1 - المسّرة
تماماً، كما لو في حلم؛ انسابت الى الآذان تباشير موسيقى ناعمة انفتحت عليها القلوب، ثم مالبثت ان تعالت في تدرج بطيء، بطيء حتى غدت تصدح آخر الأمر بمارش عسكري شديد الوقع طبق الآفاق .. كان ذلك مع أولى خيوط الفجر.
بحثاً عن الاخبار في المحطات فتح الناس أجهزة المذياع فلم يعثروا على غير هذه الموسيقى الصاخبة التي دهمت نومهم اللذيذ.
لم يكن أحد يعرف شيئاً عن هذا التغيير الجديد، أو عن هذا الاجماع العالمي على هذا النوع من الموسيقى، ولماذا هذا المارش الذي لا يستخدم عادة الا عند الاعلان عن حرب.
ليكن .. قالت امرأة واحضرت علم وطنها؛ رفعته على نافذة غرفتها، استعداداً للمشاركة في المعركة ولو بالتلويح به لأبنائها الجنود الذاهبين الى الحدود دفاعاً عن وطن يتهددهُ عدو.
شيئاً فشيئاً، بدأ الناس يغادرون بيوتهم، او يتجمهرون في الأزقة والساحات، رغبةً في جواب مقنع عن هذا التحول الجديد في مزاج العالم هذا اليوم.
كانت الموسيقى فضلاً عما يبث منها في اذاعات العالم وتنقله اجهزة المذياع في كل شارع وبيت، تنطلق كذلك من أماكن مرئية رتبت حديثاً وفي ليل على هيئة شاشات تلفازية عريضة ملونة، كانت تعرض بين آن وآن ومع دفقات الموسيقى وبايقاع صارم شديد، أحذية جنود يتقدمون.
اذن هي الحرب، قال أحدهم، ثم اردف: ولكن على من ومن أجل أي شيئ؟
وعلى سياق مافعلت المرأة أخرجت النساء الاعلام الوطنية، علقنها على شرفات المنازل والنوافذ استعداداً للمساهمة في ما قد يسفر عنه هذا الوضع الجديد غير المألوف.
اغلب الظن وبناء على ماظهر على وجوه النساء، اللواتي انشغلن بأعلامهن، من بشائر حمية دافقة، ان ما كان حدث من خلاف سابق بينهن قد تلاشى عندما تبادلن التحيات.
لم تكن ثمة عزلة بين النساء والرجال، فمن مكث في بيته كان يشارك نساءه افكارهن وهمومهن ولو بقدر قليل، كذلك من خرجت من بيتها لتندمج مع الرجال كانت تحمل القدر الكبير مما كان يدور هناك.
ولما كان الوقت مبكراً ومايزال غامضاً، فان أحداً لم يفكر بالذهاب الى دائرته أو مكان عمله ولاسيما أولئك ” الممسوسين” الذين اصبحت لديهم القدرة على تحسس الخطر قبل وقوعه والخوف من كل شيء جديد.
بينما كانت موسيقى المارش تخفت وتضمحل بالتدريج وعلى غير توقع من أحد، هدر صوت عميق الطبقة مفعم الاحساس بالمناسبة، إهتز له الحشد البشري العظيم: ” إقتلوا الذباب”.
انطلق الصوت مدوياً من كل بقعة على الارض، فعصف بالقلوب وأثار فيها ما أثار من شك ويقين مصحوبين بسخرية وذهول، ثم انه بمرور اللحظات وكلما تردد من جديد صار يدخلها بسلام يشيع فيها اقصى درجات المسرة واقصى درجات الايمان ” لقد بدأ الوعي يتحرك عند الناس، بعد ان نزع عنه قشرة الصدمة الاولى” عبر أحدهم مستحثاً الآخرين على قبول الحالة الجديدة المُسِرّة.
حقاً ما كان لأحد ان يفكر تفكيراً جدياً في موضوع مثل هذا من قبل، كما لم تكن لأحد الطاقة -ولو على مستوى التفكير- التي تجمع البشر على شيء من هذا او غيره، لكن الصوت الهادر الذي بات ينطلق من كل مكان وما كان يرافقه من اصداء موسيقية مثيرة وعلى هيئة دوامات متتالية، أغرق المدن البعيدة والقريبة وانداح في الفضاءات المترامية جمع الناس، وهم الذين أخذوا به على حين غرة، على التفكير الجدي وان بصورة هستيريا حادة شحنتهم عزماً وتصميماً على مكافحة الذباب.
في فوضى راح يسودها الفرح والمرح تعلق الجميع بما يمكن ان يثير الذباب او يقتله، فخلعوا قمصانهم وسراويلهم وشرعوا يلوحون بها، ثم تناولوا منشّات مما يستخدم عادة لقتل الذباب ثم في يقظة سريعة انتبهوا الى مبيدات الحشرات، فجعلوا يطاردون هذا العدو التأريخي لحظة بعد لحظه وموقعاً بعد موقع، فطافوا في الازقة والشوارع، اجتاحوا المنازل والبيوت، تسلقوا الجبال، هبطوا الوديان، انتشروا في الحقول، توغلوا في الغابات، وكانت القمصان والسراويل تلوّح والغازات السامة تنتشر في الاجواء وتتفشى في الامكنة حتى تطيّر وهام على غير هدى كل ذي جناح.
من كل عمر وجنس كان الناس، مثابرين في رواح ومجيء، في صعود وهبوط، في التقاء وافتراق، وعلى هيئه هياج عارم اقرب مايكون الى علاج جماعي قائم على صرف الانفعال بالهياج والتهريج، بل كانوا وهم يطاردون أشباحاً تُرى ولا تُرى، كمن تطاردهم لعنة مجهولة من مكان لمكان.
كان ذلك، حسب ما بدا لمؤرخ دؤوب، أعظم تظاهرة في تاريخ الجنس البشري، يلتقي فيها الغني والفقير، والقوي والضعيف، الابيض والاسود والعظيم والذليل.
لم يقتصر الأمر عن استخدام الوسائل البدائية ذات الفاعلية المحدودة، انما كانت المصانع الكبيرة ذات الانتاجية العالية، ابتكرت افراناً حرارية قاتلة لم يكن شهد العصرلها مثيلاً من قبل نصبت في الساحات. فلقد تفتق العقل البشري النابغ عن انتاج أفران حرارية هائلة السعه تدور في داخلها اجهزة تشفط الهواء المحيط وما يهوّم عليه من ذباب ليحرق هناك، وليحول من بعد الى القاع وقد تحول الى رماد.
