داود سلمان الشويلي - الكرسي المتحرك(*)

:- موافق .

:- ...........

لم تكن الكلمة التي نطق بها الان - وبالضبط في هذه اللحظة - ( اقصد لحظة نطقي لتلك الكلمة ) سوى السحر نفسه ...اذ جعلت شقيقتي ( شقيقتي التي تصغرني بعامين ) طائرا يحلق في الفضاء الذي ينقسم الى نصفين مضطربين بالفرح ، احدهما الذي ما زال ( هو، وكذلك انا بالتأكيد ) يقبع فيه ، وهو يجلس على الكرسي ذي العجلتين ، والاخر ، الذي ضاق بـ عفاف ، ( عفاف شقيقتي) ،فأمتلأ بها ، او هي ملأتهبساعديها المفروشين كجناحي طائر راح يرقص فرحا ، في فضاء هادئ جميل.

: موافق ...

قالها ( هو ، اقصد انا بالضبط) الجالس على الكرسي بمضض ، ( كنت انا ادفع به دفعا لينطق تلك الكلمة التي كثيرا ما كنت ارغب فب امرارها على حباله الصوتية التي يملكها هو دون سواي ) بعد تفكير طويل ... اذ لم يكن ( هو وليس انا ، وبتأثير مني ) يرغب بأن يطول به ( اي انا بالضبط) التفكير اكثر مما يجب ، وهو يجلس على كرسيه المتحرك امام النافذة الزجاجية لغرفته ( هي غرفتي نفسها) المطلة على الحديقة الخلفية لبيـتـ (نا) . نعم ، قالها ( وانا كذلك) بهدوء ، اقصد همسـ (نا) معا : موافق ...

عندها امتلأ جو الغرفة بعطر فواح لذيذ ، تعرفت ( انا وليس هو الذي نسيه) عليه مباشرة ( وعلى استحياء منه) بعد ان انفتحت ظلفتا باب الغرفة ، وانطلق نورها هادئا شفيفا من بين ثناياها محملا بأريج انفاسها ، مترنما ( هكذا سمعت ) بموسيقى دقات قلبها التي اخذت تتسارع وهي تتجاوب مع دقات قلبي الفرحة ( هي نفسها دقات قلبه المضطربة حياء والذي لم يستطع السيطرة عليه) فتصاعد النبض لقلبـ (نا) .

امتلات الغرفة بالفرح ... ابتسمت ... هكذا احسست ( بعد ان تركته هو وحياءه وخوفه واضطرابه) ، بكل اثاثها البسيط ، حتى الكرسي المتحرك راح هو الاخر يهتز متراقصا .

: موافق...

لم نكن انا (وهو وقتذاك) وهي - بعد - قد اتفقنا على شيء ما ( يتذكر هو وكذلك انا كل ذلك) ... كل الذي جرى بيننا عبارة عن عهد اقمناه معا فيما بيننا .

وقتذاك ( قبل ان يجلس هو على الكرسي ، او ان اجعله انا يجلس هكذا على الكرسي ) قلت لها ان زواجنا سيتم بعد حصولها على الشهادة ، اي بعد عام واحد ... اما غير ذلك ، فليس الا اشياء تافهة لا يمكن ان نعيرها اهتماما ... وهكذا سارت حياتنا كما خططنا لها عند اول لقاء لي معها .

أذكر حينها .. انني اخبرتها بحبي لها .. لم ار على وجهها اية علامة تنبيء عن شيء ما .. الا انني ( كما اتذكر الان) رايتها تنظر نحوي .. اطالت النظر ، كأنها تراني للمرة لاولى ، عندها قلت لها ، وكأني لا اريد ان استفز مشاعرها :-

:- لا اريد منك الاجابة الان .. فكري بالامر .

لم ترفع عينيها عن عيني ...

