فأتى أبو الطيب بأربع صفاتٍ في بيت كشف مراده فيه والمريمي جاء باللفظ القصير في الطويل الكبير فالمتنبي أحق بما أخذ.
وقال المتنبي:
يَرى حده غامضاتِ القلوب ... إِذا كُنْتُ في هَبْوةٍ لا أرانِي
وكشف السيف عن غوامض القلوب إنما يكون بشق الصدور عنها وإبراء المنون في ظلم الأحشاء سبلاً وقد شرط فيها ابن دريد أنها لا ترى بقوله في المقصورة:
يُرى المنون حيث تقفو إِثْرَهُ ... في ظُلمِ الأحشاءِ سُبْلاً لا تُرَى
هذا أبلغ وأرجح وهو المأخوذ منه فهو أولى ببيته، وقال المعلى الطائي:
تمشت الهوينى في الرماح سُيوفكم ... حتّى عَرفن مسالك الأرْواحَ
سَخطتْ جماجمُهمْ على أجسادهم ... فتبدلتْ منهم صُدر رماحِ
وقال المتنبي:
سأجْعَله حَكماً في النفوس ... وَلَوْ ناب عَنْهُ لِساني كفاني
وقال الحرثي في مثله:
وإذا تألق في الندى كَلامه ... المصقول خَلتْ لِسانه من غَضبه
وقال ابن المعتز:
ولي حسام يهابُ الناس صَوْلته ... أمضى وأغضب من حديه غضب فمي
وقال أحمد بن محمد الحاجب:
ما يُبالي أسيفَ عمرو بن معدي ... كرب حزْت أم غرار لِسانه
وقال ابن الرومي:
يا مَنْ غدا وعزيمهُ ولسانهُ ... سَيفان شَتْى في الخُطوبِ وفي الخُطبْ
وفيه من المجانسة ما يرجح به، وقال آخر:
يحلو به شبه العمى فكأنّها ... من جدّ مِنْصلة الحسام لسانه
وهذه المعاني داخلة في قسم المساواة فإن قلت إن فائدتها أن ألسنتهم كسيوفهم لا غرو لأبي الطيب زيادة أن جعله حكماً في النفوس ولم يخبروا
بذلك، قلت: ذلك موجود في شعر أبي تمام في قوله:
راحَ التّنصُلُ معقوداً بألسنهمْ ... لمّا غَدَا السَيّفُ في أَعْناقهم حَكَما
ويلي ذلك أبيات أوّلها:
قِفَا تَريا ودقي فهاتا المخايلُ ... ولا تخشيا حلفاً لما أنا قائِل
وقال فيها:
رماني خِساس الناس من صائب أسنه ... وآخر قُطنّ مِنْ يَديه الجَنادِلُ
فهذا بيت ضعيف ونسج سخيف فأما صدره فإنه رماه من أصاب أسته والسهام لا تدور إلى خلفه إنما يحسن أن يقول كما قال الحارث بن وعلة:
قومٌ هُمْ قَتلوا أميم أخي ... فإِذا رميتُ يُصيبني سَهْمي
والسهم قد يصيب بارتداده ما وقع عليه من نحر أو صدر فإن أحتج له محتج فقال ليس هاهنا سهم ولا رمي على الحقيقة إنما هذه استعارة قلنا وكذلك قول الحارث استعارة ولكن ينبغي أن توفي الاستعارة مستعيرها حقوق ألفاظها وقال في عجز البيت:) وآخر قطن من يديه الجنادل (
فإن كان معناه في هذا أن الجنادل من يدي هذا الرامي كالقطن تهاوناً وخفة وزن عليه فإنه لفظ هجين غير رصين.
وقال المتنبي:
ومن جاهلٍ بي وهو يجهل جَهْلهُ ... ويَجْهلُ عِلْمي أنَّهُ بي جاهِلُ
هذا مذهب من الشعر يسميه الجاحظ المذهب الكلامي ويشبهه قول الخليل:
لو كُنْتَ تعلم ما أقولُ عَذرتَنِي ... أو كنت أعلم ما تقول عذرتكا
لكن جَهِلْتَ مقالتي فعذلتني ... وعلمتُ أنَّكَ جاهل فَتركتكا
وهذا الجنس قبيح التعسف بين التكلف وفيه تعب وكد وبلاء وجهد وبالجملة فإن قول أبي الطيب أخصر من هذا وأقل طولاً وهو أحق بما قال ومن هذا الجنس قول القائل:
وعلَّمتني كيفَ الهوى وَجهلتْه ... وعلمني صَبْري عَنْ ظِلمكم ظلمي
وأعلمْ ما لي عِنْدكم فَتميل بي ... هواي إلى جَهلي فأعرض عن عِلمي
وقد كان ينبغي أن أدخل هذا الفن في فنون البديع ولكنه ثقل مثله في
الشعر ولا سيما في شعر أبي الطيب ولا أختار له أن يسلك مسالك من ركب هذا الطريق فلذلك تركته.
وقال المتنبي:
ويَجهلُ أني مالك الأرض مُعسر ... وأني على ظهرِ السَّماكين رَاجِلُ
فمعسر مع مالك الأرض، وراحل على ظهر السماكين معنى مليح وتطبيق صحيح وهو أصح من قول العطوي:
إِنْ كُنتَ أصبحت لابساً سملاً ... فَهمّتي فوق كاهل الفلك
فأبو الطيب أحق بما أخذ وهو مأخوذ من قول أبي تمام:
فَثريت جاراً للحضيض وهِمّتي ... قد عُلقت بكواكب الجَوْزاء
وقال المتنبي:
وما زلتُ طوقاً لا يزول مناكبي ... إلى أنْ بدتْ للضّيمِ فيّ زَلازِلُ
ينظر إلى قول ابن الرومي:
أنا ذو القصد غير أني إذا آ ... نستُ ضيماً رأيت لي غُلواء
وقال المتنبي:
فقلقتُ بالهمّ الذي قَلْقل الحشا ... قَلاقِلَ عيس كُلهُنَّ قَلاَقِلُ
هذا البيت ما ذكره أبو العباس النامي في عيوب شعره وما ظلمه وهو قليل
المجانسة فلما جانس جاء بغير طائل، والهاء والنون في قوله) كلهنّ (تعود على العيس لا القلاقل وهو أبلغ من عودتها على القلاقل وهو يحتاج إلى ناقل فإنه يصح له.
وقال المتنبي:
إِذا الليلُ وارنا أرتْنا خِفافُها ... بقدحْ الحَصى ما لا تُرينا المَشاعِلُ
القدح لا تستنير إلا شرراً والمشاعل إفراط وقد قال أشجع:
ينشرن نَقع القاعِ حين يطأنه ... ويُطرن مُرّان الحصى بالفرْقَدِ
ويقع على الشرار اسم النار ولا يبلغ ذلك إلى المشاعل، قال الحصني:
وللمرء عن قدحٍ ما تستثير ... سَنابلها لهب مضّرم
وكذلك اللهب المضرم قول أبي الطيب فيمن أستحسن المبالغة أبلغ وفي مذهب من ذمها أنقص، وقال ابن أبي كريم:
إِذا أفترشتْ جنباً أثارتْ بمثنه ... عجاجاً وبالكذان نارُ الحَباحبِ
هذا تشبيه مقتصد جيد النظام مستوفي الأقسام أخبر فيه عن حال الأرض الوعثة والصلبة من حال الأغبار والنار بما لا قسم في الأرض الموطوة غيره فهو أحق بالمعنى من جميعهم.
وقال المتنبي:
يُخَيَّلُ لي أنَّ البِلادَ مسامعي ... وأني فيها ما تقول العَوَاذِلُ
وهو بيت معنى وذلك أنه أراد لا يستقر في بلد إنما يدخل أرضاً ويخرج منها إلى غيرها فكأنه عذل العذول له يدخل أذنه ويخرج منها، وأراد بقوله إلى العواذل فحذف لعلم المخاطب مراده.
وقال المتنبي:
ومَنْ يبغِ ما أبْغي من المَجْدِ والعُلا ... تساوى المحايى عِنْدهُ والمَقاتِل
قال امرئ القيس:
فقلتُ لهُ لا تبكِ عَينكَ إِنَّما ... نُحاولُ ملكاً أو نموت فَنُعْذَرا
فتبعه الناس في هذا منهم أبو تمام في قوله:
رَكُوبٌ لأَثباج المهالكِ عالم ... بأنَّ المَعالي دُونَهنَّ المَهالِكُ
وقال أبو تمام أيضاً في ممدوح مدحه وقد قال:
وقَدْ قالَ إِمَّا أنْ أُغادرَ بَعْدَها ... عَظيماً وإِمّا أنْ أغَادرَ أعْظُمَا
فجاء بمعنى بيت امرئ القيس في مجانسة مليحة. وقال ابن الرومي:
وَمنْ لمْ يَزلْ في مصعب المجد راقياً ... صِعاب المراقي نالَ أعلى المَراتبِ
فامرؤ القيس بالسبق أولى) الناس (بما قال وأبو تمام فأخذ ببيته كمعنى بيت امرئ القيس بغير زيادة والبيت الثاني فيه مجانسة مليحة رجح بها كلامه وابن الرومي يساوي أبا الطيب في كلامه وابن الرومي بالتقدم أولى بما أخذ عنه.
وقال المتنبي:
ألا ليْسَت الحاجاتُ إلاّ نُفوسكمْ ... وليْسَ لنا إِلاَّ السيوف وسَائلُ
والعلوي البصري:
إِذا اللئيم مط حَاجيه ... وزادَ عَنْ حريم دِرْهميه
فأنهضْ إلى السيف وشفرتيه ... فاستنزل الرزق بمضربيه
إذا قعد الدهر فَقُمْ إِليه
وفائدة هذا البيت فائدة وليس لنا إلا السيوف وسائل فلم يجعل ذلك الرزق إلا منه ولم يجعل هذه الوسيلة في حوائجه غيره ولعل غائباً أن يقول يحتاج إلى إيراد بيت سرقه فيأتي بمتطوع كامل، ولعمري إن هذا قد مضى منا مثله ويمضي في باقي الكتاب، لأنا ما جهلنا ما ذكره ولا عمتنا عما أبصره ولكن قصدناه قصداً وأتيناه عمداً لأن موضوع الكتاب الفائدة للقارئ ولسنا من عليه من الإكثار عاقبة للإضمار بمعنى واحد من السرقات فيريد أن ينقله إلى استماع شعر مطرب أو خبر معجب ليروح عن قلبه ويجلو صدى ما في الانتقال من حال إلى حال من مداواة
(1/308)
القلوب من الإملال. وقد قال بعض الصحابة روحوا القلوب تعي الذكر. وقال أبو الدرداء: إني لأستجّم نفسي بالشيء من الباطل ليكون أعون لها على الحق. وروى عن عطاء بن يسار قال: كان يفض علينا حتى نبكي ويجدينا حتى نضحك، ويقول مرة هكذا ومرة هكذا وقد حضر بشار بن برد مجلساً فقال: لا تجعلوا مجلسنا هذا حديثاً كله ولا غناء كله ولا شعراً كله ولكن تناهبوه فإن العيش فرص ثم يعود إلى موضع التأليف.
ويتلو ما تقدم قصيدة أولها:
ضَيْفٌ ألمَّ برأسِي غَيْرَ مُحْتِشم ... السَّيفُ أحْسَنُ فِفْلاً مِنْهُ باللّمم
العامة تضع الحشمة موضع الاستحياء والعرب تضعها موضع الغضب وقد أستعمل الأرذل في موضع الأفضل وأوجب الاستحياء من الضيوف وميّز عادة هذا
(1/309)
الضيف من عاداتهم وحشمة الضيف إنما تكون من لئيم فأما من أهل الكرم فلا حشمة منهم فأما معنى بيته فهو قوله:) والسيّف أحسن فعلاً منه باللمم (وذلك من قول القائل:
وَصد الغواني عَنْ بِياضٍ بعارضي ... وأعرضن عَنْ لبيك لي عنْدَ مَنْطقي
فليتَ بياض السيف يَوْم لقيتني ... مَكان بياض الشيبِ كان بِمفرقي
ومجيء البياض مكان البياض من الترديد المليح الذي رجح به لفظه فصار أولى بما قال وقد ملح دعبل في تسمية الشيب ضيفاً وهذا يدخل في الاستطراد يريد مديح نفسه بالكرم لمحبة الأضياف في قوله:
ومِقتُ الشيب لَما قيل ضيفٌ ... لحبي للضيوف الطارِقينا
وقال المتنبي:
أبْعَدْ بَعِدْت بياضاً لا بياض لَهُ ... لأنْتَ أسود في عيني من الظُّلمِ
سامح أبو الطيب نفسه في هذا ولم يبلغ علمه إلى ما فيه عليه لأن العرب لا تقول أسود من) كذا (ولا أحمر من كذا إنما تقول في الألوان أشد سواداً) أ (وأشد
(1/310)
حمرة، وهذا رأي البصريين وما ورد ما قاله أبو الطيب إلا في بيتين شاذين غير مأخوذ بهما ولا معول عليهما فأحدهما) من قول الراجز (:
جاريةٌ في درْعها الفضفاض ... أبيض من أخت بني إِباضِ
والآخر:
إذ الرّجالُ شَتوا وأشتدَّ أكلهُمُ ... فأنْتَ أبيضهُمْ سربال طَبّاخِ
هذا حال الإعراب وأما المعنى فأخذه من قول أبي تمام:
لَهُ مَنْظرٌ في العَينِ أبيض ناصِعُ ... ولكّنهُ في القلب أسودُ أسْفَعُ
وقال ديك الجن:
نباتُ في الرؤوس لهُ بَياض ... ولكنْ في القلوبِ لَهُ سَواد
وقد سلم البيتان من اللحن ولم يعد ما حسن الكلام فلفظهما أرجح والسابق أولى بما قال.
وقال المتنبي:
بحُبّ قاتِلتي والشيب تَغْذَيتي ... هواي طفلاً وشَيبْي بالغ الحُلمِ
تقرب ألفاظه من قول أبي علي البصير:
وتَمتعتُ شبابي كلهُ ... وغذائي بالهوى قبل الحلمِ
وقال المتنبي:
وما أمرّ برسم لا أسائلُهُ ... ولا بذات خمار لا تُريقُ دَمي
هذا العموم في لفظه بمسائلة كل رسم وإراقة كل ذات خمار دمه لا أحبه قد يمكن أن يكون الرسم لغير محبوب ويكون ذات خمار مشينة أو عجوزاً فيصير حفاظه في القياس شبهاً بالوسواس.
وقال المتنبي:
تَرْنو إليّ بعين الظّبي مُجْهشةً ... وَتَمْسح الطّلَّ فَوْقَ الوَرْدِ بالعنم
وهذا تشبيه أبي نواس:
يا قمراً أبصرت في مأتمٍ ... يَنْدبُ شَجْواً بَين أتْرابِ
يَبْكي فيذْري الدُّرَّ مِنْ عينه ... وَيلطُمُ الورْدَ بِعُنَّابِ
جعل مكان الطل الدرّ وكلاهما يراد الدموع والعناب مكان العنم والورد بازاء الورد فلا زيادة له على أبي نواس غير أن الطلّ يقع على الورد ويخضر العناب بحيث يخضر الورد من البساتين والدارسين من جنس الأزهار والأثمار فجمع بين أنواع متجانسة ولقائل أن يقول ذكر الدّر هاهنا بمنزلة عين الظبي وأنقطع الكلام ثم عطف ما يتجانس على مثله فالأول أحق به.
وقال المتنبي:
أبديتَ مِثْلَ الذي أبْديتُ من جزعٍ ... ولمْ تُجنّي الذي أجنيتَ من ألمٍ
وهو من قول أبي نواس:
زعمتم بأنَّ البين يْحزنكُمْ نعم ... سيُحزنكُمْ علْمي ولا مثل حزْننا
وفي كلام أبي الطيب جزالة يفضل أبا نواس ورجح كلامه على كلامه فهو ولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
أرى أناساً ومحصولي على غنمٍ ... وذكر جودٍ ومحصولي عَلى كَلمِ
أما صدر هذا البيت فمن قول أبي تمام:
لاَ يَدْهمَّنكَ مِنْ دهمائهمْ عَدَدُ ... فإِنَّ جُلَّهُمُ بل كُلَّهُمْ بَقَرُ
وأما عجزه فمن قول أبي تمام:
مُلْقَى الرَّجاءِ ومُلْقى الرَّحْلِ في نفرٍ ... الجُودُ عِنْدهمُ قَولُ بلا عَمَلِ
مثله للقائل:
جاءني الصك بالشعر ولكن ... لمْ أحْصِل سِوى استماعُ الكلام
فالمعنى يساوي المعنى ولكن قد استوفى اللفظ الطويل في الموجز القليل وأتى في بيت واحد فصار أحق بذلك من الأول: وقال المتنبي:
وَرُبَّ مالٍ فقيراً من مُروتّهِ ... لَمْ يُثر مِنها كما أثْرى من العَدَمِ
هذا من قول البحتري:
إِذا المرْءُ له يحصل غِناهُ ذَرِيعةً ... إلى سُؤْدُد فأعدد غِنَاه من العدْمِ
ومعنى البحتري أوضح لفظاً وأرجح.
وقال المتنبي:
سَيصحبُ النَّصْلُ مِنّي مثل مضربه ... وتتجلى خبرتي عن صِمّة الصِّممِ
فائدة هذا البيت أن النصل قد صحب منه مثله فهذا موجود في قول مسلم:
أتتكَ المطايا تبقى بمطيةٍ ... عَليها فتىً كالنَّصْلِ يَصْحبه النَّصْل
وهذا مما يدخل في قسم المساواة والسابق به أولى به من السارق.
وقال المتنبي في الخيل:
فالطعنُ يُحْرِقها، والزَّجْرُ يُقلقُها ... حتى كأنَّ بها ضَرْباً من اللَّممِ
قال البحتري في فرس:
وتظنُّ رَيْعَانَ الشَّباب يَروُعُهُ ... من نشوة أو جنَّة أو أفكَلِ
فجمع البحتري أوصافاً متقاربة ومعان متناسبة لم تحصل لأبي الطيب منها غير صفة واحدة فكلام البحتري أرجح وهو أولى بما قال.
وقال المتنبي:
تُنْسى البلاد يروق الجو بارِقَتي ... وتكتفي بالدَّمِ الجاري مِنَ الديمِ
وهذا البيت رديء الصنعة إنما يكتفي بالشيء عن الشيء إذا ساواه، والديم لا تكفي البلاد بالدم عنها لأن الأرض لا تشرب الدم ولا تنبت عنه فليس تشبيهه تشبيهاً صحيحاً.
وقال المتنبي:
إِنْ لم أدعك على الأرماحِ سائلة ... فلا دُعيتُ ابن أُمّ المجدِ و) الكرم (
هذا يقرب من قول ابن دريد:
خَيْرُ النفوس السّائلاتُ جَهْرةً ... على ظُبات المُرْهفاتِ والقَنَا
يتلوها أبيات أولها:
أبا سَعيدٍ جنّبِ العتابا ... فَرُبّ رائي خطاءٍ صَوَابا
يقرب هذا من قول منصور النمري:
لعلَّ له عُذراً وأنْتَ تَلُومُ ... وكم لائم قَدْ لام وهو مُلِيمُ
وليس في هذه الأبيات معنى رائق ولا لفظ فائق وكذا أكثر مقاطعه لا يلحق بقصيدة وقد رغب عن أشياء من شعره لا يستحق الرغبة عنها وأثبت أشياء لا فائدة فيها لغرض له وافقه لا لحسن الشعر.
ويليها أبيات أولها:
شَوْقي إِليْكَ نفى لذيذَ هُجُوعي ... فارقتني فأقامَ بين ضُلُوعي
ليس في هذا الكلام معنى غير المطابقة بين المفارق والمقيم وذلك موجود في قول البحتري:
رَحلَ الظاعِنونَ عَنّك وأبقَوْا ... في حَواشي الأحْشَاءِ حُزْناً مُقِيمَا
وهذا يدخل في باب المساواة، والسابق أولى به من اللاحق.
وقال المتنبي:
ما زِلتُ أحْذر مِنْ وداعِكَ جاهداً ... حتى اغتدى أسفي عَلى التَوْديع
معنى هذا البيت: أني كنت أحذر الفراق فلما وقع البعد أسفت على التوديع لما نلت فيه من اللذة والعناق كما قال أبو تمام:
منْ يكنْ يَكْره الفراق ... فإِني أشْتهيه لموضعِ التسليم
إِنّ فيه اعتناقه لوداع ... وانتظار اعتناقه لقدومِ
وكلام أبي تمام أشرح ومعناه أرجح فهو أولى بما أخذ عنه.
وقال البحتري:
أُحاذرُ البينَ من أجل النوى ... طوراً وأهواه من أجل الفراقِ
ويلي ذلك أبيات أولها: أيَّ مَحلّ أرْتقي؟ أيَّ عظيمٍ أتَّقِي؟
وكُلُّ ما قَدْ خِلَق ... الله وما لمْ يَخْلُقِ
مُحْتقرٌ في هِمَّتي ... كَشعْرةٍ في هِمَّتي كَشعْرةٍ في مَفْرِقي
هذه أبيات فيها قلة ورع أحتقر ما خلق الله عز وجل وقد خلق الأنبياء والملائكة والصالحين وخلق الجن والملوك والجبارين وهذا تجاوز في العجب الغاية ويزيد على النهاية وقد تهاون بما خلق وما لم يخلق فكأنه لا يستعظم شيئاً مما خلق الله عز وجل الذي جميعه عنده كشعرة في مفرقه.
وهذا مما لا أحب إثباته في ديوانه لخروجه عن حد الكبر إلى حد الكفر.
ويلي هذا مقطوع أوله: أنا عاتب لتغيبك متعجب لتعجبك قال فيها: إذ كنت حين لقيتني متوجعاً لتغيبك وقال أبو تمام:
وولهتُ إِذ رُمَّتْ رِكابُكَ للنَّوى ... فكأَنِني مُذْ غِبتَ عَنِّي غائِبُ
وما فيها غير قوله:
فَشغلت عَنْ رد السلام ... وكان شغلي عنك بك
وبعدها أبيات فارغة أولها:
أرى الشطرنج لو كانت رجالا ... تهز صفائحاً وقتاً طوالا
ومثلها لا يشتغل بها، وبعدها بيت منفرد وهو:
إِذا لمْ تَجدْ ما يَبْتُرُ الفقْرَ قاعداً ... فَقُم فأطلب الشَّيء الَّذي يبتر العُمرا
وهذا بيت جيد وفيه مطابقة بين القيام والقعود وفيه من ترديد اللفظ في يبتر ما يستحسن ولكن لا أحب لشاعر قادر على الكلام محكم في النظام أن يعمل بيتاً مفرداً بغير ثانٍ فإذا فعل هذا فينبغي أن يكون البيت باهراً ومعناه نادراً كما حكي عن الرقاشي أنه قال:
لَوْ قيل من رجلٍ طالتْ بلبته ... لاستعجلت غيرتي حتى أقول أنا
قال بعض الأدباء: لقيته فقلت له ما أحسن ما قلت لو جئت له بثان قال: فعمل نحو الأربعين بيتاً ليس فيها بيت يلحقه ثم قال:
وَلوْ قضى حزناً مستهتر كَلف ... لكنتَ أول محزون قَضى حُزْنَا
وما كان يعجزه مع قدرته على أن الشعر أن يكون لهذا البيت أبيات تليه في معناه ومن مفردات قوله:
في الصدقِ مندوحة عن الكذب ... والجدُّ أولى بِنا من اللعبِ
هذا فارغ ولو جاء بقصيدة مثله لوجب طرحها.
وقال بعده:
أنْصُرْ بجودكَ ألفاظاً تركتُ بها ... في الشَّرق والغربِ من عاداك مكبوتا
فَقَدْ نَظرتُكَ حتى حانَ مُرْتحلٌ ... وذا الوداعُ فَكُنْ أهلاً لما شِيتا
معناه فكن أهلاً لما تنبئت من الإحسان أو ضده وقد قيل فيمن هو في هذا المعنى فيمن هو أرفع بدراً ممن مدحه أبو الطيب وهو طاهر بن الحسين ما هو أكثر تهدداً وأعظم توعداً قال فيه ابن الجهم:
أ) طاهرُ (إنّي عنْ خُراسان راحل ... ومُسْتَخبر عنها فما أنا قائِلُ
أأهجوك أمْ أثني عليك فأيما ... تخيرتَ أهْدَته إِليك المحافِلُ
وقال ابن الجهم في مثله:
عِنْدي خِيارات فأختر والخيار ... لِمَنْ في مثل رأيك إِلا يقبلُ الغبنا
واعلمْ بأنَّكَ ما أسْديت مِنْ ... حَسن إِليّ أو شي وقتك الثمنا
فقد خبر أبو الطيب في قوله ما شئت ولكنه كلام مجمل غير مشروح ولعلي شرح واضح وإن طال فكلاهما محسن وبازاء المختصر المشروح وإذا جعلنا التطويل بازاء المشروح دخل هذا الشعر في باب المساواة ولو شاء الناظر فيها لأدخلها في قسم نقل الطويل الكثير إلى الموجز القصير فصار أبو الطيب أرجح كلاماً من غيره.
