"ذلك أنَّ الصُّورَ التي أُحبُّ، إجمالاً، مبْنِيَّةٌ على شاكلةِ سوناتة كلاسيكية"
رولان بارت
كان يجلسُ في الصفِّ الثالث، يحضن آلةَ الكونترباص الضخمة. بدا ضئيلاً لفرط ضخامتِها، وبدتْ هائلةً لشدة ما هو صغير. غير أنَّه كان جذَّاباً أيضاً وهو يخاصرُها. وحدَهُ من بين العازفين كان ناتئاً وشاخصاً بآلتِه، قوامُه رشيق.. له حاجبان كثيفان وعينان تذكِّران بعينيّ الصَّقر، تحدِّقان بحدَّة في الآلةِ التي كانت تستجيبُ برشاقةٍ لرقصاتِ أصابِعهِ على أوتارِها. سوف تلتصقُ هذه الصورةُ بذاكرتِها طويلاً لتكتشفَ بعد أعوامَ ممتدةٍ أنَّ عازفَ الكونترباص لم يكن وهماً، وأنَّ لها ذاكرةً قويَّةً وقلباً حاضراً أمامَ الشاشةِ آنذاك، وأنَّ الصورَ كاسحةٌ وتجتمعُ في صمتِها كلُّ الدُّهور. إنَّ الرَّبطَ بينَ الصورةِ، التي شاهدتْها الفتاةُ قبلَ أعوامَ طويلةٍ على الشاشةِ، والصورةِ الفوتوغرافيةِ التي رأتْها بعدَ ذلك قد يبدو ضرْباً من الشّطح وتحميلِ الأشياء أكثر مما ينبغي. لكنَّ الصورةَ في الوقت ذاتِه ليست من التبسيط والسَّذاجة بحيث يمكن عبورُها واجتيازُها من دونِ الاصطدام بلسعاتِها المفاجئة. إنَّ التأملَ في الصورتين يُفضي إلى أنهما صورةٌ واحدةٌ كانت قبل أعوام طويلةٍ أكثرَ حركةً وصوتاً، لكنها سكنتْ بعد ذلك وجمدتْ في يدِ العازف. العازفُ لم يكبرْ في الصورةِ ولا في الشاشة، بل كبُر خارجَها. وكذلك الفتاةُ، والتي ظلَّت خارجَ الصورةِ أصلاً.
لكنْ ما الذي يجعلُ صورةَ ذلك العازف على الأخصِّ من بين جميعِ العازفين تقبعُ بذاكرتِها لتقابِلَه في الحقيقة بعد تلك الأعوام؟!. هل كانت تَقرَأُ مستقبلاً، ماضياً ما داخلَ الصورة؟، هل كانت تنتظرُ وتَتلهَّفُ عبرَ الصورة؟!. مضتْ الشاشةُ بعيداً وغيَّبتْها الأعوام، لكنَّ العازفَ بقيَ في صورةٍ فوتوغرافيةٍ بالهيئةِ نفسِها التي ظهرَ عليها في الشَّاشة. لقد جمدتْ تلك اللحظةُ في صورة، وبقيتْ الفتاةُ هي الشاهدَ الوحيدَ على هذا التحوُّل لأنَّها تحتفظُ أيضاً بِصورةٍ داخلَها.
