى العالم كيف أن العرب والمسلمين، الذين كانوا متفوقين في الطب وأسسوا لبعض فروعه، يعيشون الآن تخلفا كبيرا ويعاني مواطنوهم من أمراض مزمنة لا يستطيعون علاجها.
وبحسب المراجع التاريخية الكثيرة التي تؤرخ للوضعية الاجتماعية والاقتصادية للمغاربة في تلك الفترة، أي قبل القرن 19 وما بعده بقليل، فإن ما خطه هذا الطبيب يبدو مطابقا للواقع وربما قد يكون قد قصّر في وصف واقع الحال كما هو، إذ إن بعض المؤلفات، خصوصا منها التي ألفتها النساء، ترسم واقعا قاتما وأكثر سوادا، لمعاناة المغاربة الأولين مع الأمراض العادية والمزمنة.
الطبيب الإنجليزي، باعتباره متخصصا رغم أنه لم يأت إلى المغرب في إطار مجال عمله، وإنما كان في مهمة عسكرية، بحكم أنه كان مجندا في المستعمرات الإفريقية، وكان فقط في طريق عودته إلى بلده الأصلي عبر شمال إفريقيا، فقرر أن يبقى لفترة قصيرة في المغرب وجد نفسه خلالها مجبرا على الكتابة من أجل مشروع مذكراته الذي لم ير النور إلا بعد وفاته بسنوات.
يقول في إحدى الصفحات التي يصف فيها واقع الطب في المغرب خلال سنة 1886: " في الطريق إلى العرائش، كانت هناك ممرات غابوية كثيرة. في المرة الأولى التي كنت أتجه فيها شمالا فوق صهوة الحصان مرفوقا بعدد من المسافرين الذين كانوا يقصدون الشمال للعودة إلى أوروبا، رأيت مجموعة من الناس متجمعين حول الأرض وكأنهم يتفقدون شيئا ما، وكانوا يصرخون وبدا واضحا أنهم متوترون، عندما اقتربنا منهم، تحدث معهم اثنان من المغاربة الذين كانوا يعملون مرشدين لنا، وقالوا لنا إنهم يتجمعون حول أحد أقاربهم، والذي تعرض لطلقة بندقية من بعيد على يد مجهولين، وأنه الآن ينزف بشدة، حاولت الاقتراب لرؤية الطريقة التي كانوا يحاولون بها إيقاف النزيف من منطقة إبطه، كانوا يضعون مناديل لم تكن نظيفة، ولم يقوموا بتنظيف الجرح، أضرم أحدهم النار وقامت بعض النسوة بغلي بعض الأعشاب وقدموها له، بينما كان واحد منهم يراقب المنديل حتى إذا ابتل بالدم، قام باستبداله بآخر أكثر اتساخا، عرضت عليهم مساعدة، وقمت بتنظيف الجرح بعدة الأدوية التي لا تفارقني، وبقوا ينظرون إلي وأنا أزيل البارود. عندما رأى أحد الرجال المسنين الجرح غائرا، دفعني بقوة وأحضر إبرة وخيطا عاديا، كانت إبرة سميكة وضخمة أمسكها بأصابعه المتسخة، ومررها من النار التي أضرمتها المرأة لتغلي فوقها الأعشاب، إلى أن احمرّت، وغمسها في الماء البارد وشرع في عملية خياطة الجرح بعد أن نظفته، كان المريض يتألم بشدة، ويعض شفتيه ويتصبب عرقا، وسرعان ما دخل في غيبوبة، توقعت أن ينجو لأن الرجل المسن قام بخياطة الجرح وكأنه يخيط قطعة ثوب، لكن المناديل المتسخة التي كانوا يضعونها فوق جرحه قبل تنظيفه، كانت لتودي بحياته لأنها كانت تمتص كمية كبيرة من الدم، أما الأعشاب التي قاموا بغليها في قدر، فالمرجح أنها قد تكون نافعة لعلاج مغص في الأمعاء أو الإسهال".