ويلي هذين البيتين قصيدة أولها:
أشى الرقيبَ فَخانتْهُ ضمائرهُ ... وغيَّضَ الدَّمْعِ فأنهلّتْ بَوادِرُهُ
وكاتم الحُبّ يوم البين مُنْتهكٌ ... وصاحبُ الدَّمْعِ لا تَخْفى سَرائرُهُ
هذا معنى مستعمل لا يعبأ بمثله ولكنه لم يحقره فأوجب أن يقول أخذ هذا من بيت أنشده المبرّد:
وأظهرت الدموع هَوىً مصوناً ... ولمْ نر فاضحاً مِثْل الدموع
وقال المتنبي:
نُعْجٌ محاجرُهُ، دُعْجٌ نَواظِرُهُ ... حُمْرٌ غَفائِرُهُ، سُودٌ غدائِرُهُ
جاء أبو الطيب بحمر غفائره بين صفات الخلق ولو كانت خضر العقائر أو صفراؤها لم يفد ذلك إلا إفادة الخمر ولو قال بيض ترابيه، سود غدائره طابق بين البياض والسواد وكان البيت كله في صفات الخلق لكان أحسن.
وقال المتنبي:
أعارني سُقْم عَينيهِ وَحمّلني ... مِن الهوى ثِقْلَ ما تحوي مآزرُهُ
قال الخبزأرزي:
وأسقمني حَتّى كأني جُفُونُه ... وأثْقلني حتى كأني رَوَادِفُه
وكلام أبي الطيب أرطب ومعناه أعذب فهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
يا منْ تَحكَّمَ في نَفْسي فَعذبني ... ومَن فُؤادي على قَتْلي يُضَافرُهُ
بِعَودة الدَّولةِ الغَرَّاء ثانيةً ... سَلوتُ عنك ونامَ اللَّيلَ ساهِرُهُ
بيتاً يخبرنا بمضافرة قلبه على قتله إذ خبّر بعودة الدولة للممدوح بسلو حادث ونوم عمّن يحب، وليس هذا يسلي الحب إنما يسلي بموت مؤنس أو فراق طويل وهذا كثير فمنه قول مسلم:
يُضافره قَلْبي عليَّ جَهالةً ... ويوشك يسلو حبّه ثم يَنْدِمُ
وقال ابن الأحنف:
قَدْ صِرتُ عبداً لأذني من ... يلوذ بكم فيما مضى مولى مواليك
قلبي محبٌ لكم راضٍ بفْعلكم ... أستروق الله قلباً لا يحابيك
وهذا يدخل في نقل الطويل الكثير إلى الموجز القصير وهو كله في نصف بيت لأبي الطيب وهو: ومن فؤادي على قتلي يضافره.
فهذا أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
مِنْ بَعْد ما كانَ لَيْلِي لا صَباحَ لَهُ ... كأنَّ أولَ يَوْمِ الحَشْرِ آخرُهُ
وهذا من قول ابن أبي الحرث:
كمْ ليلةٍ قَيل لا صباحَ لها ... أحببتها قابضاً على كَيدي
وقال الحماني:
يا ساعةَ البين أنْبري فكأنَّما ... واصلتْ ساعاتُ القيامةِ طُولا
وقال ابن الرومي:
وكأنَّ ليلته عليَّ طُولها ... باتتْ تَمّحضُ عنْ صباح الموقفِ
وكل هذه المعاني داخلة في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
قَدْ اشْتكتْ وحْشةَ الأحْياءِ أرْبُعُهُ ... وخبّرتْ عَنْ أسى الموْتى مَقابِرُهُ
العبارة عن الموتى بالأسى محال، وأحسن من قوله قول البحتري:
تحمّلَ عنه ساكتوهُ فجاءةً ... فعادتْ سواءً دُورُهُ ومَقابرُهُ
وقال المتنبي:
دَخَلتْها وشعاعُ الشَّمْسِ مُتَّقِدٌ ... ونورُ وجْهِكَ بين الخلق باهرُهُ
وليس هذا مما يعبأ ولكنه مأخوذ من قول البحتري:
والشَّمسُ ماتِعةٌ توقَّدُ بالضُحى ... طَوْراً ويُطْفئها العجاجُ الأكْدَرُ
حَتَّى طلعْتَ بضوءِ وجْهكِ فانْجلى ... ذاك الدُجى وانجابَ ذاك العَثيرُ
قد جمع أبو الطيب اللفظ الطويل في الموجز) فهو أحق بما أخذ (.
وقال المتنبي:
في فَيْلق من حديدٍ لَوْ قَذَفْتَ به ... صَرْفَ الزَّمانِ لما دارَتْ دَوائِرُهُ
ينظر إلى قول أبي تمام:
أمطرتهُمْ عزماتٍ لو رَميْتَ بها ... يومَ الكَريهةِ رُكنَ الدَّهْرِ لانْهدا
ولفظه من لفظ أبي العتاهية:
وأخلاقٌ تَركْنَ الدَّهر ... لا تعدو دَوائرُهُ
وقال المتنبي:
تَمْضي المواكبُ والأبصارُ شاخِصةٌ ... منها إلى المَلكِ الميْمُون طائِرُهُ
وليس هذه المعاني مما يشتغل بإخراج السرقة فيها ولكن قد استحسن أخذها فحسبنا أن يظنّ بنا ظانٍ أنّا لم يعلم أصولها فيعبر عنها بجهلها فضلاً عن إغفالها فاحتطنا بذكرها، وهذا يدخل في قسم باب المساواة.
وقال المتنبي:
قَدْ حِزنَ في بَشر في تاجه قَمَرٌ ... في درْعه أسدٌ تدمي أظافرُهُ
هذا من قول أبي نواس:
وإذا مج الفتى علقماً ... وتراءى الموت في صُورْهِ
راحَ في ثيني مفاضَتهِ ... أسد يدْمي شبا ظُفُرْهِ
كلام أبي نواس أجزل غير أن أبا الطيب جمع صفات لم يجمعها أبو
نواس فبازاء جزالة لفظ أبي نواس ما جمعه أبو الطيب من متفرق الصفات حتى دخل ذلك في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
حُلْوٍ خَلائِقُهُ شُوْسٍ حقائِقُهُ ... تُحْصى الحَصَى قبل أن تُحصى مآثِرُهُ
قال ديك الجن:
نغدو على سيّدنا نحصي الحصى عدداً ... في الخافقين ولا تحصى فَواضِلُه
جمع بيت ديك الجن في بعض بيت أبي الطيب وهذا يدخل في نقل اللفظ الطويل في الموجز القليل، وقال ابن دريد:
يُحْصى الحَصى والثُرى ونائله ... لا يتعاطا أدناه من حَسِبا
وقال المتنبي:
تَضيقُ عن جيشه الدُّنيا فلو رحُبت ... كصدْره لَمْ تَبنْ فيها عساكِرُهُ
هذا كقول أبي تمام:
وَرْحب صَدْرٍ لو أنّ الأرضَ واسعةً ... كرحبه لم يضقْ عن أهله بلدُ
وهذا مما يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
تحْمي السُّيوفُ على أعدائه مَعَهُ ... كأنَّهُنَّ بنُوهُ أوْ عشائِرُهُ
قال أبو تمام:
فإِنَّ المنايا والصَّوارم والقَنا ... أقاربُهُمْ في الرّوع دُون الأقاربِ
وهو ينظر إليه، وفي معنى قول أبي الطيب قول أبي تمام أيضاً:
كأنّها وهي الأرواح والغةٌ ... وفي الكُلى تَجِدُ الغَيْظ الذي نَجِدُ
وقال ابن المعتز:
يَغضبُ الدَّهر لغضبه ... فكأنَّ الدَّهرِ مِنْ نفرهِ
وهذا مما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
إِذا انتضاها لحرْبٍ لمْ يدع جسداً ... إلاّ وباطنُهُ للعين ظاهِرُهُ
هذا مأخوذ من قول ابن الخطيم:
ملكتُ بها كَفّي فأنْهرتُ فَتْقها ... يرى قائمٌ من خَلفِها ما وراءها
وهذا يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
فَقَدْ تَيقّنّ أنّ الحقَّ في يَدِهِ ... وَقَدْ وثَقْنَ بأنّ اللهَ ناصرُهُ
والمليح قول أبي تمام:
ما إِنْ يخافُ النصر من أيّامِهِ ... أحَدٌ تَيَّقنَ أنّ نَصْراً ناصرُهُ
ففي هذا البيت تجنيس من ذكر النصر الذي هو مصدر، والنصر الذي هو اسم فقد زاد لفظه ورجح فصار أبو تمام به أحق.
وقال المتنبي:
فخاضَ بالسَّيفِ بحْر الموت خَلْفُهمُ ... وكانَ مِنْهُ إلى الكَعْبينِ زاخرُهُ
وقال أبو تمام:
وقَدْ علم القِرْنُ المُساويك أَنَّهُ ... سَيَغْرقُ في البحر الذي أنْت خَائِضُ
ولم يفد أبو الطيب بأن خبّر عنه بخوض بحر الموت خلفهم فإن بحر الموت لم يجاوز يعني الخائض زاخره، وأبو تمام ذكر أنه خاض ما غرق فيه مساويه، ولم يخبر أبو الطيب بذلك فقد رجح كلام أبي تمام وأستحق المعنى.
وقال المتنبي:
حتّى انْتهى الفرسُ الجاري وما وَقَعتْ ... في الأرضِ من جيف القتلى حوافرُهُ
قال محمد بن علي الجواليقي:
بينا يَرى فارساً على فرسٍ ... إِذْ صار نعلاً لموطئ الفرس
فالإشارة واحدة إلى معنى مساو فهو يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
لا يخْبرُ النَّاسُ عظماً أنت كاسِرُهُ ... ولا يهيضُونَ عظماً أنْتَ جابرُهُ
قال البحتري:
كسرْتُم كسر الزُّجاجةِ بَعْدَهُ ... ومَنْ يَجْبرُ الوهي الَّذي أنْتَ كاسرُهُ
وقال البحتري:
رُبّ عظم قَدْ هَضته كان ذا جبرٍ ... وعظمٌ منعته أن يهاضا
وفي البيت الأول من قول البحتري تمثيل للكسر بالزجاجة التي لا جبر لها وجعل الممدوح ممن لا يجبر وهي كسره، ومثل ذلك قول القائل:
لا يجْبرُ النّاسُ عَظْمَ ما كَسرُوا ... ولا يهيضُونَ عظم ما جَبرُوا
وهذه أبيات متقاربات المباني والمعاني تدخل في المساواة.
ويتلوها قصيدة أولها:
عَزيزٌ أسىً من داؤُهُ الحدقُ النُّجلُ ... عَياءً به ماتَ المُحبّون مِنْ قَبْلُ
هذا يقرب من قول ابن المعتز.
يا مَنْ يَلومُ على الهوى ... دَعْني فذا داءٌ قديمُ
هذا أرق وأعذب من بيت أبي الطيب وإن كان معناهما غير غريب وهذا من نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي.
وقال المتنبي:
ومَنْ شاءَ فَلْينظُرْ إليَّ فمنظري ... نذيرٌ إلى مَنْ ظنّ أنّ الهوى سَهْلُ
يقرب هذا من قول محمد بن عبد الملك الزيات:
مَنْ سَرهْ أنْ يرى مَيت الهوى ... دنفاً، فليستدل على الزيات وليقف
وقال آخر:
من رآني فلا بد تمن لحظاً ... وليكن في جنبيه سامريا
وكلها مبانيها ومعانيها متساوية والسابق أحق بما قال.
وقال المتنبي:
جَرى حُبّها مَجْرى دمي في مَفاصلي ... فأصْبحَ لي عَنْ كل شُغْلٍ بها شُغْلُ
أما صدر هذا البيت فمن قول أبي الشيص:
أما وحرمة كأسٍ ... من المدامِ العتيقِ
وعقدُ نحرٍ بنحرٍ ... ومزجُ ريقٍ بريقِ
ولقد جرى الحبُّ منّي ... مجرى دمي في عروقي
وقال المجنون:
وَشُغلتُ عَنْ فهم الحديث سوى ... ما كانَ منك فأهانهِ شُغْلي
وأديم نحو محدي ليرى ... أنْ قد فهمت وعندكم عَقْلِي
وقال البحتري:
وألحاظ عَيْنٍ ما عَلِقْنَ بِفارغٍ ... فَخلينه إلا وهنّ له شُغْلُ
وقال المعرج:
يكبرن من شوق الذي كُلَّ شوقةٍ ... ويجعلن شغلاً لأمرٍ ما له شُغْلُ
ولولا أن هذا البيت معلم الظرفين مسروق النصف لم ينفرد فيه بمعنى ولا زيادة لدخل في جملة ما نقل من اللفظ الطويل إلى الموجز القليل لأنه قد جمع ألفاظ بيتين في بيت ولكنه مسلوب فينبغي أن يغفر له باختصاره ذنب سرقته.
وقال المتنبي:
ومِنْ جَسدي لمْ يترُكِ السّقْمُ شعرةً ... فما فَوْقها إِلاّ وفيها لهُ فعْلٌ
أخذ هذا من المسلمي:
لم يتق من بدني جُزء عِلمتُ به ... إِلاّ وقدْ حلَه جُزء من الحزنِ
وينظر إلى هذا بيت ثاني:
دعيني جهاراً إلى حُبها ... ولمْ تدر أني لها أعْشقُ
فقمتُ وللسَّقم من مَفْرقي ... إلى قدمي ألسن يَنْطِقُ
وبيت المسلمي تقرب صنعته من صنعة بيته وكلام المسلمي بالعذوبة أرجح فهو أولى بما أخذ.
وقال الديك:
تراكَ يظن فيه مَقر عضو ... ببيتٍ ومَا تغمده سِقامُ
وقال المتنبي:
إِذا عَذَلُوا فيها أجَبْتُ بأنّةٍ ... حُبَيِّبتا قَلْباً فؤاداً هَيا جُمْلُ
هذا ترفق جاف متكلف ومتفاصح متعجرف وليس هذا مما يطلب له استخراج سرقة.
وقال المتنبي:
كأنَّ رقيباً منك سدّ مسامعي ... على العَذْل حتَّى ليس يَدْخُلُها العَذْلُ
إعادة العذل هاهنا مرتين قبيح في الكلام جائز في الشعر أنشدنا في مثله أبو بكر بن سيار النحوي قال: أنشدناه أبو جعفر أحمد بن محمد بن النحاس:
لعمرك ما معن بتارك حقّه ... ولا منسئ معن ولا متيسر
فأعاد معناً مرتين والأجود ترك إعادته وهو مسروق من قول مسلم:
مللتُ من العُذّال فيها فأطرقَتْ ... لهم أذُنٌ قَدْ صَمّ مِنْها المسامعُ
ومن قول أبي العتاهية:
أريح حب الصبي عن بصري ... وسد سمعي عن الملامات
وليس في هذه الأبيات فائدة أكثر من أنّ القوم قد أخبروا أنهم لا يسمعون العذل في محبهم وقد زاد أبو العتاهية عليهم بالعمى والصمم وذلك يدخل في باب المساواة وإن كان كلام مسلم أجزل.
وقال المتنبي:
كأنَّ سُهادَ الليلَ يَعْشُق مُقْلتي ... فبينهما في كل هَجْرٍ لَنا وَصْلُ
وهذا يحتاج إلى شرح كاف يجب أن يقول:
سُهادَ العينِ تَعشق مُقلتي ويفرق ... مَعشوقتي فإِذا هجرت أغتنم وصلي في عينيها
وقال المتنبي:
(1/331)
أحِبُّ التي في البدْر منها مشابه ... وأشكو إِلى مَنْ لا يُضابُ لَه شَكْلُ
جاء في هذا البيت بما يشكل وخبر بحبه من يشبه البدر وخبر عن شكوى إلى من لا شكل له كان يشكو حاله إلى الممدوح فحسن وإن كان يشكو محبوبته إلى ممدوحه فقد أساء وأبتذله كما أبتذله أبو نواس في قوله:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالدٍ ... هواكَ لعلّ الفَضْلَ يجمعُ بيننا
وما فرحت بالمبتدئ فكيف بالمقتدي.
وقال المتنبي:
إِلى سَيِّدٍ لو بشّر اللهُ أمّةً ... بغير نبيّ بَشّرَتْنا به الرُّسْلُ
ينظر معناه إلى قول ابن الرومي:
فَلوْ نزلتْ بعد النبيين سورة ... إِذا نزلتْ في مدحه سُوراتُ
وقد بشرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمهدي وليس بنبي.
وقال المتنبي:
إلى القابضِ الأرْواح والضّيْغم الذي ... تُحدّثٌ عن وقْعاته الخَيلُ والرَّجْلُ
والصحيح عن وقعاته - بفتح القاف والتسكين - من مألوف ضروراته.
وقال المتنبي:
إلى ربّ مالٍ كلما شَتَّ شَمْلُهُ ... تجمع في تشتيته لِلْعُلا شَمْلُ
(1/332)
قال أبو تمام:
لَهُ كلّ يَوْمٍ شَمْلُ مجدٍ مؤلّفٍ ... وَشممّلُ ندىً بينَ العفاةُ مَشتّتِ
وليس يزيد بيت أبي الطيب على هذا في مبنى ولا معنى فهو أحق للسبق، وقال أبو تمام:
قَومُ إِذا فَرقوا شَمْل اللهى جَمعوا ... شَمْلُ العُلى وإِذا لمْ يرضهم قُمْتُ
فقد أتى بمعنى مستوفى وأتى بزيادة في آخر البيت فصار أحق بما أخذ منه بزيادة لفظه على لفظ من أخذ عنه، وقد أخذ منه هذا البحتري فقال:
ومعالٍ أصارها لاجتماعٍ ... شَمْلُ مالٍ أصارهُ لافْتِراقِ
قال بعض الأعراب:
أعاذلني لَومي البخيل على البخلِ ... ولا تكثري لَوْم البذولِ على البذلِ
ذريني وهذا المجد أجمع شمله ... ويصبحُ مالي وهو مفترق الشملِ
وهو من التساوي. وقال المتنبي:
همَّامٌ إِذا ما فارقَ السيف غِمْدَهُ ... وعايَنْته لم تدْرِ أيّهُما النَّصْلُ
(1/333)
وقال الحماني:
إِنّي وقومي منْ إحسان قومهم ... كمسجد الخيف مِنْ بحبوحة الخيف
ما علقَ السيف مِنا بابن عاشرة ... إِلاّ وهمّتُه أمضى من السيفِ
وأوضح من هذا قوله أيضاً:
تستأنس الضيف في أبياتنا أنساً ... فليسَ يعلم خلق أينا الضيف
والسيف إِنْ قستَهُ يوماً بناشئنا ... في الروع لم تَدرْ عزماً أينا السيف
فليس في بيت الحماني حشو لأن الناشئ مفيد أن عزمه في حال الحداثة التي يطعن على أهلها بها لأن جهلها معذور وعلمها محقور بمنزلة السيف مضاء قوله في الروع أيضاً مفيد لأنه يسلب المحتنكين عزائمهم وحديث فراق السيف غمده وذكر المعاتبة حشو مذموم وما زاد عليه في المعنى ولا المبنى فصاحب البيت أحق به.
وقال المتنبي:
(1/334)
على سابحٍ موج المنايا بنحره ... غداةَ كأنَّ النَّبْل في صَدْره وبلُ
قال محمد بن الحسن الأسدي المعرج في جيش: في ذي صهيل ونبله من نبله فقد أتى المعرج باللفظ الطويل في الموجز القليل فهو أحق بما قال.
وقال المتنبي:
إِذا قيل رفْقاً قال للحِلْم مَوْضِعٌ ... وَحِلْمُ الفتى في غيرِ مَوْضِعه جَهْلُ
أصل هذا من قول الأول:
وبعضُ الحلم عِند الجَهْ ... ل للذَّلَّةِ إذْعانُ
وقال ابن الرومي:
حليمٌ إذا ما الظلم أحمد عبه ... وآل إلى العُقبى التي هي أسلمُ
جَهول على الأعداء جهل ركانه ... يُداوي بها جهل الجهولِ فيحسمُ
وقد طول ابن الرومي وزاد في الشرح وما زاد على إيراده معنى أبي الطيب.
وقول الآخر:
جَهول إِذا أزرى التحكم بالفَتَى ... حليمٌ إذا أزرى بذي الحسب الجهلُ
(1/335)
ومعنى هذا يوافق معنى بيت أبي الطيب بغير زيادة فهو يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
وَلوْلا تولي نفسه حَمْل حلْمه ... عنْ الأرض لانهدَّتْ وناءَ بها الحِملُ
قد خبر في البيت الأول أنه قد يفارق الحلم لموضع إصلاح نفس الجاهل لجهله الذي يكف الجاهل عن الطمع فيه ثم أفرط في وصف حلمه بعد ذلك والمعنى الصحيح ما قال البحتري:
مَعْشر أمسكَتْ حلومُهم الأر ... ضَ، وكادتْ من عزِّهم أنْ تَميدا
وهذا الكلام يرجح على كلام أبي الطيب بالإخبار عن سكونها بهم وميدها بغيرهم. وقال المتنبي:
تَباعدت الآمالُ عنْ كل مَقْصدٍ ... وضَاقَ بها إِلاّ إلى بابهِ السُّبْلُ
قال العكوك:
إِليه سبيل الناسِ في كُلِّ وجهةٍ ... ولو فقدوها ما اهتدوا لسبيلِ
وقال مسلم:
من كلِّ حيٍّ وإن أثروا وإن شرفوا ... إليكَ من كل أرضٍ منهجُ الطُّرُقِ
(1/336)
وقال أشجع:
بسطتْ يداهُ رجاءَ سائلهِ ... فجرتْ إليه بأهلها السُّبُلُ
ذكر أبو الطيب أن الآمال عن كل مقصد تباعدت وضاقت بها إلا إلى بابه السبل. فكأن قاصديه مضطرون لتعذر الكرام، تضييق الغرض إليه لطلب ما عنده ومسلم يقول: إن المثري والشريف وغيرهما إليه راغبون في كل أرض، فكلامه أرجح من كلام من أخذ عنه. وذكر أشجع أنه بسط رجاء آمليه فجرت إليه بأهلها السبل. وقد يكون ذلك من اتساع المطالب واتجاه المكاسب لزيادته على غيره في الجود. وكلٌّ أحسن تحلصا منه وأرجح مدحا، فهم أولى بما سبقوا إليه.
وقال المتنبي:
ونادى النَّدى بالنائمين عن السُّرى ... فأسمعهم: هبُّوا فقد هلك البُخلُ
هذا ينظر إلى قول أبي نواس:
إذا ضنّ ربُّ المال ثوَّبَ جودهُ ... بحيٍّ على مال الأمير وأذناَ
ولابن الرومي في معناه:
ثوَّبَتْ بي إلى عليَّ معالي ... يهِ فلبَّيْتُ أول التثويبِ
وقال أبو العتاهية:
إذا أُسمي المهديُّ نادتْ يمينهُ ... ألا من أتاني زائراً فله الحُكمُ
(1/337)
وهذه أبيات متقاربات تدخل في باب المساواة، وإن كان أبو الطيب أوضح كلاماً منهم. وفي قوله:) فأسمعهم (مقاربة للفظ ابن الرومي في قوله:) فلبيت (.
وقال المتنبي:
وحالتْ عطايا كفَّهِ دون وعدهِ ... فليس له إنجازُ وعدٍ ولا مَطْلُ
قال البحتري:
حيثُ لا تدفع الحقوقَ المعاذي ... رُ ولا يسبقُ العطايا السُّؤالُ
فقوله:) لا يسبق العطايا السؤال (هو بيت أبي لطيب، وفي صدره معنى يرجح عليه به.
وقال البحتري أيضا:
رَطْبُ الغمامِ إذا ما استمطرتْ يدُهُ ... جاءت مواهبه قبلَ المواعيدِ
وقال ابن الرومي:
وكثيراً ما كان يفعلُ ما يح ... سنُ من غيرِ أن يُقدمُ وعدا
وقال أبو المعتصم:
الفعلُ قبل القول من عاداته ... والعُذرُ من قبل النَّوالِ الأعجلِ
وأجود من هذا قول أشجع:
(1/338)
يَسْبقُ الوعد بالنَّوال كما يس ... بقُ برق العيون صَوْبَ الغَمامِ
بيت ابن الرومي الأوّل معناه أنّ العادة تقتضي أن السؤال قبل العطاء وإذا لم يسبق السؤال العطاء فكأنه قبل أن يسل أعطى، والإعطاء من غير وعد قد يمكن أن يكون بعد سؤال وتقدم الرفد قبل الوعد أفضل، فكلام البحتري أمدح وكذلك البيت الثاني له وكذلك بيت ابن الرومي وبيت أبي المعتصم يسوغ فيه أن يسبق النوال السؤال والوعد.
وقد قال ابن المعتز:
سَبق المواعِد والمطالَ عطاؤه ... فأتى رجاء الراغبين سَرِيعا
وقد قال ابن الحاجب:
سَبَقتْ وعدُ عطاياه فاعت ... ضت بها من يُشْبه الوعد نَقْدا
وقال أيضاً:
كَرم أبطلَ المواعيد ... بالمطلِ فأضحى وما لهُ موعود
هذه معان متقاربات، إلا أن أشجع قد زاد عليهم بتشبيه مليح من البرق الذي يتقدم الغمام وكلها تقارب باب المساواة أو تدخل فيه لقلة تفاضلها.
