عبد السلام إبراهيم السيف - عتبات النص عند شعراء الرومنسية..

مـــدخـــــل

بدأ مفهوم (عتبات النص) أو (المناص) كمفهوم خاص تسلط عليه الدراسات، وتركز عليه الأبحاث، ويتشكل كدرس أدبي وينتظم كمصطلح ومفاهيم؛ على يد (جيرار جانيت) عندما أصدر كتابه (عتبات) عام 1987م، وإن كانت سبقته إشارات من هنا وهناك، مثل التي جاءت عند (ك دوشي) في مقالته من (من أجل سوسيو-نقد) عام 1971م، (وجاك دريدا) في كتابه التشتيت 1972م، و (فيليب لوجان) في كتابـــــــــــــــــــه (الميثاق السيرذاتي) عام 1975م، وغيرهم.

ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن هؤلاء يعدون الأوائل في تســــــــليط عدسة المجهر على (عتبات النص أو المناص)، على أن ذلك ينتظم إذا كنا نقصد في الحضارة الأوروبية، إما إذا كنا نقصد في الحضارات كلها فلا يسعنا إلا أن نذكر أن علماء العربية سلطوا مشارطهم على (عتبات النص)، وعرفوا أهميتها "فاتخذ في البداية شكل إشارات وتوجيهات متناثرة في مصنفات عامة، ثم أفرد بعد ذلك بمؤلفات خاصة، تحدد قواعد كتابة النصوص، وضوابط تفصيل خطاباتها، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: أدب الكاتب لابن قتيبة (ت276هــ)، وأدب الكتاب للصولي (ت335هـ)، والاقتضاب بشرح أدب الكتــــــــــاب (ت 521هـــ)"، وتواصل الاهتمام بعتبات النص حتى صارت الرؤية واضحة، والمعالم بارزة، فأطلقوا عليها (الرؤوس الثمانية) ومنهم تقي الدين المقريزي (ت 845هـ) حيث يقول في باب عنونه بذكر الرؤوس الثمانية:

"اعلم أن عادة القدماء من المعلمين قد جرت أن يأتوا بالرؤوس الثمانية قبل افتتاح كل كتاب ، وهي الغرض، والعنــــــوان، والمنفعة، والمرتبة، وصحة الكتاب، ومن أي صناعة هو، وكم فيه من أجزاء، وأي أنحاء التعاليم المستعملة فيه"
ثم يمضي في شرح هذه الرؤوس الثمانية.

وقد تركز اهتمام علماء العربية السابقين على طرق كتابة (الرؤوس الثمانية)، وتبيان أهميتها، وإيضاح أثرها على المتلقي، ولم يتعد البحث إلى إيضاح أثر مؤلف النص أو مبدعه في تشكيل الرؤوس الثمانية، واختيار طريقة عرضها، وقراءة اتجاهات المؤلف من خلالها.

في العصر الحديث، ومن خلال جيرار جانيت، أصبحث هذه الرؤوس الثمانية، أو عتبات النص أو المناص تركز على مجموعة من الأشياء، بعضها ضمن الرؤوس الثمانية، والآخر خارج إطارها، وأهم هذه العتبات والمناصات هي (اسم المؤلف، والعنوان، والأيقونة، والاقتباس، والمقدمة).

اسم المؤلف أصبح يشغل "أربع عتبات: صفحة الغلاف الأولى، وصفحة العنوان، وصفحة الغلاف الأخيرة، وحاشية الكتاب".

والعنوان يمثل أهمية قصوى ضمن عتبات النص، فهو أول ما تقع عليه عين المتلقي المهتم بالعناوين، أو ثانيها بعد اسم المؤلف، فالعنوان يمثل واجهة للنص أو الكتاب أو الديوان أو الرواية أو غيرها، وهو الذي يعطي الانطباع الأول عن ماهية الداخل، ومهيئ من مهيئات القارئ لما سيأتي في النص.