في بعض المقاطع الأخرى من مذكراته قارن بين الطب في المغرب وقتها وبين ما كانت تقوم به بعض القبائل في المستعمرات الإفريقية التي زارها، وكتب فقرة مفادها أن واقع الطب في المغرب كان أفضل بكثير، مما كانت تعيشه القبائل البدائية، خصوصا في ما يتعلق بالأعشاب واستعمال بعض النباتات في شفاء أمراض كثيرة. لكنه أكد أن تلك الحلول لم تكن لتصمد أمام الأمراض المزمنة والعدوى القاتلة التي كانت تحصد آلاف الأرواح في أيام قليلة.
قصة طريفة لصحافي جاهل بالطب اضطر لتوزيع الأدوية على القرويين
هذا الصحافي هو لاورنس هاريس، والذي كان في رحلته شمالا بعد أن كان عائدا من فاس إلى طنجة ليلتحق بجريدته بعد أن أنهى مهمته في المغرب والتي كانت تتمثل في إنجاز حوار صحافي لصالح جريدة «التايمز» مع المولى عبد الحفيظ الذي كان قد وصل لتوه إلى الحكم.
في رحلة العودة إلى طنجة ومنها إلى بريطانيا، كان هناك مرافق للصحافي، ليرشده إلى طريق العودة وكان اسمه «العربي» وتسبب له في واقعة طريفة حكاها في مذكراته:
"حاول العربي أن يبهر الناس الذين كانوا يستمعون إلى قصصه، ونسج عدة أكاذيب عني وكيف أنني أستطيع شفاء الناس، وكيف اخترته ليكون خادمي لأنه ذكي بشكل خارق، لو أنه يفكر فقط في عاقبة كلامه.
جلسنا للعشاء، أضيئت الغرفة بما تبقى من الشموع، لأننا لم نعد نحتاجها بعد الآن. قام العربي بوضع أزيد من عشرين شمعة في إناء صفيحي، ووضع شموعا أخرى في أرجاء الغرفة. كان منظرا لم يشهده سكان القرية من قبل. ما إن انتهى العشاء حتى تقاطر إلي الناس بسبب ثرثرة العربي بخصوص قدرتي على شفاء الأمراض وعلاجها.
جاءت إلي نساء وأطفال بأمراض حقيقية وأوبئة، ولكي أعالجها جميعا، سيلزمني أن أبقى مستيقظا الليل بأكمله، وأن أتوفر على خبرة طبيب جراح في مستشفى لندن!
الصبيان كانا يستمتعان بالمنظر، يحملان الأوراق دون تمييز ويضعانها على صدر الطاولة، بلغ الأمر ذروته عندما بدأت بدون تدبير، توزيع بعض أدوية السعال، أولئك الذين كانوا متجمهرين بدؤوا في السعال متظاهرين بالمرض ليحصلوا على الدواء أيضا، وهو ما خلق نوعا من الضجيج لم أستطع معه سماع نفسي عند الحديث.
الأطفال والنساء والشيوخ والبنات، الجميع بدأ في السعال بدون مناسبة، رافعين أيديهم كي يحصلوا على دواء السعال، كان مستحيلا أن يحصل الجميع على الدواء، لأنني كنت أملك القليل مما احتجته في الرحلة، لم تكن مهمتي أن أعالجهم، لكن ما العمل!
قبل أن أحاول منعهم، حلّ العربي المشكل بطريقة مبتكرة، من بين الأدوية التي كنت أتوفر عليها، كانت هناك علبة تحتوي على كبسولات للإسهال، وكل كبسولة تحتوي على جرعتين، وبدأ الوغد يوزعها على الناس، ليشربوها بنهم وكأنهم يأكلون الحلويات.