(1/339)
وقال المتنبي:
فأقرب من تحديدها رَدُّ فائتٍ ... وأيْسرُ منْ إحصائها القطْرُ والرّمْلُ
أخذه من قول مسلم:
لَهُ سطواتٌ غبّها الحلْمُ بينها ... فَوائِدُ يُحصي قَبْلَ إِحْصائِها الرَّمْلُ
فإن قلت جمع أبو الطيب بين تشبيهين من) القطر (و) الرَّمْلُ (قلنا إن احتسبت له هذه الزيادة، فقد قال عبد الصمد:
الرمل يفنى ولا تَفنى مكارمُه ... والقطرُ يُحْصى ولا تُحصى عَطاياه
وأبو الطيب يقول) ردّ فائت (قد دل على مقصده وكلما يمتنع عد فائتة وكذا يمتنع عدا القطر والرمل فيه فجعل عدهما ممتنعاً، ومسلم قال:) يحصى قبل إحصائها الرمل (وإذا عد الرمل قبل إحصاء سطواته وفوائده جعل عده ممكناً بعد ذلك لأنّ أبا الطيب وعبد الصمد جعلا ما أمتنع عندهما فناؤه وبعد في ظنونهما إحصاؤه فيمكن الفناء والإحصاء لهما وعطاياه لا يمكن ذلك فيهما، فهو أبلغ مدحاً وأولى بما قال: وقال المتنبي:
وما تَنْقمُ الأيام ممن وجُوهُها ... لأْخمَصه في كل نائبةٍ نَعْلُ
معناه مأخوذ من قول كثير:
(1/340)
وطئت على أعناق ضمرة كلها ... بأخمص نَعلي واتخذتمْ نَعْلا
وفي صدر بيت أبي الطيب مطعن وما في بيته ما يزيد معناه على معنى كثير، فكثير أحق بما قال.
وقال المتنبي:
كَفى ثعلاً فخراً بأنّكِ مِنْهُم ... ودهْرٌ لأن أمسيْتَ من أهْلِهِ أهْلُ
معناه: ودهر أهل لأن أمسيت من أهله. والدهر مرفوع بفعل مضمر يدلّ عليه أول الكلام كأنه قال: وليفخر دهر. وهذا أكثر ما يمكن الاحتجاج له إذ لا مرفوع هاهنا يعطف عليه، ولا وجه لرفعه بالابتداء إلا على حذف الخبر، والفعل أقوى. والاحتجاج له ضعيف لأنه جاء إما من ضعف علم أو تكلف إعراب
(1/341)
ليجيب بهذا الجواب. ومثل هذا من المحدثين قبيح.
وقال المتنبي:
فما بفقيرٍ شامَ برقَكَ فاقةً ... ولا في بلادٍ أنت صيِّبُها محلُ
قال مسلم:
ما ضرَّ أرضاً كنت فيها نازلاً ... يا زيدُ حقاً أنَّها لا تُمطرُ
فأتى أبو الطيب من ذكر البرق والصَّيب والمحل بجنس يتقارب. وذكر مسلم من النزول في الأرض ما ليس من جنس المطر. وقال:) يا زيدُ حقاً (فحشّى البيت بقوله) حقاً (. فكلام أبي الطيب في الصنعة أحسن وأرجح وهو أولى بما أخذ.
ويتلوه قصيدة أولها:
اليومَ عهدُكُمُ فأينَ الموعدُ ... هيهاتَ ليس ليومِ عهدكمُ غدُ
هذا معنى نبهه عليه قول ابن الرومي:
يا سيدي أنجزَ جَرٌّ ما وعدْ ... لم يكن ليومه في الوعدِ غدْ
وهذا يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
إنّ التي سفكتْ دمي بجفُونها ... لم تدرِ أنَّ دمي الذي تتقلدُ
(1/342)
هذا من قول النابغة:
في إثر غانيةٍ رمَتْكَ بسهمها ... فأصابَ قلبكَ غير أن لم تقصدِ
لعل أن التي سفكت دمه لم تدر بسفكه، وأصابت هذه قلبه من غير أن تقصد له. فالمعنى لا يزيد على المعنى، وهو داخل في باب المساواة والأل أحقّ بما قال. وقال ابن أبي فتن:
أذاهبةٌ نَفْسُ المُتَيَّمِ ضيعةً ... وقاتلُها لم يَدْرِ ما صَنَعَ السَّهْمُ
وقال المتنبي:
قالت وقد رأت اصفراري من به ... وتنهدَّتْ فأجبتُها المتَنَهِّدُ
يقرب هذا من قول ديك الجن:
مَرّت فقلت لها: تحية مُغرمٍ ... ماذا عليك من السلام فَسلمي
قالت: لمن تعني؟ فطرفك شاهد ... بنحول جسمك قلت: للمتكلم
فتبسمت فبكيتُ، قالت: لا تُرع ... فلعلّ مِثْل هواك بالمبتسّم
(1/343)
قلتُ: اتفقنا في الهوى فزيارةً ... أو موعداً قبل الزيارة قَدّمي
فتضاحكت خجلاً وقالت: يا فتى ... لو لم أدعك تنامُ، بي لم تَحلمِ
قوله:) قال (لمن تعني في معنى بيت أبي الطيب لكن هذا كلام أعذب ولفظ يبعد من قوله: من به وكم بين قوله:) للمتكلم (وقوله:) فأجبتها المتنهّد (وهذا يدخل في نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي والأول أحق به فكأني بمتتبع العيب يقول أراد بيتاً فأورد أبياتاً يستغنى عن ذكر جميعها ولسنا نعمل هذا في كل ما نريده من السرقات ولكن إذا ورد الشعر الفصيح والمعنى المليح أوردناه بكماله عمداً، وقصدنا ذلك قصداً لأن موضوع الكتاب الفائدة فإن خرجنا عن الغرض وأفدنا القارئ فيه فقد بلغنا المقصد المطلوب وجمعنا له المحبوب وإيراد الخبر النادر والمعنى الباهر يؤمن قارئ الكتاب من الملل علماً بمحبة النفس للاستطراف والنقل فهذا ما حقنا أن نعاب به ثم نرجع إلى موضع التأليف.
قال المتنبي:
فَمضتْ وقد صبغ الحياءُ بياضَها ... لَوْني كما صَبغ اللُّجيْنَ العَسْجَدُ
لأبي الطيب مذهب في الحياء ينفرد به لأنه القائل:
سَفرتْ وَبرْقَعها الحياءُ بِصُفرةٍ ... ستَرتْ محاجرها ولمْ يكُ بُرْقُعا
فكأنه لا يفرق بين تأثير الوجل وتأثير الخجل ونسي قول جالينوس:) الحمرة حادثة عن الخجل والصفرة حادثة عن الغم والوجل (فإن أراد مذهب الفلاسفة فهذا مذهبهم وإن أراد مذهب الشعراء فقد قال ابن المعتز:
(1/344)
يا مَنْ يجودُ بموعدٍ من وصله ... ويصد حين يقول أين الموعدُ
ويظلُّ صبّاغ الحياء بوجهه ... تعباً يعصفر تارةً ويورِّدُ
وقال ابن دريد:
يَصفر وَجْهي إِذا بَصَرتْ ... به خوفاً ويحمر خده خجلا
حتّى كأن الذي بوجنته ... من دم وجهي إِليه قَدْ نقلا
قال الخبزأرزي:
خجل الحبيب من الع ... تابِ فورّد الخد الخجلْ
فحسبت منه غضبا ... فقطعت ذلك بالقبلْ
ما لي وما بعتاب من ... لو شاء يقتلني فعلْ
فقد خالف أبو الطيب مذهب الفلاسفة والشعراء ومشاهدة العيان ومع إحالته فقد سرق المعنى من قول ذي الرمة:
كحلاءُ في برجٍ صفراء في نعجٍ ... كأنّها فضة قَدْ مسها ذهب
فإن توهم متوهم ناقص الفطنة أن علينا في قول ذي الرمة حجة لأبي الطيب فليس كما توهم. لأن ذا الرمة وصفها بصفة ثابتة عليها ولم يجعل الحياء سبباً
(1/345)
لصفرتها. وقد يكون اللون العاجيّ في البشر خلقة لا لعلة. وقد أخذ هذا المعنى بعض المحدثين، أنشده الجاحظ:
بيضاءُ صفراءُ قد تنازعتها ... لونان من فضَّةٍ ومن ذهبِ
فقد بين إرادته وخبَّر عن خلقة لن تتغير لعلة أوجبتها. ومن جعل الحياء علةً للصفرة فقد أحال، والسارق الصحيح المعنى أولى من السارق العليل المعنى.
وبعد هذا بيتان رعد فيهما وبرق، ويقال أرعد وأبرق، وهما موجودا المعنى في قول جهم بن خلف:
وأضحتْ ببغدانَ في منزلٍ ... له شُرفاتٌ دوينَ السَّما
وجيشٌ ورابطةٌ حولهُ ... غِلاظُ الرِّقابِ كأُسدِ الشَّرَى
بأيديهمُ مُحدثاتُ الصِّقالِ ... سُريجيةُ يختلينَ الطُّلى
ومثله:
وكيف بها والعار والنَّارُ دونها ... وآسادُ غيلٍ زأرها ووعيدُها
(1/346)
وبيتا المتنبي:
عدويَّةٌ بدويَّةٌ من دُونها ... سلبُ النُّفوسِ ونارُ حربٍ تُوقدُ
وهواجلٌ وصواهلٌ ومناصلٌ ... وذوابلٌ وتوعُّدٌ وتهدُّدُ
وليس هذا مما يُعبأ باستخراج سرقته، ولكننا نعني بما عني به. وبينا هو في ذكر مرضه يقول:
أبرحْتَ يا مرَضَ الجُفون بمُمرضٍ ... مَرِضَ الطَّبيبُ له وعيدَ العُوَّدُ
حتى خرج خروجا غير مليح ولا متقارب ولا متناسب إلى قله:
فلهُ بنو عبد العزيزِ بن الرِّضا ... ولكلٍّ ركبٍ عيسُهُمْ والفدفدُ
وما أشبه هذا بقوله:
جَلَلاً كما بي فليكُ التَّبرجُ ... أغذاءُ ذا الرَّشأِ الأغنِّ الشِّيحُ
فبينا هو يشكو تباريحه إذ صار عن غذاء الرشأ ما هو. وقد قيل للعجاج: ليهنك ما يقول رؤبة من جيد الشعر. قال نعم ولكني أقول البيت
(1/347)
وأخاه وهو يقول البيت وابن عمه. وهذا الكلام الذي قاله لا يشبه ابن عم البيت ولا يستحق اسم جار قريب. وما أفرح بهذا الخروج ولا استحسنه.
وقال المتنبي: مَنْ في الأنام من الكرامِ ولا تَقُل مَنْ فيك شأمُ سِوى شُجاع يُقْصدُ هذا بيت لا يوجب أن لا يكون في الكرام أحد غير شجاع وهو مأخوذ من قول للأعرابي:
والله ما ندري إِذا ما فاتنا ... طلب لديك من الذي يتطلبُ
ولقَدْ ضَربنا في البلادِ فلمْ نَجد ... أحدُ سواك إلى المكارم ينسب
فأصبرْ لعادتنا التي عودتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهبُ
فذكر البدوي أنه لم يجد أحداً إلى المكارم غيره وهو معنى أبي الطيب وهما يدخلان في قسم المساواة: وقال المتنبي:
أعْطى، فقلْتُ: لجُودِهِ ما يُقْتنى ... وسطا، فقلتُ: لسيفه ما يُولَدُ
الصفة في هذا البيت أن يقول:
أعطى، فقلت لكفه ما يقتنى ... وسطا، فقلت لسيفه ما يولد
(1/348)
أو أن يقول:
لجوده ما يقتنى وسطا ... فقلت: لسيفه ما يولد
فيأتي باسم مع اسم، أو بمصدر مع مصدر وهو ينظر إلى قول أبي تمام في عجزه:
لَمْ تَبْقَ مشركةٌ إلاّ وقد عَلمتْ ... إِنْ لم تَتبْ أنَّهُ للسَّيْف ما تلدُ
ولكن لأبي الطيب زيادة في صدر البيت يرجح بها فهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
وتحيَّرتْ فيه الصّفاتُ لأنَّها ... ألفتْ طَرائِقهُ عليْها تَبْعُدُ
هذا من قول البحتري:
كيف نثني على) ابن يُوسف (لا كي ... ف سرى مَجْدُهُ ففات الثناء
ولم يخبر أبو الطيب إلا بتخير الصفات قد يهتدي إلى وصفه بعد حيرتها، والبحتري خبر عن فوت ما فيه وأنه لا يمكنه فهو أحق لرجحان لفظه على لفظ من أخذ عنه.
وقال المتنبي:
في كُلِّ مُعْتركٍ كُلى مَفْريَّةٌ ... يَذممنَ مِنْهُ ما الأسنَّةُ تَحْمَدُ
وليس للأسنة منفعة في قرى الكلى توجب حمداً وكان يجب أن يقول) يذمم من فعل القنا ما يحمد (لأن الحمد يقع من الطاعن بالأسنة، وينظر إلى هذا قول) ديك الجن (:
(1/349)
بكرت عَواذله وجاءَ عفاته ... فرأيت مَحمود الندَى مَذْمُوما
وهذا مما احتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه وقد أوقع الحمد والذم هاهنا على من يقع الحمد والذمّ منه، والكُلى والأسنة لا يقع منهما ذلك. فتقسيمه، أعني الديك، أوضح وكلامه أرجح وهو أولى بما قال. وقال المتنبي:
أسدٌ، دمُ الأسدِ الهزبرِ خضابُهُ ... موتٌ، فريصُ الموتِ منه ترعَدُ
فمما يشبه صدره صدر هذا البيت قول الخليع الحراني:
عطاءٌ علمتُهُ ذوي العطايا ... أسودٌ غُذِّيَت بدمِ الأُسودِ
هذا البيت يقارب صدر بيت أبي الطيب، وعجزه يشبه قول علي بن محمد البصري:
والليلُ يعلمُ أنِّي ما هممتُ بهِ ... إلا ومنّي قُلوبُ الجِنِّ ترتعدُ
فادّعى البصري مُمكناً في الجنّ لأن الله تعالى قد خبّر عن استماع الجن القرآن، وسماهم نفرا. وإذا كانت لهم أسماه كانت لهم قلوب يرعدها الخوف على وجه المبالغة. وأبو الطيب صيّر الموت، هو عرض، جسما، وصيّر له فريصاً فأحال. ولكنه قد أورد اللفظ الطويل في الموجز القليل، وأتى بيته نائباً عن بيتين فهو
(1/350)
بالاختصار أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
ما منبحٌ مُذْ إلا مقلةٌ ... سهدتْ ووجهُكَ نومها والإثْمدُ
ينظر إلى قول أبي تمام:
إليك هتكنا جُنْحَ ليلٍ كأنَّما ... به اكتحلتْ عينُ البلادِ بإثمدِ
فجعل المتنبي مقلةً، نومها وإثمدها وجهه، وأبو تمام جعل للبلاد عيناً وجعل لها من سواد الليل إثمدا. فالألفاظ متقاربة وإن كانت المعاني مختلفة.
وقال المتنبي إثر هذا:
فالليلُ مُنذُ قدمتَ فيها أبيضٌ ... والصُّبحُ منذُ رحلتَ عنها أسودُ
قال أبو تمام:
وكانتْ وليسَ الصُّبحُ فيها بأبيضٍ ... فعادت وليس الليل فيها بأسودِ
فهذا أخذ فاضح وغصب واضح، لا يليق بمن أخذه أن يقول ما أعرف أبا تمام. وقد ساواه في المبنى والمعنى فالمسلوب أولى بسلبه.
وقال المتنبي:
ما زِلتَ تدنُو وهي تعلُو عِزَّة ... حتى توارى في ثراها الفرقدُ
أخذه من قول الديك:
فيا قبرَهُ جُدْ كُلَّ قبرٍ بجُوده ... وفيكَ سماءٌ ثرَّةٌ وسحائبُ
فإنك لو تدري بما فيكَ من عُلىً ... علوتَ فغابتْ في ثراكَ الكواكبُ
(1/351)
وهذا يدخل في باب المساواة، والسابق أولى به.
وقال المتنبي:
أرضٌ لها شرفٌ، سواها مثلُها ... لو كان مثلُكَ في سواها يُوجَدُ
نبهه البحتري على هذا:
والبيتُ لولا أنّ فيه فضيلةً ... يَعْلُو البيوت بِفضْلها لم يُحْججِ
وقال المتنبي:
أبْدى العُداةُ بك السُّرور كأنهُمْ ... فرحوا وعِنْدهم المُقيمُ المُقعِدُ
قال ابن الرومي:
يهش لذكراكَ العدوّ، وإِنَّه ... ليضمر في الأحشاءِ ناراً تسعَّرُ
وهما تساويا في المبنى والمعنى فالأول أحق به.
وقال المتنبي:
قطّعتهُمْ حسداً أراهُمْ ما بهمْ ... فَتقطَّعوا حسداً لمن لا يحْسُدُ
هذا البيت يحتمل معنيين، أحدهما أنهم لما رأوا ما حل بهم التقطع
(1/352)
بالحسد تقطعوا حسداً كمن عدم الحسد فإن كان أراد هذه فمن قول البحتري أخذه:
وملأت أحشاء العدو بلابلاً ... فأرتد يحسد فيك من له يحسد
فكرم البحتري أوضح وهو يساويه في المبنى والمعنى والسابق أولى بما قال. وإن كان أراد أنهم تقطعوا حسداً للممدوح الذي لا يحسد أحداً فقد أنشد الأخفش:
فحسبني أني لست مثرياً وإن ... كنت ذا عدم ويحسدني المثري
وقال المعوج:
تنبت على غمر عداه ولم يمت ... حسين بن يحيى من عداه على غمر
وكلا البيتين أعذب من بيتي أبي الطيب ولفظه أخفى وأصعب وكذلك بيت البحتري أعذب من كلامه فهم أولى بما قالوا منه.
وقال المتنبي:
حتى انثنوا ولو أنّ حرّ قلوبهم ... في قلب هاجرة لذاب الجلمد
أخذه من قول جرير:
تكلفني هواجر دونهم ... تكاد الحصى من جمنهن يذوب
وقال ابن المعتز:
(1/353)
واليوم تجري بالآكام ... سراته والصخر ذائب
وقال ابن المعتز أيضاً:
ويوم تظلّ الشمس توقد ناره ... تكاد حصى المعزاء منه تذوب
ولكن في بيت أبي الطيب زيادة من تشبيه) حرّ قلوبهم (بحر هاجرة يذوب منها الجلمد فهو أرجح بزيادة التشبيه واستعارة) القلب () للهاجرة (فهو أحق بما أخذ.
وقال المتنبي:
بَقيتْ جُموعهم كأنَّكَ كُلّها ... وَبقيت بَينهمُ كأنَّكَ مُفْرَدُ
قال أبو تمام:
بَيتُ المَقامِ يَرى القَبيلةَ واحداً ... ويُرى فَيحْسَبُه القَبيلُ قبيلا
فأبو الطيب جعل جموعهم كانفراده، وأبو تمام جعل جموعهم كوحدته ووحدته كأجماعهم، فالمعنى واحد، وقال أبو تمام أيضاً:
لَوْ لم يَقُدْ جَحفلاً يوم الوغى لغدا ... من نفسه وَحْدها في جَحْفل لَجِبِ
(1/354)
وقد أخذ معناهما ابن الرومي فقال:
بَلْ لَوْ توحّدْت دون الناس كُلّهمُ ... كُنْت الجميع وكانوا كالمواحيدِ
فخبر ابن الرومي أنك لو توحدت كنت جميعاً ولم يخبر عنه أنه يرى الجميع كالواحد، ففي كلام أبي تمام زيادة يستحق بها بيته، وأبو تمام مخبر محقق وأبو الطيب استعمل) كأن (فصار تشبيهاً والتحقيق أبلغ في المدح من التشبيه فالمحقق أولى بما قال ممن أخذ منه.
وقال المتنبي:
لهفان يستوبي بك الغضب الوَرى ... لَوْ بم يُنهْنهكَ الحجا والسُّؤدَدُ
) يستوبي (من الوباء وكان ينبغي أن يكون مهموزاً ولكنه أستعمل طرد القياس في ترك الهمز وأبدل الهمزة ياء على غير قياس.
وقال المتنبي:
كُنْ حيثُ شئتَ تسر إِليكَ ركابُنا ... فالأرضُ واحدةٌ وأنْتَ الأوْحَدُ
قال أبو المعتصم:
صِرْ من الأرض حيث شِئت ... فَجسمي صائرٌ قلبهُ بحيث يصيرُ
فذكر أبو الطيب مصير ركابه إليه، وذكر أبو المعتصم أن جسمه صائر قلبه إلى حيث يصير وقد يصير إليه من ليس صائراً إليه إنما يقصده راغباً وراهباً فهو أرجح من مصير ركابه إليه فقد رجح على أبي الطيب فصار أولى بما قال.
وقال المتنبي:
فصن الحسام ولا تُذله فإِنَّهُ ... يَشْكو يَمينكَ والجَماجِمُ تَشْهَدُ
(1/355)
معناه أنه يضرب به في غير حقه فينبغي أن يصونه إلى أن يضرب به في حقه، وهو يقرب في ذكر شهادة الجماجم من معنى أبي تمام:
قَضى من سَند بايا كُلّ نَحْبٍ ... وأرْشقَ والسيوفُ مِن الشُّهُودِ
وقال المتنبي:
يبس النّجيعُ عليه وَهْوَ مُجَّرّد ... من غِمدهِ فكأنَّما هُوَ مُغْمَدُ
قال البحتري:
سُلبوا، وأشرقت الدماءُ عليهم ... مُحْمَّرةً فكأنَّهم لم يُسلَبُوا
وهذا يدخل في توليد معان مستحسنات في ألفاظ مختلفات وذكر أبو العباس النامي في رسالة له في عيوب شعر أبي الطيب أن قوله.
رَيّانَ لو قَذفَ الَّذي أسْقيتَهُ ... لجرى من المُهجات بَحْر مُزْبِد
أنه مسروق من قول البحتري:
صَديْان من ظمأ الحقودِ لو أنّهُ ... يُسْقي جَميعَ دِمائهم لمْ يَنْقَعُ
فهذا يخبر عن ريان لو مج جميع شربه) تجري من المهجات بحر مزيد (، وهذا يخبر عن صديان لو شرب جميع دمائهم لم يروِ صداه وهذا ضد المعنى ولو أدخل هذا في قسم المعكوس من الشيء إلى ضده لكان أليق ولو قال هذا
(1/356)
الكلام من لم يعرف الشعر رواية ولم ينتقده دراية لقبح فكيف بشاعر يوازن بشعره شعره ويطاول بقدره قدره.
وقال المتنبي:
ما شاركتُه منّية في مُهْجةٍ ... إلاّ وشفرتُهُ على يدها يَدُ
ينظر إلى قول أبي العتاهية:
فإِذا أضرم حرباً كان في ... مهج لا لقوم شريكاً للقدرْ
وقال المتنبي:
إنَّ العطايا والرزايا والقنا ... حُلفاءُ طيء غوّروا أوْ أنجَدوا
جعل هذا أبو الطيب خبراً عنهم، وجعله ابن أبي زرعة أمراً فقال:
حالفَ السيفُ والسنان على الدهرِ ... عَسى أنْ تدلك الأيامُ
وقال المتنبي:
منْ كل أكبر من جبالِ تهامةٍ ... قَلْباً، ومن جود الغوادي أجْوَدُ
(1/357)
هذا متداول وقد أحسن الديك الأقسام وأجاد النظام بقوله:
كالأُسدِ بأساً والبدور إضاءةً ... والمزن جوداً والجبال حُلوما
وهذا التقسيم أرجح لفظاً فصاحبه أولى به لزيادته في الأوصاف وذكر أبو العباس النامي المصيصي في قول أبي الطيب في رسالته:
أنَّا يكونُ أبا البريَّة آدمٌ ... وأبوك والثقلان أنْتَ مُحَمدُ
قال أبو العباس: بعد إيراد هذا البيت يخاطب أبا الطيب فأين ذهبت وفي أي ضلالة همت ومن أي قليب جهالة اغترفت هذا النوع الذي أكثرت العجب به هو الذي أكثر التعجب منك فلم يرد على بيت أبي الطيب شيئاً من غير إيضاح العتب من قوله.
قال أبو محمد: وفي البيت كلفة وليس بلفظ مطبوع ولا ملتذاً لمسموع في إعرابه مطعن وتقديره كيف يكون آدم أبا البرية وأبوك محمد وأنت الثقلان ففصل بين المبتدأ الذي هو) أبوك (وبين الخبر الذي هو) محمد (بالجملة، هذا قول بعض النحويين ويجوز عندي أن يكون مراده:) أنى يكون أبا البرية آدم وأبوك
(1/358)
محمد (مبتدأ وخبر،) والثقلان أنت (عطف على المبتدأ وهذه تعقيدات يحتمل ورود مثلها لبدوي لا يعرف الاختيار ويستعمل وجوه الاضطرار فأما المحدث المطبوع فلا عذر له في أن لا يأخذ من الكلام جوهره ويصطفي من متخيره.
