عندما وقفت امامه ذات مساء، تداركت انهياري، واتكأت على الجدار، متوسلة اليه حمايتي، واحتمال انهياري قبل أن أحدق في وجهه.. وهو يناديني :
- فيرونا.. ارفعي رأسك، اريد ان اتحدث معك .
فوجئت باسمي على شفتي إنسان لم اعرفه من قبل، ولم يعرفني من بعد.. كانت نبرات صوته مشدودة.. فيها أمر، مثلما فيها رجاء..
حاولت.. ان اجمع فيرونا مع الأمر ومع الرجاء، لكنني لم افلح في طريقة الجمع التي حاولتها .
- نعم سيدي .
- سأكون زوجك وسيدك وولي نعمتك .
أحسست بأنني أنهار وأسقط على الارض مغشياً عليّ، وأنا التي ابعدت نفسي وبقناعة ذاتية كاملة، مجرد التفكير بالزواج، اخترت التوجه نحو العزلة والتصوف والاعتكاف في الدير، اقرأ واصلي واعيش حياة خاصة اخترتها بنفسي .
امسك بي، تلقاني بين احضانه، قبل ان تتكفل الارض باحتضاني.
- فيرونا.. حدقي في وجه زوجك .
لم يكن بمقدوري السيطرة على رأسي والتحكم في رفعه او خفضه.
كان كل شيء في جسمي يخفق مع خفقات قلبي، فأشعر بالذل والمهانة والخوف والحذر ومن الآتي .
ندمت.. أحسست بالندم لأول مرة في حياتي على قرار إتخذته بكامل وعيي، وأنا أصر على البقاء في الدير من دون جميع زميلاتي الراهبات اللواتي يسكن معي في الدير ذاته.. وعليّ ان أدفع بنتائج قراري العنيد ذاك.. وأحتمل قسوة الأيادي التي راحت تجرني وتقودني الى حيث لا اعرف، حيث ألقوني مثل أية حاجة مستهلكة في مكان يسوده الظلام وتنبعث منه العفونة والرطوبة و.. ورائحة دم معتق .
ابتسمت للصورة التي رسمتها عن الدم المعتق، مقارنة بالشراب الرباني المعتق بالزمن وبالقدسية وباللذة وبالحياة المتسعة لبراءة النفس ولمهارتها ونقائها.. مقترنة بضوء شمعة تذوب رويداً.. رويداً فيما رغيف الخبز الجاف يحن الى شراب يروي ظمأه .
لا أعرف كم مضى من الوقت وانا في هذا المكان، حتى وجدتني افقد حواسي كلها.. حتى إذا أيقظتني إيقاعات أقدام تقترب مني ويسألني أصحابها على التوالي :
- ما اسمك ؟
- هل انت نصرانية؟
- هل انت راهبة.. وتعيشين وحدك في هذا المكان الكافر؟
تعثر كلامي وانا اجيبهم :
فيرونا.. راهبة، اعيش في هذا الدير لوحدي .
امسكوني كما لو انهم يخشون هروبي، فيما وجدت إمساكهم يتحسس كل قطعة من جسدي ..
كان تصوري عن الهروب خطأ وعليّ احتمال نتائجه.. كما البقاء العنيد الذي قررته.. كانوا على العكس من ذلك، يتلمسون البضاعة التي غنموها، كم تساوي في سوق العبيد – كما سمعت ذلك عنهم وهم يأخذون النساء السبايا للتجارة – وعندما تبينوا ان بضاعتم جيدة، وسوقها يحمل ارباحاً، اختلفوا بشأني.. من صاحب المُلك، والبضاعة من هو الاحق بها.. ولئلا يختصموا، توجهوا الى من له القدرة على حسم أي خلاف.
سمعته يقول لهم :
- اتركوها، سأنظر بشأنها واخبركم .
تركني الجميع، وأحسست إنني استرد أنفاسي بين أربعة جدران عفنة تنبعث منها روائح شتى، لم أكن أفصل في اصلها ومصدرها وطبيعتها.. تساءلت : الا يكفي انها مثيرة للقرف والحذر والإحساس بالموت؟
لم يستمر الحال ذاك وقتاً طويلاً، حتى سمعت وابلاً من الاطلاقات، وصراخاً وأنيناً، وأصوات خراف يتم نحرها والقاؤها تتخبط بدمائها فوق الارض قبل ان تسكن في لحظة الموت..
وتبينت ان تلك الاصوات، لم تكن خرافاً، وانما اصوات بشرية تئن من آلام رقابها التي تنحر ..
وصارت امنيتي.. استعجال الموت، نحراً او حرقاً او اطلاقات تبدد كرة رأسي.. حتى لا استمر في العيش مصغية لأصوات الرعب تلك، مقترنة بالعفونة التي تضغط على أنفاسي .
في ذلك الوقت الذي كنت امني فيه نفسي بالغناء، او النحيب – على حد سواء- سمعته يسألني :
- فيرونا.. هل تسمعينني.. إرفعي رأسك وحدقي في وجهي.
كان صوته هذه المرة، أمراً.. والامر في هذا المكان لابد ان يستجاب وينفذ ..