تلك الواقعة جعلتني أعجّل بمغادرة القرية مع أولى ساعات الصباح الباكر، لم أجرؤ على الانتظار لأرى نتيجة ممارستي الطب، عند تمام الثانية والنصف صباحا أيقظت زعيم القرية، والذي كان نائما أمام بابي مباشرة، وأخبرته أنه يتوجب علي أن أبدأ رحلتي فورا، أكد لي أنه من الخطر السفر قبل طلوع الشمس، لكنه وافق على رحيلي في حينها عندما منحته بضع دولارات، كي يرافقني هو واثنين من رجاله إلى أن تطلع الشمس، انطلقنا من القرية في تمام الثالثة والنصف، رفقة ثلاثة رجال ببنادق محشوة، تحركنا ساعات متواصلة في صمت، واتضح لي أن الرفقة المسلحة غير ضرورية، وما هي إلا حيلة من زعيم القرية حتى يبتز مني بعض المال".
هذه الواقعة بقدر ما تحمل من الطرافة قدرا كبيرا، بقدر ما تقدم صورة لا تتناقض مع ما قدمه الآخرون، بخصوص تأخر الطب في المغرب ومعاناة المغاربة مع النقص الكبير في مجال الأدوية والمراهم الطبية والعقاقير والمستحضرات، وهذا المرافق الذي كان اسمه «العربي» خصص له لاورنس حيزا مهما من مذكراته لأنه كان يحكي له كثيرا من القصص المتعلقة بالحياة العامة في المغرب وكان لاورنس يوظفها كثيرا في صياغة مذكراته. ومن ذكاء «العربي» أنه حاول استغلال الحاجة إلى الدواء، ليخبر الناس أن مرافقه طبيب حتى يضمن مكانا للمبيت ويتمتع بكرم الضيافة الذي كان نادرا أو مستحيلا عندما يكون الضيوف أجانب وأوروبيين، لكن عندما تعلق الأمر بخدمات الطبيب، كان الجميع مستعدين لاستضافته رغم أنه لم يكن يفهم شيئا في الطب.
عندما قصفت فرنسا مدينة الدار البيضاء سنة 1909، وهو القصف الشهير الذي تحدث عنه العالم أجمع، بحكم أن الضربة العسكرية الفرنسية للمغرب كانت موجعة، ولم يكن عقد الحماية قد وُقّع بعد، كان القصف في الأصل ردا على الاعتداءات التي تعرض لها المستوطنون الفرنسيون في الدار البيضاء على يد السكان الأصليين وسكان القرى القريبة من الدار البيضاء.
فمباشرة بعد مقتل المواطنين الفرنسيين في منازلهم ومحلاتهم التجارية التي أنشؤوها في الدار البيضاء، حتى سارع المغاربة الغاضبون إلى إضرام النيران في المنازل والمحلات وشرعوا في طرد الفرنسيين وبقية الأجانب وإفزاعهم لإجبارهم على مغادرة المدينة، وهو الأمر الذي وجدت فيه فرنسا ذريعة لترد عسكريا وتقصف الدار البيضاء ببواخر حربية كانت تحمل مدفعيات ثقيلة دكّت الدار البيضاء فوق رؤوس المغاربة لتعيد فرنسا إعمارها من جديد وتضاعف عدد الفرنسيين بها.
قبل القصف، أي الفترة التي وقعت فيها الاعتداءات على الفرنسيين، تقول بعض المصادر إن المغاربة الذين هاجموا منازل الفرنسيين، والذين كانوا في الغالب ينتمون إلى عبدة ودكالة وكانوا وقتها من أقوى رجال القبائل المجاورة للدار البيضاء، أخذوا محتويات المنازل معهم وحطموا كل ما لم يستطيعوا أخذه معهم، ومن الأشياء التي قاموا بأخذها، كميات كبيرة من الأدوية التي كان الفرنسيون يجلبونها معهم، وكان بعضهم، بحكم علاقاتهم مع الفرنسيين يعلمون أنها كانت تستعمل لعلاج الزكام والسعال، ومراهم أخرى كانت خاصة بالأمراض الجلدية، وكلها أدوية كان المغاربة يعتقدون أن لها مفعول السحر على حياتهم.