وختم القصيدة بقوله:
يَفْنى الكلامُ ولا يحُيط بفضلكُمْ ... أيحيط ما يَفنى بما لا يَنْفدُ
هذا مأخوذ من قول القائل:
لَنْ ينفد الكلم المثنى عليك به ... ما قِيل منْ كرم أو ينفد الكلَم
قال ابن الرومي:
لَمْ يفنِ ما ف ... يك، بَلْ الكلام
فخبر أن ما فيه من الفضائل لم يفن ولكن فني الكلام فجعل) لنفاد كرمه نهاية من نفاد الكلام وابن الرومي خبر أنه لم يفن ما فيه ولكن فني الكلام (فهذا أبلغ من الأول وهو أخصر. وقال البصير:
مدحت الأمير الفتح طالبُ عُرفَهُ ... وهل يستزاد قائل وهو راغبُ
فأفنى فنونَ الشعر وَهي كثيرةٌ ... وما فنيت آثارُهُ والمناقبُ
وقول ابن الرومي:) بل الكلام (اختصار يفوق فيه غيره وكلام المتنبي
(1/359)
أشرح وفي لفظه جزالة فهو بعد ابن الرومي أحق بما قال، وقد ملح القائل بقوله:
بأبي شكري قليلُ ... وأياديك كثيرة
لمْ يقل فيك لساني ... قَطْ فاستوفى ضميره
ويتلو هذه القصيدة أبيات أولها:
لَيسَ الغليل الذي حُماه في الجسدِ ... مثل الغليل الذي حماهُ في الكبدِ
أقسمت ما قتل الحمّى هوى ملك ... قبل الأمير ولا اشتاقت إلى أحدِ
فلا يلمها رأت شيئاً فأعجبها ... فعاودتك ولو ملك لمْ تَعد
أما البيت الأول من هذه الأبيات فإنه يريد أنه من حمى الأمير محموم الكبد فهذا يشبه قول القائل:
قَدْ قلت للدهر على أنني ... أناس أن يرجع عن ظلمه
أسقمتَ من أهوى وعاقبتني ... حكمت في الحبِ سوى حلمه
فقال لم تفهم وكل امرئ ... آفته النقصان من فهمه
قد نلت من قلبك لما أشتكى ... أضعاف ما قد نلت من جِسمه
وهذا الشعر لولا سؤالات فيه وجوابات لكان البيت الأخير أحسن من قول أبي الطيب، فأما قوله: أقسمت ما قتل الحمى..... البيت فالحمى عرض يستولي على الأجسام، والعبارة عن الأعراض بالقتل والشوق فاسدة، وأما قوله:
فلا يلمها رأت شيئاً فأعجبها ... فعاودتك ولو ملك لم تعد
الحمى تعاود من الأجسام ما لا يعجب ولا يستحسن كمعاودتها المعجب المستحسن فقد صارت عليه معلولة، فأما قول القائل:
(1/360)
حمّاك خماشة حماك عاشقة لَوْ ... لمْ تكن هكذا ما قبلتْ فاكا
فله في قوله في الحمى خماشة وعاشقة أصح من علة أبي الطيب لأن الناس يشبهون آثار ما تبقيه الحمى من آثارها في فم المحموم بالتقبيل فيحسن أن يعبر عن الحمى بالتخميش والعشق لأن التقبيل موضوع لمن هذه صفته من العاشق والمعشوق فكلام هذا القائل أملح وعليه أرجح وهو أولى بما قال.
ويتلوها أبيات أولها:
أهْوِنْ بطول الثواء والتَّلف ... والسِّجْنِ والقيْدِ يا أبا ذُلَفِ
قال فيها:
غَيْر اختيارٍ قبلْتُ برّكَ بي ... والجوع يُرضى الأُسود بالجيفِ
هذا يقرب من قول ابن أبي عيينة:
ما كنت إِلاَّ كلحْم مَيْتٍ ... دعا إلى أكْلِهِ اضْطِرَارُ
ويقارب هذا قول ابن المعتز:
(1/361)
خُذْ ما أتاكَ من اللئا ... مِ إذا نأى أهْلُ الكَرَمْ
فالليثُ يفترس الكلا ... ب إِذا تعذرتِ الغَنمْ
وقد أخذ هذا المعنى الخليع الحماني وكان قد خرج في سفر له فقطع عليه الطريق فرجع إلى ناحية فيها بعض الأمراء من التنوخيين وكان جائعاً عارياً راجلاً فوقف بين يديه فأنشده:
أنا شاكرٌ أنا ناشرٌ أنا ذاكرٌ ... أنا راجلٌ أنا جائعٌ أنا عارُ
هي ستة فكن الضمين لنصفها ... أكن الضمين لنصفها بعيار
أجمل وأطعِمْ وأكسي ولك الوفا ... عِنْد اختيار مَحَاسنِ الأخبارِ
والعارُ في مدحي لغيرك فاكفني ... بالجود منك تعرّضي للعارِ
والنارُ عندي كالسؤال فهل ترى ... أن لا تكلفني دُخول النارِ
(1/362)
فحمله وكساه وأطعمه وخرج من عنده فلقيه بعض أهله فقال أيرضى لنفسك أن تقبل عطاء التنوخي فقال:
وَقالوا قَدْ قَتلت جَدّي تنوخ ... فقلتُ الليث يَفْترس الكَلابا
إِذا أبيضَ الحِسام فَحلّ عَنْه ... يصيبُ الضريبة ما أصابا
وأجود هذه الأبيات قول ابن أبي عيينة وهو أولى به من غيره المنية في معنى الجيف والجوع يرضى بها والمضطر صفة تقع بالإنسان والأسود فما عم جميع المضطرين كان أرجح من تخصيص الأسود بالجوع وذكر السجن فقال:
كُنْ أيّها السِّجنُ كيف شئت فَقَدْ ... وطّنْتُ للموت نَفْس مُعْتَرِفِ
لو كان سُكناي فيك مَنْقصةً ... لمْ يكن الدّرّ ساكِنَ الصَّدفِ
(1/363)
فالبيت المتقدم من قول كثير:
فقلتُ لها يا عَزَّ كلُّ مُصيبةٍ ... إِذا وطّنتْ يوماً لها النَّفْسُ ذَلَّتِ
وهذا يدخل في باب المساواة وقوله: لمْ يكُنْ الدرّ ساكن الصَّدفِ مأخوذ من قول أبي هفان:
تَعَجبتْ درّ من شَيبي فَقلتُ لها ... لا تَعْجبي فطلوع البْدر في السُّدف
وَزادها عجباً أنْ رُحْتُ في سَملٍ ... وما دَرتْ درّ أنّ الدّرّ في الصدفِ
ويلي هذه الأبيات قصيدة أولها:
أيا خَدَّدَ الله وَرْدَ الخُدُود ... وَقَدَّ قُدودَ الحسانِ القُدُود
ورد الخدود هو حمرتها والتحديد للخد يكون لا للحمرة وكان ينبغي أن يقول ألا خدود الله الخدود والمليح فيها قول محمد بن يحيى الأسدي:
حادثات الفراق كُل أوانٍ ... مُولعات بالمستهام العميد
كَمْ قلوبٍ قَدْ أحرقْت في صدورٍ ... وخدود قَدْ غادرتْ في خدودِ
هذه المجانس المليح وقد دعا أبو الطيب على أحبابه دعاه على أعدائه بأن يخدد الله خدودهم ويقد قدودهم والقد القطع طولاً والقط القطع عرضاً وليس الدعاء بمثل هذا من شأن شعر المحدثين اللطاف العشاق الظراف ولعل مثل هذا أن يرد في شعر من غلبت عليه عنجهية الإعراب ويكون ذلك خارجاً عن الرقة والصواب كقول كثير:
رَمى الله في عَينْي بُثينَة بالقذى ... وفي الغُر من أنيابها بالقَوادحِ
(1/364)
وهذا مما عيب به مع تقدمه، فأما المتأخرون فيقولون كما قال الديك:
كيفَ الدّعاءُ على مَنْ خان أو ظلما ... ومالكي ظالمٌ في كُلّ ما حَكما
لا واخذ الله من أهْوى بجفوَتِهِ ... عنّي ولا أقتصّ لي منه ولا ظَلما
فهذا تجنب الدعاء على الظالمين لأن مالكه محبوبه متهم ويسأل الله أن لا يقتصّ له منهم ولا ينتقم.
قال أبو محمد: وقد سلكت أنا هذا المسلك فقلت:
فَهمٌ غالط منى فَهِمَا ... جاءني يسألُ عما عَلمَا
مُقْسم ما بلغتهُ علّتي ... كاذبُ والله فيما زعما
كيف لم يبلغه عن سقمي ... وهو المهدي إليّ أسقّما
رزق المظلوم منا رحمة ... ثم لا أدعو على من ظلما
قال أبو محمد: وقد قلت في معناه أيضاً:
إنْ كنتَ تعلمُ ما بي ... وأنتَ بي لا تُبالي
فصارَ قَلبكَ قَلْبي ... وصِرت في مثل حَالي
بلْ عِشْتَ في طيب عَيشٍ ... تقيك نَفسي وَمالي
دَعوْتُ إذْ ضاق صدري ... عليك ثُم بَدَالي
(1/365)
فهذا مذهب العشاق وإشفاق الرفاق ومثل هذا قول الرشيد في الفضل بن الربيع:
يعز عليّ بأن أراك عليلاً ... أو أن يكون بِكَ السّقام نَزيلا
فَرددت أني مالك لِسلامتي ... فأغيرها لك بكرةً وأصيلا
فتكون تشفى سالماً لِسَلامتي ... وأكون دُونك للسّقام بَدِيلا
ويروى للواثق:
لا بِك السّقم ولكنْ حَلّ بِي ... وبأهلي وأمي وأبي
قيل لي إنك صَدعت فَما ... خَالطت سمعي حتى ديربي
وقال آخر:
فَقْلتُ للسّقم عُدْ إلى بدني ... إنساً بشيء يكون مِنْ سَنيك
وقال آخر:
قد سرني أنهم قد سرهم سقمي ... فازددت سقماً ليزدادوا به فرحا
(1/366)
هذا المذهب المعتاد فأما أن يقول العاشق لمعشوقه:) خدَّد الله خدك وقدَّ قدّك وأعمى بصرك وطمس حسنك (فهذه دعوات المستضعف من المظلومين على الأعداء القاهرين لا على الأحباب المعشوقين وقد عد الناس جريراً من الجفاة لقوله.
طوقتك صائدةُ القُلوب وليس ذا ... وَقْتَ الزَّيارةِ، فارجعي بِسَلامِ
وقد اتبع هذا الجفاء بجفاء مثله فقال في خروجه أعني المتنبي:
فكانَتْ وكُنْتَ فداءَ الأمير ... وزَالَ من نِعْمةٍ في مَزيدِ
ومما لم يسبق إليه أن جعل محبوبه فداء الأمير الذي رغب إليه وأظنه قال هذه القصيدة أول زمان عشقه قبل أن يرق.
وقال المتنبي:
لَقْد حالَ بالسّيف دُون الوعيد ... وحَالتْ عَطاياه دُون الوعُود
وهو من قول البحتري:
تمضي المنايا داركا ثُم يُتبعُها ... بيضَ العطايا ولمْ يُوعد ولم يِعِدِ
والمعنى المعنى وهو يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
فأنجُمُ أموالِهِ في النُّحوسِ ... وأنجم سُؤاله في السُّعودِ
صدر هذا البيت لفظ ينظر من مثله في أن يجعل أمواله منحوسة وإن كان
(1/367)
مراده تفريقها وتبديدها، وأحسن من هذا قول أبي تمام:
طَلعتْ نُجومك للخليفة أسعدا ... وعلى ابن ميخائيل كُن نَحوسا
وكقوله أيضاً:
رَأى بابكُ منه التي طَلَعتْ لَهُ ... بنحسٍ وللدِّين الحَنيفِ بأسعَدِ
فجعل النحوس لعدوه والسعود له ولدينه وليس في الحالتين لفظ يكره سماعه ولا وقوعه وهو في اللفظ الراجح على لفظ من أخذ عنه وصاحبه أحق به.
وقال المتنبي:
ولَوْ لمْ أخف غَير أعدائه ... عَلْيه لبشّرتُهُ بالخُلُودِ
يشبه قول القائل:
زَعم الفرزدق أنْ سيقتلُ مَرْبعاً ... أْبشِرْ بطولِ سلامةٍ يا مَرْبَعُ
وبعد هذا البيت:
(1/368)
رمَى حَلبا بنواصي الخُيُولِ ... وسُمْر يُرقنَ دماً في الصَّعيدِ
الصعيد: الأرض التي لم يخالطها سبخ، وقال ثعلب: هي الأرض التي فيها رفعة. قال أبو محمد: فإن كان مراده أن الرماح تريق السلام فيما سمي صعيداً خاصة فليس كذلك يريق الدم في أصناف الأرضين عبر الصعيد وإن كان عبّر عن الصعيد بالأرض أي أرض كانت، فما أفاد فائدة لأن الدم إذا أريق ما يقع إلا على الأرض وهذا من الحشو المذموم.
وقال المتنبي:
وبيضٍ مُسافرةٍ ما يُقم ... ن لا في الرقابِ ولا في الغُمُودِ
قال أبو تمام:
فَلاَ تَطلبُوا أسيافَهُمْ في جُفُونِهم ... فَقدْ أسكنتْ بين الطُّلى والجَماجمِ
) فأبو تمام يمنع من كونها في غمودها في حال ويجعل سكناها بين الطلى والجماجم (وأبو الطيب يذكر أنها لا تقيم في الغمود ولا في الرقاب فتكون مرة كذا ومرة كذا وقد قال أبو الطيب في قصيدة له:
إلى الهامِ تُصْدر عَنْ مِثْلِهِ ... تَرى صدراً عنْ وُرودٍ وُروُدا
يقول إن سيوفه تصدر عن هام إلى هام فكان صدرها ورود فهي لا تبرح بين الهام وهو معنى أبي تمام بعينه فما لا يبرح الهام والطلى أمدح مما يكون في الغمد وقتاً ثم ينتقل إلى الهام والطلى وكلام أبي تمام أرجح ووصفه وأمدح فهو أحق بقوله ممن أخذ منه، وقال ابن الرومي:
(1/369)
ما ضم سيفاً لنا غمد ولا برحتْ ... ضَريبتاه من الأعناق والجزرِ
يخبر أنه لا يضم سيفه ودعا بأن لا يبرح ضريبتاه من الأعناق والجزر وخبر بالبأس والكرم جميعاً فرجح لفظه على لفظ أبي تمام فاستحق ما أخذ.
وقال المتنبي:
يُروَن من الذُّعْرِ صَوتَ الرياحِ ... صَهيل الجيادِ وخَفْقَ البُنُودِ
هذا في معنى قول جرير:
تَركوك تَحْسِبُ كل شَيء بَعْدَهم ... خَيلاً تشدّ عليكمُ ورَجالا
وقول جرير أبلغ لأنه جعل كل شيء يخيفهم وخصّ أبو الطيب الرياح فهذا أرجح.
وقال المتنبي:
سَعوا للمعالي وهُمْ صبيةٌ ... وسادُوا وجادُوا وهُمْ في المُهُودِ
وهذ) ا (مبالغة مستحيلة غير ممكنة لأن السيادة وقود العساكر لم يكن قط لمن هو في المهد، وإنما كان في المسيح عليه السلام كلام في المهد خرج به عن عادة البشر لتظهر المعجزة في نبوته.
وأما قول ابن بيض:
بَلغت لعشر مَضتْ مِنْ سَنيك ... ما يبلغُ السيد الأشيب
وقال البحتري:
قَدْ أكمل الحلمَ واشتدَّتْ شكيمتُهُ ... على الأعادي ولْم يَبْلغْ مدى الحُلُم
(1/370)
فقد وسعا ما كان يبعد فهو إلى الإمكان أقرب من ذكر عدة السنين ومن سبق بلوغ الحلم، وقد تمكن مع زائد الفضل وإفراط النبل أن يكون في صبي من التمييز بازاء ما هو في شيخ هو دونه في الفضل وقال سوار بن أبي شراعة:
تَعرف السؤدد في مَولدِهم ... وتراهُ سيداً إن أيفعا
ومعرفة السؤدد بظهور صحة التمييز في الطفل وما يخالف به أشكاله من الصبيان فإذا أيفع كان سيداً على مذهب ابن بيض والبحتري، فأما إطلاق السيادة على الأطفال وقود الجيوش فمحال واضح وكذب فاضح وعلى كراهية العلماء المبالغة المستحيلة فأصحاب الأبيات التي قبله أصح معنى وأحق بما أخذ منهم.
وقال المتنبي:
أمالِكَ رّقِي ومن شأنُهُ ... هبات اللُّجَين وعْتقُ العَبيدِ
لو قال:) من شأنه هبات التضار لنا والعبيد (.
كان أمدح لأن الذهب واهبه أسمح من واهب الفضة لنفاسته وارتفاع قيمته وإلا من فساده إذا أكثر) وعتق العبيد (يستعاض عليه بالأجر في الآخرة والواهب العبيد منهم ليوصف بالجود لا ليعاض عرضاً يصل إليه) من (منفعته.
(1/371)
يليها أبيات:
أجابه منه للضبّ الش ... اعر بها حين هَجاه الضبّ
أيها أتاك الحمام فاحت ... رمك غير سفيه عليك مِنْ شتمك
ولا فائدة فيها فيطلب لها استخراج سرقه، وقال فيه أيضاً:
أي شعرٍ نَظرتْ فيه لضبّ ... أوحد ماله على الدهر عونُ
يقول فيها:
يا لك الويل ليس يعجز م ... وسى رجل حشو خلده فرعونُ
هذا معنى ينظر إلى قول أبي نولس:
فإِن يكن باقي إفك فرعون ... فيكم فإِنّ عصى موسى بكف خَصيب
(1/372)
وقال ابن الحاجب:
وإذا المرء فرعنته لهاة ... كنت موسى فرعون ذي الأوتادِ
وقال المتنبي:
أنا في عينيك الظلام كَما ... أنّ بياض النهار عَندك جُون
وهذا يشبه بيتاً لابن الرومي من أبيات يذكرها لجودتها وهي:
بحقهم إن باعدوني وقربوا ... سواي، وتقريبُ المباعد أوجبُ
رأى القوم لي فضلاً يعاريه نقصهم ... فمالوا إلى ذي النقص، والشكل أقربُ
بهائم لا تصغي إلى شدو مَعْبدٍ ... وأمّا على جافي الحداء فَتطربُ
خَفافيش أغشاها نهار بضوئِه ... ولاءمها قطع من الليل غيهبُ
فشبههم بالخفافيش التي من شأنها أن لا تبصر بالضوء ويكون بصرها في الظلام وخبر أبو الطيب أنه عين الهجو ظلام كما أن النهار عنده أسود ولم يذكر العلة الموجبة لذلك فكلام من جعل المهجّوين مثالاً صحيحاً أرجح كلاماً وأولى بما قال.
(1/373)
يليها أبيات أولها:
أبا عَبْد الإِلهِ مُعاذُ أنّي ... خَفي عَنْك في الهيجا مَقامي
يقول فيها:
أمثلي تَأخُذُ النكباتُ مِنه ... ويجزعُ من مُلاقاة الحِمام
وليس هذا من المعاني البديعة ولا الألفاظ الرفيعة ولكنه إذا أخذه أوجب علينا إخراج أصله وهذا من قول أبي هفان:
أمثلي يخوف بالنائباتِ ... ويَخشى بوائق صرف الزمنِ
(1/374)
أذاقني الله مُر الهَوى ... وأدخلني في حرامي إذن
فزاد على أبي الطيب بما يزيل الشك في مخافته وبالغ حتى سخف لفظه.
وقال المتنبي:
ولَوْ برز الزمان إليّ شخصاً ... لخضّبَ شَعْرَ مفرقه حُسامي
هذا من قول دريد:
لَوْ مُثّل الحتف لَهُ قرناً لما ... صدّتْهُ عنه هَيبةٌ ولا انثنى
ومعنى) ابن (دريد لا يفيد غير أَلاَّ نهاب شخص الموت لو مثل له وقول أبي الطيب أحسن عند مدح من المبالغة لأنه شرط يخصب مفرقه بحسامه فأبو الطيب أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
وما بَلَغتْ مشيتَها الليالي ... ولا سارتْ وفي يَدِها زمامي
قال البحتري:
لَستُ الذي إنْ عارضتهُ مُلمَّةٌ ... ألقى إلى حُكم الزَّمان وفوَّضَا
يليها أبيات أولها:
أنا عين المسوّد الجحجاحِ ... هَيّجتني كلابُكُمْ بالنُّباحِ
(1/375)
ولو قال:
أنا عين الصارم الكلاح ... هيجتني كلابكم بالنباحِ
واحتمل غثاثة الكلاح كان بالمعنى أوقع أن يجعل نفسه ليثاً ويجعلهم كلاباً تنبحه والأبيات فارغة.
قال ابن المعتز:
سَمع الليث نباحاً منكمْ ... فَلهُ في وسطِ الغابةِ زارُ
يليها أبيات أولها:
ألذّ من المُدامِ الخندريسِ ... وأحلى مَنْ مُعطاةِ الكُئُوسِ
مُعطاة الصَّفائحِ والعَوَال ... وإقحامي خميساً في خَميسِ
هذا شعر يحتاج أوله إلى ما بعده وهو معيب عند الشعراء يسمى التضمين وذلك أن يبتدئ معنى في بيت لا يتم إلا بالبيت الثاني، وقد قال إسحاق بن خلف ما فيه التضمين والمعنى:
لَسلُ السيوف وشقُّ الصُّفوف ... وخوضُ الحُتوف، وضربُ القُللْ
ألذّ من المسمعاتِ القيان ... وحُث المدامة في يوم طَلْ
ولا فرق بين المبنى والمعنى فهو داخل في قسم المساواة والأول أحق بما قال.
(1/376)
وقال المتنبي:
وموتي في الوغَى عيشي لأني ... رأيتُ العيش في أربِ النفوسِ
صدره من قول أبي تمام:
يَستعذبونَ مناياهُمْ كأنَّهمُ ... لا ييأسوُنَ من الدنيا إذا قُتِلوا
ولأبي تمام فيه زيادة يرجح بها، وتمام البيت من قول الأحوص:
فما العيشُ إلا ما تَلذُّ وتَشتهي ... وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنان وفَنّدا
ولكن أبا الطيب قد أختصر الطويل في الموجز القليل فاستحق ما قال.
يليها أبيات وهما:
إذا ما سربْتَ الخمْرَ صرفاً مُهنّأ ... شربنا الذي من مثله شرب الكَرْمُ
ألا حَبّذا قَومٌ نداماهم القنا ... يُسقونها) رياً (وساقيهم العزْمُ
أما ما ذكره من شرب الشارب الخمر فإنه يشرب من مثل ما شرب الكرم فإنه نسي قوله:
فإن تكُنْ تغلِبُ الغلباءُ عُنصرها ... فإِنَّ في الخمر معنى ليس في العِنَبِ
(1/377)
فجعل العنب لا يلحق الخمر فكيف يجعل ذلك مثل الماء وهل للماء تسخية البخيل وتشجيع الجبان وزوال الهموم وصحة الجسم هذه فضائل لا توجد في الماء فكيف يكون الشرب للخمر كالشرب للماء، وقد خبر الله عنها بمنافع لولا التحريم ما تركت فقد ماثل بين شيئين مختلفين وبينهما فرق لا يخيل.
ويلي ذلك أبيات أولها:
لأحبَّتي أن يَمْلَئوا ... بالصّافياتِ الأكْوُبا
وهي أبيات فارغة ما أظنه أثبتها إلا ليدل على شجاعته وليس) له (مما يطلب له استخراج سرقة.
وبعد ذلك بيتان:
أما تَرى ما أراهُ أيُّها الملِكُ ... كأنّنا في سماءٍ ما لها حُبُك
ما لذكر الحبك هاهنا فائدة غير إتمام القافية.
وقال المتنبي:
الفَرْقدُ أبنكَ والمصباحُ صاحبُهُ ... وأنْتَ بَدْرُ الدُّجى والمجْلسُ الفَلكُ
وهذا التشبيه من قول ابن الجهم:
كأنَّهُ وولاةُ الأمر تَتْبعُهُ ... بَدْر السماءِ تليه الأنجمُ الزّهُرُ
ولا زيادة لأبي الطيب فيه غير صفة المجلس وقد أشار له إلى هذه الزيادة أبو نواس في قوله:
(1/378)
مضى أيْلولُ، وارتفعَ الحُرورُ ... وأخْبتْ نارها الشِّعرى العبُورُ
فقوما فالقحا خمراً بماء ... فإِنّ نتاج بينهما السّرُورُ
نتاجٌ لا تدرُّ عليه أمٌّ ... بحمْل لا تعدّ له الشُّهورُ
إِذا الكاساتُ كرّتْها علينا ... تكوَّنَ بينَها فلكٌ يدُورُ
تسير نجومه عجلاً وريثاً ... مُشرّقةً وأحياناً تَغُورُ
إِذا لم يجرهِنَّ القُطْبُ مِتْنا ... وفي دَوْراتهِنَّ لنا نَشُورُ
فشبه دوران الكؤوس على الندامى بفلك دائرة الكؤوس نجومه فإلى هذا ذهب أبو الطيب وقول أبي نواس ينبه عليه وإن كان في معنى غيره فهو من قسم استخراج معنى من معنى احتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه وبالجملة فقد زاد علي بن الجهم زيادة في كلامه هي من تمامه فهو أحق بما أخذ وقال ابن أبي فنن:
بَنوك نجوم بهم يقتدى ... سبيل الرشادِ وأنْتَ القمرُ
وقال بعد ذلك بيتين في نائم أنشده شعره وهما:
إِنَّ القوافي لمْ تُنمكَ وإِنَّما ... مَحقتْكَ حتى صدت ما لا يُوجدُ
(1/379)
خبرنا بوجود بعده عدم ثم خبر أن له أذناً وفماً فدل على وجود فناقض والمعنى في هذا أنك نمت عند الإنشاد وإنما تشكى منها إذا هجاها غماً فأما إذا أسمع شعراً قصد به غيره فلم يمحقه ويسكره، وهذا معنى نبه عليه أبو تمام بقوله:
عِنْدي من الأيَّام ما لَو أنهُ ... بإِزاء شارب مُرقد ما غَمَّضا
فأبو تمام يذكر أنه لو شرب المرقد ما غمض وأبو الطيب يذكر أنه نام حتى كأنه شارب مرقد، فكلام أبي تمام أشد مبالغة وأرجح معنى وقد أتى ابن الرومي في معنى قول أبي الطيب:) حتى صرت ما لا يوجد (بقوله:
وإنّ كنت لا أهجوك إلا كحالم ... يَرى ما يراهُ النائمون فَيهجرُ
لأنك معدوم الوجود وإنما ... يرينيك ظني ريثما أتدبرُ
(1/380)
فخبر عن عدمه ثم احتاط وقال:
فإِن كُنتَ شيئاً ثابتاً فهباءةٌ ... تضاءل في عينِ اليقين وتصغرُ
كأنه جعله معدوماً ثم رآه مهجواً ومخاطباً فعلم أن ذلك لا يقع على معدوم فجعله شيئاً حقيراً كالهباء صغيراً.