لقد استولى على الناس شعور عارم ” ليُقتل الذباب” ، لم تتفاوت درجة هذا الشعور عند الكبار أو الصغار، عند الرجال او النساء، انما استوى الجميع في هذا الأمر، فتعطلت المدارس والمستشفيات والدوائر والمعامل والمصانع والمؤسسات ومراكز الحكم والقضاء، وبات الحق الاعظم هو مطاردة الذباب اينما حل وحيثما وجد.
ومن غريب الامور ان الذباب هذا العنيد العنيد، الذي ان نششته دار حولك أو ارتد عليك، جعل يلوب نحو الاقاصي التي لم تكن هي الأخرى نجت من سحب الغبار، وإنه هذا البليد البليد الذي لايهرب ان هرب الا نحو النور، أخذ يلوذ في طيّات الظلام ليتساقط هناك تحت جذوع الاشجار وبين عناقيد الكروم وفي كهوف الجبال وسراديب البيوت، وعلى ارصفة الشوارع المشربة بظلال البنايات، فكان يزحف على الارض وقد ارتخت اطرافه وأنطوت اجنحته ليسحق من بعد بالاقدام، او يتحامل على نفسه ليتطاير فرادى أو جماعات ثم ما يفتأ ان يقع فريسة قمصان ملّوحة او سحب غاز قاتلة، فيهوي من جديد مترنحاً مثل غبار أسود ثقيل.
كان لصوت الذباب وهو يئن تحت الضربات المستمرة دويّ يذكّر بصوت الغابة قبيل استكانة الطيور الى اعشاشها عند حلول المساء.
في فوضى الحالة التاريخية هذه وبعد مرور ساعات التفت رجل يحمل على ظهره قنينة غاز قبض على خرطومها الطويل كما يقبض مقاتل على سلاحه بحثاً عن عدو مجهول وقال بفرح وغبطة جليتين:
– نكاد نقضي على الذباب.
– الجدير بالذكر ان العالم اجمع يسحق الذباب. أجابه آخر مايزال يلّوح بقميصه وقد نزّ عرق ثقيل من إبطيه.
– على أي حال تأخر العالم كثيراً. . كان الأجدر ان يتم هذا قبل قرن من الزمان.
أضاف الاول وقد إرتسمت على ملامحه علائم جدّ كتلك التي تسود ملامح الاطفال وهم يحاكون فعل الكبار.
اشترك ثالث ملأ صدره اللهاث:
– لا تبتئسوا . . ستكون حياتنا مفتوحة على عالمٍ جديد تسوده الطمأنينة والأمن وخالٍ من الامراض.
واتفق الثلاثة أخيراً وبصورة سريعة وحاسمة على ان لا قيمة للذباب مذ خلقه الله، وان العالم كله يلتهب الآن على مسرة قتل الذباب.
بينما كان هؤلاء يعملون متقاربين مغمورين بسعادة لم تتحقق لهم قبل هذا اليوم، دعوا مصوراً فوتوغرافياً لالتقاط صورة جماعية لعمل طوعي مسّر، أتفقوا على انه اعظم عمل اشتركت فيه جماعة بشرية حتى الآن.
مع الساعات الضاجة بأختلاط الاصوات، وتلاطم الحركة، باحتدام النفوس بالانفعالات والرغبات بانصباب أنهار العرق والدهون، بأنبثاق الروائح الجسدية المتنافرة والمنفرة، وحيث كانت الايدي تمتد مجنونة نحو كل اتجاه، ارتفع الصوت الهادر مجدداً، من مراكز للبث نصبت على صدور البنايات وعلى أعمدة الشوارع وفوق قمم الجبال وفي الواحات والغابات والساحات، يدعو الى مضاعفة الجهود فما يزال الذباب يقاوم اجراءاتكم غير ان الفرصة ماتزال سانحة للقضاء عليه حتى قبيل هذا المساء.
انطلقت فتوة الرجال وهمم النساء . . الأمل قريب، سيتحقق المشروع الأكبر وستعم جدوى المبادرة الانسانية العظيمة . . سنأكل دون قلق، ستتورد خدود ابنائنا واحفادنا، ستكون اجسادنا سليمة دونما علة او مرض من أي نوع كان . . المسرة قادمة.
يتحرك الجميع باندفاع عظيم، تصاحب ذلك سعادة غامرة، نحو آفاق لم تعد عسيرة الآن بعد ان جندت لهذا الغرض وسائل نقل جماعية تحمل ماركات جديدة لم تدشن من قبل . . دخلوا المنازل المهجورة والخربة والتي ماتزال قيد الانشاء، فتشوا المجاري، غمروا المستنقعات بالغاز وغاصوا في اقصى مجاهيل الغابات . . اغلقوا المنافذ والفتحات في الحيطان والجدران . . أستكملوا طواف المدن القريبة والبعيدة، جابوا كل فج وغزوا كل محيط . . لم يبق مكان في المعمورة الا ووطأته الاقدام والتفت عليه الايدي واحاطته بوسائل الفتك والدمار . . لم ينج من البطش ساحة أو حديقة او متنزة او نهر . . كانوا يتفجرون غضباً على هذا العدو اللدود، ويحررون طاقات عظيمة لا تكل، بل انهم وهم يندفعون هذا الاندفاع العنيف كانوا يتبادلون الآمال في عالم جديد راسخ يقوم على صداقة خالدة لاتنسى، مهرجان القضاء على الذباب، ذاكرتها الحية ومحورها الرصين.
كانت الايام تنفلت من عقال التاريخ والهدير الصوتي، على خلفية موسيقى عاتية، يشتد ولم يبق على انصرام يوم أخر سوى وقت قليل والذباب يسحق فلا مفر له ولا وجود، وفي غمرة الانفعال المتصاعد اللذيذ توقفت الموسيقى وانطلق الصوت البشري صافياً وحيدا كما لو انه سيد الكون، يبشر بالمسّرة التامة فلقد قضي على الذباب. هكذا وردت المعلومات من مركز العالم، الذي بدأ التفكير قبل غيره بمسؤولية تنقية العالم من الذباب، وتلته المراكز الأخرى والمراصد المبثوثة في جميع الارجاء. . لقد قضي على الذباب نهائياً واننا منذ الآن عالم بلا ذباب.
تطايرت في الفضاء قمصان وسراويل وقبعات ومنشات والات صغيرة أخرى . . لوّحت الايدي وطافت على الوجوه سعادة بهيجة، رقصت على عزفها الاجساد والنفوس:
” احتفلوا رجاءً . . واستمعوا الينا، نخبركم بان عالمنا الآن بلا ذباب”
صدحت موسيقى الجاز والروك وموسيقى السمفونيات الخالدة وتعالت الاناشيد وأغاني المدن واغاني الريف مع ما كانت تنقله مراكز البث من برقيات التأييد التي بدأت تنثال من المنظمات العالمية للصحة والوقاية من الامراض وحماية الانسان من الذباب.