رفعت رأسي.. كان يحدق في وجهي ملياً، كما لو انه يريد ان يفترسني ويتلذذ بكل قطعة يأخذها مني ويمضغها بين اسنانه.. كان يشتهيني .
وجدته يتوسل الرقة والابتسامة فيما وجدت في عينيه وحشية لم اعرفها في كائن من قبل .
ادركت انني شهية في عينيه، فالمرأة فيّ تستيقظ وتخمن ثم تعرف.. تعرف جيداً الاهداف والمقاصد التي تحملها قسوة هذه العيون التي لم يكن من طبعها ان ترق او ترأف او تسامح ..
ليس من تكوينها، ان تكون في حال ليس حالها، ولا من خصائص وجودها، لذلك بدت امامي، كما لو انها تلعب دوراً لايليق بها ولا ينسجم مع طبيعتها .
خشيت من رقة هذه العيون القاسية التي تتفرد بكل خلية من جسدي، بل كل خلية من خلايا دمي.. سألني :
- ستكونين زوجتي التي تركت النصرانية وصارت مسلمة .
لم يكن سؤالاً ولا خياراً املكه، وإنما قرار اتخذه بنفسه وليس امامي سوى تنفيذه.. واحتبست صرخة في حنجرتي، سرعان ما تحولت الى حكمة.. تجرأت ونظرت في عينيه هذه المرة.. ووجدت في حنجرتي القوة لسؤاله :
- سأكون زوجتك، وسأشهر إسلامي.. ياسيدي كما تشاء.. ولكني امرأة لا تريد لزوجها ان يقتل في معركة لتصبح ارملة وهي في عز شبابها .
ارتاح لكلماتي، ووجدته يصغي اليّ، كما لو ان روحي تلك قد روضّت الوحش الذي فيه .
- هذه حياتي، انا مجاهد، وقد وهبت حياتي للجهاد في سبيل الاسلام والمسلمين .
- لديّ حل ياسيدي .
- ماهو..؟
اخرجت قنينة عطر كنت اختزنها في ملابسي دائماً.. قلت :
- ياسيدي، دعني اضع قليلاً من هذا العطر الرباني فوق رقبتك ليكون منقذاً لك من أي سيف قد يتوجه نحو رقبتك .
ضحك مني، كما لو انه يقول لي: حيلتك هذه لاتنطلي على قائد مجاهد مثلي :
- ولماذا لا اضعه على رقبتك واجرب سيفي ؟
- جرب.. انا لا امانع ابداً.. من حقك ان لاتثق بي، فأنت لاتعرفني من قبل، والحذر واجب، والحياة لاتوهب بسهولة .
نظر في عيني عميقاً، أحسست كما لو انه يخترق كياني كله.. حاولت ان لا اضعف امامه ابداً.. ان اكون جادة وواثقة من نفسي ومن اصراري الذي رسمته في اعماقي لحياتي كلها .
تناول قنينة العطر من بين اصابعي، وتلمس قطرات منها في يده اليمنى.. قال :
- لها رائحة زكية.. سأسكبها فوق جسمي كله.. فقد لا استشهد بسيف كافر، وانما باطلاقات ملحدة، هل هذا العطر ضد الرصاص ايضاً، قلت وانا حذرة وقلقة وكتلة من خوف دامٍ :
- نعم.. نعم ياسيدي .
لم يكن واثقاً مما أقول.. بل كان يسخر من الثقة التي وضعتها في هذا العطر السحري .
- إذن سأجربه فوق رقبتك فيرونا..
- جربه.. جربه ياسيدي، هذا من حقك.. ومن حقك ان لا تثق بي بسهولة.. جرب سيفك فوق رقبتي.. جرب .
حاولت جاهدة ان اكون صلبة في قراري وكلماتي وموقفي ..
تلمس رقبتي.. والقى فوقها عدة قطرات وراح يلمسها برقة، فيما كنت احس الموت بأصابعه وهي تمسك بأنفاسي ..
- هيا إستلقي على الارض.. سأضرب بسيفي ضربه واحدة.
كشفت بنفسي عن رقبتي.. كنت ارتجف في داخلي واحس ان الموت يقترب مني، ولكنني كنت سعيدة، سعيدة وانا اموت باختياري، وبقناعتي وبارادتي ووعيي الكامل.
امسك بسيفه وراح يتلمس حافته الحادة.. وتقدم نحوي.. وبضربة واحدة.. تحول رأسي الى كرة تسقط بعيداً عن جسدي.. فيما دمائي تسيل وتضيء وينبعث منها بخار دافيء.
(*) هذه القصة، تعود مرجعيتها الى القديسة السورية (فيرونا) التي استشهدت في 9 اكتوبر 749م بعد ان حكم عليها بالموت من قبل الامير مروان بن محمد الجعدي الاموي وهو آخر خلفاء دولة بني امية، وتم توظيف الشخصية والحدث على وفق حياتنا العراقية الراهنة، وقد تكرمت السيدة د.سناء اسماعيل رشيد بتزويدي مشكورة بهذه المعلومة التاريخية فلها
امتناني واعتزازي.
.