خلال الأعوامِ الطويلةِ أخذتْ الصورُ الثلاثُ للعازف – في الشاشة، ذاكرةُ الفتاة والصورةُ الفوتوغرافية – تتفاعلُ وتتحاورُ وتتجاذبُ أطرافَ الذاكرةِ والنِّسيان. الفتاةُ لا تنسَى إلاّ لتتذَكَّر، ذلك أنَّ الأعوامَ الطويلةَ تمرُّ بطيئةً، وذكرى قويَّةٌ كتلك الصورةِ لا يمكن نسيانُها بسرعة في زمنٍ طويلٍ يَمرُّ ببطء. وهي أيضاً تنسى لأنَّ وعيَها يكبرُ بسرعة ويتطلَّعُ لحقيقةٍ كانت تشعُّ من الصورةِ نفسِها. الانشغالُ بالنِّسيان هو التذكُّرُ بعينِه. لكنَّها تقفُ مذهولةً أمامَ العازف بعدَ الأعوامِ الطويلة رغمَ أنَّها كانت دائماً تتهيَّأ للتذكُّرِ والنِّسيان. إنَّ الذي يقف أمامَها يتجاوزُ كلَّ ذلك، وهو حاضرٌ بقوَّة لا يمكن تذكُّرُه أو نسيانُه أو حتَّى تخيُّله. إنَّه مألوفٌ وقريب وفي الوقتِ ذاتِه كائنٌ آخر اكتسى غرابتَه بمُثولِه القويّ. ها هي ذي صورةٌ رابعةٌ إذن: هل يمكن تسميتُها بالصورةِ الحقيقية لتمييزِها عن صورةِ الشَّاشةِ وصورةِ الذَّاكرة والصورةِ الفوتوغرافية؟!!
إنّ الفتاةَ تبقى واحدةً أمام الصورِ المختلفةِ أو العازفِ المتعدِّد. وإذا كانت في موقفِ اختيار.. أيُّها تختار؟ ألا يختلط عليها الأمر؟ وهل يقف عند حدِّ الاختيار؟ ثمَّ هل تحتمل المسألةُ الاختيار؟! إنَّ الصورةَ الأولى هي النظرةُ الأولى والمصادفةُ الأولى والحبُّ الأولُ الذي يلوِّحُ عبر الشاشة ولا يمكن ملامستُه، لكنه ينتعش وينتشر في الدَّاخل، في المرتفِعِ من القلب والذاكرة لتتشكلَ الصورةُ الثانية.. المؤلمةُ والمكتنزةُ بالانتظار والتَّرقُّب. إنَّها أكثرُ الصورِ نتوءاً وبروزاً ووخزاً، ذلك أنَّها طويلةٌ تقع بين الأعوام الممتدَّة فيما بين الصورتين الأولى والثالثة. تمحُو وتنقضُ كلَّ الخيوطِ المتشابكة التي تنسجُ عمرَ الفتاة التي حتماً لا تتوقف خطواتُها عند الصورةِ الأولى، على اعتبار أنَّ الكائنَ الحيَّ يكبرُ ويتحوَّلُ ويتأزَّمُ ويجرِّبُ ويرى الكثير. لكنَّ الفتاةَ في الصورةِ الثانية وهي تمرُّ بكلِّ ذلك لا تفتأ تتذكَّر المصادفةَ الأولى وتتفكّرُ وتحلّلُ وتشتاقُ وتضحكُ وتبكي وتذبلُ وتحنّ. إنَّ ذكرى هذه المصادفةَ هي الأبرزُ والأحدُّ في وعيِها، لأنّها تواصلُ وخزَها حتَّى في الصورةِ الفوتوغرافيةِ الجامدة. هذه الصورةُ الجامدةُ تثيرُ الذاكرة فتنتعشُ وتتلوَّنُ وتكفُّ عن جمودِها لتهتزَّ في يدِ العازف وتصيبَ الفتاةَ بالذهول لتصطدمَ بمعذِّبها وبكلِّ الصورِ التي مَثَّلته في حياتِها. وفي لحظة الاصطدام هذه تبهتُ الصورُ وتسقطُ الأحلامُ تباعاً. الحقيقةُ مُرَّةٌ وكافَّةٌ للحُلم. لم يعد ثَمَّة صور. كان