العالم بأجمعه يحتفل ويتبادل أرق عبارات التهاني والاماني والدعوات . . العالم غدا ارضاً واسعة لمهرجان لا اكبر منه في الارض قاطبة، نقلت وقائعه وكالات الانباء وشاشات السينما ومحطات التلفزيون . . بات الهواء نقياً وخلا الجو مما كان السبب الأول في تدهور صحة الانسان. ” احتفلوا رجاء . . لقد هزم الذباب . . هكذا يدون تاريخنا الجديد . . تمتعوا باجازة اسبوع كامل . . تمنياتنا” .
وحقاً هزم الذباب وانطفأ صوت غوغائه، ولم يعد أحد يرى ذبابة واحدة حية . . أمسى الفضاء نقياً إلاّ مما ظل يشوبه مما علق فيه من سحب الغاز . . أما الارض فلقد تسربلت بلون الرماد
2- المغمّة
صفا الجو تماماً . . كنست الارض مما تراكم عليها من حشود الذباب ومضت الى غير عودة ساعات بل ايام من حمية ملتهبة واناشيد حماسية ونشاط أخاذ.
استقام الناس الى شيء سموه الهدوء بعد العاصفة، ولم يكن في حقيقته سوى فتور شل الحركة وأفشى الخدر في النفوس، فأخلد بعض الى النوم وركن بعض آخر الى الانزواء في البيوت، واستكان آخرون الى استعادة ذكريات قديمة غير ذات بال، وصاروا حين يلتقون في حديقة مخربة أو مقهى محطمة أو بار منتهك موطوء، تشف نظراتهم عن كسل في المشاعر وبلادة في الاحاسيس، واصبح موضوع الذباب نسياً منسياً، واذا تذكره أحد فانما من قبيل ما يطرأ عفواً على الذهن دونما حاجة اليه او رغبة فيه، ان شيئاً حدث كالاعصار، لم يخلف سوى صور مجسدة للعنف البشري تمثل في تدمير ما كان قائماً من متنزة او مرفق عام، فتراءى للناس وهم في شللهم هذا كما لو انه حدث قبل قرن من الزمان.
صحيح ان بعضاً مما كان يعتمل في الاعماق ويفجر بعض كوامن الحزن العميق، كان يذكّر به أو يعيد بعض الذكريات عنه، لكنها الذكريات الواهنة المنسية؛ ذكرى عدو أُبيد تماماً وصارت ذكراه مزيجاً من فرح عابر يخالطه ألم خفيف.
ففي حديقة صغيرة كانت يوماً جميلة بشكل أخاذ التقى على غير موعد عاشقان تقصيا مكاناً نظيفاً خالياً من روائح الغاز وعبث الايدي والاقدام، اختارا مرغمين مقعداً بدت عليه آثار تخريب طفيف . . جلسا هناك، ولكي يبددا صمتاً تراءى لهما انه قد يدوم طويلاً بادرت المرأة الى القول وقد طرأ على ذهنها أمر الذباب،
– ما كنت احسب ان العالم سيعطي من الضحايا هذا العدد المثير.
– وهل قدّم الكثير؟ سأل الرجل. انت تعملين، أضاف، في دائرة إحصاء.
– لقد ذهب العشرات نتيجة الصدام وسحق الاقدام والتعب والارهاق وتوقف القلب الفجائي وضغط ألدم والسكري والعطش الشديد، فضلاً عن الذين ذهبوا بين اسنان الوحوش من اسود وذئاب وضباع.
– ما كان دار في خلدي ان الأمر سيكون بهذا العنف، ويقدم العالم مثل هذه التضحيات.
– لقد انهارت سدود وبنايات وجسور وجرفت شلالات المياه أفواجاً من المتطوعين هناك. وافترست الذئاب والاسود والكلاب الوحشية، ودفنت العواصف الرمليه من كان يعمل في الغابات والصحارى.
وأردفت وقد علت ملامحها مسحة برم بالاشياء:
– أوّ لا تظن أننا أقدمنا على شيء دونما حساب؟
– لو تعلمين ما اعانيه من اجهاد. قال واستدار ناحية شجيرة انتزعت أغصانها وديست سويقاتها.
قالت ببرود:
– كلنا سواسيه . . مجهدون فاترون.
وأضافت:
– ألم تتساءل لحظة عن جدوى هذا الذي قمنا به وتعاهدنا عليه؟
– لا أعرف تماماً . . كل ماحصل انني سمعت ورأيت، ثم اننا جميعاً ضد الذباب وموقف غير هذا يعني ان تقف بوجه الريح.
– كنت اتساءل لماذا الذباب وليس غيره.. وماذا لو كانت جهودنا تلك وجهت الى شيء آخر مثلاً؟
– كنتِ وحدكِ . . ربما كنت الوحيدة . . أو هكذا أظن.
– كلا .. كان الكثيرون . . وكنت أحياناً ارى المطارديِن مطاردٍَين . . كنت ارى العكس تماماً. وأبلغ ما رأيت تلك الغزالة التي افلتت من براثن الأسد، ثم حينما افزعتها الجموع الهائجة، عادت اليه فالقت بنفسها بين فكيه . . كان شيئاً مفزعاً حقاً.
– ولكنها النهاية
– كانت العاصفة . . وليس دائماً تقاس الاشياء بالنهايات.
– بل بماذا اذن؟
لم تقل شيئاً. . صمتت صمت اليائس من حديث مغلق، ورمت نظرة وانية نحو منظر السماء ثم عادت قائله:
– اعرف أنه. وسكتت ثم اضافت؛ لكنني لا أعرف لماذا انا حزنية هذا الحزن.
– قد يثير القضاء المبرم على الاعداء حزناً مثل هذا الحزن. وقد يولّد الفراغ من شيء كان موجوداً مثل هذا الخواء. تلك هي طبيعة الناس.
عاد الصمت فأطبق على العاشقين. نسيا ان يتكلما في الحب او الزواج الذي كانا سعيا على بناء عشه يوماً بعد يوم . . مكثا متباعدين تفصل بينهما غربة باردة حتى نهضا تقدما في مسيرهما من دون ان يعقدا يداً بيد . . لم يتكلما بعدُ حتى افترقا على قبلة صامتة.
من جانب آخر اغلق اصحاب المصانع التي تنتج الغاز المبيد للذباب مصانعهم وصرفوا عمالهم وموظفيهم انتظاراً لما ستؤول اليه الاحوال القادمة من آفاق.
