أبدعت العرب حكايات شابها خيال جامح عن الجن ومخلوقات اخرى غريبة تعكس احوال حياتهم وطبائعهم. وقد أرجع بعض الباحثين بداية القص العربي الى ما بعد عصر النهضة مع حملات التبشير والبعثات والترجمة، بيد أن القص عند العرب قديم يعود الى الجاهليين. وإذا عددنا الشعر فنا بدويا يناسبه اللااستقرار حلا وترحالا؛ فإن السرد فن حضري يناسبه الاستقرار والثبوت بقوانين وانظمة وهكذا كانت حكايات القدماء وملاحمهم قد ظهرت ابان الاستقرار الحضاري والمدني والزراعي كما في مدينة اور مثلا او اثينا أو روما.
وهذا ما توفر في الحاضرة بغداد بوصفها عاصمة الدولة العربية الاسلامية، ولن نتعجب إذا وجدنا أن أحد علمائها في الأدب واللغة يهتدي إلى أسس القص، وهو ابن الصيقل الجزري في مقاماته المعروفة بالمقامات الزينية التي هي امتداد للمقامة التي عرفت عند الهمذاني والحريري والزمخشري وغيرهم.
وكان الجزري شيخا للأدب العربي في المدرسة المستنصرية وفي رواقها سمع المقامات الخمسين منه مئة وستون عالما أو أديبا وكان ذلك سنة ( 676هـ) وللجزري رسائل وخطب ومنافرات، وهو الذي طوّر فنية المقامة فبدت أكثر استقرارا، غايتها ليست الاخبار أو نقل تجربة ما، بل كنوع فني ينتهج القص بطريقة موضوعية.
ولولا ما في مقاماته من ملامح فنية، ما كانت لتقرأ على أساتذة المدرسة المستنصرية ابان القرن الثامن للهجرة حتى أنهم كانوا يستمعون إليها كاملة، ويتناقشون فيها. ولا مناص من القول إن القص أخذت ملامحه السردية تتضح مع كتابة المقامات لتكون جنسا سرديا يجمع بين الحكاية بايجازها واخباريتها والقصة بحبكتها وزمنيتها من مخيال يستحث الواقع ويستحضر متغيراته بعد ان كان استحضار الواقع ينحصر في إطار القص الديني والقص الصوفي والقص الفلسفي.
بيد أنّ المقامة استطاعت أن تكون ترشحا طبيعيا وتطورا فنيا لارث نثري حكائي، ولم يكن ظهورها ابتداعا اجناسيا جاء عفو الخاطر وانما انشئ لاعتبارات منطقية مهمة في مقدمتها وظيفتها النقدية بازاء واقع اجتماعي مداف بمخيال وهمي، وهذا ما أمدنا بصور للحياة الاجتماعية لم يكن مؤرخو عصور الدولة العباسية قد اطلعونا عليها بل سجلوا ما يصب في صالح السلطة التي يكتبون التاريخ تحت ظل خيمتها، اما الذي لا طائل فيه لهذه السلطة فانهم غيبوه واقصوه من التاريخ. وهذا ما ترك في التاريخ الرسمي مسكوتات ومغيبات لواقع اجتماعي ترتع فيه الفاحشة والعوز ويسوده الباطل والفساد.
لقد نهضت المقامة بمهمة نقد الواقع، فكان تسليطها الضوء على هذا الواقع المهمش، هو أهم أسس استمرارها والدعامة التي منحتها البقاء والنماء حتى مطلع النهضة الادبية في القرن التاسع عشر. وعندما انهارت الدولة العباسية وصرنا أمام محتل يمتاز بالقوة والغلبة، ولكنه في الوقت نفسسه جاهل متعطش للمعرفة، بدأت مرحلة جديدة أمام العلماء الأدباء أن يطوعوا علومهم لها لتستقيم حياتهم وتعالج سلبياتها وكان فن المقامة هو الأداة الطيعة التي ستمكنهم من تحقيق بغيتهم فلم تفارق المقامة العالم المقموع بل أظهرت سلبياته وانتقدت أدباءه.
وهذا ما فعله ابن الصيقل الجزري الذي لم يمنعه علمه واستاذيته في المدرسة المستنصرية من ان يضع خمسين مقامة بناها على القالب السردي الذي وضعه الهمذاني لكنه ابتكر في محتواها الموضوعي متغلغلا في عالم الادباء والعلماء المتحذلقين المتنطعين الذين يغالبون بالالفاظ ويتجاهرون بالنبر بالاشعار وقد أخذتهم الصناعة اللفظية فتناسوا الواقع الموضوعي.