والأيقونة عتبة لم تكن لتظهر سابقا، فهي مرتبطة بوسائل التقنية الطباعية، فالأيقونة هي الصورة التي تصاحب عنوانا من العناوين، أو تسبقه، أو تأتي بعده، سواء كان عنوانا رئيسا للنص أو مجموعة النصوص، أو كان عنوانا فرعيا داخل كتاب.

عرف قاموس الطرائق الأدبية الاقتباس بأنه "شاهد يوضع في مستهل عمل أو فصل للإشارة إلى روح هذا العمل أو الفصل، واعتبرها ج جانيت بمثابة حركة صامتة لا يمكن إدراك مغزاها وقصدها إلا من خلال تأويل القارئ".

"وتتحدد المقدمة باعتبارها كل نص استهلالي (تمهيدي أو ختامي) يكمن في خطاب منتج بخصوص النص الذي يليه أو يسبقه"والمقدمة" نص جد محمل ومشحون ... وعاء معرفي وأيديولوجي تختزن رؤية المؤلف وموقفه من إشكاليات عصره ...".

من خلال هذه العتبات يمكن قراءة ما وراء لغة المبدع، وما تحمله هذه العتبات من أفكار ورؤى، عمد إليها المبدع قصدا أم لا، وقد تجتمع هذه العتبات جميعا وقد لا تجتمع، وقد تحمل العتبات معان عميقة تحتاج إلى حفر لاستظهارها، وقد تكون سطحية لا تحمل كثيرا في طياتها.

في بدايات ظهور عتبات النص في مؤلفات المبدعين الأدبية مع بدايات القرن الماضي كان الاهتمام منصبا على العنوان، عنوان النص الشعري أو الروائي، وكان العنوان سطحي المعنى، ظاهر الدلالة، وكان عنوان نص من النصوص إن كان ديوانا، أو كلمة من النص إن كان نصا شعريا، وربما كان شخصية من الشخصيات أو مكانا من الأمكنة إن كان النص روائيا، ثم في السنوات الأخيرة تنوع الاهتمام بعتبات النص حتى شمل كل العتبات التي ذكرها جيرار جانيت وجعلها ضمن جهازه المفاهيمي، وأصبح الاهتمام بالعنوان والأيقونة والاقتباس والمقدمة واسم المؤلف يوازي الاهتمام بالنص نفسه، ويوازي الاهتمام بطباعة الكتاب، ويُعد أحد مكونات الإبداع في النص.

عتبات النص عند شعراء المدرسة الرومانسية

يعتبر شعراء المدرسة الرومنسية من أوائل من اهتم بعنونة النص الإبداعي عنونة تختلف عن الجيل الذي يسبقهم، أو المدرسة التي ثاروا عليها، ففي حين كان شعراء المدرسة الكلاسيكية يعتمدون عناوين تقليدية ، واضحة المعالم، لا توحي بشيء سوى ما يريد أن يقوله الشاعر، ولا تشي بغير ما يراه القارئ على السطح، من مثل (في رثاء مصطفى كامل)، كان شعراء المدرسة الرومنسية يعمدون إلى شحن العناوين بما في نفسوهم من معان مختلفة، واتجاهات شعورية متنوعة، وقد بدا ذلك من خلال عناوين دواوينهم أو نصوصهم، وكانت الاقتباسات أو الإهداءات تظهر على استحياء، أو تنهج نهج المدرسة الكلاسيكية في الوضوح والمباشرة.
العنوان

شحن شعراء المدرسة الرومنسية عناوين قصائدهم ودواوينهم بكل الشحنات النفسية والمعنوية الدالة على تيارهم الرومنسي، ومن خلال إسقاط مبادئ الرومنسية على العناوين التي استعملها شعراؤها حيث سنجدها مطابقة لها في غالبها، بل إن بعض العناوين تحمل أكثر من مبدأ من المبادئ الرومنسية:
النزعة الفردية والأنا الحالمة:

لو بحثنا عن هذا المبدأ في عناوين قصائد شعراء الرومنسية لما استطعنا أن نخرج واحدا منهم لم تظهر هذه الأنا الحالمة أو الذات الفردية عنده، فهذا إيليا أبو ماضي تكثر عنده عناوين النزعة الفردية مثل (أنت–أنا–أنا وهو–لا أنت ولا أنا–هي) وغيرها، وهذا أحمد رامي يعنون بعض نصوصه بـــ(الوحدة–حديث النفس–الخلوة)، ونجدها كذلك عند محمود إسماعيل (راهبة الضحى–أنا–في المحراب)، وعند عبدالرحمن شكري (كعبة النفس)، وصالح جودت (في جزيرة معك) وينجر ذلك على أبي شادي وإبراهيم نــــــــاجي وغيرهم، وكل هذه العناوين تدل على الانعزال والانطواء على الذات، فالشاعر يعني نفسه ومخاطبته، ويبقى في جزيرة لوحده معها، وينطوي على ذاته حيث لا أحد، وينعزل عن الناس في محرابه، وهلم جرا.

والذات الفردية تحيل النظر دوما إلى الاهتمام بالجزئيات، فالشاعر لا يرى مجموع المجتمع كله، بل يرى نفسه ويرى مخاطبته، أي يرى جزءا من المجتمع، فعند أحمد زكي عناوين من مثل (المجهر–تحطيم الذرة) وعند إبراهيم ناجي من مثل (شعرة)، والنزعة الفردية تتمثل في أظهر صورها في عنوان لأحمد زكي أبو شادي (المرآة) فهو وأن حاول أن ينظر إلى شيء غير نفسه فإن ذلك سيؤدي به أن لا يرى من خلاله إلا نفسه.

أما الأنا الحالمة فهي ربيبة الليل حيث تعيش الأحلام، فأحمد رامي يعنون (في سكون الليل–أقبل الليل) وإيليا أبو ماضي يضع عناوين (في الليل–ابن الليل–ليل الأشواق) وأبو القاسم (في سكون الليل–أيها الليل) ومحمـــــــــد عبدالــــــمعطي الهمــــــــــــشري (عاصفة في سكون الليل) كذلك مشى على هذا المنوال كثيرون منهم عبدالرحمن شكري وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وغيرهم، كما أن الأنا الحالمة تحاول أن تجمع الفلسفة بالخيال فيضع علي محمود طه عنوانا (فلسفة وخيال) فالليل خالق الخيال، والأنا الحالمة والفلسفة هما جناحا الخيال، أما الموطن الذي يمكن أن يعيش فيه الخيال وينمو ويتطور فـــهو الحلم، فيضع إبراهيم ناجي عنوانا (بقايا حلم) ويضع أبو القاسم الشابي (أحلام شاعر) ويجعلها إيليا أبو ماضي (رؤيا) .

سنلاحظ في بعض العناوين معان ومبادئ رومنسية مزدوجة، خاصة العناوين المركبة، مثل عنوان محمد عبدالمعطي الهمشري (عاصفة في سكون الليل) وكأن العنوان انعكاس له، فهو الليل الهادئ، ومشاعره العواصف الثائرة، كما أن العواصف تمثل الثورة على القيود، والصراخ في وجه الأغلال.
التوق إلى العالم المنشود

