د. ناهد قرناص - بيوت.. وبيوت.. قصة قصيرة

الشمس الحارقة ألهبت ظهري .. وانا في انتظار ان يمن علي احد من داخل هذه الفيلا الضخمة .. ويفتح الباب .. كنت احمل وصايا اتت عن طريقي .. اعتقد انها ادوية وعلاجات .. الشئ الذي يجعلك حريصا على توصيلها .. امسح حبات العرق من على وجهي .. وقف امامي طفل صغير يمسك بيده (كوز) موية .. كنت في أمس الحاجة اليه في تلك اللحظات .. هششت له وشربت الماء عن أخره .. قلت له (شكرا ليك .. انت شفتني وقفت كتير .. ساكن وين؟؟).. أشار لي الى بناية لم تكتمل .. عندما تابعت يده الممتدة .. كانت هناك امراة تبتسم لي وتشير لي بان ادنو ناحيتها ...عندما اقتربت.. قالت لي (ناس حاجة سكينة ديل .. ما بفتحوا بالساهل .. شفت حالتك تعبانة قلت ارسل ليك الموية ).. يبدو أنها تعمل (غفيرة) لهذه العمارة .. عدد من الأسرة لا ادري كيف تكفي هذا الكم من الاطفال الذي يلعبون بين الأعمدة الاسمنتية .. عندما تضحك .. تظهر اسنانها بيضاء جميلة تصلح كاعلان لاحد معاجين الاسنان .. صرخت تنادي احد الاولاد .. ( زروق .. اجرى بالباب البي ورا .. كلم عم صالح .. قول ليهو في ضيوف في الباب)... قلت لها ( انا ضغطت علي الجرس فترة طويلة .. ما في زول فتح).. قالت لي ( الحاجة بتكون قاعدة طوالي .. معاها شغالة قصادها بس .. عم صالح دا الغفير حقهم من زمان بس كبر .. هو ذاتو ... واضانو تقلت ).. اخيرا تم فتح الباب بعد ان شربت الشاي المنعنع مع فتحية واطفالها الصاخبين .. دلفت الى حديقة كبيرة يتوسطها حوض سباحة ... دخلت الى (الهول) .. مجموعة من الكراسي الوثيرة .. التحف الانيقة .. كمية هائلة من الصور التي تبين اناسا في أعمار مختلفة .
.. وانا في جلستي تلك مر امامي شاب في مقتبل عمره .. كان يضع سماعة في اذنه .. نظر في اتجاهي بدهشة .. ثم اكمل سيره .. عادي .. فتاة نزلت مستعجلة .. ايضا رمقتني بنظرة جانبية .. مشت خطوات .. ترددت .. ثم واصلت طريقها .. ( اهلا بيك يا بنتي).. التفت الى مصدر الصوت .. الحاجة سكينة .. كانت تتحرك وهي تتكئ على عصاة .. ارستقراطية الملامح والهيئة .. أشارت الي بالجلوس .. بعد ان استلمت مني الامانة .. سألتني عن ابنها مرسل الأمانة .. قلت لها باقتضاب انني مجرد موصل ... وقفت مستأذنة .. اصرت علي بالحاح غريب ان امكث قليلا .. ضحكت وقلت لها ان اغلب الزمن قضيته خارجا .. في انتظار فتح الباب.. قالت بعد فترة صمت (كلهم مشغولين .. كل واحد بي عذره ).. يا لهذا الحزن المقيم .. يبدو ان هذه الجدران بدلا من فصل الغرف .. فقد فصلت الحيوات معها ... هذه البيوت ذات الجدران العالية .. التي ننظر اليها وكأن اهلها في نعيم دائم ... قفزت الى ذهني صورة فتحية الغفيرة الضاحكة وضجة الاولاد حولها.. كان صوت حاجة سكينة حزينا وهي تحكي باسى ... انشغال الجميع عنها..
سبحان الله .. يبني احدنا منزلا ضخما ليأوي كل ابناءه معه .. فقط ليطرد الوحشة في اخريات العمر .. فاذا به يحاط بالوحدة من كل جانب .. انها اقسى انواع الغربة .. ان تكون وحيدا وسط مجموعة من البشر .. سألتها عن الشباب الذين رأيتهم .. قالت لي (احفادي .. رسلوهم اهلهم للجامعات .. قاعدين معاي زي في الداخلية .. كل واحد يجي يخت راسه ويمشي جامعته).. خرجت من الفيلا .. لاجد فتحية وهي تنشر ملابس الغسيل ... كان احد اولادها يجري تحت الملابس وهي تصرخ فيه محذرة ومتوعدة بكل ايات الويل والثبور .. ضحكت وقلت لنفسي (بيوت .. وبيوت )




ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...