في هذا الجو المشحون بالخدر والترقب البليد والابتعاد عن كل ماهو مثير وجديد، ولم تكن مضت على ” مسرة” الناس ايام، صدرت عن المركز ذاته نداءات جديدة، تلقفتها وسائل الاعلام عينها وفي صباح مشرق كذلك، تثير نخوة الحشد البشري العظيم وتدعوه الى الاستعداد لحدث جديد يفوق أهمية ما حصل قبل أيام. فقد اعلنت مديريات الآثار وجمعيات الرفق بالكائنات وعلماء السلالات وخبراء الحيوان والحشرات ومصنفو اللافقريات ومنظمات انسانية وعلمية معروفة او ظهرت حدثياً على مسرح الاحداث، بأن ماحدث للذباب كان أمراً فوضوياً وانه من قبيل الكوارث الكبرى والملمات التي ألمت باجناس انقرضت نهائياً ولم يعد لها من وجود الاّ على سبيل المتحجرات او رفوف الكتب او صور الخيال، وإنه أي الذباب، لم يكن خطراً على الجنس البشري خطر غيره من كائنات أُخر كالبعوض والقمل وامراض كالسل والبلهارزيا والزحار والتايفوئيد، وغيرها من حشرات ضارة وامراض سارية وذات مفعول فاتك وشديد. كما ان وجوده يمنح العلماء بالتقادم الزمني فرصة نادرة لمعرفة المزيد عن نشاط هذا الجنس الغريب الطباع الذي يلتمس النور كلما داهمته الملمات، وقرب طبيعته من طبائع كائنات أُخر ماتزال تنعم بالحياة، واستعداده إن صرف العلماء علمهم نحوه واجريت عليه تجارب ناجعة، ان يكون رديفاً في الطبيعة والانتاج لحشرات نافعة كالنحل على سبيل المثال.
من هذا المنطلق الذي استقام عليه العقل البشري فجأة صدرت التعليمات الجديدة ” ابحثوا عن الذباب . . ان مسيرة الحياة الظافرة، ان لم تظفروا ولو على ذبابة أو ذبابتين، ستخلو من واحد من أهم حلقاتها، لذا ندعوكم لبذل اقصى الجهود لتكونوا بمستوى مسؤولية العصر الجديد الذي تعيشون فيه “.
في لحظة من لحظات التاريخ العظيم، في لحظة كتلك اللحظة الفائتة المنسية، استعاد الحشد البشري قوته المختزنة. جرت الدماء في العروق ثانية، انما بفعل التكيف السريع للعمل الجديد وغسلاًً لعار إثم قريب بات الجميع في حال من النشاط لم يألفوه من قبل وكلهم يتساءل؛ اين تكمن قوة البشر في الخير أم في الشر واين الفاصل بين الحب والكره والعقل والجنون. بل أين الحاجزبين المسرة والفاجعة والرغبة في الحياة والاقدام على الانتحار؟
كانوا يتساءلون، وهم يبحثون ولو عن ذبابة واحدة لا غير، رسم لها المصورون المحترفون صورة ذبابة نقية لاتحط على تل قمامة، بل حطت على زهرة غضة فواحة، لونوا جناحيها بالالوان وغرزوا خرطومها في بحر من رحيق وتركوا خلفها سماء زرقاء مفتوحة تغطي اندياحات أفقها اسراب من فراشات.
عبر هذه الصورة وأخرى غيرها مماثلة تفنن في رسمها ابرز الفنانين، نشروا نسخها على لافتات ضوئية كبيرة وجدران وواجهات بنايات، انطلقت ذاكرة الحشد وارتفعت حمى البحث عن ذبابة.
وكما حدث من قبل، انفتحت ابواب الشوارع ومصاريع البيوت وفضاءات الصحارى وعتم الغابات وبوابات المغاليق للعمل الجديد واستخدم من وسائل الكشف عن الاجسام الصغيرة والهائمة في الجو كل ماتفتق عنه العقل الحديث.
كان الأمل يشع في النفوس، فلا بد من ان تكون ذبابة نجت من حملة الابادة التاريخية تلك، بل انه، أي الأمل، كان يراودهم كلما انقضت الساعات وكثرت التضحيات، فماالعقل الا ماتنتجه اللحظة الراهنة والاّ ماتغذيه الرغبات الطموح.
في ضوء هذا كان الحماس يشتد واللهب يتصاعد والبحث يدخل منافذ كان الوصول اليها من قبيل المستحيل. ولم تتوان وسائل الاعلام المختلفة من بث شعارات تدعم الروح التي حركت الناس بنشاط غير مألوف، انما وزيادة في محاولة تحقيق النجاح وضعت مكافآت خيالية ، لمن يعثر على ذبابة ، مشفوعة باغان واناشيد وطنية تصدح بحماس يهيج في القلوب يقظة متوثبة وتؤكد حلماً التقى فيه العدومع عدوه والنقيض مع نقيضه، حتى اذا كان التعب بمرور الساعات يشل الحركة، ويعطل الآمال، وحتى اذا بدأت الشمس تغيب او تكاد، هطل الصوت العظيم، فتوقفت الحركة واستعيدت الأنفاس واتسعت الأفئدة والآذان . .
هطل الصوت مرة واحدة وباتفاق تام يجرحه حزن شديد وأسف بالغ يقول:
” بمزيد من اللوعة والأسى اللذين لانكاد نحتملهما، نتجاوز على مشاعركم النبيلة فنعلن عن فشل المساعي في العثور على ذبابة . . ذبابة واحدة لا غير. لقد كان حلمنا كبيراً وأملنا عظيماً، غير ان جدار الحقيقة كان أقوى من كل ذلك تماماً . . لذا نهيب بكم الكف عن السعي وراء سراب والركض خلف وهم، ولسوف يلازمنا الندم على عمل ما كان ينبغي ان يسجل في دائرة اعمال زمننا السعيد، عمل قضينا فيه على جنس كامل ومارسنا فيه أعتى الأعمال الجنونية التي عرفتها البشرية في تاريخها الطويل. وآخر ما نقوله شكراً لكم لقد أديتم الامانة وما كان عليكم الا ان تفعلوا ذلك”.
استفاق الناس على مرارة الصوت ولوعته، وأسقط في ايديهم واستبد بهم شعور جارح نهض من اعماق صدورهم. كان يسحق رؤاهم ويرهّل ملامحهم . . كانت صورهم تترى في شريط مظلم أمام أعينهم وهم يتناوبون الآمال مرة والالام مرة، حتى غادروا مواقعهم وتفرقوا . . غابوا في دهاليز وازقة وبيوت تاركين هذه المرة جرحاهم وموتاهم كلاً في مكان.