من المبادئ الرومنسية مبدأ التوق إلى العالم المنشود، ذلك العالم المثالي الذي ليس لمظاهر الحياة المشوهة حكما عليه، ذلك العالم الذي يكون فيه الإنسان مثالا للأخلاق النبيلة المترفعة عن المطامع، فأحمد رامي يعنون إحدى قصائده بــــ(الجندي المجهول) ذلك الجندي المثالي الذي يؤمن بقيمة أن الخير يعلو على الظهور والشهرة والتفاخر به، وعبدالرحمن شكري يضع عنوانا (الصديق المنشود) و (المثل الأعلى)، لكن هذا العالم المنشود ضائع كما تعبر عنه العناوين التالية: (الفردوس الضائع–الغابة المفقودة لإيليا أبي ماضي) و (الجنة الضائعة لأبي القاسم الشابي)، في المقابل يرى الهمشري أنها لم تضع، لكنها هـــــــــــــجرت فيعنون (القرية المهجورة) ويوافقه أحمد رامي (القصر المهجور) أما أحمد أبو زكي فيعنــــــــــــــــــــــــــــــون بــ(الشمس الغريقة) فيرى العـــــــــــالم المنشود يغرق ولا أحد يهتم، ويصفه إيليا أبو ماضي بـــأنه (وطن النجوم) ويقول الهمشري عنه أنه (مملكة السحر)، وهو شاب فتي كما يصفه بهذا عبدالرحمن شكري (فجر الشباب)، أنما صالح جودت فيراه (حب من السماء).

يقف شعراء الرومنسية على عتبة هذا العالم المنشود ما بين متفائل بمقدمه (روعة العيد–هدايا العيد لإيليا أبي ماضي) (ليلة العيد لإبراهيم ناجي) و (الصباح الجديد لأبي القاسم الشابي) ومتشائم يحس بالخديعة أن هذا العالم المنشود ليس هو العالم الذي يقفون على عتباته (حسرة العيد لعبد الرحمن شكري) أو مترقب لما سيكون عليه هذا الجديد (انتظار) علي محمود طه.

والملاحظ لتوقهم للعالم المنشود يجد أنهم يقفون في أزمنة تخومية، واستعمال الأزمنة التخومية مبدأ من مبادئ الرومنسية الكبرى التي تصبغ المكان والزمان والألوان.
الأزمنة والأمكنة التخومية والحدودية

استخدام الأمكنة والأزمنة التخومية والحدودية من المبادئ الكبرى عند الرومنسيين، لذلك نجدها بكثرة في عناوينهم، فنجد بعض هذه العناوين أحادية الدلالة على التخومية، سواء المكانية أو الزمانية، مثل (المساء) لإيليا أبي ماضي، و (مسارح الشفق) للهمشري، و (شاعر الفجر) لمحمود إسماعيل، و (شفق الغروب) عند عبد الرحمن شكري، و (المساء الحزين) لأبي القاسم الشابي، و (حزن الفجر) لأبي شادي، و (الخريف) لإبراهيم ناجي وغيرها.

ومنها ثنائي الدلالة على التخومية، يجمع بين التخومية المكانية والتخومية الزمانية، فيعطي دلالة مزدوجة عليهما، مثل (أمسية شتائية في ضاحية) للهمشري، فالأمسية زمن تخومي، والضاحية مكان تخومي، وقد يجمع الشاعر بين زمن تخومي ومعنى تخومي مثل (تحية المساء) للهمشري، فالتحية تقع في تخومية (بدء) اللقاء، قرنها بالمساء وهو زمن تخومي، وقد تكون الكلمة الواحدة تجمع التخومية المكانية والزمانية في ذاتها بغض النظر عن غيرها مثل (رثاء فجري) لأبي القاسم الشابي، فالرثاء كلمة تحمل معنى التخومية الزمانية والمكانية في الوقت نفسه أي وصول المرثي–على الغالب–لعمر متقدم مات جراءه، وتخومي مكاني حيث المرثي ينقل من فوق الأرض إلى تحته، فيصبح هذا العنوان ثلاثي الدلالة مع النظر إلى الزمانية التخومية في كلمة (فجري)، وقد يجمع الشاعر بين زمانين تخوميين متناقضين لا يجتمعان إلا في عنوانه، مثل (نواقيس المساء) للهمشري، فالنواقيس تطرق في بداية الفجر، وبداية الشيء، والمساء نهاية اليوم.