وما أراده الجزري من وراء مقاماته هو توجيه رسائل ناقدة لهؤلاء المتحذلقين، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويدركون أن ما يفعلونه ضرب من الاحتيال وشكل من اشكال التسول والاستجداء جاعلا من السارد رامزا والمسرود مرموزا اليه. أما هو كمؤلف فانه بقي في منأى عن الجرح والقدح قابعا في الخفاء لا يترتب على نقده نقاش او جدال او مؤاخذة، كما ليس عليه ان يعتذر لهذا او يحاجج ذاك. وهذا ما حبب السرد الى العلماء والادباء وقربه اليهم.
وهذا افتراق خطير ومهم في القص العربي الذي عرفناه في أطواره وعصوره مجرد مكمل ابداعي للحياة وليس اداة فاعلة ومركزية تسهم في تقدمها.
وبهذا تصبح المقامة في مراحلها المبكرة والناضجة والختامية القاعدة السردية التي ستتكئ عليها القصة الحديثة ويكون ابن الصيقل الاب الروحي للقصة العربية الواقعية. وصحيح أن بينه وبين ظهور القصة الحديثة زمن طويل اقترن بتأثيرات غربية، غير أنه يظل الريادي الذي سبق دي كاميرون وسرفانتس في العصور الوسطى في اوروبا.
لا غرو أن المقامات الزينية ما مالت الى المماحكة اللفظية والالغاز اللغوية الا كجزء من نقد اجتماعي لظاهرة واقعية صارت منتشرة في عصر شهد دخول أقوام اجنبية لتحكم البلاد الامر الذي تطلب تخلي الاديب عن برجه العاجي وعوالمه العالية لينزل الى الواقع ويرى الحقيقة كما هي. والطبقات العليا في ظل الاحتلال المغولي قد ذوت وحلت محلها طبقات وسطى ودنيا ومنها طبقة الادباء وهذه الطبقة بالتحديد صار عليها أن لا تتظاهر بالخيلاء والفصاحة وتحاول تقليد تلك الطبقة. هكذا صار على الادباء العلماء مهمة جديدة بوصفهم التنويرين في المجتمع الذين تقع عليهم مسؤولية التوجيه والتوعية وهكذا ارتقت المقامة بنقدها للواقع إلى أن تكون جنسا سرديا نما واكتمل فأثر بقوة في القص الاوروبي في العصور الوسطى.
ولا غرو أن يهتدي ابن الصيقل الجزري إلى جعل المقامة بمثابة قصة واقعية فنية بطريقة تبدو فيها وكأنها شكل ابتدائي لفن الرواية، وهذا ما لا يعترف به مؤرخو تاريخ الادب، مرجعين القص في نشأته الى الغرب وانه جاءنا واردا منهم، فتأثرنا به بينما حقيقة الأمر بالعكس تماما فالقص العربي هو الذي أثَّر في القص الغربي والسبب وضوح النقد الاجتماعي فيها وما ينطوي عليه من التوجيه والحكمة.
ولكل مقامة من مقامات الجزري خصوصيتها الموضوعية التي تصب في قالب فني ينماز بثبات الشكل وتنوع الموضوع ضمن مقصدية التعاطي السردي مع تجربة واقعية توضع في وعاء فني قصصي متجاوزة مقامات الهمذاني والحريري ومستثمرة ايضا الف ليلة وليلة.
وقد تمكن ابن الصيقل الجزري بعلميته من أن يجمع بين علم يتخذ من المخيلة قانونا وبين كتابة تجعل الواقع خيوطا تنسجم مع بعضها بعضا، لصناعة نسج قصصي اختلاقي يتجاوز الخرافة والسحر والطوطمية، منتجا فعلا سرديا ما كان لينتج لولا واقع حضري متناقض، استشرى فيه التعقيد العلمي من جانب وانتشر فيه الفساد الاجتماعي من جانب آخر.
هكذا تركز اهتمام الجزري على الواقع ونقده، زاجا بالسرد والشعر في تضاعيف مقاماته كرغبة قصدية في جعل السرد منافسا خطيرا للشعر، لا لأنه يتفوق عليه بملاءمته لواقعية الطرح وتخييلية النص، غير مقيد بوزن ولا قافية وانما لمتاحات سايكولوجية يوفرها السرد من قبيل التعبير الشعوري عن رغبة متدارية او تجربة معيشة بنزق ووضوح ليست فيه تورية او مجازية.