وقال المتنبي بيتين:
كتِمْتُ حُبّك حتى مِنْك تكرمةً ... ثمَّ استوى فيك إسراري وإعِلاني
كأنَّه زاد حتى فاض في جسدي ... فصار سُقْمي به في جسم كتماني
فخبر أنه قد استوفى فيه إسراره وإعلانه حتى كأنه زاد ففاض وضعف كتمانه حتى صار حبه في جسم كتمانه الضعيف على وجه الاستعارة وفيه تكلف.
وبعدهما بيتان أولهما:
وأخٍ لنا بَعث الطّلاقَ أَلِيَّةً ... لأُعَلِّلَنَّ بهذه الخرطوم
فهذا فارغ، وقال يليه:
فَجعلتُ رَدّي عِرْسَهُ كفارةً ... عَنْ شُربها وَشربْتُ غير أثيمٍ
ففقه أبو الطيب في هذا البيت فقهاً غير إسلامي لأنه ذكر أن حالفاً حلف عليه بالطلاق ليشربن الخمر فشربها وجعل رده عرسه وإليه كفارة ذنبه في معصية كان اجتناب الحالف عليها واجتناب ما نهى الله عز وجل عن شربه أولى بمذهب المسلمين.
ويليها قصيدة أولها:
أظَبيةَ الوحْشِ لولا ظَبيةُ الأنَسِ ... لما غَدوْتُ بجَدّ في الهوى تَعِسِ
(1/381)
قال فيها:
ولا سَقيتُ الثَرى والمُزْنُ مُخْلفُهُ ... دَمْعاً ينشفهُ من لَوْعةٍ نَفسي
قال الخُبزأرزي:
وكذاك نيرانُ القلوب إذا الْتظَتْ ... يوماً تُنشِّفُ في العُيون الماءَ
وقال آخر:
لَولا الدُّموعُ وفيضهن لأحْرقَتْ ... أرضَ الوداعِ حَرارةُ الأكبادِ
فساوى الخبزأرزي المتنبي في معناه من نشف ماء العيون بنار القلوب في بيته مطابقة من النار والماء ليس في بيت أبي الطيب والبيت الثالث جعل فيض الدموع سبباً منع من الإحراق فهو أقل مبالغة. ويقرب من هذا قول الحصني:
وكنتُ أرجّي الدمع أنْ يطفئ الأسى ... فَغالبهُ نِيران تُوقد في صَدْري
وقال المتنبي:
ولا وقفْتُ بجسْمِ مُسْي ثالثةٍ ... ذي أرْسُمٍ درس في الأرسم الدُّرُسِ
قال العكوك:
خَلَّفتني نِضْو أحزانٍ أُعالجُها ... بالجزع أنْدبُ في أنْضاء أطْلالِ
فجعل نصفه) نضو أحزان (يندب في أنضاء أطلال وهو مثل قوله:) ذي أرسم درس في الأرسم الدرس (.
(1/382)
وأملح من الجميع قول الديك:
أنضاءُ طلّتْ دَمْعهُمْ أطْلالهمْ ... فتخالهُمْ بين الرَّسُومِ رُسُوما
في هذا البيت تجنيس مليح وتشبيه من رسوم أجسام برسوم أطلالهم فهذا البيت يزيد على بيت العكوك ويرجح لفظه فهو أولى به من أبي الطيب.
وقال المتنبي:
ما ضاقَ قبلك خَلخالٌ على رشاءٍ ... ولا سمعتُ بديباجٍ على كَنسِ
) الكنس (جمع كانس مثل غائب وغيب ولو قال:) على كانس (وأفرد على مقصده شخصاً كان أحسن والذي قاله يحسن على مذهب من قال من أهل اللغة: كنس وكناس ومعنى هذا البيت أن ساق الظبي دقيق فلا يضيق فيه خلخال وأن الديباج على الهودج مثل الديباج على كنس الظبي أي هذا مخالف لسائد الظباء الوحشية كما قال ابن دريد:
أعَنِ الشمسِ عشاءً ... كشفت تلك السّجوف
أمْ على ليتي غزال ... علقت تلك الشّنوف
ومثله لآخر:
ظبي أتاكَ مُعطراً ... والظبي لا يتعطرُ
(1/383)
فكلهم يعرب بصفات لا تكون للظباء الوحشية.
وقال المتنبي:
مِنْ كل أبيْض وضّاحٍ عمامَتُهُ ... كأنَّما اشْتملتْ نوراً على قَبسِ
هذا يساوي قول ابن قيس) الرقيات (:
إِنّما مُصْعب شهابٌ من اللّ ... هـ تجلّتْ عن وجهه الظّلمْاءُ
وقال المتنبي:
أكارمٌ حَسَدَ الأرضَ السماء بهم ... وَقصّرت كل مِصْرٍ عن طَرابلُسِ
فقال:) قصرّت (والفعل للكل ولكنه أراد الجماعة كما تقول:) جاءت كل صاحبة لك (كأنك قلت صواحبك كلهنّ.
وبعد ذلك قصيدة أوّلها:
هَذِي بَرزْت لنا فهجتَ رسيسا ... ثُمّ انصرفت وما شَفيتْ نَسيسَا
(1/384)
حذف حرف النداء من المبهمات لحن عند البصريين لأنه لا إعراب له يدل على إرادتك كما يدل قولك:) زيد أقبل (على المحذوف وهو من المبهمات التي لا إعراب لها لا يدل على مرادك) ويشكل (ولا يجوز إلا في رواية شاذة غير موثوق بها ولا معمول عليها.
وقال المتنبي:
إِنْ كُنْت ظاعِنةً فإِنَّ مدامِعي ... تكفي مَزاركُمُ وتُرْوي العِيسا
من قول علي بن هشام:
ويا أخا الذود طال الظمأ بها ... لا تعرف الري من جذب وأقتار
قف بالعطاش على عيني ومحجرها ... نرو العطاش بماء سافح جار
(1/385)
فالمعنى المعنى ولكنه قد جاء بالكثير الطويل في الموجز القليل فصار أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
حاشى لمثلك أن تكون بخيلة ... ولمثل وجهك أن يكون عبوسا
كان الوجه أن يقول:) أن يكون مبخلاً (فيتم وزن الشعر ويصح الإعراب ويحمله على مثل وقد يجوز على ما قال على المعنى كما قيل: ذهبت بعض أصابعه:
وقال المتنبي:
خود جنت بيني وبين عواذلي ... حرباً وغادرت الفؤاد وطيسا
) الوطيس (: التنور، أوّل من تكلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:) لأن حمى الوطيس (أي أشتد القتال على التشبيه وليس الوطيس من صفات الحرب فكأنّ
(1/386)
عواذله حين تلته كانوا كأنهم في حرب حمي لها قلبه فكان كالوطيس، فأما قول أبي تمام:
فتركْتَ تلك الأرضِ فَصْلاً سَجْسجاً ... من بَعْد ما كادت تكُونُ وَطِيسَا
وهذا الكلام أصح من كلامه والأقسام أصح من أقسامه لأن السجسج ضد الوطيس وليس الحرب ضد الوطيس فأبو تمام أحق بمعناه.
وقال المتنبي:
إِنْ حلَّ فارقَتِ الخزائِنُ ما لَهُ ... أوْ سار فارقتِ الجُسوم الرُّوسا
هذا كلام مليح النظام مستوفي الأقسام ذكر حال حلوله في سلمه) وحال مسيره في حربه (.
وهو من قول أبي نواس:
فيومٌ لإِلحاق الفقير بذي الغنى ... ويومُ رقابٍ بوكرتْ لِحصادِ
وقال المتنبي:
لَوْ كان ذو القرنين أعمل رأيَهُ ... لمّا أتى الظُّلماتِ صِرْنَ شُمُوسا
هو من قول القائل:
لَوْ أن في الظلمات شَعْشع كأسَها ... ما حار ذُو القرنين في الظُّلماتِ
(1/387)
قال الخبزأرزي:
لَوْ أنَّ ذا القَرْنين في ظُلُماتِهِ ... ورآهُ يضحك لاسْتضاءَ بثغْرِهِ
فهذه معان تدخل في قسم ما احتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه لأن أبا الطيب نقل ما قيل في الخمر أو الثغر إلى الرأي وجاء بالمعنى بعينه.
وقال المتنبي:
لَوْ كانَ صادفَ رأس عازَر سيفُهُ ... في يَوْمِ مَعْركةٍ لأعيا عِيسَى
هذه مبالغة ما كنت أوثرها له لأن) عازر (لم يكن مضروب العنق وإنما كان ميتاً فأحياه عيسى عليه السلام وكذلك قال:
أوْ كان لجّ البحْرِ مِثْل يمينه ... ما أنْشقّ حتى جازَ فيه مُوسَى
وهاتان آيتان من قدرة الله تعالى تدلان على صحة نبوة مظهرها منه افتراه يعتقد أن قدرة الله لا تستولي على قطع عنق عازر إذا صادفه سيف الممدوح
(1/388)
أو لا تستولي على شق البحر لموسى، هذه مبالغات تركها الشعراء غير معتقدين لها ولا يحملهم عليها محبة الجودة في الكلام والتناهي في معاني النظام.
وقال المتنبي:
لمّا سمعتُ به سمعتُ بواحدٍ ... ورأيتُه فرأيت منه خَمِيسا
هذا معنى متداول ولفظ متناقل، ومنه قول أبي تمام:
لَوْ لمْ يقُدْ جحفلاً يوم الوغى لغدا ... مِن نفسه وَحْدَها في جَحْفل لَجِبِ
وقال أيضاً:
بيتُ المقام يرى القبيلة واحداً ... ويُرى فَيحسَبُه القَبيلُ قبيلا
وقال ابن الرومي:
فَرْدٌ وحيدٌ يراه النّاسُ كُلُّهُمُ ... كأنّه النَّاسُ طُراً وهُو إنسانُ
هذه الأبيات يتساوى معانيها ومبانيها ولم يرجح لفظ أبي تمام فالسابق إليها أولى بها:
(1/389)
وقال المتنبي:
ولحظْتُ أنمله فَسِلْنَ مواهباً ... ولمسْتُ مُنْصلهُ فسال نُفُوسَا
هذا من قول البحتري:
تَلْقاهُ يقطُرُ سيفُهُ وسنانُهُ ... وبنانُ راحتِهِ ندىً ونَجِيعَا
وقال ابن دريد:
تَصرفُ في حالي نداه وبأسِه ... أناملُ يُقْطرن السَماحةُ والدمَا
قال أبو محمد: وأنشدت لدعبل:
وإِذا صادقْتَ أكدْتَ الصفا ... وإِذا أدْبرت يوماً لم أعج
وإذا عاذَ بقومي عائذٌ ... وَتَر الناس جميعاً لم يهج
لو قال:
وإذا عاذ بقومي ... عائذ لم يهج
لكان مديحاً كافياً فحشي البيت حشواً مليحاً مفيداً من قوله:) وتر الناس جميعاً (وقال دعبل بعد ذلك:
فَعلى أيْماننا يَجْري النَدى ... وعَلى أسيافنا تَجْري المُهجْ
وكل ذلك يدخل في باب المساواة والسابق أولى به.
وقال المتنبي:
(1/390)
بَلدٌ أقمْتَ به وذِكْركَ سائرُ ... يَشْنى المَقيلَ ويكرَهُ التّعْريسا
أسكن الهمزة على ما جرت به عادته بغير قياس ولو قال: يأبى المقيل ويكره التَّعْريسا استراح من الضرورة، وهذا المعنى مأخوذ من قول أبي تمام:
جَرّدتُ في ذَمِّيك خَيْل قضصائد ... حَالتْ بِك الدُّنيا وأنْتَ مُقِيمُ
وذكر ابن الرومي قصيدة له فقال:
تَظلُ مقيماً في محلك خافضاً ... وأنْتَ بها في كل فج تُسيّرُ
وكلها معان متقاربة تتساوى في معانيها ومبانيها وأصحابها السابقون أحق بها.
وقال المتنبي:
فإِذا طَلبتَ فريسةً فارقْتَهُ ... وإذا خدرت تخذته عِرِّيسا
أشار له إلى هذا ابن الرومي:
هو الليث طوراً بالعراقِ وتارةً ... لَهُ بين آحامِ القَنا مُتاجَّمُ
وقد قال قبله أبو تمام:
أسَدانِ حَلا مِنْ دِمشْقَ وأوطنا ... مِنْ حِمْص أمْنعَ بلدةٍ عرّيسَا
تَخِذَ القَنَا خِيساً فإِنْ طاغٍ طَغى ... نَقَلا إلى مَعْناهُ ذَاكَ الخِيْسا
صرح أبو تمام باسم أسدين يحسن معهما ذكر العريس والخيس وكذلك ابن الرومي ولم يذكر أبو الطيب أسداً في شعره وإنما دلّ على إرادته بذكر (1/391)
الفريسة وإنه إذا خدر تجده عريسا، ومن شرح مراده أرجح لفظاً وأولى بشعره.
وقال المتنبي:
إِني نثْرتُ عنك دُرّا فأنْتقِدْ ... كثرَ المدلّسُ فأحْذر التَّدْليسا
لم يثق بفطنة الممدوح في النقد فحذره التدليس وصدر هذا البيت من قول أبي نواس:
ونَثرى عليك الدُّرَّ يا درَّ هاشمٍ ... فَيا من رأى دُرّا على الدرِّ يُنْثَرُ
فجمع أبو نواس بين تشبيه كلامه وتشبيه الممدوح فصارت له زيادة يرجح بها فهو أولى بما قال، وابن الرومي يقول في صاعد:
أوّلُ ما أسألُ منْ حاجَةٍ ... أن يُقْرأ الشِّعْرُ إلى آخرِهْ
ثُمَّ كفاني بالَّذي تَرْتئي ... في جَيد الشعر وفي شَاعرِهْ
فسأله قراء شعره مما استقصاه ثم اكتفى بالذي يرتئي في جودة الشعر فسلم المعرفة بما يسم وإنما سأله استقصاء الشعر فهذا أحسن من كلام من حذره أن يقع عليه التدليس في الكلام وابن الرومي أولى بما قال.
وقال المتنبي:
حَجبتها عن أهلِ إنطاكية ... وجَلوتها لك فاجتليت عَروسا
(1/392)
هذا المعنى موجود في قول الحسن بن وهب وقد أنشده:
كفيّ وغاك فإِنني لك قال ... ليست هواري عزمتي بتوالي
فقال له: لقد أهديت إلينا منها عروساً يا أبا تمام وقام فاعتنقه فقال أبو تمام: لو أنها من الحور العين لكان قيامك أفضل مهورها.
وقد قال البحتري:
هذي القصائد قد أتتك حسانها ... تَسعى إليكَ كأنَهنّ عَرائسُ
ولم يزد على أن شبه قصائده بالعرائس ولأبي الطيب من ذكر الحجاب وذكر الجلوة ما يقتضيه ذكر العروس وإنها مضنون بها على الأكفاء من الممدوحين ومن أكفانها الممدوح فرجح كلامه فصار أولى بما أخذ.
ويتلوها قصيدة أولها:
بكيتُ يا ربعُ حتى كدْتُ أبكيكا ... وَجْدتُ بي وَبِدمْعي في مَغانيكا
النصف الأول من قول الحصني:
لَما وقفنا بها أضْحت تُدارسنا ... عَهد الخَليط فتبكينا ونبكيها
(1/393)
فأطلق لفظه ولم يقل:) حتى كدت (فرجح بذلك وهذه مجازات لا حقائق لها وقد قال ابن الرومي:
فَلوْ استطاعت إِذْ بكيت دُثُورها ... لبكيتُ نحولي بالدُّموع الهمل
فمنعها الاستطاعة للبكاء على نحوله وذكر ممكناً.
وقال المتنبي:
بأي حُكمْ زمانٍ صرْتَ متّخذاً ... ريمَ الفلا بدلاً من ريم أهْليكا
هذا من قول أبي تمام:
وظباءُ أنُسك لَمْ تُبدَّلْ مِنْهُم ... بِظباءِ وحْشِكَ ظاعناً بِمُقيمِ
وقال الخليع:
عَهدتكُ مستن الخواذلَ للهوى ... فَما أنْتَ مُستن الظباء الخَواذِلِ
المعنى متقارب ولكن للخليع من الخواذل والخواذل تجنيس مليح يرجح ويصير أحق به.
وقال المتنبي:
أيّامَ فيك شُموس ما انبعثنَ لنا ... إِلاّ انْبعثنَ دما باللحْظِ مَسْفوكا
هذا بيت رديء الصنعة لأنه كان في حديث الوحش ثم قال:) شموس (ولو قال ظباء كان قد أورد ما يجانس البيت الأول وأحسن من قوله في بقية البيت قول أشجع:
وإِذا نَظرْتَ إلى مَحَاسِنها ... فَلِكُلّ مَوْضع نَظْرة قَتْلُ
وقال أبو نواس:
(1/394)
رسْمُ الكرى بيْن الجفونِ محيلُ ... عَفّي عليه بُكا عليك طويلُ
يا ناظراُ ما أقلعَتْ لحظاتُه ... إلاّ تشخط بينهن قَتيلُ
قال أبو محمد: وقد أخذت هذا المعنى فقلت أنا:
لا، وَوجهٍ لك يُبْدي ... صَفْحةَ السّيف الصَّقيل
وسواد الشَّعر الأسْ ... ودِ في الخدِّ الأسيْلِ
وَجُفون لك لا تَطْ ... ف إلاّ عن قَتيلِ
ما جميلُ الصَّبر عن مِثْ ... لك عندي بجميلِ
ومن ميز اللفظين عرف الفرق بينهما.
وقال المتنبي:
أحيْيت للشُّعراء الشّعر فامتدحوا ... جَميعَ من مَدحُوهُ بالذي فِيكا
هذا قول ابن الرومي:
على أنّهُ من أحسن القولِ مِنْهم ... فمِنكَ ومن آثارِكَ ما حِسْنَه
(1/395)
وقال ابن الرومي أيضاً:
لولا بدائعُ من صِفاتِك لمْ تكنْ ... للمادين إلى البديع تَغلغلُ
ومما جاء فيه ابن الرومي في هذا المعنى وبالغ فيه قوله:
مَدحَ الأوَّلون قوماً بأخْلا ... قِكَ من قَبْلِ أنْ تُرى مَخْلُوقا
نحلوهُمْ ذخائراً لك بالْبا ... طِلَ مِنْ قَولهم وكانَ زَهُوقا
فانتزعْنا الغصوبِ مِنْ غاصبيها ... فحبا صَادقٌ بها مَصْدوقا
فتجاوز معنى أبي الطيب وبالغ ورجح عليه ولابن المعتز في نظر قول أبي الطيب:
إِذا ما مدحناهُ استعنا بِفعْلِه ... لنأخذ مَعنى مدحه من فَعالِهِ
وهذا يساوي قول أبي الطيب، فابن الرومي أولى منه بذلك وابن المعتز قد ساواه، وهما أحق بما أخذ منهما وقريب من هذا قوله:
وعَلّموا النّاس منك المجْدَ واقتدرُوا ... على دقيقِ المعاني مِنْ معانيكا
فالسرقة متقاربة فيهما.
وقال المتنبي:
شكْرُ العفاةِ بما أوليْتَ أوْجد لي ... إلى يَديك طريق العِرف مسلوكا
(1/396)
هذا يشبه قول أبي تمام:
ولهذا أضحى ثنائي طريقاً ... عامراً بينه وبين المعالي
ومثله قول أشجع:
لَقدْ قَوم الرُّكبان من كل وجْهَه ... إِليْكَ اتِّصالَ الرَّكبِ يتْبعُهُ الرَّكْبُ
ويقرب منه قول الآخر:
لَقدْ وضَح الطّريقُ إِليك جداً ... فما أحدٌ أرادك فاسْتَدلا
وهذه معان متناسبة وألفاظ متقاربة فالسابق أحق بها.
وقال المتنبي:
وعُظْمُ قدرك في الآفاقِ أوْهَمني ... أنَّي بقلَّةِ ما أثنيتُ أهْجُوكا
قال البحتري:
جَلَّ عَنْ مذْهبِ المديح فقد كا ... دَ يكون المديحُ فيه هِجاءُ
فخبر أنه يجل عن المدح وأبو الطيب يقول: إن عظم قدره أوهمه وهماً والوهم يخطئ ويصيب أن عظم قدره في الآفاق أراه أنّ قلة ما أثنى به عليه كالهجاء له وعظم قدره في الآفاق قد يكون بخطوة لا يستحقها فقول البحتري أمدح وأرجح وهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
ولَوْ نقصتُ كما قد زِدتَ من كرمٍ) على ... الورى (لَرأوْني مثل شانيكا
أسقط الهمزة من) شانيكا (على الرسم وقوله مأخوذ من قول ابن أبي عيينة:
(1/397)
خالدٌ لولا أَبوه ... كان والكلْبَ سواء
لَو كما ينقص يَزْدا ... د إِذا نال السَّماء
هذا لفظ مطبوع مليح المطابقة سليم من العجرفة وقبيح الكلفة فصاحبه أولى به.
وقال المتنبي:
فإِنْ تقلْ: ها، فعاداتٌ عُرفت بها ... أوْلا فإِنَّكَ لا يَسْخُو بها فُوكا
جوز عليه قول لا، ثم ذكر لا يسخو بها فوه وكان ينبغي أن يقول: ولو هممت بلا لم يستطع فوكا وقد قيل في هذا المعنى أشياء منها قول أبي العتاهية:
وإِنّ الخليفةَ من بعض) لا ( ... إِليه ليبعضُ مَنْ قالها
وقد ملح العكوك في قوله:
الله أجزى من الأرزاقِ أكثرها ... على يديك بعلم يا أبا دُلَفِ
ما خطَّ) لا (كاتباه في صَحيفته ... كما تُخَطط) لا (في سائر الصحفِ
بارى الرياحَ فأعطى وهي جاريةٌ ... حتّى إِذا وقفتْ أعطى ولم يَقِفِ
وبعدها قصيدة أولها:
أريقُكِ أمْ ماءُ الغمامةِ أم خمْرُ ... بِفيَّ بُرودٌ وهو في كبدي جَمْر؟!
(1/398)
أما تشبيه الريق بالغمام أو الخمر فمن قول امرئ القيس:
كأنَّ المُدامَ وصوبَ الغمام ... وريحِ الخُزامي ونشر القُطرْ
يُعلُ به بَرْد أنيابها ... إِذا طرّبَ الطائرُ المُستحرْ
فقد زاد امرئ القيس صفتين عليه وهو أول الشعراء، وأما عجز البيت فمن قول أشجع:
وسَقاك مِن حَر الهو ... ى بَردُ المفلجة العذابِ
وقد قال ابن الرومي:
ويسقيك الذي يُروى ويُذوى ... فَفي الأحشاء بَردٌ واضطرام
فقول أشجع أن برد أنيابها يسقي أحشاءه من حر التهابها حسن جداً، وأما قول ابن الرومي فكيف أجتمع البرد والحر في أحشائه؟ وكيف يحسن موقع البرد فيها مع اضطرامها وما قاله أبو الطيب من إحساسه البرد في فيه والخمر في كبده أحسن من قول ابن الرومي وأشعرهم أشجع وهو أولى بما قال.
وقال المتنبي:
إَذا الغُصن أمْ ذا الدِّعص أمْ أنت فِتْنةٌ ... وذيَّا الَّذي قبّلتُهُ البرق أمْ ثَغْرُ!