تماماً، كما لو في حلم؛ انسابت الى الآذان تباشير موسيقى ناعمة انفتحت عليها القلوب، ثم مالبثت ان تعالت في تدرج بطيء، بطيء حتى غدت تصدح آخر الأمر بمارش عسكري شديد الوقع طبق الآفاق .. كان ذلك مع أولى خيوط الفجر.
بحثاً عن الاخبار في المحطات فتح الناس أجهزة المذياع فلم يعثروا على غير هذه الموسيقى الصاخبة التي دهمت نومهم اللذيذ.
لم يكن أحد يعرف شيئاً عن هذا التغيير الجديد، أو عن هذا الاجماع العالمي على هذا النوع من الموسيقى، ولماذا هذا المارش الذي لا يستخدم عادة الا عند الاعلان عن حرب.
ليكن .. قالت امرأة واحضرت علم وطنها؛ رفعته على نافذة غرفتها، استعداداً للمشاركة في المعركة ولو بالتلويح به لأبنائها الجنود الذاهبين الى الحدود دفاعاً عن وطن يتهددهُ عدو.
شيئاً فشيئاً، بدأ الناس يغادرون بيوتهم، او يتجمهرون في الأزقة والساحات، رغبةً في جواب مقنع عن هذا التحول الجديد في مزاج العالم هذا اليوم.
كانت الموسيقى فضلاً عما يبث منها في اذاعات العالم وتنقله اجهزة المذياع في كل شارع وبيت، تنطلق كذلك من أماكن مرئية رتبت حديثاً وفي ليل على هيئة شاشات تلفازية عريضة ملونة، كانت تعرض بين آن وآن ومع دفقات الموسيقى وبايقاع صارم شديد، أحذية جنود يتقدمون.
اذن هي الحرب، قال أحدهم، ثم اردف: ولكن على من ومن أجل أي شيئ؟
وعلى سياق مافعلت المرأة أخرجت النساء الاعلام الوطنية، علقنها على شرفات المنازل والنوافذ استعداداً للمساهمة في ما قد يسفر عنه هذا الوضع الجديد غير المألوف.
اغلب الظن وبناء على ماظهر على وجوه النساء، اللواتي انشغلن بأعلامهن، من بشائر حمية دافقة، ان ما كان حدث من خلاف سابق بينهن قد تلاشى عندما تبادلن التحيات.
لم تكن ثمة عزلة بين النساء والرجال، فمن مكث في بيته كان يشارك نساءه افكارهن وهمومهن ولو بقدر قليل، كذلك من خرجت من بيتها لتندمج مع الرجال كانت تحمل القدر الكبير مما كان يدور هناك.
ولما كان الوقت مبكراً ومايزال غامضاً، فان أحداً لم يفكر بالذهاب الى دائرته أو مكان عمله ولاسيما أولئك ” الممسوسين” الذين اصبحت لديهم القدرة على تحسس الخطر قبل وقوعه والخوف من كل شيء جديد.
بينما كانت موسيقى المارش تخفت وتضمحل بالتدريج وعلى غير توقع من أحد، هدر صوت عميق الطبقة مفعم الاحساس بالمناسبة، إهتز له الحشد البشري العظيم: ” إقتلوا الذباب”.
انطلق الصوت مدوياً من كل بقعة على الارض، فعصف بالقلوب وأثار فيها ما أثار من شك ويقين مصحوبين بسخرية وذهول، ثم انه بمرور اللحظات وكلما تردد من جديد صار يدخلها بسلام يشيع فيها اقصى درجات المسرة واقصى درجات الايمان ” لقد بدأ الوعي يتحرك عند الناس، بعد ان نزع عنه قشرة الصدمة الاولى” عبر أحدهم مستحثاً الآخرين على قبول الحالة الجديدة المُسِرّة.
حقاً ما كان لأحد ان يفكر تفكيراً جدياً في موضوع مثل هذا من قبل، كما لم تكن لأحد الطاقة -ولو على مستوى التفكير- التي تجمع البشر على شيء من هذا او غيره، لكن الصوت الهادر الذي بات ينطلق من كل مكان وما كان يرافقه من اصداء موسيقية مثيرة وعلى هيئة دوامات متتالية، أغرق المدن البعيدة والقريبة وانداح في الفضاءات المترامية جمع الناس، وهم الذين أخذوا به على حين غرة، على التفكير الجدي وان بصورة هستيريا حادة شحنتهم عزماً وتصميماً على مكافحة الذباب.
في فوضى راح يسودها الفرح والمرح تعلق الجميع بما يمكن ان يثير الذباب او يقتله، فخلعوا قمصانهم وسراويلهم وشرعوا يلوحون بها، ثم تناولوا منشّات مما يستخدم عادة لقتل الذباب ثم في يقظة سريعة انتبهوا الى مبيدات الحشرات، فجعلوا يطاردون هذا العدو التأريخي لحظة بعد لحظه وموقعاً بعد موقع، فطافوا في الازقة والشوارع، اجتاحوا المنازل والبيوت، تسلقوا الجبال، هبطوا الوديان، انتشروا في الحقول، توغلوا في الغابات، وكانت القمصان والسراويل تلوّح والغازات السامة تنتشر في الاجواء وتتفشى في الامكنة حتى تطيّر وهام على غير هدى كل ذي جناح.
من كل عمر وجنس كان الناس، مثابرين في رواح ومجيء، في صعود وهبوط، في التقاء وافتراق، وعلى هيئه هياج عارم اقرب مايكون الى علاج جماعي قائم على صرف الانفعال بالهياج والتهريج، بل كانوا وهم يطاردون أشباحاً تُرى ولا تُرى، كمن تطاردهم لعنة مجهولة من مكان لمكان.
كان ذلك، حسب ما بدا لمؤرخ دؤوب، أعظم تظاهرة في تاريخ الجنس البشري، يلتقي فيها الغني والفقير، والقوي والضعيف، الابيض والاسود والعظيم والذليل.
لم يقتصر الأمر عن استخدام الوسائل البدائية ذات الفاعلية المحدودة، انما كانت المصانع الكبيرة ذات الانتاجية العالية، ابتكرت افراناً حرارية قاتلة لم يكن شهد العصرلها مثيلاً من قبل نصبت في الساحات. فلقد تفتق العقل البشري النابغ عن انتاج أفران حرارية هائلة السعه تدور في داخلها اجهزة تشفط الهواء المحيط وما يهوّم عليه من ذباب ليحرق هناك، وليحول من بعد الى القاع وقد تحول الى رماد.