والحديث عن التخومية الزمانية والمكانية يجرنا للحديث عن تخومية من نوع آخر، تخومية تمثل مبدأ مستقلا، أو ظهورا خاصا، تظهر عند الشعراء الرومنسيين بكثرة وهي الطفولة.
الطفولة

الطفولة وإن كانت زمنا تخوميا فإنها لكثرة ما يطرقها الشعراء الرومنسيون فإن لها أن تستقل بذاتها، فهي تربط بين التخومية، والهروب من الواقع، والبحث عن الأمان، والمشاعر الصادقة، والابتعاد عن الزيف، فإيليا أبو ماضي يتساءل (أين عصر الصبا)، ويتحدث عن (يتيم–طفلة والقمر–الحجـــــــــر الصغير)، والهمشري يضع عنوانا (صور اللحن في الصبا) وشكري (ضحكات الأطـــــــــــــــــفال) و (اليتيم) وأبو القــــــــــــــــــــــــــــــــــــاسم الشابي (الطفولة–شكوى اليتيم) وأبو شادي (الصبا الدائم–الأطيار والبراعم)، ويجمع أبو شادي في عنوان مركب بين معنيين من معاني الطفولة (القطة اليتيمة) فاليتم مختص بالطفولة، والقطة مهما كبرت تبقى نوعا من الطفولة، ويعمد إبراهيم ناجي فيضع عنوان ثلاثي الدلالة فيقول (غصن صغير)، فالغصن فرع من الشجرة كما هو الطفل فرع من العائلة، والصغر طفولة، والمعنى الثالث لا يختص بالطفولة ، بل بالاهتمام بالجزء دون الكل ، والنزعة الفردية ، حيث الاهتمام بالغصن لا الشجرة.

إن الحديث عن الطفولة يجر إلى الحديث عن مبدأين من مبادئ الرومنسية هما (التوق إلى الحرية، واستعمال الاستعارات الدالة على الفضاءات الشفافة).

الاستعارات الدالة على الفضاءات الشفافة

إن هذا المبدأ هو جزء من التوق إلى الحرية التي تتميز بها الرومنسية، فالفضاءات تعني لا قيود، ولا قيود تعني الحرية، لكن ليست الحرية فقط، بل الحرية الممزوجة بالأمن الطفـــــولي، والأمن الطفولي يتسم بالشفافية والوضوح والانطلاق والحرية، إذن هي معان دائرية ليس لها بداية تنطلق منها ولا نهاية تنتهي عندها، إن الفضاء يعني إلا تقف عند حـــــــــد، ولا يمنعك حاجز، وتنتقل بكل حرية، وترى أبعد من منتهى البصر، بل ترى كل الأشياء بوضوح، ليس هناك ما يصطدم به بصرك، بل ليس هناك ما يخدعه، وهذه هي مواصفات العالم المنشود الذي يتوق إليه الرومنسيون، من الشفافية يضع إيليا أبو ماضي عنوانا (شبح)، والهمشري (صورتك السماوية) وعبدالرحمن شكري (الصحراء) وإبراهيم ناجي (القمة) وأبو شادي (بحر السماء)، إن الشفافية ترتبط بالعلو، والصحراء ترتبط بالحرية، والصحراء شفافة، والحرية علو، أما البحر إذا كان بشفافيته في السماء فهو حرية وشفافية وعلو.

ولا يقف تعبيرهم عن الحرية والشفافية على الفضاء، بل يتجاوزون الحديث عن المعاني إلى الحديث عن ما يمكن أن يمثل هذه المعاني، فقد عبر كثير من الشعراء الرومنسيين عن الراعي (أيها الراعي لإيليا أبي ماضي) (عودة الراعي للهمشري) (من فم الراعي محمود إسماعيل) (من أغاني الرعاة لأبي القاسم الشابي) (الراعي لأبي شادي) (دعاء الراعي لإبراهيم ناجي) وغيرهم، والراعي حر في تصرفاته، ليس عليه رقيب يقيده، يعيش في فضاء، يغير مكانه واتجاهه متى شاء، كما أن الراعي يعبر عن الفردية، فالراعي وحيد في الصحراء ليس معه سوى غنمه.