وليس هذا مما يعنى باستخراج سرقته ولكنا نخاف من ناقص النقد أن يتوهم أنّا جهلناه فلذلك نذكر مثالاً احتياطاً. أنشد ابن قتيبة لبعض الإغفال:
أنسيم ريقك أحتال العنبرُ ... هَذا أمْ استنشاقه مِن عنبرِ
أنظام ثغرك ما أرى أمْ لمحة ... من بارقٍ أم معدن من جوهر
(1/399)
هذه معان متساوية غير أن أبا الطيب قد جاء بالكثير الطويل في الموجز القليل فهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
رأتْ وجْهَ من أهْوَى بليلٍ عَواذلي ... فَقُلْنَ نرى شمساً وما طَلَع الفَجْرُ
هذا من المستعمل قال الأول في معناه:
تراءت لنا والليلُ من دونِها سَترُ ... فكانَ لنا من غيرِ نحريهما فَجرُ
وقلت لها من أنْتِ قالتْ: تعجباً ... يُقال كذا للبدر من أنْتَ يا بدرُ
هذا كلام مستعذب والبيت الأول يقارب معنى أبي الطيب وفي الثاني زيادة مليحة عذبة تخبر عن تعجبها من سؤاله إيّاها عنها وهي أشهر من أن يسأل عنها وقال ابن المعتز:
ولمْ أدرِ أنَّ ألبانَ يُغْرسُ في النّقا ... ولا أنَّ شمساً في الظلام تَطوفُ
فشغل صدر البيت من غرس ألبان في النقى بمعنى غريب، وعجب من شمس تطوف في الظلام كما عجب أبو الطيب من رؤية شمس ولم يطلع الفجر فجمع بين الصفتين وزاد في الكلام ما هو من التمام فهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
رأيْنَ التي للسحرِ في لَحظاتِها ... سُيوفُ ظباها مَنْ دمى أبداً حُمْرُ
بينا هو يصفها بأنها كالشمس إذ خرج إلى وصف سحر جفونها وما يفعله به وكان ينبغي أن يجود صنعته ولا يخرج الكلام عن نور وجهها فيقول:
رأين التي للنور فِيها تألق ... يرد عيون الناظرين بها كَسر
400
وقال المتنبي:
يَرى حده غامضاتِ القلوب ... إِذا كُنْتُ في هَبْوةٍ لا أرانِي
وكشف السيف عن غوامض القلوب إنما يكون بشق الصدور عنها وإبراء المنون في ظلم الأحشاء سبلاً وقد شرط فيها ابن دريد أنها لا ترى بقوله في المقصورة:
يُرى المنون حيث تقفو إِثْرَهُ ... في ظُلمِ الأحشاءِ سُبْلاً لا تُرَى
هذا أبلغ وأرجح وهو المأخوذ منه فهو أولى ببيته، وقال المعلى الطائي:
تمشت الهوينى في الرماح سُيوفكم ... حتّى عَرفن مسالك الأرْواحَ
سَخطتْ جماجمُهمْ على أجسادهم ... فتبدلتْ منهم صُدر رماحِ
وقال المتنبي:
سأجْعَله حَكماً في النفوس ... وَلَوْ ناب عَنْهُ لِساني كفاني
وقال الحرثي في مثله:
وإذا تألق في الندى كَلامه ... المصقول خَلتْ لِسانه من غَضبه
وقال ابن المعتز:
ولي حسام يهابُ الناس صَوْلته ... أمضى وأغضب من حديه غضب فمي
وقال أحمد بن محمد الحاجب:
ما يُبالي أسيفَ عمرو بن معدي ... كرب حزْت أم غرار لِسانه
وقال ابن الرومي:
يا مَنْ غدا وعزيمهُ ولسانهُ ... سَيفان شَتْى في الخُطوبِ وفي الخُطبْ
وفيه من المجانسة ما يرجح به، وقال آخر:
يحلو به شبه العمى فكأنّها ... من جدّ مِنْصلة الحسام لسانه
وهذه المعاني داخلة في قسم المساواة فإن قلت إن فائدتها أن ألسنتهم كسيوفهم لا غرو لأبي الطيب زيادة أن جعله حكماً في النفوس ولم يخبروا
بذلك، قلت: ذلك موجود في شعر أبي تمام في قوله:
راحَ التّنصُلُ معقوداً بألسنهمْ ... لمّا غَدَا السَيّفُ في أَعْناقهم حَكَما
ويلي ذلك أبيات أوّلها:
قِفَا تَريا ودقي فهاتا المخايلُ ... ولا تخشيا حلفاً لما أنا قائِل
وقال فيها:
رماني خِساس الناس من صائب أسنه ... وآخر قُطنّ مِنْ يَديه الجَنادِلُ
فهذا بيت ضعيف ونسج سخيف فأما صدره فإنه رماه من أصاب أسته والسهام لا تدور إلى خلفه إنما يحسن أن يقول كما قال الحارث بن وعلة:
قومٌ هُمْ قَتلوا أميم أخي ... فإِذا رميتُ يُصيبني سَهْمي
والسهم قد يصيب بارتداده ما وقع عليه من نحر أو صدر فإن أحتج له محتج فقال ليس هاهنا سهم ولا رمي على الحقيقة إنما هذه استعارة قلنا وكذلك قول الحارث استعارة ولكن ينبغي أن توفي الاستعارة مستعيرها حقوق ألفاظها وقال في عجز البيت:) وآخر قطن من يديه الجنادل (
فإن كان معناه في هذا أن الجنادل من يدي هذا الرامي كالقطن تهاوناً وخفة وزن عليه فإنه لفظ هجين غير رصين.
وقال المتنبي:
ومن جاهلٍ بي وهو يجهل جَهْلهُ ... ويَجْهلُ عِلْمي أنَّهُ بي جاهِلُ
هذا مذهب من الشعر يسميه الجاحظ المذهب الكلامي ويشبهه قول الخليل:
لو كُنْتَ تعلم ما أقولُ عَذرتَنِي ... أو كنت أعلم ما تقول عذرتكا
لكن جَهِلْتَ مقالتي فعذلتني ... وعلمتُ أنَّكَ جاهل فَتركتكا
وهذا الجنس قبيح التعسف بين التكلف وفيه تعب وكد وبلاء وجهد وبالجملة فإن قول أبي الطيب أخصر من هذا وأقل طولاً وهو أحق بما قال ومن هذا الجنس قول القائل:
وعلَّمتني كيفَ الهوى وَجهلتْه ... وعلمني صَبْري عَنْ ظِلمكم ظلمي
وأعلمْ ما لي عِنْدكم فَتميل بي ... هواي إلى جَهلي فأعرض عن عِلمي
وقد كان ينبغي أن أدخل هذا الفن في فنون البديع ولكنه ثقل مثله في
الشعر ولا سيما في شعر أبي الطيب ولا أختار له أن يسلك مسالك من ركب هذا الطريق فلذلك تركته.
وقال المتنبي:
ويَجهلُ أني مالك الأرض مُعسر ... وأني على ظهرِ السَّماكين رَاجِلُ
فمعسر مع مالك الأرض، وراحل على ظهر السماكين معنى مليح وتطبيق صحيح وهو أصح من قول العطوي:
إِنْ كُنتَ أصبحت لابساً سملاً ... فَهمّتي فوق كاهل الفلك
فأبو الطيب أحق بما أخذ وهو مأخوذ من قول أبي تمام:
فَثريت جاراً للحضيض وهِمّتي ... قد عُلقت بكواكب الجَوْزاء
وقال المتنبي:
وما زلتُ طوقاً لا يزول مناكبي ... إلى أنْ بدتْ للضّيمِ فيّ زَلازِلُ
ينظر إلى قول ابن الرومي:
أنا ذو القصد غير أني إذا آ ... نستُ ضيماً رأيت لي غُلواء
وقال المتنبي:
فقلقتُ بالهمّ الذي قَلْقل الحشا ... قَلاقِلَ عيس كُلهُنَّ قَلاَقِلُ
هذا البيت ما ذكره أبو العباس النامي في عيوب شعره وما ظلمه وهو قليل
المجانسة فلما جانس جاء بغير طائل، والهاء والنون في قوله) كلهنّ (تعود على العيس لا القلاقل وهو أبلغ من عودتها على القلاقل وهو يحتاج إلى ناقل فإنه يصح له.
وقال المتنبي:
إِذا الليلُ وارنا أرتْنا خِفافُها ... بقدحْ الحَصى ما لا تُرينا المَشاعِلُ
القدح لا تستنير إلا شرراً والمشاعل إفراط وقد قال أشجع:
ينشرن نَقع القاعِ حين يطأنه ... ويُطرن مُرّان الحصى بالفرْقَدِ
ويقع على الشرار اسم النار ولا يبلغ ذلك إلى المشاعل، قال الحصني:
وللمرء عن قدحٍ ما تستثير ... سَنابلها لهب مضّرم
وكذلك اللهب المضرم قول أبي الطيب فيمن أستحسن المبالغة أبلغ وفي مذهب من ذمها أنقص، وقال ابن أبي كريم:
إِذا أفترشتْ جنباً أثارتْ بمثنه ... عجاجاً وبالكذان نارُ الحَباحبِ
هذا تشبيه مقتصد جيد النظام مستوفي الأقسام أخبر فيه عن حال الأرض الوعثة والصلبة من حال الأغبار والنار بما لا قسم في الأرض الموطوة غيره فهو أحق بالمعنى من جميعهم.
وقال المتنبي:
يُخَيَّلُ لي أنَّ البِلادَ مسامعي ... وأني فيها ما تقول العَوَاذِلُ
وهو بيت معنى وذلك أنه أراد لا يستقر في بلد إنما يدخل أرضاً ويخرج منها إلى غيرها فكأنه عذل العذول له يدخل أذنه ويخرج منها، وأراد بقوله إلى العواذل فحذف لعلم المخاطب مراده.
وقال المتنبي:
ومَنْ يبغِ ما أبْغي من المَجْدِ والعُلا ... تساوى المحايى عِنْدهُ والمَقاتِل
قال امرئ القيس:
فقلتُ لهُ لا تبكِ عَينكَ إِنَّما ... نُحاولُ ملكاً أو نموت فَنُعْذَرا
فتبعه الناس في هذا منهم أبو تمام في قوله:
رَكُوبٌ لأَثباج المهالكِ عالم ... بأنَّ المَعالي دُونَهنَّ المَهالِكُ
وقال أبو تمام أيضاً في ممدوح مدحه وقد قال:
وقَدْ قالَ إِمَّا أنْ أُغادرَ بَعْدَها ... عَظيماً وإِمّا أنْ أغَادرَ أعْظُمَا
فجاء بمعنى بيت امرئ القيس في مجانسة مليحة. وقال ابن الرومي:
وَمنْ لمْ يَزلْ في مصعب المجد راقياً ... صِعاب المراقي نالَ أعلى المَراتبِ
فامرؤ القيس بالسبق أولى) الناس (بما قال وأبو تمام فأخذ ببيته كمعنى بيت امرئ القيس بغير زيادة والبيت الثاني فيه مجانسة مليحة رجح بها كلامه وابن الرومي يساوي أبا الطيب في كلامه وابن الرومي بالتقدم أولى بما أخذ عنه.
وقال المتنبي:
ألا ليْسَت الحاجاتُ إلاّ نُفوسكمْ ... وليْسَ لنا إِلاَّ السيوف وسَائلُ
والعلوي البصري:
إِذا اللئيم مط حَاجيه ... وزادَ عَنْ حريم دِرْهميه
فأنهضْ إلى السيف وشفرتيه ... فاستنزل الرزق بمضربيه
إذا قعد الدهر فَقُمْ إِليه
وفائدة هذا البيت فائدة وليس لنا إلا السيوف وسائل فلم يجعل ذلك الرزق إلا منه ولم يجعل هذه الوسيلة في حوائجه غيره ولعل غائباً أن يقول يحتاج إلى إيراد بيت سرقه فيأتي بمتطوع كامل، ولعمري إن هذا قد مضى منا مثله ويمضي في باقي الكتاب، لأنا ما جهلنا ما ذكره ولا عمتنا عما أبصره ولكن قصدناه قصداً وأتيناه عمداً لأن موضوع الكتاب الفائدة للقارئ ولسنا من عليه من الإكثار عاقبة للإضمار بمعنى واحد من السرقات فيريد أن ينقله إلى استماع شعر مطرب أو خبر معجب ليروح عن قلبه ويجلو صدى ما في الانتقال من حال إلى حال من مداواة
(1/308)
القلوب من الإملال. وقد قال بعض الصحابة روحوا القلوب تعي الذكر. وقال أبو الدرداء: إني لأستجّم نفسي بالشيء من الباطل ليكون أعون لها على الحق. وروى عن عطاء بن يسار قال: كان يفض علينا حتى نبكي ويجدينا حتى نضحك، ويقول مرة هكذا ومرة هكذا وقد حضر بشار بن برد مجلساً فقال: لا تجعلوا مجلسنا هذا حديثاً كله ولا غناء كله ولا شعراً كله ولكن تناهبوه فإن العيش فرص ثم يعود إلى موضع التأليف.
ويتلو ما تقدم قصيدة أولها:
ضَيْفٌ ألمَّ برأسِي غَيْرَ مُحْتِشم ... السَّيفُ أحْسَنُ فِفْلاً مِنْهُ باللّمم
العامة تضع الحشمة موضع الاستحياء والعرب تضعها موضع الغضب وقد أستعمل الأرذل في موضع الأفضل وأوجب الاستحياء من الضيوف وميّز عادة هذا
(1/309)
الضيف من عاداتهم وحشمة الضيف إنما تكون من لئيم فأما من أهل الكرم فلا حشمة منهم فأما معنى بيته فهو قوله:) والسيّف أحسن فعلاً منه باللمم (وذلك من قول القائل:
وَصد الغواني عَنْ بِياضٍ بعارضي ... وأعرضن عَنْ لبيك لي عنْدَ مَنْطقي
فليتَ بياض السيف يَوْم لقيتني ... مَكان بياض الشيبِ كان بِمفرقي
ومجيء البياض مكان البياض من الترديد المليح الذي رجح به لفظه فصار أولى بما قال وقد ملح دعبل في تسمية الشيب ضيفاً وهذا يدخل في الاستطراد يريد مديح نفسه بالكرم لمحبة الأضياف في قوله:
ومِقتُ الشيب لَما قيل ضيفٌ ... لحبي للضيوف الطارِقينا
وقال المتنبي:
أبْعَدْ بَعِدْت بياضاً لا بياض لَهُ ... لأنْتَ أسود في عيني من الظُّلمِ
سامح أبو الطيب نفسه في هذا ولم يبلغ علمه إلى ما فيه عليه لأن العرب لا تقول أسود من) كذا (ولا أحمر من كذا إنما تقول في الألوان أشد سواداً) أ (وأشد
(1/310)
حمرة، وهذا رأي البصريين وما ورد ما قاله أبو الطيب إلا في بيتين شاذين غير مأخوذ بهما ولا معول عليهما فأحدهما) من قول الراجز (:
جاريةٌ في درْعها الفضفاض ... أبيض من أخت بني إِباضِ
والآخر:
إذ الرّجالُ شَتوا وأشتدَّ أكلهُمُ ... فأنْتَ أبيضهُمْ سربال طَبّاخِ
هذا حال الإعراب وأما المعنى فأخذه من قول أبي تمام:
لَهُ مَنْظرٌ في العَينِ أبيض ناصِعُ ... ولكّنهُ في القلب أسودُ أسْفَعُ
وقال ديك الجن:
نباتُ في الرؤوس لهُ بَياض ... ولكنْ في القلوبِ لَهُ سَواد
وقد سلم البيتان من اللحن ولم يعد ما حسن الكلام فلفظهما أرجح والسابق أولى بما قال.
وقال المتنبي:
بحُبّ قاتِلتي والشيب تَغْذَيتي ... هواي طفلاً وشَيبْي بالغ الحُلمِ
تقرب ألفاظه من قول أبي علي البصير:
وتَمتعتُ شبابي كلهُ ... وغذائي بالهوى قبل الحلمِ
وقال المتنبي:
وما أمرّ برسم لا أسائلُهُ ... ولا بذات خمار لا تُريقُ دَمي
هذا العموم في لفظه بمسائلة كل رسم وإراقة كل ذات خمار دمه لا أحبه قد يمكن أن يكون الرسم لغير محبوب ويكون ذات خمار مشينة أو عجوزاً فيصير حفاظه في القياس شبهاً بالوسواس.
وقال المتنبي:
تَرْنو إليّ بعين الظّبي مُجْهشةً ... وَتَمْسح الطّلَّ فَوْقَ الوَرْدِ بالعنم
وهذا تشبيه أبي نواس:
يا قمراً أبصرت في مأتمٍ ... يَنْدبُ شَجْواً بَين أتْرابِ
يَبْكي فيذْري الدُّرَّ مِنْ عينه ... وَيلطُمُ الورْدَ بِعُنَّابِ
جعل مكان الطل الدرّ وكلاهما يراد الدموع والعناب مكان العنم والورد بازاء الورد فلا زيادة له على أبي نواس غير أن الطلّ يقع على الورد ويخضر العناب بحيث يخضر الورد من البساتين والدارسين من جنس الأزهار والأثمار فجمع بين أنواع متجانسة ولقائل أن يقول ذكر الدّر هاهنا بمنزلة عين الظبي وأنقطع الكلام ثم عطف ما يتجانس على مثله فالأول أحق به.
وقال المتنبي:
أبديتَ مِثْلَ الذي أبْديتُ من جزعٍ ... ولمْ تُجنّي الذي أجنيتَ من ألمٍ
وهو من قول أبي نواس:
زعمتم بأنَّ البين يْحزنكُمْ نعم ... سيُحزنكُمْ علْمي ولا مثل حزْننا
وفي كلام أبي الطيب جزالة يفضل أبا نواس ورجح كلامه على كلامه فهو ولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
أرى أناساً ومحصولي على غنمٍ ... وذكر جودٍ ومحصولي عَلى كَلمِ
أما صدر هذا البيت فمن قول أبي تمام:
لاَ يَدْهمَّنكَ مِنْ دهمائهمْ عَدَدُ ... فإِنَّ جُلَّهُمُ بل كُلَّهُمْ بَقَرُ
وأما عجزه فمن قول أبي تمام:
مُلْقَى الرَّجاءِ ومُلْقى الرَّحْلِ في نفرٍ ... الجُودُ عِنْدهمُ قَولُ بلا عَمَلِ
مثله للقائل:
جاءني الصك بالشعر ولكن ... لمْ أحْصِل سِوى استماعُ الكلام
فالمعنى يساوي المعنى ولكن قد استوفى اللفظ الطويل في الموجز القليل وأتى في بيت واحد فصار أحق بذلك من الأول: وقال المتنبي:
وَرُبَّ مالٍ فقيراً من مُروتّهِ ... لَمْ يُثر مِنها كما أثْرى من العَدَمِ
هذا من قول البحتري:
إِذا المرْءُ له يحصل غِناهُ ذَرِيعةً ... إلى سُؤْدُد فأعدد غِنَاه من العدْمِ
ومعنى البحتري أوضح لفظاً وأرجح.
وقال المتنبي:
سَيصحبُ النَّصْلُ مِنّي مثل مضربه ... وتتجلى خبرتي عن صِمّة الصِّممِ
فائدة هذا البيت أن النصل قد صحب منه مثله فهذا موجود في قول مسلم:
أتتكَ المطايا تبقى بمطيةٍ ... عَليها فتىً كالنَّصْلِ يَصْحبه النَّصْل
وهذا مما يدخل في قسم المساواة والسابق به أولى به من السارق.
وقال المتنبي في الخيل:
فالطعنُ يُحْرِقها، والزَّجْرُ يُقلقُها ... حتى كأنَّ بها ضَرْباً من اللَّممِ
قال البحتري في فرس:
وتظنُّ رَيْعَانَ الشَّباب يَروُعُهُ ... من نشوة أو جنَّة أو أفكَلِ
فجمع البحتري أوصافاً متقاربة ومعان متناسبة لم تحصل لأبي الطيب منها غير صفة واحدة فكلام البحتري أرجح وهو أولى بما قال.
وقال المتنبي:
تُنْسى البلاد يروق الجو بارِقَتي ... وتكتفي بالدَّمِ الجاري مِنَ الديمِ
وهذا البيت رديء الصنعة إنما يكتفي بالشيء عن الشيء إذا ساواه، والديم لا تكفي البلاد بالدم عنها لأن الأرض لا تشرب الدم ولا تنبت عنه فليس تشبيهه تشبيهاً صحيحاً.
وقال المتنبي:
إِنْ لم أدعك على الأرماحِ سائلة ... فلا دُعيتُ ابن أُمّ المجدِ و) الكرم (
هذا يقرب من قول ابن دريد:
خَيْرُ النفوس السّائلاتُ جَهْرةً ... على ظُبات المُرْهفاتِ والقَنَا
يتلوها أبيات أولها:
أبا سَعيدٍ جنّبِ العتابا ... فَرُبّ رائي خطاءٍ صَوَابا
يقرب هذا من قول منصور النمري:
لعلَّ له عُذراً وأنْتَ تَلُومُ ... وكم لائم قَدْ لام وهو مُلِيمُ
وليس في هذه الأبيات معنى رائق ولا لفظ فائق وكذا أكثر مقاطعه لا يلحق بقصيدة وقد رغب عن أشياء من شعره لا يستحق الرغبة عنها وأثبت أشياء لا فائدة فيها لغرض له وافقه لا لحسن الشعر.
ويليها أبيات أولها:
شَوْقي إِليْكَ نفى لذيذَ هُجُوعي ... فارقتني فأقامَ بين ضُلُوعي
ليس في هذا الكلام معنى غير المطابقة بين المفارق والمقيم وذلك موجود في قول البحتري:
رَحلَ الظاعِنونَ عَنّك وأبقَوْا ... في حَواشي الأحْشَاءِ حُزْناً مُقِيمَا
وهذا يدخل في باب المساواة، والسابق أولى به من اللاحق.
وقال المتنبي:
ما زِلتُ أحْذر مِنْ وداعِكَ جاهداً ... حتى اغتدى أسفي عَلى التَوْديع
معنى هذا البيت: أني كنت أحذر الفراق فلما وقع البعد أسفت على التوديع لما نلت فيه من اللذة والعناق كما قال أبو تمام:
منْ يكنْ يَكْره الفراق ... فإِني أشْتهيه لموضعِ التسليم
إِنّ فيه اعتناقه لوداع ... وانتظار اعتناقه لقدومِ
وكلام أبي تمام أشرح ومعناه أرجح فهو أولى بما أخذ عنه.
وقال البحتري:
أُحاذرُ البينَ من أجل النوى ... طوراً وأهواه من أجل الفراقِ
ويلي ذلك أبيات أولها: أيَّ مَحلّ أرْتقي؟ أيَّ عظيمٍ أتَّقِي؟
وكُلُّ ما قَدْ خِلَق ... الله وما لمْ يَخْلُقِ
مُحْتقرٌ في هِمَّتي ... كَشعْرةٍ في هِمَّتي كَشعْرةٍ في مَفْرِقي
هذه أبيات فيها قلة ورع أحتقر ما خلق الله عز وجل وقد خلق الأنبياء والملائكة والصالحين وخلق الجن والملوك والجبارين وهذا تجاوز في العجب الغاية ويزيد على النهاية وقد تهاون بما خلق وما لم يخلق فكأنه لا يستعظم شيئاً مما خلق الله عز وجل الذي جميعه عنده كشعرة في مفرقه.
وهذا مما لا أحب إثباته في ديوانه لخروجه عن حد الكبر إلى حد الكفر.
ويلي هذا مقطوع أوله: أنا عاتب لتغيبك متعجب لتعجبك قال فيها: إذ كنت حين لقيتني متوجعاً لتغيبك وقال أبو تمام:
وولهتُ إِذ رُمَّتْ رِكابُكَ للنَّوى ... فكأَنِني مُذْ غِبتَ عَنِّي غائِبُ
وما فيها غير قوله:
فَشغلت عَنْ رد السلام ... وكان شغلي عنك بك
وبعدها أبيات فارغة أولها:
أرى الشطرنج لو كانت رجالا ... تهز صفائحاً وقتاً طوالا
ومثلها لا يشتغل بها، وبعدها بيت منفرد وهو:
إِذا لمْ تَجدْ ما يَبْتُرُ الفقْرَ قاعداً ... فَقُم فأطلب الشَّيء الَّذي يبتر العُمرا
وهذا بيت جيد وفيه مطابقة بين القيام والقعود وفيه من ترديد اللفظ في يبتر ما يستحسن ولكن لا أحب لشاعر قادر على الكلام محكم في النظام أن يعمل بيتاً مفرداً بغير ثانٍ فإذا فعل هذا فينبغي أن يكون البيت باهراً ومعناه نادراً كما حكي عن الرقاشي أنه قال:
لَوْ قيل من رجلٍ طالتْ بلبته ... لاستعجلت غيرتي حتى أقول أنا
قال بعض الأدباء: لقيته فقلت له ما أحسن ما قلت لو جئت له بثان قال: فعمل نحو الأربعين بيتاً ليس فيها بيت يلحقه ثم قال:
وَلوْ قضى حزناً مستهتر كَلف ... لكنتَ أول محزون قَضى حُزْنَا
وما كان يعجزه مع قدرته على أن الشعر أن يكون لهذا البيت أبيات تليه في معناه ومن مفردات قوله:
في الصدقِ مندوحة عن الكذب ... والجدُّ أولى بِنا من اللعبِ
هذا فارغ ولو جاء بقصيدة مثله لوجب طرحها.
وقال بعده:
أنْصُرْ بجودكَ ألفاظاً تركتُ بها ... في الشَّرق والغربِ من عاداك مكبوتا
فَقَدْ نَظرتُكَ حتى حانَ مُرْتحلٌ ... وذا الوداعُ فَكُنْ أهلاً لما شِيتا
معناه فكن أهلاً لما تنبئت من الإحسان أو ضده وقد قيل فيمن هو في هذا المعنى فيمن هو أرفع بدراً ممن مدحه أبو الطيب وهو طاهر بن الحسين ما هو أكثر تهدداً وأعظم توعداً قال فيه ابن الجهم:
أ) طاهرُ (إنّي عنْ خُراسان راحل ... ومُسْتَخبر عنها فما أنا قائِلُ
أأهجوك أمْ أثني عليك فأيما ... تخيرتَ أهْدَته إِليك المحافِلُ
وقال ابن الجهم في مثله:
عِنْدي خِيارات فأختر والخيار ... لِمَنْ في مثل رأيك إِلا يقبلُ الغبنا
واعلمْ بأنَّكَ ما أسْديت مِنْ ... حَسن إِليّ أو شي وقتك الثمنا
فقد خبر أبو الطيب في قوله ما شئت ولكنه كلام مجمل غير مشروح ولعلي شرح واضح وإن طال فكلاهما محسن وبازاء المختصر المشروح وإذا جعلنا التطويل بازاء المشروح دخل هذا الشعر في باب المساواة ولو شاء الناظر فيها لأدخلها في قسم نقل الطويل الكثير إلى الموجز القصير فصار أبو الطيب أرجح كلاماً من غيره.