جديراً بالعازفِ أن يبقى داخل قُمْقُمِهِ لتنتشرَ الصورُ وتتكاثف. إنَّه أكثرُ إشراقاً وبروزاً إذا بقي في الدَّاخل، إذا لم يظهر. فالفتاةُ تتمتَّعُ بخيالٍ فاتِن يجعلُ عازفَها يتجدَّدُ ويتعدَّد. تسهرُ على ولادتِه كلَّ لحظة، خاصة حين يكون بعيداً عنها.. في مكانٍ خبيءٍ وقصيٍّ في الذاكرة. تستحضرُه بما تمتلكه من طاقةٍ روحيَّةٍ هائلة. إنها تحييه وتمنحُه أرواحاً كثيرةً في تحوُّلاتِ الصور. لكنْ لماذا التسليم بأنَّ الذهولَ صادمٌ ومنتجٌ لحقيقةٍ مُرَّة؟! لا أحد يعرف شيئاً حقيقياً عن الفتاة والعازف. فلماذا ننتهي إلى نظرةٍ تحبسُ العازفَ، فقط لتُعمِل الفتاةُ خيالَها؟ ربَّما لو أُطلقَ الماردُ من القُمقُم تفجَّر الخيالُ أيضاً. بما أنَّ كلَّ شيءٍ جائزٌ وممكن ولا شيءَ حقيقيٌّ في هذه الحكاية، رغم وجودِ الفتاةِ والعازف، لتكن ثمَّة تهويماتٌ أخرى وشطحاتٌ أكبر. إنَّ حضورَ الصورةِ الفيزيائي في لحظةِ الذهول معادلٌ لحضورِ العازف أمامَ الفتاة. كان لا بدَّ من ظهورِ العازف لتعودَ الصورة، ذلك أنَّ لا أحدَ يملكُها غيرُه، وصورةُ الشاشة تناءتْ ولا يمكن القبضُ عليها. وفي لحظةِ الذهول هذه تلتقي الصورُ والمصادفة: الصورُ المنتشرةُ، والطاغيةُ على حياةِ الفتاة طوال تلك الأعوام، والمصادفةُ الناتئةُ، في أوَّلِ لقاءٍ متخيَّل، تلتقيان وتسكنان لحظةَ الذهول التي ينجرحُ فيها وعيُ الفتاةِ وينْدمغُ وينْثقِبُ وينْصدِم. وهنا سوف تفقدُ الصورُ جاذبيتَها ليأتيَ ما هو أكثرُ إدهاشاً ووخزاً… العازفُ بشحمِه ولحمِه ودمِه!.
هل يعني ذلك تمزيقَ الصُّورِ وإلقاءَها في أقربِ سلِّةِ مُهملات؟! أينتهي دورُها وتكفُّ عن التحريضِ والوخزِ واللَّسْع؟!. إنَّ الفتاةَ ترى العازفَ قد كبُر في لحظةِ مثولِه الحقيقيّ.. كبُر عمَّا كان عليه في الشاشةِ والصورةِ التي يحملُها. عليها أن تدرِّبَ بصرَها ووعيَها على التقاطِ صورةٍ جديدةٍ إذن، إذا ذهبنا بعيداً في لعبةِ الصورِ هذه. الصورةُ الجديدةُ كبيرةُ الحجم فضلاً عن أنَّها حقيقيةٌ وتتطلبُ جهداً كبيراً ومُضنِياً في الالتقاط وتحقيقِ سكونِها داخل وعيِ الفتاة الذي لا تزالُ تصطرعُ فيه الصورُ الأخرى. تكتشفُ الفتاةُ نتوءاً أكبرَ في الصورةِ الحقيقية وبروزاً أغورَ للجُرح. ففي الأعوام التي تقضيها وهي ترعى الصورَ وتجمِّلُها على مَهْل يكون العازفُ قد استبقَ زمنَها وعجَّلَ بتأثيثِ عمرِه وبَذْرِه بالحيوَات. ومن المحتملِ جداً أن تواصلَ الفتاةُ تكديسَ الصورِ حتى آخرِ نَفَس.. ويبقى العازفُ يُؤرجِحُ وجودَه المأزوم بين الصورِ المقطَّعةِ حتى الحدودِ المُفجِعةِ والشَّهيَّة.