لقد استولى على الناس شعور عارم ” ليُقتل الذباب” ، لم تتفاوت درجة هذا الشعور عند الكبار أو الصغار، عند الرجال او النساء، انما استوى الجميع في هذا الأمر، فتعطلت المدارس والمستشفيات والدوائر والمعامل والمصانع والمؤسسات ومراكز الحكم والقضاء، وبات الحق الاعظم هو مطاردة الذباب اينما حل وحيثما وجد.
ومن غريب الامور ان الذباب هذا العنيد العنيد، الذي ان نششته دار حولك أو ارتد عليك، جعل يلوب نحو الاقاصي التي لم تكن هي الأخرى نجت من سحب الغبار، وإنه هذا البليد البليد الذي لايهرب ان هرب الا نحو النور، أخذ يلوذ في طيّات الظلام ليتساقط هناك تحت جذوع الاشجار وبين عناقيد الكروم وفي كهوف الجبال وسراديب البيوت، وعلى ارصفة الشوارع المشربة بظلال البنايات، فكان يزحف على الارض وقد ارتخت اطرافه وأنطوت اجنحته ليسحق من بعد بالاقدام، او يتحامل على نفسه ليتطاير فرادى أو جماعات ثم ما يفتأ ان يقع فريسة قمصان ملّوحة او سحب غاز قاتلة، فيهوي من جديد مترنحاً مثل غبار أسود ثقيل.
كان لصوت الذباب وهو يئن تحت الضربات المستمرة دويّ يذكّر بصوت الغابة قبيل استكانة الطيور الى اعشاشها عند حلول المساء.
في فوضى الحالة التاريخية هذه وبعد مرور ساعات التفت رجل يحمل على ظهره قنينة غاز قبض على خرطومها الطويل كما يقبض مقاتل على سلاحه بحثاً عن عدو مجهول وقال بفرح وغبطة جليتين:
– نكاد نقضي على الذباب.
– الجدير بالذكر ان العالم اجمع يسحق الذباب. أجابه آخر مايزال يلّوح بقميصه وقد نزّ عرق ثقيل من إبطيه.
– على أي حال تأخر العالم كثيراً. . كان الأجدر ان يتم هذا قبل قرن من الزمان.
أضاف الاول وقد إرتسمت على ملامحه علائم جدّ كتلك التي تسود ملامح الاطفال وهم يحاكون فعل الكبار.
اشترك ثالث ملأ صدره اللهاث:
– لا تبتئسوا . . ستكون حياتنا مفتوحة على عالمٍ جديد تسوده الطمأنينة والأمن وخالٍ من الامراض.
واتفق الثلاثة أخيراً وبصورة سريعة وحاسمة على ان لا قيمة للذباب مذ خلقه الله، وان العالم كله يلتهب الآن على مسرة قتل الذباب.
بينما كان هؤلاء يعملون متقاربين مغمورين بسعادة لم تتحقق لهم قبل هذا اليوم، دعوا مصوراً فوتوغرافياً لالتقاط صورة جماعية لعمل طوعي مسّر، أتفقوا على انه اعظم عمل اشتركت فيه جماعة بشرية حتى الآن.
مع الساعات الضاجة بأختلاط الاصوات، وتلاطم الحركة، باحتدام النفوس بالانفعالات والرغبات بانصباب أنهار العرق والدهون، بأنبثاق الروائح الجسدية المتنافرة والمنفرة، وحيث كانت الايدي تمتد مجنونة نحو كل اتجاه، ارتفع الصوت الهادر مجدداً، من مراكز للبث نصبت على صدور البنايات وعلى أعمدة الشوارع وفوق قمم الجبال وفي الواحات والغابات والساحات، يدعو الى مضاعفة الجهود فما يزال الذباب يقاوم اجراءاتكم غير ان الفرصة ماتزال سانحة للقضاء عليه حتى قبيل هذا المساء.
انطلقت فتوة الرجال وهمم النساء . . الأمل قريب، سيتحقق المشروع الأكبر وستعم جدوى المبادرة الانسانية العظيمة . . سنأكل دون قلق، ستتورد خدود ابنائنا واحفادنا، ستكون اجسادنا سليمة دونما علة او مرض من أي نوع كان . . المسرة قادمة.
يتحرك الجميع باندفاع عظيم، تصاحب ذلك سعادة غامرة، نحو آفاق لم تعد عسيرة الآن بعد ان جندت لهذا الغرض وسائل نقل جماعية تحمل ماركات جديدة لم تدشن من قبل . . دخلوا المنازل المهجورة والخربة والتي ماتزال قيد الانشاء، فتشوا المجاري، غمروا المستنقعات بالغاز وغاصوا في اقصى مجاهيل الغابات . . اغلقوا المنافذ والفتحات في الحيطان والجدران . . أستكملوا طواف المدن القريبة والبعيدة، جابوا كل فج وغزوا كل محيط . . لم يبق مكان في المعمورة الا ووطأته الاقدام والتفت عليه الايدي واحاطته بوسائل الفتك والدمار . . لم ينج من البطش ساحة أو حديقة او متنزة او نهر . . كانوا يتفجرون غضباً على هذا العدو اللدود، ويحررون طاقات عظيمة لا تكل، بل انهم وهم يندفعون هذا الاندفاع العنيف كانوا يتبادلون الآمال في عالم جديد راسخ يقوم على صداقة خالدة لاتنسى، مهرجان القضاء على الذباب، ذاكرتها الحية ومحورها الرصين.
كانت الايام تنفلت من عقال التاريخ والهدير الصوتي، على خلفية موسيقى عاتية، يشتد ولم يبق على انصرام يوم أخر سوى وقت قليل والذباب يسحق فلا مفر له ولا وجود، وفي غمرة الانفعال المتصاعد اللذيذ توقفت الموسيقى وانطلق الصوت البشري صافياً وحيدا كما لو انه سيد الكون، يبشر بالمسّرة التامة فلقد قضي على الذباب. هكذا وردت المعلومات من مركز العالم، الذي بدأ التفكير قبل غيره بمسؤولية تنقية العالم من الذباب، وتلته المراكز الأخرى والمراصد المبثوثة في جميع الارجاء. . لقد قضي على الذباب نهائياً واننا منذ الآن عالم بلا ذباب.
تطايرت في الفضاء قمصان وسراويل وقبعات ومنشات والات صغيرة أخرى . . لوّحت الايدي وطافت على الوجوه سعادة بهيجة، رقصت على عزفها الاجساد والنفوس:
” احتفلوا رجاءً . . واستمعوا الينا، نخبركم بان عالمنا الآن بلا ذباب”
صدحت موسيقى الجاز والروك وموسيقى السمفونيات الخالدة وتعالت الاناشيد وأغاني المدن واغاني الريف مع ما كانت تنقله مراكز البث من برقيات التأييد التي بدأت تنثال من المنظمات العالمية للصحة والوقاية من الامراض وحماية الانسان من الذباب.