يمتد التعبير عن الحرية والفضاءات الشفافة إلى الطيران، فالطيران حرية، وعلو، وانخراط في الفضاءات الشفافة، كما أنه يمثل هروبا من الواقع، فالطائر إن كان المكان يمثل خطرا فكل ما عليه أن يفرد جناحيه فيحلق في الفضاء فلا يقف عند حد، (الطيران–الفيلسوف المجنح لإيليا أبي ماضي) (مناجاة طائر لأحمد رامي) (طائر الحب في عاصفة الموت للهمشري) (طائر السعادة لشكري) (الطائر الجريح لناجي).

أيضا يظهر التوق إلى الحرية في معان مضادة له، فإيليا أبي ماضي يعنون (السجينة–البلبل السجين)، وأحمد رامي (الأنغام السجينة–الهزار السجين)، وأبو القاسم الشابي (قيود الأحلام)، وصالح جودت (سجين الليل–في سجن الضمير)، فتسمية القيود –وإن كانت إيجابية– بالسجن مؤشر على التوق إلى الانفكاك منها.

شفافية الماء

من المعاني المرتبطة بالفضاءات الشفافة معنى الماء، فالماء شفاف، وشفافيته تجعله شبيها بالفضاء من حيث إمكانية التنقل فيه في كل مكان، ومن حيث الرؤية من خلاله، كما أن التنقل فيه شبيه بالطيران، والماء يجمع ما بين الذاتية والشفافية والحرية، فالذاتية أن الماء يعكس صورة الإنسان وفي الوقت ذاته يحمل شفافية يمكن من خلالها رؤية ما بداخله، هذان التناقضان لا يمكن أن يجمعهما إلا الماء.

الماء رمز للبدايات، يعنون إيليا أبو ماضي (ماء وطين) والماء والطين رمزان لبداية البشرية، والنهر رمز للتجدد والتغيير، ويعنون أحمد رامي (نهر الحياة) ويعنون إيليا أبو ماضي (الغدير الطموح)، والماء وإن كان معادلا موضوعيا للحياة فإنه إذا بلي فستبلى معه الحياة، يعنون أحمد رامي (الينبوع البالي) ، والهمشري (سفن الموت)، أما صالح جودت فيتوق إلى (عهد المياه) حيث الصفاء والنقاء، ومصدر كل إمكانات الحياة، وأبو شادي (وحي المطر) حيث يثأر الماء من الجفاف ويحطمه.

وكما أن الماء يجمع متناقضين، انعكاس الصورة والشفافية، فإن متناقضين آخرين يجمعهما الماء كذلك هما الهدوء والضجيج، فالماء يبعث النفس على الهدوء وفي كنفه أعظم ثورة.
الثورة

الموج يمثل بداية ثورة البحر، فالبحر هادئ في غالب أوقاته لكنه يثور فيحطم كل شيء، والثورة مبدأ من مبادئ الرومنسية التي كان تأسيسها ثورة على الكلاسيكية.

الماء له ثورات مختلفة، متنوعة، منها ما هو في البحر (أمواج لأبي شادي) (حديث موجة لأبي ماضي)، ومنها ما هو في الفضاء (أنشودة الرعد لأبي القاسم الشـــــــــابي) ومنها ما يثور في الفضاء فتثور معه الأرض أو البحار (عاصفة لناجي–أيتها الحالمة بين العواصف-زئير العاصفة للشابي) كما أن للشابي ثورات أخرى مثل (صيحة الحب–زوبعة في ظلام–الصيحة).