احسست ( وقتذاك كما اذكر ) بنظراتها تخترقني ، فيما قلبي ، كان قد ركب امواج بحر هائج .. اضطربت دقاته وهو يدفع بالدم الى خلايا جسدي .. همست من بين شفتين ورديتين ( كان هذا هو اللون الطبيعي لشفيتها ) :-

:- ومن قال لك ان ذلك يحتاج الى تفكير طويل ؟

تركتني واقفاً – كان ذلك اللقاء في احد ممرات الكلية – في جو من الحيرة والاضطراب .. احسست بساقي يخذلانني ودون ان اقول شيئا لها ، كانت هي قد وصلت الى قاعة الدرس .

:- موافق ...

اكثر من مرة طلب منه ابي ان يسمح لــ ( سناء ) ( هذا هو اسم حبيبتي التي حاول ان يجعلها تتركني ) برؤيته ( ورؤيتي انا خاصة ) .. اما امي ، فقد كانت قاسية معه ، قالت له :-

:- انك تقتلها . كيف اصبحت قاسياً هكذا الى هذه الدرجة ( كنت دائماً الومه على هذه القسوة ) .

اما ( عفاف ) فقد اعادت الى مسامعه ( مسامعي ) نفس اسطوانتها التي ملَ ( لم أمل انا ) سماعها .. وهي تعرف جيداً كرهه ( هو وليس انا ) لتلك الاسطوانه التي ادارتها ..

قالت :- الا تحبها ؟

وقبل ان يجب بكلمة ما ، راحت تلك الاسطوانه تقول :- اذا كان حبك لها قد تحول الان – الى كراهية ، فاخبرها انت بنفسك ( قررت ان اقتله ان اخبرها بذلك ) .. قل لها انك لا تريدها ( انها مجنونه هذه الاخت ) .

لم يقل شيئاً ، سوى ان عجلات الكرسي الذي يجلس ( وانا كذلك ) عليه ظلت ثابتة في مكانها ، حتى انها لم تدر .

واستمرت الاسطوانة تقذت بحممها البركانية في اذنية :- ولكن قل لي ، لماذا تعطي لنفسك ( نفسي انا بالضبط ) الحق في رؤيتها خلسة من خلل فتحة الباب الغرفة ، او من خلف درفة الشباك الذي اصبحت مدمناً على الجلوس بالقرب منه .. ها .. لماذا ؟

لم يجرؤ ( هكذا رددت مع نفسي ) احد منهم ان يقول الحقيقة .. اعرف انهم لا يريدون قولها امامه ( انا مستعد ان سمعها برحابة صدر ) .. الا ان جدي ( جده كذلك ) وبعد نقاش طويل معهم ، دفع باب غرفته ودخل مهتاجاً .. ولاول مرة اراه هكذا مضطربا ( كنت انا سعيداً بهذا لاهتياج ) صاح به :- هل تستحي ايها المقاتل الشجاع من اوسمة البطولة التي تزين بها يدك ( كانت يدي في السابق ) وساقيك ( كان ساقي في السابق) .. قل .. هل تستحي منهما ؟

امتلأ جو البيت بصوت نشيج انثوي .. اعرفه (و يعرفه هو كذلك ) جيداً .. كان النشيج متقطعاً .. كانت امي الوحيدة من بين النساء اللائي اعرفهن تبكي هكذا .. هل كان كلام جدي موجها لها ، ام له ؟

ومن بين ذلك النشيج الحنون ، قالت له بعد ان تركه ( وتركني ) واوسمته ( الاوسمة الت حصلت عليها انا ) التي راح يذكره بان يفخر بها ( انا فخورة بها ) .. او كما اعتقد هو يستحي منها :-

:- حجي ، ماذا تقول ، لماذا تقسو عليه هكذا ؟

اسكتها صوت ابي .

:- دعية يخبره بالحقيقة ( كنت فرحاً بهذا القول ) .. الحقيقة التي لم نستطع نحن قولها امامه .

هذه هي الحقيقة التي ظلت مختبئة تحت السنة ابيك وامك وشقيقتك ( ابي وامي وشقيقتي ) متوارية في حياء داخل تلافيف ذاكرتهم .. وقد احنوا ظهورهم عليها خوفاً من ان تنطلق امامك ( امامي ) على شكل كلمات . الحقيقة التي ازال جدي الصديد منها ..