وإذا كان كاتب مثل الجزري يرى في الشعر هذا المرأى؛ فإنه ليس وحيد زمانه في ذلك فلقد سعى كثير من الفقهاء والعلماء إلى كتابة تجاربهم وما لديهم من خبرات سردا في شكل رسائل او رحلات او مقامات او خطب.
وهذا ما توفر في الحاضرة بغداد بوصفها عاصمة الدولة العربية الاسلامية، ولن نتعجب إذا وجدنا أن أحد علمائها في الأدب واللغة يهتدي إلى أسس القص، وهو ابن الصيقل الجزري في مقاماته المعروفة بالمقامات الزينية التي هي امتداد للمقامة التي عرفت عند الهمذاني والحريري والزمخشري وغيرهم.
وكان الجزري شيخا للأدب العربي في المدرسة المستنصرية وفي رواقها سمع المقامات الخمسين منه مئة وستون عالما أو أديبا وكان ذلك سنة ( 676هـ) وللجزري رسائل وخطب ومنافرات، وهو الذي طوّر فنية المقامة فبدت أكثر استقرارا، غايتها ليست الاخبار أو نقل تجربة ما، بل كنوع فني ينتهج القص بطريقة موضوعية.
ولولا ما في مقاماته من ملامح فنية، ما كانت لتقرأ على أساتذة المدرسة المستنصرية ابان القرن الثامن للهجرة حتى أنهم كانوا يستمعون إليها كاملة، ويتناقشون فيها. ولا مناص من القول إن القص أخذت ملامحه السردية تتضح مع كتابة المقامات لتكون جنسا سرديا يجمع بين الحكاية بايجازها واخباريتها والقصة بحبكتها وزمنيتها من مخيال يستحث الواقع ويستحضر متغيراته بعد ان كان استحضار الواقع ينحصر في إطار القص الديني والقص الصوفي والقص الفلسفي.
بيد أنّ المقامة استطاعت أن تكون ترشحا طبيعيا وتطورا فنيا لارث نثري حكائي، ولم يكن ظهورها ابتداعا اجناسيا جاء عفو الخاطر وانما انشئ لاعتبارات منطقية مهمة في مقدمتها وظيفتها النقدية بازاء واقع اجتماعي مداف بمخيال وهمي، وهذا ما أمدنا بصور للحياة الاجتماعية لم يكن مؤرخو عصور الدولة العباسية قد اطلعونا عليها بل سجلوا ما يصب في صالح السلطة التي يكتبون التاريخ تحت ظل خيمتها، اما الذي لا طائل فيه لهذه السلطة فانهم غيبوه واقصوه من التاريخ. وهذا ما ترك في التاريخ الرسمي مسكوتات ومغيبات لواقع اجتماعي ترتع فيه الفاحشة والعوز ويسوده الباطل والفساد.
لقد نهضت المقامة بمهمة نقد الواقع، فكان تسليطها الضوء على هذا الواقع المهمش، هو أهم أسس استمرارها والدعامة التي منحتها البقاء والنماء حتى مطلع النهضة الادبية في القرن التاسع عشر. وعندما انهارت الدولة العباسية وصرنا أمام محتل يمتاز بالقوة والغلبة، ولكنه في الوقت نفسسه جاهل متعطش للمعرفة، بدأت مرحلة جديدة أمام العلماء الأدباء أن يطوعوا علومهم لها لتستقيم حياتهم وتعالج سلبياتها وكان فن المقامة هو الأداة الطيعة التي ستمكنهم من تحقيق بغيتهم فلم تفارق المقامة العالم المقموع بل أظهرت سلبياته وانتقدت أدباءه.
وهذا ما فعله ابن الصيقل الجزري الذي لم يمنعه علمه واستاذيته في المدرسة المستنصرية من ان يضع خمسين مقامة بناها على القالب السردي الذي وضعه الهمذاني لكنه ابتكر في محتواها الموضوعي متغلغلا في عالم الادباء والعلماء المتحذلقين المتنطعين الذين يغالبون بالالفاظ ويتجاهرون بالنبر بالاشعار وقد أخذتهم الصناعة اللفظية فتناسوا الواقع الموضوعي.