زوينة آل تويّه
رولان بارت
كان يجلسُ في الصفِّ الثالث، يحضن آلةَ الكونترباص الضخمة. بدا ضئيلاً لفرط ضخامتِها، وبدتْ هائلةً لشدة ما هو صغير. غير أنَّه كان جذَّاباً أيضاً وهو يخاصرُها. وحدَهُ من بين العازفين كان ناتئاً وشاخصاً بآلتِه، قوامُه رشيق.. له حاجبان كثيفان وعينان تذكِّران بعينيّ الصَّقر، تحدِّقان بحدَّة في الآلةِ التي كانت تستجيبُ برشاقةٍ لرقصاتِ أصابِعهِ على أوتارِها. سوف تلتصقُ هذه الصورةُ بذاكرتِها طويلاً لتكتشفَ بعد أعوامَ ممتدةٍ أنَّ عازفَ الكونترباص لم يكن وهماً، وأنَّ لها ذاكرةً قويَّةً وقلباً حاضراً أمامَ الشاشةِ آنذاك، وأنَّ الصورَ كاسحةٌ وتجتمعُ في صمتِها كلُّ الدُّهور. إنَّ الرَّبطَ بينَ الصورةِ، التي شاهدتْها الفتاةُ قبلَ أعوامَ طويلةٍ على الشاشةِ، والصورةِ الفوتوغرافيةِ التي رأتْها بعدَ ذلك قد يبدو ضرْباً من الشّطح وتحميلِ الأشياء أكثر مما ينبغي. لكنَّ الصورةَ في الوقت ذاتِه ليست من التبسيط والسَّذاجة بحيث يمكن عبورُها واجتيازُها من دونِ الاصطدام بلسعاتِها المفاجئة. إنَّ التأملَ في الصورتين يُفضي إلى أنهما صورةٌ واحدةٌ كانت قبل أعوام طويلةٍ أكثرَ حركةً وصوتاً، لكنها سكنتْ بعد ذلك وجمدتْ في يدِ العازف. العازفُ لم يكبرْ في الصورةِ ولا في الشاشة، بل كبُر خارجَها. وكذلك الفتاةُ، والتي ظلَّت خارجَ الصورةِ أصلاً.
لكنْ ما الذي يجعلُ صورةَ ذلك العازف على الأخصِّ من بين جميعِ العازفين تقبعُ بذاكرتِها لتقابِلَه في الحقيقة بعد تلك الأعوام؟!. هل كانت تَقرَأُ مستقبلاً، ماضياً ما داخلَ الصورة؟، هل كانت تنتظرُ وتَتلهَّفُ عبرَ الصورة؟!. مضتْ الشاشةُ بعيداً وغيَّبتْها الأعوام، لكنَّ العازفَ بقيَ في صورةٍ فوتوغرافيةٍ بالهيئةِ نفسِها التي ظهرَ عليها في الشَّاشة. لقد جمدتْ تلك اللحظةُ في صورة، وبقيتْ الفتاةُ هي الشاهدَ الوحيدَ على هذا التحوُّل لأنَّها تحتفظُ أيضاً بِصورةٍ داخلَها.