نغزها هذه اللحظة .. لقد فجرها .. قطعة زجاج تهشمت مرة واحدة ، فراحت قطعها الصغيره تنكأ الجروح التي سببتها اصابتك ( اصاباتي ) في المعارك .. راحت تصرخ بصوت واحد ، انها الحقيقة التي كنت تخفي وجهك ( ليس وجهي) عنها بحياء.. تلوذ ( انت الذي تلوذ اما انا فكنت احاول الا افعل ذلك ) بصمتك في ظلام الغرفه الدامس .. كنت تقفل ( نعم انت الذي تقفل ) بابها و شبابيكها عندما ياتيك (وكنت انا اكتم غيضي ) عطرها ... صوتها (كلامها ، ضحكتها ) وهي تدخل باحه الدار .. او وهي تسأل عنك ( لم تات مره دون ان تسال عني ) .. تذرف دموعها (اسمع نشيج بكائها ) امام والدتك و اختك .. كانت تتوسل بشقيقتك (كنت انا اسمع كلمات التوسل وكذلك انت ،وكنت انا اغلي فيما كنت انت تغلي .. انا من غيظي منك ، وانت من حياتك ) .. تطلب منها ان تتحدث معك ( ياليتها كانت تعرف ما تكنه لها من مشاعر حب لم تزل كما هي ) .. تدفع بشقيقتك الى باب غرفتك علك تقبل ( وكنت انا اتحرق شوقاً لان تقبل سماع كلمة منها .. وكنت لا اريد كلمات التوسل ، كنت اريد فقط اسمع صوتها ) بلقائها .. كل ذلك لم يفد معك .. لقد جعلك هذا الشلل اللعين تنسى سنوات الحب (حبي انا ) التي كانت لافتة بيضاء – وما زالت - امامك ( انت وانا ) .. تخوض ( اقصد انا الذي كنت اخوض ) ما خضناه من معارك .. من سيف سعد حتى المحمرة .. في الهور ، او على قمم الجبال .. عندما كنت ( انا وليس انت ) اخرج منها سالماً كنت احدث اصحابي واهلي ، واخبرها هي بالذات ، ان سلامتي كانت بسبب تلك اللافتة البيضاء التي ارتسمت عليها سنوات حبي .. كل ذلك حدث .. نعم .. الا انه لم يفد معك بشيء .. ( نعم .. الا انه ليس هو الحقيقة ) ولم يخرجك من عنادك ( ليس عنادي انا ) .. ومن هذا الموقف الذي اتخذته ( وانا ارفضه ) حيالها .. لماذا ، لماذا تفعل بها ( بي ) كل هذا ( مجبر انا على ذلك ) ؟ . هل تستحق هي منك (ليس مني) كل هذا الجفاء ؟ (رغما عني) .. لماذا .. لماذا؟

:- موافق .

وانفتح باب الغرفة .. امتلأ فضاؤها بضوء عطري .. كان شبحها ، لا .. كيانها .. ذاتها ، بل هي نفسها ، بروحها المرحة ، بأبتسامتها الوردية ( كما هي دائماً ) بغمازتي خديها .. بظراتها الــ .. آه .. هاهي امامي .. هل ... بماذا اقابلها : بهتين الساقين العاجزتين .. ( سأقتلك ان فكرت بذلك ) ... اللذين اكلتهما نار البارود فشوهتهما تماماً ..( قلت سأقتلك ان عدت لذلك ) .. يا الهي .. النار .. النار .. اشتعل القلب مني .. فيما راحت احشائي تستعر .. الحر .. البرد .. لم اعد اتنفس ، قطرة ماء .. الهواء .. الهواء .. ماء .. الهواء .. ( كان صراخاً محموماً ) .