ويلي هذين البيتين قصيدة أولها:
أشى الرقيبَ فَخانتْهُ ضمائرهُ ... وغيَّضَ الدَّمْعِ فأنهلّتْ بَوادِرُهُ
وكاتم الحُبّ يوم البين مُنْتهكٌ ... وصاحبُ الدَّمْعِ لا تَخْفى سَرائرُهُ
هذا معنى مستعمل لا يعبأ بمثله ولكنه لم يحقره فأوجب أن يقول أخذ هذا من بيت أنشده المبرّد:
وأظهرت الدموع هَوىً مصوناً ... ولمْ نر فاضحاً مِثْل الدموع
وقال المتنبي:
نُعْجٌ محاجرُهُ، دُعْجٌ نَواظِرُهُ ... حُمْرٌ غَفائِرُهُ، سُودٌ غدائِرُهُ
جاء أبو الطيب بحمر غفائره بين صفات الخلق ولو كانت خضر العقائر أو صفراؤها لم يفد ذلك إلا إفادة الخمر ولو قال بيض ترابيه، سود غدائره طابق بين البياض والسواد وكان البيت كله في صفات الخلق لكان أحسن.
وقال المتنبي:
أعارني سُقْم عَينيهِ وَحمّلني ... مِن الهوى ثِقْلَ ما تحوي مآزرُهُ
قال الخبزأرزي:
وأسقمني حَتّى كأني جُفُونُه ... وأثْقلني حتى كأني رَوَادِفُه
وكلام أبي الطيب أرطب ومعناه أعذب فهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
يا منْ تَحكَّمَ في نَفْسي فَعذبني ... ومَن فُؤادي على قَتْلي يُضَافرُهُ
بِعَودة الدَّولةِ الغَرَّاء ثانيةً ... سَلوتُ عنك ونامَ اللَّيلَ ساهِرُهُ
بيتاً يخبرنا بمضافرة قلبه على قتله إذ خبّر بعودة الدولة للممدوح بسلو حادث ونوم عمّن يحب، وليس هذا يسلي الحب إنما يسلي بموت مؤنس أو فراق طويل وهذا كثير فمنه قول مسلم:
يُضافره قَلْبي عليَّ جَهالةً ... ويوشك يسلو حبّه ثم يَنْدِمُ
وقال ابن الأحنف:
قَدْ صِرتُ عبداً لأذني من ... يلوذ بكم فيما مضى مولى مواليك
قلبي محبٌ لكم راضٍ بفْعلكم ... أستروق الله قلباً لا يحابيك
وهذا يدخل في نقل الطويل الكثير إلى الموجز القصير وهو كله في نصف بيت لأبي الطيب وهو: ومن فؤادي على قتلي يضافره.
فهذا أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
مِنْ بَعْد ما كانَ لَيْلِي لا صَباحَ لَهُ ... كأنَّ أولَ يَوْمِ الحَشْرِ آخرُهُ
وهذا من قول ابن أبي الحرث:
كمْ ليلةٍ قَيل لا صباحَ لها ... أحببتها قابضاً على كَيدي
وقال الحماني:
يا ساعةَ البين أنْبري فكأنَّما ... واصلتْ ساعاتُ القيامةِ طُولا
وقال ابن الرومي:
وكأنَّ ليلته عليَّ طُولها ... باتتْ تَمّحضُ عنْ صباح الموقفِ
وكل هذه المعاني داخلة في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
قَدْ اشْتكتْ وحْشةَ الأحْياءِ أرْبُعُهُ ... وخبّرتْ عَنْ أسى الموْتى مَقابِرُهُ
العبارة عن الموتى بالأسى محال، وأحسن من قوله قول البحتري:
تحمّلَ عنه ساكتوهُ فجاءةً ... فعادتْ سواءً دُورُهُ ومَقابرُهُ
وقال المتنبي:
دَخَلتْها وشعاعُ الشَّمْسِ مُتَّقِدٌ ... ونورُ وجْهِكَ بين الخلق باهرُهُ
وليس هذا مما يعبأ ولكنه مأخوذ من قول البحتري:
والشَّمسُ ماتِعةٌ توقَّدُ بالضُحى ... طَوْراً ويُطْفئها العجاجُ الأكْدَرُ
حَتَّى طلعْتَ بضوءِ وجْهكِ فانْجلى ... ذاك الدُجى وانجابَ ذاك العَثيرُ
قد جمع أبو الطيب اللفظ الطويل في الموجز) فهو أحق بما أخذ (.
وقال المتنبي:
في فَيْلق من حديدٍ لَوْ قَذَفْتَ به ... صَرْفَ الزَّمانِ لما دارَتْ دَوائِرُهُ
ينظر إلى قول أبي تمام:
أمطرتهُمْ عزماتٍ لو رَميْتَ بها ... يومَ الكَريهةِ رُكنَ الدَّهْرِ لانْهدا
ولفظه من لفظ أبي العتاهية:
وأخلاقٌ تَركْنَ الدَّهر ... لا تعدو دَوائرُهُ
وقال المتنبي:
تَمْضي المواكبُ والأبصارُ شاخِصةٌ ... منها إلى المَلكِ الميْمُون طائِرُهُ
وليس هذه المعاني مما يشتغل بإخراج السرقة فيها ولكن قد استحسن أخذها فحسبنا أن يظنّ بنا ظانٍ أنّا لم يعلم أصولها فيعبر عنها بجهلها فضلاً عن إغفالها فاحتطنا بذكرها، وهذا يدخل في قسم باب المساواة.
وقال المتنبي:
قَدْ حِزنَ في بَشر في تاجه قَمَرٌ ... في درْعه أسدٌ تدمي أظافرُهُ
هذا من قول أبي نواس:
وإذا مج الفتى علقماً ... وتراءى الموت في صُورْهِ
راحَ في ثيني مفاضَتهِ ... أسد يدْمي شبا ظُفُرْهِ
كلام أبي نواس أجزل غير أن أبا الطيب جمع صفات لم يجمعها أبو
نواس فبازاء جزالة لفظ أبي نواس ما جمعه أبو الطيب من متفرق الصفات حتى دخل ذلك في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
حُلْوٍ خَلائِقُهُ شُوْسٍ حقائِقُهُ ... تُحْصى الحَصَى قبل أن تُحصى مآثِرُهُ
قال ديك الجن:
نغدو على سيّدنا نحصي الحصى عدداً ... في الخافقين ولا تحصى فَواضِلُه
جمع بيت ديك الجن في بعض بيت أبي الطيب وهذا يدخل في نقل اللفظ الطويل في الموجز القليل، وقال ابن دريد:
يُحْصى الحَصى والثُرى ونائله ... لا يتعاطا أدناه من حَسِبا
وقال المتنبي:
تَضيقُ عن جيشه الدُّنيا فلو رحُبت ... كصدْره لَمْ تَبنْ فيها عساكِرُهُ
هذا كقول أبي تمام:
وَرْحب صَدْرٍ لو أنّ الأرضَ واسعةً ... كرحبه لم يضقْ عن أهله بلدُ
وهذا مما يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
تحْمي السُّيوفُ على أعدائه مَعَهُ ... كأنَّهُنَّ بنُوهُ أوْ عشائِرُهُ
قال أبو تمام:
فإِنَّ المنايا والصَّوارم والقَنا ... أقاربُهُمْ في الرّوع دُون الأقاربِ
وهو ينظر إليه، وفي معنى قول أبي الطيب قول أبي تمام أيضاً:
كأنّها وهي الأرواح والغةٌ ... وفي الكُلى تَجِدُ الغَيْظ الذي نَجِدُ
وقال ابن المعتز:
يَغضبُ الدَّهر لغضبه ... فكأنَّ الدَّهرِ مِنْ نفرهِ
وهذا مما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
إِذا انتضاها لحرْبٍ لمْ يدع جسداً ... إلاّ وباطنُهُ للعين ظاهِرُهُ
هذا مأخوذ من قول ابن الخطيم:
ملكتُ بها كَفّي فأنْهرتُ فَتْقها ... يرى قائمٌ من خَلفِها ما وراءها
وهذا يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
فَقَدْ تَيقّنّ أنّ الحقَّ في يَدِهِ ... وَقَدْ وثَقْنَ بأنّ اللهَ ناصرُهُ
والمليح قول أبي تمام:
ما إِنْ يخافُ النصر من أيّامِهِ ... أحَدٌ تَيَّقنَ أنّ نَصْراً ناصرُهُ
ففي هذا البيت تجنيس من ذكر النصر الذي هو مصدر، والنصر الذي هو اسم فقد زاد لفظه ورجح فصار أبو تمام به أحق.
وقال المتنبي:
فخاضَ بالسَّيفِ بحْر الموت خَلْفُهمُ ... وكانَ مِنْهُ إلى الكَعْبينِ زاخرُهُ
وقال أبو تمام:
وقَدْ علم القِرْنُ المُساويك أَنَّهُ ... سَيَغْرقُ في البحر الذي أنْت خَائِضُ
ولم يفد أبو الطيب بأن خبّر عنه بخوض بحر الموت خلفهم فإن بحر الموت لم يجاوز يعني الخائض زاخره، وأبو تمام ذكر أنه خاض ما غرق فيه مساويه، ولم يخبر أبو الطيب بذلك فقد رجح كلام أبي تمام وأستحق المعنى.
وقال المتنبي:
حتّى انْتهى الفرسُ الجاري وما وَقَعتْ ... في الأرضِ من جيف القتلى حوافرُهُ
قال محمد بن علي الجواليقي:
بينا يَرى فارساً على فرسٍ ... إِذْ صار نعلاً لموطئ الفرس
فالإشارة واحدة إلى معنى مساو فهو يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
لا يخْبرُ النَّاسُ عظماً أنت كاسِرُهُ ... ولا يهيضُونَ عظماً أنْتَ جابرُهُ
قال البحتري:
كسرْتُم كسر الزُّجاجةِ بَعْدَهُ ... ومَنْ يَجْبرُ الوهي الَّذي أنْتَ كاسرُهُ
وقال البحتري:
رُبّ عظم قَدْ هَضته كان ذا جبرٍ ... وعظمٌ منعته أن يهاضا
وفي البيت الأول من قول البحتري تمثيل للكسر بالزجاجة التي لا جبر لها وجعل الممدوح ممن لا يجبر وهي كسره، ومثل ذلك قول القائل:
لا يجْبرُ النّاسُ عَظْمَ ما كَسرُوا ... ولا يهيضُونَ عظم ما جَبرُوا
وهذه أبيات متقاربات المباني والمعاني تدخل في المساواة.
ويتلوها قصيدة أولها:
عَزيزٌ أسىً من داؤُهُ الحدقُ النُّجلُ ... عَياءً به ماتَ المُحبّون مِنْ قَبْلُ
هذا يقرب من قول ابن المعتز.
يا مَنْ يَلومُ على الهوى ... دَعْني فذا داءٌ قديمُ
هذا أرق وأعذب من بيت أبي الطيب وإن كان معناهما غير غريب وهذا من نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي.
وقال المتنبي:
ومَنْ شاءَ فَلْينظُرْ إليَّ فمنظري ... نذيرٌ إلى مَنْ ظنّ أنّ الهوى سَهْلُ
يقرب هذا من قول محمد بن عبد الملك الزيات:
مَنْ سَرهْ أنْ يرى مَيت الهوى ... دنفاً، فليستدل على الزيات وليقف
وقال آخر:
من رآني فلا بد تمن لحظاً ... وليكن في جنبيه سامريا
وكلها مبانيها ومعانيها متساوية والسابق أحق بما قال.
وقال المتنبي:
جَرى حُبّها مَجْرى دمي في مَفاصلي ... فأصْبحَ لي عَنْ كل شُغْلٍ بها شُغْلُ
أما صدر هذا البيت فمن قول أبي الشيص:
أما وحرمة كأسٍ ... من المدامِ العتيقِ
وعقدُ نحرٍ بنحرٍ ... ومزجُ ريقٍ بريقِ
ولقد جرى الحبُّ منّي ... مجرى دمي في عروقي
وقال المجنون:
وَشُغلتُ عَنْ فهم الحديث سوى ... ما كانَ منك فأهانهِ شُغْلي
وأديم نحو محدي ليرى ... أنْ قد فهمت وعندكم عَقْلِي
وقال البحتري:
وألحاظ عَيْنٍ ما عَلِقْنَ بِفارغٍ ... فَخلينه إلا وهنّ له شُغْلُ
وقال المعرج:
يكبرن من شوق الذي كُلَّ شوقةٍ ... ويجعلن شغلاً لأمرٍ ما له شُغْلُ
ولولا أن هذا البيت معلم الظرفين مسروق النصف لم ينفرد فيه بمعنى ولا زيادة لدخل في جملة ما نقل من اللفظ الطويل إلى الموجز القليل لأنه قد جمع ألفاظ بيتين في بيت ولكنه مسلوب فينبغي أن يغفر له باختصاره ذنب سرقته.
وقال المتنبي:
ومِنْ جَسدي لمْ يترُكِ السّقْمُ شعرةً ... فما فَوْقها إِلاّ وفيها لهُ فعْلٌ
أخذ هذا من المسلمي:
لم يتق من بدني جُزء عِلمتُ به ... إِلاّ وقدْ حلَه جُزء من الحزنِ
وينظر إلى هذا بيت ثاني:
دعيني جهاراً إلى حُبها ... ولمْ تدر أني لها أعْشقُ
فقمتُ وللسَّقم من مَفْرقي ... إلى قدمي ألسن يَنْطِقُ
وبيت المسلمي تقرب صنعته من صنعة بيته وكلام المسلمي بالعذوبة أرجح فهو أولى بما أخذ.
وقال الديك:
تراكَ يظن فيه مَقر عضو ... ببيتٍ ومَا تغمده سِقامُ
وقال المتنبي:
إِذا عَذَلُوا فيها أجَبْتُ بأنّةٍ ... حُبَيِّبتا قَلْباً فؤاداً هَيا جُمْلُ
هذا ترفق جاف متكلف ومتفاصح متعجرف وليس هذا مما يطلب له استخراج سرقة.
وقال المتنبي:
كأنَّ رقيباً منك سدّ مسامعي ... على العَذْل حتَّى ليس يَدْخُلُها العَذْلُ
إعادة العذل هاهنا مرتين قبيح في الكلام جائز في الشعر أنشدنا في مثله أبو بكر بن سيار النحوي قال: أنشدناه أبو جعفر أحمد بن محمد بن النحاس:
لعمرك ما معن بتارك حقّه ... ولا منسئ معن ولا متيسر
فأعاد معناً مرتين والأجود ترك إعادته وهو مسروق من قول مسلم:
مللتُ من العُذّال فيها فأطرقَتْ ... لهم أذُنٌ قَدْ صَمّ مِنْها المسامعُ
ومن قول أبي العتاهية:
أريح حب الصبي عن بصري ... وسد سمعي عن الملامات
وليس في هذه الأبيات فائدة أكثر من أنّ القوم قد أخبروا أنهم لا يسمعون العذل في محبهم وقد زاد أبو العتاهية عليهم بالعمى والصمم وذلك يدخل في باب المساواة وإن كان كلام مسلم أجزل.
وقال المتنبي:
كأنَّ سُهادَ الليلَ يَعْشُق مُقْلتي ... فبينهما في كل هَجْرٍ لَنا وَصْلُ
وهذا يحتاج إلى شرح كاف يجب أن يقول:
سُهادَ العينِ تَعشق مُقلتي ويفرق ... مَعشوقتي فإِذا هجرت أغتنم وصلي في عينيها
وقال المتنبي:
(1/331)
أحِبُّ التي في البدْر منها مشابه ... وأشكو إِلى مَنْ لا يُضابُ لَه شَكْلُ
جاء في هذا البيت بما يشكل وخبر بحبه من يشبه البدر وخبر عن شكوى إلى من لا شكل له كان يشكو حاله إلى الممدوح فحسن وإن كان يشكو محبوبته إلى ممدوحه فقد أساء وأبتذله كما أبتذله أبو نواس في قوله:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالدٍ ... هواكَ لعلّ الفَضْلَ يجمعُ بيننا
وما فرحت بالمبتدئ فكيف بالمقتدي.
وقال المتنبي:
إِلى سَيِّدٍ لو بشّر اللهُ أمّةً ... بغير نبيّ بَشّرَتْنا به الرُّسْلُ
ينظر معناه إلى قول ابن الرومي:
فَلوْ نزلتْ بعد النبيين سورة ... إِذا نزلتْ في مدحه سُوراتُ
وقد بشرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمهدي وليس بنبي.
وقال المتنبي:
إلى القابضِ الأرْواح والضّيْغم الذي ... تُحدّثٌ عن وقْعاته الخَيلُ والرَّجْلُ
والصحيح عن وقعاته - بفتح القاف والتسكين - من مألوف ضروراته.
وقال المتنبي:
إلى ربّ مالٍ كلما شَتَّ شَمْلُهُ ... تجمع في تشتيته لِلْعُلا شَمْلُ
(1/332)
قال أبو تمام:
لَهُ كلّ يَوْمٍ شَمْلُ مجدٍ مؤلّفٍ ... وَشممّلُ ندىً بينَ العفاةُ مَشتّتِ
وليس يزيد بيت أبي الطيب على هذا في مبنى ولا معنى فهو أحق للسبق، وقال أبو تمام:
قَومُ إِذا فَرقوا شَمْل اللهى جَمعوا ... شَمْلُ العُلى وإِذا لمْ يرضهم قُمْتُ
فقد أتى بمعنى مستوفى وأتى بزيادة في آخر البيت فصار أحق بما أخذ منه بزيادة لفظه على لفظ من أخذ عنه، وقد أخذ منه هذا البحتري فقال:
ومعالٍ أصارها لاجتماعٍ ... شَمْلُ مالٍ أصارهُ لافْتِراقِ
قال بعض الأعراب:
أعاذلني لَومي البخيل على البخلِ ... ولا تكثري لَوْم البذولِ على البذلِ
ذريني وهذا المجد أجمع شمله ... ويصبحُ مالي وهو مفترق الشملِ
وهو من التساوي. وقال المتنبي:
همَّامٌ إِذا ما فارقَ السيف غِمْدَهُ ... وعايَنْته لم تدْرِ أيّهُما النَّصْلُ
(1/333)
وقال الحماني:
إِنّي وقومي منْ إحسان قومهم ... كمسجد الخيف مِنْ بحبوحة الخيف
ما علقَ السيف مِنا بابن عاشرة ... إِلاّ وهمّتُه أمضى من السيفِ
وأوضح من هذا قوله أيضاً:
تستأنس الضيف في أبياتنا أنساً ... فليسَ يعلم خلق أينا الضيف
والسيف إِنْ قستَهُ يوماً بناشئنا ... في الروع لم تَدرْ عزماً أينا السيف
فليس في بيت الحماني حشو لأن الناشئ مفيد أن عزمه في حال الحداثة التي يطعن على أهلها بها لأن جهلها معذور وعلمها محقور بمنزلة السيف مضاء قوله في الروع أيضاً مفيد لأنه يسلب المحتنكين عزائمهم وحديث فراق السيف غمده وذكر المعاتبة حشو مذموم وما زاد عليه في المعنى ولا المبنى فصاحب البيت أحق به.
وقال المتنبي:
(1/334)
على سابحٍ موج المنايا بنحره ... غداةَ كأنَّ النَّبْل في صَدْره وبلُ
قال محمد بن الحسن الأسدي المعرج في جيش: في ذي صهيل ونبله من نبله فقد أتى المعرج باللفظ الطويل في الموجز القليل فهو أحق بما قال.
وقال المتنبي:
إِذا قيل رفْقاً قال للحِلْم مَوْضِعٌ ... وَحِلْمُ الفتى في غيرِ مَوْضِعه جَهْلُ
أصل هذا من قول الأول:
وبعضُ الحلم عِند الجَهْ ... ل للذَّلَّةِ إذْعانُ
وقال ابن الرومي:
حليمٌ إذا ما الظلم أحمد عبه ... وآل إلى العُقبى التي هي أسلمُ
جَهول على الأعداء جهل ركانه ... يُداوي بها جهل الجهولِ فيحسمُ
وقد طول ابن الرومي وزاد في الشرح وما زاد على إيراده معنى أبي الطيب.
وقول الآخر:
جَهول إِذا أزرى التحكم بالفَتَى ... حليمٌ إذا أزرى بذي الحسب الجهلُ
(1/335)
ومعنى هذا يوافق معنى بيت أبي الطيب بغير زيادة فهو يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
وَلوْلا تولي نفسه حَمْل حلْمه ... عنْ الأرض لانهدَّتْ وناءَ بها الحِملُ
قد خبر في البيت الأول أنه قد يفارق الحلم لموضع إصلاح نفس الجاهل لجهله الذي يكف الجاهل عن الطمع فيه ثم أفرط في وصف حلمه بعد ذلك والمعنى الصحيح ما قال البحتري:
مَعْشر أمسكَتْ حلومُهم الأر ... ضَ، وكادتْ من عزِّهم أنْ تَميدا
وهذا الكلام يرجح على كلام أبي الطيب بالإخبار عن سكونها بهم وميدها بغيرهم. وقال المتنبي:
تَباعدت الآمالُ عنْ كل مَقْصدٍ ... وضَاقَ بها إِلاّ إلى بابهِ السُّبْلُ
قال العكوك:
إِليه سبيل الناسِ في كُلِّ وجهةٍ ... ولو فقدوها ما اهتدوا لسبيلِ
وقال مسلم:
من كلِّ حيٍّ وإن أثروا وإن شرفوا ... إليكَ من كل أرضٍ منهجُ الطُّرُقِ
(1/336)
وقال أشجع:
بسطتْ يداهُ رجاءَ سائلهِ ... فجرتْ إليه بأهلها السُّبُلُ
ذكر أبو الطيب أن الآمال عن كل مقصد تباعدت وضاقت بها إلا إلى بابه السبل. فكأن قاصديه مضطرون لتعذر الكرام، تضييق الغرض إليه لطلب ما عنده ومسلم يقول: إن المثري والشريف وغيرهما إليه راغبون في كل أرض، فكلامه أرجح من كلام من أخذ عنه. وذكر أشجع أنه بسط رجاء آمليه فجرت إليه بأهلها السبل. وقد يكون ذلك من اتساع المطالب واتجاه المكاسب لزيادته على غيره في الجود. وكلٌّ أحسن تحلصا منه وأرجح مدحا، فهم أولى بما سبقوا إليه.
وقال المتنبي:
ونادى النَّدى بالنائمين عن السُّرى ... فأسمعهم: هبُّوا فقد هلك البُخلُ
هذا ينظر إلى قول أبي نواس:
إذا ضنّ ربُّ المال ثوَّبَ جودهُ ... بحيٍّ على مال الأمير وأذناَ
ولابن الرومي في معناه:
ثوَّبَتْ بي إلى عليَّ معالي ... يهِ فلبَّيْتُ أول التثويبِ
وقال أبو العتاهية:
إذا أُسمي المهديُّ نادتْ يمينهُ ... ألا من أتاني زائراً فله الحُكمُ
(1/337)
وهذه أبيات متقاربات تدخل في باب المساواة، وإن كان أبو الطيب أوضح كلاماً منهم. وفي قوله:) فأسمعهم (مقاربة للفظ ابن الرومي في قوله:) فلبيت (.
وقال المتنبي:
وحالتْ عطايا كفَّهِ دون وعدهِ ... فليس له إنجازُ وعدٍ ولا مَطْلُ
قال البحتري:
حيثُ لا تدفع الحقوقَ المعاذي ... رُ ولا يسبقُ العطايا السُّؤالُ
فقوله:) لا يسبق العطايا السؤال (هو بيت أبي لطيب، وفي صدره معنى يرجح عليه به.
وقال البحتري أيضا:
رَطْبُ الغمامِ إذا ما استمطرتْ يدُهُ ... جاءت مواهبه قبلَ المواعيدِ
وقال ابن الرومي:
وكثيراً ما كان يفعلُ ما يح ... سنُ من غيرِ أن يُقدمُ وعدا
وقال أبو المعتصم:
الفعلُ قبل القول من عاداته ... والعُذرُ من قبل النَّوالِ الأعجلِ
وأجود من هذا قول أشجع:
(1/338)
يَسْبقُ الوعد بالنَّوال كما يس ... بقُ برق العيون صَوْبَ الغَمامِ
بيت ابن الرومي الأوّل معناه أنّ العادة تقتضي أن السؤال قبل العطاء وإذا لم يسبق السؤال العطاء فكأنه قبل أن يسل أعطى، والإعطاء من غير وعد قد يمكن أن يكون بعد سؤال وتقدم الرفد قبل الوعد أفضل، فكلام البحتري أمدح وكذلك البيت الثاني له وكذلك بيت ابن الرومي وبيت أبي المعتصم يسوغ فيه أن يسبق النوال السؤال والوعد.
وقد قال ابن المعتز:
سَبق المواعِد والمطالَ عطاؤه ... فأتى رجاء الراغبين سَرِيعا
وقد قال ابن الحاجب:
سَبَقتْ وعدُ عطاياه فاعت ... ضت بها من يُشْبه الوعد نَقْدا
وقال أيضاً:
كَرم أبطلَ المواعيد ... بالمطلِ فأضحى وما لهُ موعود
هذه معان متقاربات، إلا أن أشجع قد زاد عليهم بتشبيه مليح من البرق الذي يتقدم الغمام وكلها تقارب باب المساواة أو تدخل فيه لقلة تفاضلها.