خلال الأعوامِ الطويلةِ أخذتْ الصورُ الثلاثُ للعازف – في الشاشة، ذاكرةُ الفتاة والصورةُ الفوتوغرافية – تتفاعلُ وتتحاورُ وتتجاذبُ أطرافَ الذاكرةِ والنِّسيان. الفتاةُ لا تنسَى إلاّ لتتذَكَّر، ذلك أنَّ الأعوامَ الطويلةَ تمرُّ بطيئةً، وذكرى قويَّةٌ كتلك الصورةِ لا يمكن نسيانُها بسرعة في زمنٍ طويلٍ يَمرُّ ببطء. وهي أيضاً تنسى لأنَّ وعيَها يكبرُ بسرعة ويتطلَّعُ لحقيقةٍ كانت تشعُّ من الصورةِ نفسِها. الانشغالُ بالنِّسيان هو التذكُّرُ بعينِه. لكنَّها تقفُ مذهولةً أمامَ العازف بعدَ الأعوامِ الطويلة رغمَ أنَّها كانت دائماً تتهيَّأ للتذكُّرِ والنِّسيان. إنَّ الذي يقف أمامَها يتجاوزُ كلَّ ذلك، وهو حاضرٌ بقوَّة لا يمكن تذكُّرُه أو نسيانُه أو حتَّى تخيُّله. إنَّه مألوفٌ وقريب وفي الوقتِ ذاتِه كائنٌ آخر اكتسى غرابتَه بمُثولِه القويّ. ها هي ذي صورةٌ رابعةٌ إذن: هل يمكن تسميتُها بالصورةِ الحقيقية لتمييزِها عن صورةِ الشَّاشةِ وصورةِ الذَّاكرة والصورةِ الفوتوغرافية؟!!
إنّ الفتاةَ تبقى واحدةً أمام الصورِ المختلفةِ أو العازفِ المتعدِّد. وإذا كانت في موقفِ اختيار.. أيُّها تختار؟ ألا يختلط عليها الأمر؟ وهل يقف عند حدِّ الاختيار؟ ثمَّ هل تحتمل المسألةُ الاختيار؟! إنَّ الصورةَ الأولى هي النظرةُ الأولى والمصادفةُ الأولى والحبُّ الأولُ الذي يلوِّحُ عبر الشاشة ولا يمكن ملامستُه، لكنه ينتعش وينتشر في الدَّاخل، في المرتفِعِ من القلب والذاكرة لتتشكلَ الصورةُ الثانية.. المؤلمةُ والمكتنزةُ بالانتظار والتَّرقُّب. إنَّها أكثرُ الصورِ نتوءاً وبروزاً ووخزاً، ذلك أنَّها طويلةٌ تقع بين الأعوام الممتدَّة فيما بين الصورتين الأولى والثالثة. تمحُو وتنقضُ كلَّ الخيوطِ المتشابكة التي تنسجُ عمرَ الفتاة التي حتماً لا تتوقف خطواتُها عند الصورةِ الأولى، على اعتبار أنَّ الكائنَ الحيَّ يكبرُ ويتحوَّلُ ويتأزَّمُ ويجرِّبُ ويرى الكثير. لكنَّ الفتاةَ في الصورةِ الثانية وهي تمرُّ بكلِّ ذلك لا تفتأ تتذكَّر المصادفةَ الأولى وتتفكّرُ وتحلّلُ وتشتاقُ وتضحكُ وتبكي وتذبلُ وتحنّ. إنَّ ذكرى هذه المصادفةَ هي الأبرزُ والأحدُّ في وعيِها، لأنّها تواصلُ وخزَها حتَّى في الصورةِ الفوتوغرافيةِ الجامدة. هذه الصورةُ الجامدةُ تثيرُ الذاكرة فتنتعشُ وتتلوَّنُ وتكفُّ عن جمودِها لتهتزَّ في يدِ العازف وتصيبَ الفتاةَ بالذهول لتصطدمَ بمعذِّبها وبكلِّ الصورِ التي مَثَّلته في حياتِها. وفي لحظة الاصطدام هذه تبهتُ الصورُ وتسقطُ الأحلامُ تباعاً. الحقيقةُ مُرَّةٌ وكافَّةٌ للحُلم. لم يعد ثَمَّة صور. كان جديراً