نلحظ أن ثورات الشابي ليست ثورات فردية، بل ثورات تتعداه لتشمل كل شيء، كما يتضح من العناوين، بخلاف ثورات باقي الرومنسيين، (ثورة نفس لأحمد رامي–ثورة النفس لشكري–ثورة الروح لصالح جودت).
الضياع والحيرة

يمثل الضياع والحيرة سمة من سمات الرومنسيين، فالـــــــــــضياع حيرة، والحيرة مكان بين بين، والمكان الـــ (بين بين) مكان تخومي، إذن الحيرة أثر لمبدأ من مبادئ الرومانسية، والحيرة تتمثل في الغربة (لفتات غريب لأبي شادي) (هوى الغريب لأحمد رامي) والجهـــــــل (إلى المجهول لشكري) (الفلاح المجهول لصالح جودت) والضبابية (قبضة من ضباب للشابي) والتيه (الملاح التائه لعلي محمود طه) (السفينة الحائرة لصالح جودت) (صوت تائه–الأشواق التائهة للشابي) (أيها التائه للهمشري) والضياع (تحية ضائعة لصالح جودت) (القلب الضائع لأحمد رامي) والظلمة (في الظلام للشابي) (أشعة الظلام لأبي شادي) والسرابية (كذب السراب لناجي).



المراجع والمصادر

أجمل ما كتب شاعر الجندول : د.سمير سرحان ، د.محمد عناني ، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ب.ط ، 1996م .
الأعمال الكاملة : إبراهيم ناجي ، دار الشروق ، القاهرة ، الطبعة الثالثة ، 1996م .
الأعمال الكاملة المجلد الأول : محمود حسن إسماعيل ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 2004م.
أعلام الشعر العربي الحديث : محمد مندور ، عبدالعزيز الدسوقي ، بشارة الخوري ، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1970م .
أغاني الحياة : أبو القاسم الشابي ، الدار التونسية للنشر ، تونس ، ب.ط ، 1970م .
ديوان أبي ماضي شاعر المهجر الأكبر : إيليا أبو ماضي ، دار العودة ، بيروت ، ب.ط ، ب.ت .
ديوان رامي : أحمد رامي ، دار العودة ، بيروت ، ب.ط ، 1987م .
ديوان عبدالرحمن شكري : جمعه وحققه نقولا يوسف ، المجلس الأعلى للثقافة ، القاهرة ، ب.ط ، 2000م .
عتبات جيرار جينيت من النص إلى المناص : عبدالحق بلعايد ، الدار العربية للعلوم ناشرون ، الطبعة الأولى ، 2008م .
عتبات النص : يوسف الإدريسي ، منشورات مقاربات ، أسفي ، المملكة المغربية ، الطبعة الأولى ، 2008م .
ليالي الهرم : صالح جودت ، دار العودة ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1982م .
مدخل إلى عتبات النص : عبدالرزاق بلال ، أفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، ب.ط ، 2000م .
المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار : تقي الدين أحمد بن علي المقريزي ، تحقيق محمد زينهم ، مديحة الشرقاوي ، -* -* مكتبة مدبولي ، القاهرة ، الطبعة الأولى ، 1997م .
الهمشري شاعر أبولو ، دراسة وقصائد : عبدالعزيز شرف ، دار الجيل ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 1991م .

- انظر عتبات ، جيرار جينيت من النص إلى المناص ، عبدالخالق بلعابد ، ص 29 .
- عتبات النص ، يوسف الإدريسي ، ص 20 .
- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ، تقي الدين المقريزي ، 1/3 .
- عتبات النص ، يوسف الإدريسي ، ص 44 .
- المرجع السابق ، ص 55 .
- عتبات النص ، يوسف الإدريسي ، ص 57 .
- مدخل إلى عتبات النص ، عبدالرزاق بلال ، ص 52 .
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...