حتى أن أحد الفرنسيين كتب أن المغاربة لم يكونوا يصدقون السرعة الفورية للأدوية الفرنسية وكانوا يعتقدون أن تلك العقاقير تحتوي على أسرار سحرية تجعل الشفاء سريعا، وكانت تلك نقطة قوة عدد من الفرنسيين الذين نجحوا سريعا في استمالة قلوب عدد من المغاربة ليعملوا عندهم.
إذ أن الأدوية التي كان هؤلاء الفرنسيون يقدمونها للناس مجانا، لعلاج أمراض بسيطة كانوا يعانون منها لسنوات طويلة، كان كافيا لشراء المودة معهم وتكسير الجليد الذي كان قائما بين المغاربة وبين كل ما هو أجنبي، خصوصا وأن بعض الفقهاء كانوا قد أصدروا فتاوى تحرم التعامل مع الأوربيين وتصفهم بالغزاة الذين يرمون إلى نشر المسيحية في أوساط المسلمين.
وعلى ذكر نشر المسيحية، فإن الأدوية التي كان يوزعها الرهبان الذين استقروا في المغرب، كان لها دور أيضا في استمالة المغاربة ليتقبلوا وجود الرهبان والكنائس بينهم، خصوصا في الأماكن التي كانت مشهورة بقدرات القبائل فيها على القتال.
قبل أن تقصف فرنسا الدار البيضاء بأيام قليلة، كان أحد الفرنسيين الذين تعرضت منازلهم للنهب على يد الثوار المغاربة، يقف مندهشا أمام خزانة الأدوية التي كان يضعها في غرفة مكتبه، لأنه وجد أن الذين اقتحموا المنزل، لم يسرقوا أي شيء من المقتنيات التي كان يضعها في المنزل، واكتفوا بكسر زجاج خزانة خشبية وأخذ كل محتوياتها التي كانت عبارة عن أدوية متنوعة. لم يكن هؤلاء الناس بطبيعة الحال يعرفون استعمال كل دواء على حدة، لكن السبب الذي جعلهم يأخذونها بعد كسر الزجاج، هو الحاجة الكبيرة إلى الدواء، وإدراكهم الكبير أن المراهم الفرنسية كانت فعالة جدا لعلاج عدد كبير من الأمراض التي يعجز الطب البديل في المغرب وقتها، عن علاجها، خصوصا وأن حالات كثيرة أنقذها أوربيون أمام أنظار المغاربة، من موت محقق بعد معاناة أشهر، كانت الأدوية الأوربية تعالجها في ساعات قليلة فقط، وتجعل المرضى يقومون من فراش المرض، وكأنهم عولجوا بسحر وليس بالدواء.
زارت السيدة «كاثلين» المغرب في فترة حساسة جدا، وكتبت كتابها «مشاهد من الحياة في المغرب»، والذي لم تقدم أي ترجمة عربية له إلى الآن، وتتوفر نسخة منه في الأرشيف بلغتها الأصلية، أي الإنجليزية، قوة الكتاب تتمثل في أن مؤلفته امرأة استطاعت النفاذ إلى حياة المرأة المغربية وهو الأمر الذي كان مستحيلا بالنسبة للكتاب الكثيرين الذين مروا من المغرب، والذين فشلوا جميعا في تخصيص مقاطع من كتابهم عن المرأة المغربية وما يقع خلف أسوار البيوت المغربية ولم يتعد ما كتبوه بعض الأوصاف القليلة التي استقوها عن طريق التقصي.
تقول السيدة كاثلين إن تجربتها في المغرب كانت فريدة بحكم أنها استطاعت أن تنشئ علاقات صداقة متينة مع بعض النساء المغربيات اللواتي كن يتصرفن أمامها على سجيتهن، ومن الأمور المهمة التي شدت انتباهها، هو إلمام بعض النساء بأمور التداوي بالأعشاب واستعمالها، بعكس ما كان رائجا في أوربا عن كون النساء المغربيات يعشن على هامش الحياة التي يسيطر عليها الرجال.