العالم بأجمعه يحتفل ويتبادل أرق عبارات التهاني والاماني والدعوات . . العالم غدا ارضاً واسعة لمهرجان لا اكبر منه في الارض قاطبة، نقلت وقائعه وكالات الانباء وشاشات السينما ومحطات التلفزيون . . بات الهواء نقياً وخلا الجو مما كان السبب الأول في تدهور صحة الانسان. ” احتفلوا رجاء . . لقد هزم الذباب . . هكذا يدون تاريخنا الجديد . . تمتعوا باجازة اسبوع كامل . . تمنياتنا” .
وحقاً هزم الذباب وانطفأ صوت غوغائه، ولم يعد أحد يرى ذبابة واحدة حية . . أمسى الفضاء نقياً إلاّ مما ظل يشوبه مما علق فيه من سحب الغاز . . أما الارض فلقد تسربلت بلون الرماد
2- المغمّة
صفا الجو تماماً . . كنست الارض مما تراكم عليها من حشود الذباب ومضت الى غير عودة ساعات بل ايام من حمية ملتهبة واناشيد حماسية ونشاط أخاذ.
استقام الناس الى شيء سموه الهدوء بعد العاصفة، ولم يكن في حقيقته سوى فتور شل الحركة وأفشى الخدر في النفوس، فأخلد بعض الى النوم وركن بعض آخر الى الانزواء في البيوت، واستكان آخرون الى استعادة ذكريات قديمة غير ذات بال، وصاروا حين يلتقون في حديقة مخربة أو مقهى محطمة أو بار منتهك موطوء، تشف نظراتهم عن كسل في المشاعر وبلادة في الاحاسيس، واصبح موضوع الذباب نسياً منسياً، واذا تذكره أحد فانما من قبيل ما يطرأ عفواً على الذهن دونما حاجة اليه او رغبة فيه، ان شيئاً حدث كالاعصار، لم يخلف سوى صور مجسدة للعنف البشري تمثل في تدمير ما كان قائماً من متنزة او مرفق عام، فتراءى للناس وهم في شللهم هذا كما لو انه حدث قبل قرن من الزمان.
صحيح ان بعضاً مما كان يعتمل في الاعماق ويفجر بعض كوامن الحزن العميق، كان يذكّر به أو يعيد بعض الذكريات عنه، لكنها الذكريات الواهنة المنسية؛ ذكرى عدو أُبيد تماماً وصارت ذكراه مزيجاً من فرح عابر يخالطه ألم خفيف.
ففي حديقة صغيرة كانت يوماً جميلة بشكل أخاذ التقى على غير موعد عاشقان تقصيا مكاناً نظيفاً خالياً من روائح الغاز وعبث الايدي والاقدام، اختارا مرغمين مقعداً بدت عليه آثار تخريب طفيف . . جلسا هناك، ولكي يبددا صمتاً تراءى لهما انه قد يدوم طويلاً بادرت المرأة الى القول وقد طرأ على ذهنها أمر الذباب،
– ما كنت احسب ان العالم سيعطي من الضحايا هذا العدد المثير.
– وهل قدّم الكثير؟ سأل الرجل. انت تعملين، أضاف، في دائرة إحصاء.
– لقد ذهب العشرات نتيجة الصدام وسحق الاقدام والتعب والارهاق وتوقف القلب الفجائي وضغط ألدم والسكري والعطش الشديد، فضلاً عن الذين ذهبوا بين اسنان الوحوش من اسود وذئاب وضباع.
– ما كان دار في خلدي ان الأمر سيكون بهذا العنف، ويقدم العالم مثل هذه التضحيات.
– لقد انهارت سدود وبنايات وجسور وجرفت شلالات المياه أفواجاً من المتطوعين هناك. وافترست الذئاب والاسود والكلاب الوحشية، ودفنت العواصف الرمليه من كان يعمل في الغابات والصحارى.
وأردفت وقد علت ملامحها مسحة برم بالاشياء:
– أوّ لا تظن أننا أقدمنا على شيء دونما حساب؟
– لو تعلمين ما اعانيه من اجهاد. قال واستدار ناحية شجيرة انتزعت أغصانها وديست سويقاتها.
قالت ببرود:
– كلنا سواسيه . . مجهدون فاترون.
وأضافت:
– ألم تتساءل لحظة عن جدوى هذا الذي قمنا به وتعاهدنا عليه؟
– لا أعرف تماماً . . كل ماحصل انني سمعت ورأيت، ثم اننا جميعاً ضد الذباب وموقف غير هذا يعني ان تقف بوجه الريح.
– كنت اتساءل لماذا الذباب وليس غيره.. وماذا لو كانت جهودنا تلك وجهت الى شيء آخر مثلاً؟
– كنتِ وحدكِ . . ربما كنت الوحيدة . . أو هكذا أظن.
– كلا .. كان الكثيرون . . وكنت أحياناً ارى المطارديِن مطاردٍَين . . كنت ارى العكس تماماً. وأبلغ ما رأيت تلك الغزالة التي افلتت من براثن الأسد، ثم حينما افزعتها الجموع الهائجة، عادت اليه فالقت بنفسها بين فكيه . . كان شيئاً مفزعاً حقاً.
– ولكنها النهاية
– كانت العاصفة . . وليس دائماً تقاس الاشياء بالنهايات.
– بل بماذا اذن؟
لم تقل شيئاً. . صمتت صمت اليائس من حديث مغلق، ورمت نظرة وانية نحو منظر السماء ثم عادت قائله:
– اعرف أنه. وسكتت ثم اضافت؛ لكنني لا أعرف لماذا انا حزنية هذا الحزن.
– قد يثير القضاء المبرم على الاعداء حزناً مثل هذا الحزن. وقد يولّد الفراغ من شيء كان موجوداً مثل هذا الخواء. تلك هي طبيعة الناس.
عاد الصمت فأطبق على العاشقين. نسيا ان يتكلما في الحب او الزواج الذي كانا سعيا على بناء عشه يوماً بعد يوم . . مكثا متباعدين تفصل بينهما غربة باردة حتى نهضا تقدما في مسيرهما من دون ان يعقدا يداً بيد . . لم يتكلما بعدُ حتى افترقا على قبلة صامتة.
من جانب آخر اغلق اصحاب المصانع التي تنتج الغاز المبيد للذباب مصانعهم وصرفوا عمالهم وموظفيهم انتظاراً لما ستؤول اليه الاحوال القادمة من آفاق.