في المستشفى رفض ( الم اقل ان تتركنا انا وهي ) استقبالها .. جاءت ثانية دون جدوى ( لماذا تغيضني ) .. توسلت اليها شقيقتي الا تتعب نفسها بالمجيء .. قالت لها بتودد :- ارجوك اعذريه ( هو لانه يستحي وانا لانني لا اقدر عليه ) .. لقد صدم ( كلانا صدم ، اما انا فقد اجتزت الصدمة ) .. علينا ان نخرجه ( هو فقط ) من محنته هذه ( ومحنتي انا معه ) ثقي انه سيعود ( نعم سأعود ) اليك .. سيرجع ( هذا اكيد ، سأجبره ) حتماً .. انني على ثقة من انه ( وهو كذلك رغم كرسيه الدوار ) يحبك كثيراً ( وهل ما فعلته ليس بحب !؟ ) .

لم يكن المستشفى هو المكان الوحيد الذي رفضت ( انت الذي رفض رغماً عني ) رؤيتها لك .. رفضت ان تراك ( تراني انا ) ممدداً على السرير .. شراشف بيضاء ( كانت لافتة حبها لي هي الاخرى بيضاء ) وقناني المغذي والدم ( كان حبها هو غذائي الوحيد عند احتدام المعارك ) تمد اذرعها البلاستيكية الى جسدك ( فيما جسدي ما زال يتغذى على حبها ) .

لم تكن هي قد انقطعت عن المجيء لرؤيته ( ولم يكن خاليها قد ابتعد عن روحي ) .. كانت تاتي مع أهلي ، تبقى واقفة خارج الغرفة ( فيما كانت روحها تدخل معهم ، تطوف حولي على السرير ، او تجلس على احد الكراسي التي يجلس عليها اهلي بالقرب من السرير ) .

مرة فتحت الباب بقوة .. كانت هي نفسها ، هي نفسها .. هي نفسها ( لماذا تسرع الى غطائك الابيض ، سحبته .. دثرت جسدك وجهك ) .. ( كنت ترغمني على ان ادس وجهي تحت الغطاء ) ... سمعتها تصرخ .. واقدامها .. حذاءها الجلدي يصرخ على بلاط ممر المستشفى والباب يغلق بشدة كم اشفقت عليها ( حقاً كنت قاسياً عليها وعلي انا بالذات ) خفت عليها ( انا وليس انت .. وانت كذلك ) .. بكيت عليها ..

:- موافق :-

ها هي الان امامي .. ( قلت لاشأن لك بها ، .. اتركني معها .. )

:- موافق ..

قلتها هامساً :- موافق .

ها هو حبي واقف خلفي ، مجسد بهذا الكيان الجميل .. فيما كانت حديقة دارنا امام ناظري .. وها انا اختلس النظر اليها من خلال انطباع صورتها على زجاج النافذة امامي .. هل ادير الكرسي ( استلمت قياده رغماً عنك ) .. هل ..

كانت هي المبادرة .. بيدين احسست بهما ترتعشان فرحاً ، راحت تدير اتجاه الكرسي .. فالتهبت النار .. الحب .. الحنين .. الشوق .. في حضني ( حضني انا وليس حضنك انت ) .. كان شعرها الاسود الفاحم الناعم قد ملأه ( سأقتلك ان دفعت برأسها خارج حضني ) .. تكوم مرة واحدة ، وراح ينشج ..

كان صوت بكائها قد ملأ الغرفة ، فيما تساقطت قطرات الدمع على الشرشف الذي يغطي ساقي .. كانت حرارة دمعها قد تسللت الى عظام ساقي .. احسست بهما ( عظام ساقي ) ترتديانه .. تتحدان .. تنتعشان .. وبأن الاف القطع الزجاجية الصغيرة في لحم الساقين ، تتجمع على شكل كرة صغيرة تنقذف خارج كياني .. عندها وضعت شفتي على شعرها الفاحم الذي ما زال مفترشاً حضني .. وقبلته .



-----------------------

(*)- نشرت في مجلة الموقف الثقافي - ع 43/ ك2- شباط/ 2003.

- نشرت بتاريخ 29-12-2007في موقع وكالة اخبار العراق - الصفحة الادبية 0

- نشرت على موقع اصدقاء القصة السورية في ك2/ 2008 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...