جمال الدين علي الحاج - بورتريه امرأة مجهولة.. قصة قصيرة

كانت تقف ساهمة أمام اللوحة كما لو أنها تقف أمام مرآة ذاتها. لم يشأ أن يقطع خلوتها; سحب نفسه بهدوء إلى ركن في نهاية الصالة حيث يوجد بار صغير. جلس إلى أقرب طاولة ومن مكانه راح يراقبها. كانت لا تزال متسمرة أمام اللوحة لدرجة أنها لم تهتم بالمرور على باقي اللوحات. طلب زجاجة جن كاملة; وراح يفكر: معقولة! ولكن ما الذي أتى بها إلى هنا؟. لا. لا.. حتما واحدة تشبهها. ولكن على الأقل كنت ذهبت إليها وعرفتها بنفسك. مجنون أنت ومنذ متى كانت تهتم بمعرفتك؟
عاش في خلوته حوالي عشرين عاما. طوال تلك السنوات لم يكن ثمة خبر هام في الدنيا ينتظره أكثر من قراءة خبر صغير في صحيفة صفراء: موت شخص مجهول في ظروف غامضة واكتشاف كنز من اللوحات الثمينة في غرفته القابعة أسفل الدرج. ثم حدث أن زاره صديقه الذي يعمل حارس في صالة اشتهرت بعرض لوحات لفنانين مغمورين:
كل هذه لوحاتك؟
نفث دخان سيجارته في الهواء:
- قصدك حياتي.
- أنت موهوب يا رجل. لماذا لا تعرضها عندنا في الصالة. يمكنني أن أفاتح المدير في هذا الأمر.
ابتلع شيئا بدأ مرا من خلال ملامح وجهه; سحق سيجارته في المنفضة الموضوعة فوق الطاولة: أعرضها.
أمسك زجاجة الجن التي أحضرها النادل للتو; ودلقها دفعة واحده في جوفه; ثم وضعها بحركة استعراضية فوق الطاولة; أخرج هواء ساخنا من صدره. بنظرات غائمة راح يحملق في هذه المصادفة العجيبة التي تقف متجمدة هناك.
كيف يمكن لهذه السنوات أن تعصر و تصفى في غربال بسعة لحظة. الموانئ العائمة في بحور الوهم; والتي لا زالت تستقبل أفواج الهاربين بأطواق العشم. المحطات التي أصيبت بالقرف من البصاق والدموع والمخاط. الطرقات التي تعبدت بخطى حياة كسيحة. كل ذلك يتجسد في لحظة أمامه ليكتشف أنه عالق في الفخ. يعود به الزمن لذات النقطة التي تعثر فيها قلبه في فوضى أنثى مجهولة. الكل كان يعلم أنه يحبها. الأوراق وقصصات القماش و الأصباغ الملونة والفرشاة ورماد السجائر و تفل القهوة وأخيرا زجاجات الجن الفارغة الملقاة عند باب غرفته.
تسمر في بهو الفندف الراقي حيث كان يتحسس رزقه برسم النزلاء من السياح و أبناء الطبقة الراقية; تلك النظرة المتنمرة توشك أن تنقض عليه وتلتهمه. كان يرتديها كقطعة واحدة فستان من المخمل بلون أسود; ويغطي كتفيها العاريين شال قرمزي شفاف مطرز بالأحمر. وبدأ الصراع بين المفترس والفريسة يجتاحه. شعر بضربات قلبه تشتد; وثمة سائل بارد انحدر من رقبته على سلسلته الفقرية حتى مفرق صلبه. بخطى واثقة تنزل عتبات الدرج; وكلما هبطت عتبة; أحس بروحه تصعد إلى حلقه. تلك العيون العسلية مفرطة الحلاوة دوخته. لم يكن جمالها الأخاذ وزينتها الفارهة الذي شده إليها. لقد كان شيء آخر أكثر عمقا. وقفت أمامه بشعرها النافر كشمعة لم تنر; وهو عود ثقاب مبلل بر الدهشة. لا يزال يذكر منظره وهو يقف مبهورا. كما تقف هي الآن أمام اللوحة التي رسمها. تمتم:
- هل تسمحي لي سيدتي برسم صورة لك.
- في خيالك.
خياله النزق سرح في تفاصيل دقيقة وهو يرسم روحه; وجعه وخيبته. لم يكن ثملا إلى ذلك الوقت; على الأقل حتى تلك اللحظة التي اصطدمت عيونهما وضجت دواخله بصوت مكتوم أشبه بأنة المجروح. وحتى لو كان ثملا فان ذلك الحضور وتلك الأبهة التي كانت عليها يمكنها أن تطير أعمق سكرة ربضت في عقله: لا تتعب نفسك. قالت بلطف; سحبت كرسيا و جلست بجواره في صمت; أخرجت هاتف أنيق من حقيبتها وطلبت من النادل أن يلتقط لهما صورة.
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...