وما أراده الجزري من وراء مقاماته هو توجيه رسائل ناقدة لهؤلاء المتحذلقين، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويدركون أن ما يفعلونه ضرب من الاحتيال وشكل من اشكال التسول والاستجداء جاعلا من السارد رامزا والمسرود مرموزا اليه. أما هو كمؤلف فانه بقي في منأى عن الجرح والقدح قابعا في الخفاء لا يترتب على نقده نقاش او جدال او مؤاخذة، كما ليس عليه ان يعتذر لهذا او يحاجج ذاك. وهذا ما حبب السرد الى العلماء والادباء وقربه اليهم.
وهذا افتراق خطير ومهم في القص العربي الذي عرفناه في أطواره وعصوره مجرد مكمل ابداعي للحياة وليس اداة فاعلة ومركزية تسهم في تقدمها.
وبهذا تصبح المقامة في مراحلها المبكرة والناضجة والختامية القاعدة السردية التي ستتكئ عليها القصة الحديثة ويكون ابن الصيقل الاب الروحي للقصة العربية الواقعية. وصحيح أن بينه وبين ظهور القصة الحديثة زمن طويل اقترن بتأثيرات غربية، غير أنه يظل الريادي الذي سبق دي كاميرون وسرفانتس في العصور الوسطى في اوروبا.
لا غرو أن المقامات الزينية ما مالت الى المماحكة اللفظية والالغاز اللغوية الا كجزء من نقد اجتماعي لظاهرة واقعية صارت منتشرة في عصر شهد دخول أقوام اجنبية لتحكم البلاد الامر الذي تطلب تخلي الاديب عن برجه العاجي وعوالمه العالية لينزل الى الواقع ويرى الحقيقة كما هي. والطبقات العليا في ظل الاحتلال المغولي قد ذوت وحلت محلها طبقات وسطى ودنيا ومنها طبقة الادباء وهذه الطبقة بالتحديد صار عليها أن لا تتظاهر بالخيلاء والفصاحة وتحاول تقليد تلك الطبقة. هكذا صار على الادباء العلماء مهمة جديدة بوصفهم التنويرين في المجتمع الذين تقع عليهم مسؤولية التوجيه والتوعية وهكذا ارتقت المقامة بنقدها للواقع إلى أن تكون جنسا سرديا نما واكتمل فأثر بقوة في القص الاوروبي في العصور الوسطى.
ولا غرو أن يهتدي ابن الصيقل الجزري إلى جعل المقامة بمثابة قصة واقعية فنية بطريقة تبدو فيها وكأنها شكل ابتدائي لفن الرواية، وهذا ما لا يعترف به مؤرخو تاريخ الادب، مرجعين القص في نشأته الى الغرب وانه جاءنا واردا منهم، فتأثرنا به بينما حقيقة الأمر بالعكس تماما فالقص العربي هو الذي أثَّر في القص الغربي والسبب وضوح النقد الاجتماعي فيها وما ينطوي عليه من التوجيه والحكمة.
ولكل مقامة من مقامات الجزري خصوصيتها الموضوعية التي تصب في قالب فني ينماز بثبات الشكل وتنوع الموضوع ضمن مقصدية التعاطي السردي مع تجربة واقعية توضع في وعاء فني قصصي متجاوزة مقامات الهمذاني والحريري ومستثمرة ايضا الف ليلة وليلة.
وقد تمكن ابن الصيقل الجزري بعلميته من أن يجمع بين علم يتخذ من المخيلة قانونا وبين كتابة تجعل الواقع خيوطا تنسجم مع بعضها بعضا، لصناعة نسج قصصي اختلاقي يتجاوز الخرافة والسحر والطوطمية، منتجا فعلا سرديا ما كان لينتج لولا واقع حضري متناقض، استشرى فيه التعقيد العلمي من جانب وانتشر فيه الفساد الاجتماعي من جانب آخر.
هكذا تركز اهتمام الجزري على الواقع ونقده، زاجا بالسرد والشعر في تضاعيف مقاماته كرغبة قصدية في جعل السرد منافسا خطيرا للشعر، لا لأنه يتفوق عليه بملاءمته لواقعية الطرح وتخييلية النص، غير مقيد بوزن ولا قافية وانما لمتاحات سايكولوجية يوفرها السرد من قبيل التعبير الشعوري عن رغبة متدارية او تجربة معيشة بنزق ووضوح ليست فيه تورية او مجازية.
وإذا كان كاتب مثل الجزري يرى في الشعر هذا المرأى؛ فإنه ليس وحيد زمانه في ذلك فلقد سعى كثير من الفقهاء والعلماء إلى كتابة تجاربهم وما لديهم من خبرات سردا في شكل رسائل او رحلات او مقامات او خطب.