في هذا الجو المشحون بالخدر والترقب البليد والابتعاد عن كل ماهو مثير وجديد، ولم تكن مضت على ” مسرة” الناس ايام، صدرت عن المركز ذاته نداءات جديدة، تلقفتها وسائل الاعلام عينها وفي صباح مشرق كذلك، تثير نخوة الحشد البشري العظيم وتدعوه الى الاستعداد لحدث جديد يفوق أهمية ما حصل قبل أيام. فقد اعلنت مديريات الآثار وجمعيات الرفق بالكائنات وعلماء السلالات وخبراء الحيوان والحشرات ومصنفو اللافقريات ومنظمات انسانية وعلمية معروفة او ظهرت حدثياً على مسرح الاحداث، بأن ماحدث للذباب كان أمراً فوضوياً وانه من قبيل الكوارث الكبرى والملمات التي ألمت باجناس انقرضت نهائياً ولم يعد لها من وجود الاّ على سبيل المتحجرات او رفوف الكتب او صور الخيال، وإنه أي الذباب، لم يكن خطراً على الجنس البشري خطر غيره من كائنات أُخر كالبعوض والقمل وامراض كالسل والبلهارزيا والزحار والتايفوئيد، وغيرها من حشرات ضارة وامراض سارية وذات مفعول فاتك وشديد. كما ان وجوده يمنح العلماء بالتقادم الزمني فرصة نادرة لمعرفة المزيد عن نشاط هذا الجنس الغريب الطباع الذي يلتمس النور كلما داهمته الملمات، وقرب طبيعته من طبائع كائنات أُخر ماتزال تنعم بالحياة، واستعداده إن صرف العلماء علمهم نحوه واجريت عليه تجارب ناجعة، ان يكون رديفاً في الطبيعة والانتاج لحشرات نافعة كالنحل على سبيل المثال.
من هذا المنطلق الذي استقام عليه العقل البشري فجأة صدرت التعليمات الجديدة ” ابحثوا عن الذباب . . ان مسيرة الحياة الظافرة، ان لم تظفروا ولو على ذبابة أو ذبابتين، ستخلو من واحد من أهم حلقاتها، لذا ندعوكم لبذل اقصى الجهود لتكونوا بمستوى مسؤولية العصر الجديد الذي تعيشون فيه “.
في لحظة من لحظات التاريخ العظيم، في لحظة كتلك اللحظة الفائتة المنسية، استعاد الحشد البشري قوته المختزنة. جرت الدماء في العروق ثانية، انما بفعل التكيف السريع للعمل الجديد وغسلاًً لعار إثم قريب بات الجميع في حال من النشاط لم يألفوه من قبل وكلهم يتساءل؛ اين تكمن قوة البشر في الخير أم في الشر واين الفاصل بين الحب والكره والعقل والجنون. بل أين الحاجزبين المسرة والفاجعة والرغبة في الحياة والاقدام على الانتحار؟
كانوا يتساءلون، وهم يبحثون ولو عن ذبابة واحدة لا غير، رسم لها المصورون المحترفون صورة ذبابة نقية لاتحط على تل قمامة، بل حطت على زهرة غضة فواحة، لونوا جناحيها بالالوان وغرزوا خرطومها في بحر من رحيق وتركوا خلفها سماء زرقاء مفتوحة تغطي اندياحات أفقها اسراب من فراشات.
عبر هذه الصورة وأخرى غيرها مماثلة تفنن في رسمها ابرز الفنانين، نشروا نسخها على لافتات ضوئية كبيرة وجدران وواجهات بنايات، انطلقت ذاكرة الحشد وارتفعت حمى البحث عن ذبابة.
وكما حدث من قبل، انفتحت ابواب الشوارع ومصاريع البيوت وفضاءات الصحارى وعتم الغابات وبوابات المغاليق للعمل الجديد واستخدم من وسائل الكشف عن الاجسام الصغيرة والهائمة في الجو كل ماتفتق عنه العقل الحديث.
كان الأمل يشع في النفوس، فلا بد من ان تكون ذبابة نجت من حملة الابادة التاريخية تلك، بل انه، أي الأمل، كان يراودهم كلما انقضت الساعات وكثرت التضحيات، فماالعقل الا ماتنتجه اللحظة الراهنة والاّ ماتغذيه الرغبات الطموح.
في ضوء هذا كان الحماس يشتد واللهب يتصاعد والبحث يدخل منافذ كان الوصول اليها من قبيل المستحيل. ولم تتوان وسائل الاعلام المختلفة من بث شعارات تدعم الروح التي حركت الناس بنشاط غير مألوف، انما وزيادة في محاولة تحقيق النجاح وضعت مكافآت خيالية ، لمن يعثر على ذبابة ، مشفوعة باغان واناشيد وطنية تصدح بحماس يهيج في القلوب يقظة متوثبة وتؤكد حلماً التقى فيه العدومع عدوه والنقيض مع نقيضه، حتى اذا كان التعب بمرور الساعات يشل الحركة، ويعطل الآمال، وحتى اذا بدأت الشمس تغيب او تكاد، هطل الصوت العظيم، فتوقفت الحركة واستعيدت الأنفاس واتسعت الأفئدة والآذان . .
هطل الصوت مرة واحدة وباتفاق تام يجرحه حزن شديد وأسف بالغ يقول:
” بمزيد من اللوعة والأسى اللذين لانكاد نحتملهما، نتجاوز على مشاعركم النبيلة فنعلن عن فشل المساعي في العثور على ذبابة . . ذبابة واحدة لا غير. لقد كان حلمنا كبيراً وأملنا عظيماً، غير ان جدار الحقيقة كان أقوى من كل ذلك تماماً . . لذا نهيب بكم الكف عن السعي وراء سراب والركض خلف وهم، ولسوف يلازمنا الندم على عمل ما كان ينبغي ان يسجل في دائرة اعمال زمننا السعيد، عمل قضينا فيه على جنس كامل ومارسنا فيه أعتى الأعمال الجنونية التي عرفتها البشرية في تاريخها الطويل. وآخر ما نقوله شكراً لكم لقد أديتم الامانة وما كان عليكم الا ان تفعلوا ذلك”.
استفاق الناس على مرارة الصوت ولوعته، وأسقط في ايديهم واستبد بهم شعور جارح نهض من اعماق صدورهم. كان يسحق رؤاهم ويرهّل ملامحهم . . كانت صورهم تترى في شريط مظلم أمام أعينهم وهم يتناوبون الآمال مرة والالام مرة، حتى غادروا مواقعهم وتفرقوا . . غابوا في دهاليز وازقة وبيوت تاركين هذه المرة جرحاهم وموتاهم كلاً في مكان.