بالعازفِ أن يبقى داخل قُمْقُمِهِ لتنتشرَ الصورُ وتتكاثف. إنَّه أكثرُ إشراقاً وبروزاً إذا بقي في الدَّاخل، إذا لم يظهر. فالفتاةُ تتمتَّعُ بخيالٍ فاتِن يجعلُ عازفَها يتجدَّدُ ويتعدَّد. تسهرُ على ولادتِه كلَّ لحظة، خاصة حين يكون بعيداً عنها.. في مكانٍ خبيءٍ وقصيٍّ في الذاكرة. تستحضرُه بما تمتلكه من طاقةٍ روحيَّةٍ هائلة. إنها تحييه وتمنحُه أرواحاً كثيرةً في تحوُّلاتِ الصور. لكنْ لماذا التسليم بأنَّ الذهولَ صادمٌ ومنتجٌ لحقيقةٍ مُرَّة؟! لا أحد يعرف شيئاً حقيقياً عن الفتاة والعازف. فلماذا ننتهي إلى نظرةٍ تحبسُ العازفَ، فقط لتُعمِل الفتاةُ خيالَها؟ ربَّما لو أُطلقَ الماردُ من القُمقُم تفجَّر الخيالُ أيضاً. بما أنَّ كلَّ شيءٍ جائزٌ وممكن ولا شيءَ حقيقيٌّ في هذه الحكاية، رغم وجودِ الفتاةِ والعازف، لتكن ثمَّة تهويماتٌ أخرى وشطحاتٌ أكبر. إنَّ حضورَ الصورةِ الفيزيائي في لحظةِ الذهول معادلٌ لحضورِ العازف أمامَ الفتاة. كان لا بدَّ من ظهورِ العازف لتعودَ الصورة، ذلك أنَّ لا أحدَ يملكُها غيرُه، وصورةُ الشاشة تناءتْ ولا يمكن القبضُ عليها. وفي لحظةِ الذهول هذه تلتقي الصورُ والمصادفة: الصورُ المنتشرةُ، والطاغيةُ على حياةِ الفتاة طوال تلك الأعوام، والمصادفةُ الناتئةُ، في أوَّلِ لقاءٍ متخيَّل، تلتقيان وتسكنان لحظةَ الذهول التي ينجرحُ فيها وعيُ الفتاةِ وينْدمغُ وينْثقِبُ وينْصدِم. وهنا سوف تفقدُ الصورُ جاذبيتَها ليأتيَ ما هو أكثرُ إدهاشاً ووخزاً… العازفُ بشحمِه ولحمِه ودمِه!.
هل يعني ذلك تمزيقَ الصُّورِ وإلقاءَها في أقربِ سلِّةِ مُهملات؟! أينتهي دورُها وتكفُّ عن التحريضِ والوخزِ واللَّسْع؟!. إنَّ الفتاةَ ترى العازفَ قد كبُر في لحظةِ مثولِه الحقيقيّ.. كبُر عمَّا كان عليه في الشاشةِ والصورةِ التي يحملُها. عليها أن تدرِّبَ بصرَها ووعيَها على التقاطِ صورةٍ جديدةٍ إذن، إذا ذهبنا بعيداً في لعبةِ الصورِ هذه. الصورةُ الجديدةُ كبيرةُ الحجم فضلاً عن أنَّها حقيقيةٌ وتتطلبُ جهداً كبيراً ومُضنِياً في الالتقاط وتحقيقِ سكونِها داخل وعيِ الفتاة الذي لا تزالُ تصطرعُ فيه الصورُ الأخرى. تكتشفُ الفتاةُ نتوءاً أكبرَ في الصورةِ الحقيقية وبروزاً أغورَ للجُرح. ففي الأعوام التي تقضيها وهي ترعى الصورَ وتجمِّلُها على مَهْل يكون العازفُ قد استبقَ زمنَها وعجَّلَ بتأثيثِ عمرِه وبَذْرِه بالحيوَات. ومن المحتملِ جداً أن تواصلَ الفتاةُ تكديسَ الصورِ حتى آخرِ نَفَس.. ويبقى العازفُ يُؤرجِحُ وجودَه المأزوم بين الصورِ المقطَّعةِ حتى الحدودِ المُفجِعةِ والشَّهيَّة.
زوينة آل تويّه