(1/339)
وقال المتنبي:
فأقرب من تحديدها رَدُّ فائتٍ ... وأيْسرُ منْ إحصائها القطْرُ والرّمْلُ
أخذه من قول مسلم:
لَهُ سطواتٌ غبّها الحلْمُ بينها ... فَوائِدُ يُحصي قَبْلَ إِحْصائِها الرَّمْلُ
فإن قلت جمع أبو الطيب بين تشبيهين من) القطر (و) الرَّمْلُ (قلنا إن احتسبت له هذه الزيادة، فقد قال عبد الصمد:
الرمل يفنى ولا تَفنى مكارمُه ... والقطرُ يُحْصى ولا تُحصى عَطاياه
وأبو الطيب يقول) ردّ فائت (قد دل على مقصده وكلما يمتنع عد فائتة وكذا يمتنع عدا القطر والرمل فيه فجعل عدهما ممتنعاً، ومسلم قال:) يحصى قبل إحصائها الرمل (وإذا عد الرمل قبل إحصاء سطواته وفوائده جعل عده ممكناً بعد ذلك لأنّ أبا الطيب وعبد الصمد جعلا ما أمتنع عندهما فناؤه وبعد في ظنونهما إحصاؤه فيمكن الفناء والإحصاء لهما وعطاياه لا يمكن ذلك فيهما، فهو أبلغ مدحاً وأولى بما قال: وقال المتنبي:
وما تَنْقمُ الأيام ممن وجُوهُها ... لأْخمَصه في كل نائبةٍ نَعْلُ
معناه مأخوذ من قول كثير:
(1/340)
وطئت على أعناق ضمرة كلها ... بأخمص نَعلي واتخذتمْ نَعْلا
وفي صدر بيت أبي الطيب مطعن وما في بيته ما يزيد معناه على معنى كثير، فكثير أحق بما قال.
وقال المتنبي:
كَفى ثعلاً فخراً بأنّكِ مِنْهُم ... ودهْرٌ لأن أمسيْتَ من أهْلِهِ أهْلُ
معناه: ودهر أهل لأن أمسيت من أهله. والدهر مرفوع بفعل مضمر يدلّ عليه أول الكلام كأنه قال: وليفخر دهر. وهذا أكثر ما يمكن الاحتجاج له إذ لا مرفوع هاهنا يعطف عليه، ولا وجه لرفعه بالابتداء إلا على حذف الخبر، والفعل أقوى. والاحتجاج له ضعيف لأنه جاء إما من ضعف علم أو تكلف إعراب
(1/341)
ليجيب بهذا الجواب. ومثل هذا من المحدثين قبيح.
وقال المتنبي:
فما بفقيرٍ شامَ برقَكَ فاقةً ... ولا في بلادٍ أنت صيِّبُها محلُ
قال مسلم:
ما ضرَّ أرضاً كنت فيها نازلاً ... يا زيدُ حقاً أنَّها لا تُمطرُ
فأتى أبو الطيب من ذكر البرق والصَّيب والمحل بجنس يتقارب. وذكر مسلم من النزول في الأرض ما ليس من جنس المطر. وقال:) يا زيدُ حقاً (فحشّى البيت بقوله) حقاً (. فكلام أبي الطيب في الصنعة أحسن وأرجح وهو أولى بما أخذ.
ويتلوه قصيدة أولها:
اليومَ عهدُكُمُ فأينَ الموعدُ ... هيهاتَ ليس ليومِ عهدكمُ غدُ
هذا معنى نبهه عليه قول ابن الرومي:
يا سيدي أنجزَ جَرٌّ ما وعدْ ... لم يكن ليومه في الوعدِ غدْ
وهذا يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
إنّ التي سفكتْ دمي بجفُونها ... لم تدرِ أنَّ دمي الذي تتقلدُ
(1/342)
هذا من قول النابغة:
في إثر غانيةٍ رمَتْكَ بسهمها ... فأصابَ قلبكَ غير أن لم تقصدِ
لعل أن التي سفكت دمه لم تدر بسفكه، وأصابت هذه قلبه من غير أن تقصد له. فالمعنى لا يزيد على المعنى، وهو داخل في باب المساواة والأل أحقّ بما قال. وقال ابن أبي فتن:
أذاهبةٌ نَفْسُ المُتَيَّمِ ضيعةً ... وقاتلُها لم يَدْرِ ما صَنَعَ السَّهْمُ
وقال المتنبي:
قالت وقد رأت اصفراري من به ... وتنهدَّتْ فأجبتُها المتَنَهِّدُ
يقرب هذا من قول ديك الجن:
مَرّت فقلت لها: تحية مُغرمٍ ... ماذا عليك من السلام فَسلمي
قالت: لمن تعني؟ فطرفك شاهد ... بنحول جسمك قلت: للمتكلم
فتبسمت فبكيتُ، قالت: لا تُرع ... فلعلّ مِثْل هواك بالمبتسّم
(1/343)
قلتُ: اتفقنا في الهوى فزيارةً ... أو موعداً قبل الزيارة قَدّمي
فتضاحكت خجلاً وقالت: يا فتى ... لو لم أدعك تنامُ، بي لم تَحلمِ
قوله:) قال (لمن تعني في معنى بيت أبي الطيب لكن هذا كلام أعذب ولفظ يبعد من قوله: من به وكم بين قوله:) للمتكلم (وقوله:) فأجبتها المتنهّد (وهذا يدخل في نقل العذب من القوافي إلى المستكره الجافي والأول أحق به فكأني بمتتبع العيب يقول أراد بيتاً فأورد أبياتاً يستغنى عن ذكر جميعها ولسنا نعمل هذا في كل ما نريده من السرقات ولكن إذا ورد الشعر الفصيح والمعنى المليح أوردناه بكماله عمداً، وقصدنا ذلك قصداً لأن موضوع الكتاب الفائدة فإن خرجنا عن الغرض وأفدنا القارئ فيه فقد بلغنا المقصد المطلوب وجمعنا له المحبوب وإيراد الخبر النادر والمعنى الباهر يؤمن قارئ الكتاب من الملل علماً بمحبة النفس للاستطراف والنقل فهذا ما حقنا أن نعاب به ثم نرجع إلى موضع التأليف.
قال المتنبي:
فَمضتْ وقد صبغ الحياءُ بياضَها ... لَوْني كما صَبغ اللُّجيْنَ العَسْجَدُ
لأبي الطيب مذهب في الحياء ينفرد به لأنه القائل:
سَفرتْ وَبرْقَعها الحياءُ بِصُفرةٍ ... ستَرتْ محاجرها ولمْ يكُ بُرْقُعا
فكأنه لا يفرق بين تأثير الوجل وتأثير الخجل ونسي قول جالينوس:) الحمرة حادثة عن الخجل والصفرة حادثة عن الغم والوجل (فإن أراد مذهب الفلاسفة فهذا مذهبهم وإن أراد مذهب الشعراء فقد قال ابن المعتز:
(1/344)
يا مَنْ يجودُ بموعدٍ من وصله ... ويصد حين يقول أين الموعدُ
ويظلُّ صبّاغ الحياء بوجهه ... تعباً يعصفر تارةً ويورِّدُ
وقال ابن دريد:
يَصفر وَجْهي إِذا بَصَرتْ ... به خوفاً ويحمر خده خجلا
حتّى كأن الذي بوجنته ... من دم وجهي إِليه قَدْ نقلا
قال الخبزأرزي:
خجل الحبيب من الع ... تابِ فورّد الخد الخجلْ
فحسبت منه غضبا ... فقطعت ذلك بالقبلْ
ما لي وما بعتاب من ... لو شاء يقتلني فعلْ
فقد خالف أبو الطيب مذهب الفلاسفة والشعراء ومشاهدة العيان ومع إحالته فقد سرق المعنى من قول ذي الرمة:
كحلاءُ في برجٍ صفراء في نعجٍ ... كأنّها فضة قَدْ مسها ذهب
فإن توهم متوهم ناقص الفطنة أن علينا في قول ذي الرمة حجة لأبي الطيب فليس كما توهم. لأن ذا الرمة وصفها بصفة ثابتة عليها ولم يجعل الحياء سبباً
(1/345)
لصفرتها. وقد يكون اللون العاجيّ في البشر خلقة لا لعلة. وقد أخذ هذا المعنى بعض المحدثين، أنشده الجاحظ:
بيضاءُ صفراءُ قد تنازعتها ... لونان من فضَّةٍ ومن ذهبِ
فقد بين إرادته وخبَّر عن خلقة لن تتغير لعلة أوجبتها. ومن جعل الحياء علةً للصفرة فقد أحال، والسارق الصحيح المعنى أولى من السارق العليل المعنى.
وبعد هذا بيتان رعد فيهما وبرق، ويقال أرعد وأبرق، وهما موجودا المعنى في قول جهم بن خلف:
وأضحتْ ببغدانَ في منزلٍ ... له شُرفاتٌ دوينَ السَّما
وجيشٌ ورابطةٌ حولهُ ... غِلاظُ الرِّقابِ كأُسدِ الشَّرَى
بأيديهمُ مُحدثاتُ الصِّقالِ ... سُريجيةُ يختلينَ الطُّلى
ومثله:
وكيف بها والعار والنَّارُ دونها ... وآسادُ غيلٍ زأرها ووعيدُها
(1/346)
وبيتا المتنبي:
عدويَّةٌ بدويَّةٌ من دُونها ... سلبُ النُّفوسِ ونارُ حربٍ تُوقدُ
وهواجلٌ وصواهلٌ ومناصلٌ ... وذوابلٌ وتوعُّدٌ وتهدُّدُ
وليس هذا مما يُعبأ باستخراج سرقته، ولكننا نعني بما عني به. وبينا هو في ذكر مرضه يقول:
أبرحْتَ يا مرَضَ الجُفون بمُمرضٍ ... مَرِضَ الطَّبيبُ له وعيدَ العُوَّدُ
حتى خرج خروجا غير مليح ولا متقارب ولا متناسب إلى قله:
فلهُ بنو عبد العزيزِ بن الرِّضا ... ولكلٍّ ركبٍ عيسُهُمْ والفدفدُ
وما أشبه هذا بقوله:
جَلَلاً كما بي فليكُ التَّبرجُ ... أغذاءُ ذا الرَّشأِ الأغنِّ الشِّيحُ
فبينا هو يشكو تباريحه إذ صار عن غذاء الرشأ ما هو. وقد قيل للعجاج: ليهنك ما يقول رؤبة من جيد الشعر. قال نعم ولكني أقول البيت
(1/347)
وأخاه وهو يقول البيت وابن عمه. وهذا الكلام الذي قاله لا يشبه ابن عم البيت ولا يستحق اسم جار قريب. وما أفرح بهذا الخروج ولا استحسنه.
وقال المتنبي: مَنْ في الأنام من الكرامِ ولا تَقُل مَنْ فيك شأمُ سِوى شُجاع يُقْصدُ هذا بيت لا يوجب أن لا يكون في الكرام أحد غير شجاع وهو مأخوذ من قول للأعرابي:
والله ما ندري إِذا ما فاتنا ... طلب لديك من الذي يتطلبُ
ولقَدْ ضَربنا في البلادِ فلمْ نَجد ... أحدُ سواك إلى المكارم ينسب
فأصبرْ لعادتنا التي عودتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهبُ
فذكر البدوي أنه لم يجد أحداً إلى المكارم غيره وهو معنى أبي الطيب وهما يدخلان في قسم المساواة: وقال المتنبي:
أعْطى، فقلْتُ: لجُودِهِ ما يُقْتنى ... وسطا، فقلتُ: لسيفه ما يُولَدُ
الصفة في هذا البيت أن يقول:
أعطى، فقلت لكفه ما يقتنى ... وسطا، فقلت لسيفه ما يولد
(1/348)
أو أن يقول:
لجوده ما يقتنى وسطا ... فقلت: لسيفه ما يولد
فيأتي باسم مع اسم، أو بمصدر مع مصدر وهو ينظر إلى قول أبي تمام في عجزه:
لَمْ تَبْقَ مشركةٌ إلاّ وقد عَلمتْ ... إِنْ لم تَتبْ أنَّهُ للسَّيْف ما تلدُ
ولكن لأبي الطيب زيادة في صدر البيت يرجح بها فهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
وتحيَّرتْ فيه الصّفاتُ لأنَّها ... ألفتْ طَرائِقهُ عليْها تَبْعُدُ
هذا من قول البحتري:
كيف نثني على) ابن يُوسف (لا كي ... ف سرى مَجْدُهُ ففات الثناء
ولم يخبر أبو الطيب إلا بتخير الصفات قد يهتدي إلى وصفه بعد حيرتها، والبحتري خبر عن فوت ما فيه وأنه لا يمكنه فهو أحق لرجحان لفظه على لفظ من أخذ عنه.
وقال المتنبي:
في كُلِّ مُعْتركٍ كُلى مَفْريَّةٌ ... يَذممنَ مِنْهُ ما الأسنَّةُ تَحْمَدُ
وليس للأسنة منفعة في قرى الكلى توجب حمداً وكان يجب أن يقول) يذمم من فعل القنا ما يحمد (لأن الحمد يقع من الطاعن بالأسنة، وينظر إلى هذا قول) ديك الجن (:
(1/349)
بكرت عَواذله وجاءَ عفاته ... فرأيت مَحمود الندَى مَذْمُوما
وهذا مما احتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه وقد أوقع الحمد والذم هاهنا على من يقع الحمد والذمّ منه، والكُلى والأسنة لا يقع منهما ذلك. فتقسيمه، أعني الديك، أوضح وكلامه أرجح وهو أولى بما قال. وقال المتنبي:
أسدٌ، دمُ الأسدِ الهزبرِ خضابُهُ ... موتٌ، فريصُ الموتِ منه ترعَدُ
فمما يشبه صدره صدر هذا البيت قول الخليع الحراني:
عطاءٌ علمتُهُ ذوي العطايا ... أسودٌ غُذِّيَت بدمِ الأُسودِ
هذا البيت يقارب صدر بيت أبي الطيب، وعجزه يشبه قول علي بن محمد البصري:
والليلُ يعلمُ أنِّي ما هممتُ بهِ ... إلا ومنّي قُلوبُ الجِنِّ ترتعدُ
فادّعى البصري مُمكناً في الجنّ لأن الله تعالى قد خبّر عن استماع الجن القرآن، وسماهم نفرا. وإذا كانت لهم أسماه كانت لهم قلوب يرعدها الخوف على وجه المبالغة. وأبو الطيب صيّر الموت، هو عرض، جسما، وصيّر له فريصاً فأحال. ولكنه قد أورد اللفظ الطويل في الموجز القليل، وأتى بيته نائباً عن بيتين فهو
(1/350)
بالاختصار أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
ما منبحٌ مُذْ إلا مقلةٌ ... سهدتْ ووجهُكَ نومها والإثْمدُ
ينظر إلى قول أبي تمام:
إليك هتكنا جُنْحَ ليلٍ كأنَّما ... به اكتحلتْ عينُ البلادِ بإثمدِ
فجعل المتنبي مقلةً، نومها وإثمدها وجهه، وأبو تمام جعل للبلاد عيناً وجعل لها من سواد الليل إثمدا. فالألفاظ متقاربة وإن كانت المعاني مختلفة.
وقال المتنبي إثر هذا:
فالليلُ مُنذُ قدمتَ فيها أبيضٌ ... والصُّبحُ منذُ رحلتَ عنها أسودُ
قال أبو تمام:
وكانتْ وليسَ الصُّبحُ فيها بأبيضٍ ... فعادت وليس الليل فيها بأسودِ
فهذا أخذ فاضح وغصب واضح، لا يليق بمن أخذه أن يقول ما أعرف أبا تمام. وقد ساواه في المبنى والمعنى فالمسلوب أولى بسلبه.
وقال المتنبي:
ما زِلتَ تدنُو وهي تعلُو عِزَّة ... حتى توارى في ثراها الفرقدُ
أخذه من قول الديك:
فيا قبرَهُ جُدْ كُلَّ قبرٍ بجُوده ... وفيكَ سماءٌ ثرَّةٌ وسحائبُ
فإنك لو تدري بما فيكَ من عُلىً ... علوتَ فغابتْ في ثراكَ الكواكبُ
(1/351)
وهذا يدخل في باب المساواة، والسابق أولى به.
وقال المتنبي:
أرضٌ لها شرفٌ، سواها مثلُها ... لو كان مثلُكَ في سواها يُوجَدُ
نبهه البحتري على هذا:
والبيتُ لولا أنّ فيه فضيلةً ... يَعْلُو البيوت بِفضْلها لم يُحْججِ
وقال المتنبي:
أبْدى العُداةُ بك السُّرور كأنهُمْ ... فرحوا وعِنْدهم المُقيمُ المُقعِدُ
قال ابن الرومي:
يهش لذكراكَ العدوّ، وإِنَّه ... ليضمر في الأحشاءِ ناراً تسعَّرُ
وهما تساويا في المبنى والمعنى فالأول أحق به.
وقال المتنبي:
قطّعتهُمْ حسداً أراهُمْ ما بهمْ ... فَتقطَّعوا حسداً لمن لا يحْسُدُ
هذا البيت يحتمل معنيين، أحدهما أنهم لما رأوا ما حل بهم التقطع
(1/352)
بالحسد تقطعوا حسداً كمن عدم الحسد فإن كان أراد هذه فمن قول البحتري أخذه:
وملأت أحشاء العدو بلابلاً ... فأرتد يحسد فيك من له يحسد
فكرم البحتري أوضح وهو يساويه في المبنى والمعنى والسابق أولى بما قال. وإن كان أراد أنهم تقطعوا حسداً للممدوح الذي لا يحسد أحداً فقد أنشد الأخفش:
فحسبني أني لست مثرياً وإن ... كنت ذا عدم ويحسدني المثري
وقال المعوج:
تنبت على غمر عداه ولم يمت ... حسين بن يحيى من عداه على غمر
وكلا البيتين أعذب من بيتي أبي الطيب ولفظه أخفى وأصعب وكذلك بيت البحتري أعذب من كلامه فهم أولى بما قالوا منه.
وقال المتنبي:
حتى انثنوا ولو أنّ حرّ قلوبهم ... في قلب هاجرة لذاب الجلمد
أخذه من قول جرير:
تكلفني هواجر دونهم ... تكاد الحصى من جمنهن يذوب
وقال ابن المعتز:
(1/353)
واليوم تجري بالآكام ... سراته والصخر ذائب
وقال ابن المعتز أيضاً:
ويوم تظلّ الشمس توقد ناره ... تكاد حصى المعزاء منه تذوب
ولكن في بيت أبي الطيب زيادة من تشبيه) حرّ قلوبهم (بحر هاجرة يذوب منها الجلمد فهو أرجح بزيادة التشبيه واستعارة) القلب () للهاجرة (فهو أحق بما أخذ.
وقال المتنبي:
بَقيتْ جُموعهم كأنَّكَ كُلّها ... وَبقيت بَينهمُ كأنَّكَ مُفْرَدُ
قال أبو تمام:
بَيتُ المَقامِ يَرى القَبيلةَ واحداً ... ويُرى فَيحْسَبُه القَبيلُ قبيلا
فأبو الطيب جعل جموعهم كانفراده، وأبو تمام جعل جموعهم كوحدته ووحدته كأجماعهم، فالمعنى واحد، وقال أبو تمام أيضاً:
لَوْ لم يَقُدْ جَحفلاً يوم الوغى لغدا ... من نفسه وَحْدها في جَحْفل لَجِبِ
(1/354)
وقد أخذ معناهما ابن الرومي فقال:
بَلْ لَوْ توحّدْت دون الناس كُلّهمُ ... كُنْت الجميع وكانوا كالمواحيدِ
فخبر ابن الرومي أنك لو توحدت كنت جميعاً ولم يخبر عنه أنه يرى الجميع كالواحد، ففي كلام أبي تمام زيادة يستحق بها بيته، وأبو تمام مخبر محقق وأبو الطيب استعمل) كأن (فصار تشبيهاً والتحقيق أبلغ في المدح من التشبيه فالمحقق أولى بما قال ممن أخذ منه.
وقال المتنبي:
لهفان يستوبي بك الغضب الوَرى ... لَوْ بم يُنهْنهكَ الحجا والسُّؤدَدُ
) يستوبي (من الوباء وكان ينبغي أن يكون مهموزاً ولكنه أستعمل طرد القياس في ترك الهمز وأبدل الهمزة ياء على غير قياس.
وقال المتنبي:
كُنْ حيثُ شئتَ تسر إِليكَ ركابُنا ... فالأرضُ واحدةٌ وأنْتَ الأوْحَدُ
قال أبو المعتصم:
صِرْ من الأرض حيث شِئت ... فَجسمي صائرٌ قلبهُ بحيث يصيرُ
فذكر أبو الطيب مصير ركابه إليه، وذكر أبو المعتصم أن جسمه صائر قلبه إلى حيث يصير وقد يصير إليه من ليس صائراً إليه إنما يقصده راغباً وراهباً فهو أرجح من مصير ركابه إليه فقد رجح على أبي الطيب فصار أولى بما قال.
وقال المتنبي:
فصن الحسام ولا تُذله فإِنَّهُ ... يَشْكو يَمينكَ والجَماجِمُ تَشْهَدُ
(1/355)
معناه أنه يضرب به في غير حقه فينبغي أن يصونه إلى أن يضرب به في حقه، وهو يقرب في ذكر شهادة الجماجم من معنى أبي تمام:
قَضى من سَند بايا كُلّ نَحْبٍ ... وأرْشقَ والسيوفُ مِن الشُّهُودِ
وقال المتنبي:
يبس النّجيعُ عليه وَهْوَ مُجَّرّد ... من غِمدهِ فكأنَّما هُوَ مُغْمَدُ
قال البحتري:
سُلبوا، وأشرقت الدماءُ عليهم ... مُحْمَّرةً فكأنَّهم لم يُسلَبُوا
وهذا يدخل في توليد معان مستحسنات في ألفاظ مختلفات وذكر أبو العباس النامي في رسالة له في عيوب شعر أبي الطيب أن قوله.
رَيّانَ لو قَذفَ الَّذي أسْقيتَهُ ... لجرى من المُهجات بَحْر مُزْبِد
أنه مسروق من قول البحتري:
صَديْان من ظمأ الحقودِ لو أنّهُ ... يُسْقي جَميعَ دِمائهم لمْ يَنْقَعُ
فهذا يخبر عن ريان لو مج جميع شربه) تجري من المهجات بحر مزيد (، وهذا يخبر عن صديان لو شرب جميع دمائهم لم يروِ صداه وهذا ضد المعنى ولو أدخل هذا في قسم المعكوس من الشيء إلى ضده لكان أليق ولو قال هذا
(1/356)
الكلام من لم يعرف الشعر رواية ولم ينتقده دراية لقبح فكيف بشاعر يوازن بشعره شعره ويطاول بقدره قدره.
وقال المتنبي:
ما شاركتُه منّية في مُهْجةٍ ... إلاّ وشفرتُهُ على يدها يَدُ
ينظر إلى قول أبي العتاهية:
فإِذا أضرم حرباً كان في ... مهج لا لقوم شريكاً للقدرْ
وقال المتنبي:
إنَّ العطايا والرزايا والقنا ... حُلفاءُ طيء غوّروا أوْ أنجَدوا
جعل هذا أبو الطيب خبراً عنهم، وجعله ابن أبي زرعة أمراً فقال:
حالفَ السيفُ والسنان على الدهرِ ... عَسى أنْ تدلك الأيامُ
وقال المتنبي:
منْ كل أكبر من جبالِ تهامةٍ ... قَلْباً، ومن جود الغوادي أجْوَدُ
(1/357)
هذا متداول وقد أحسن الديك الأقسام وأجاد النظام بقوله:
كالأُسدِ بأساً والبدور إضاءةً ... والمزن جوداً والجبال حُلوما
وهذا التقسيم أرجح لفظاً فصاحبه أولى به لزيادته في الأوصاف وذكر أبو العباس النامي المصيصي في قول أبي الطيب في رسالته:
أنَّا يكونُ أبا البريَّة آدمٌ ... وأبوك والثقلان أنْتَ مُحَمدُ
قال أبو العباس: بعد إيراد هذا البيت يخاطب أبا الطيب فأين ذهبت وفي أي ضلالة همت ومن أي قليب جهالة اغترفت هذا النوع الذي أكثرت العجب به هو الذي أكثر التعجب منك فلم يرد على بيت أبي الطيب شيئاً من غير إيضاح العتب من قوله.
قال أبو محمد: وفي البيت كلفة وليس بلفظ مطبوع ولا ملتذاً لمسموع في إعرابه مطعن وتقديره كيف يكون آدم أبا البرية وأبوك محمد وأنت الثقلان ففصل بين المبتدأ الذي هو) أبوك (وبين الخبر الذي هو) محمد (بالجملة، هذا قول بعض النحويين ويجوز عندي أن يكون مراده:) أنى يكون أبا البرية آدم وأبوك
(1/358)
محمد (مبتدأ وخبر،) والثقلان أنت (عطف على المبتدأ وهذه تعقيدات يحتمل ورود مثلها لبدوي لا يعرف الاختيار ويستعمل وجوه الاضطرار فأما المحدث المطبوع فلا عذر له في أن لا يأخذ من الكلام جوهره ويصطفي من متخيره.
وختم القصيدة بقوله:
يَفْنى الكلامُ ولا يحُيط بفضلكُمْ ... أيحيط ما يَفنى بما لا يَنْفدُ
هذا مأخوذ من قول القائل:
لَنْ ينفد الكلم المثنى عليك به ... ما قِيل منْ كرم أو ينفد الكلَم
قال ابن الرومي:
لَمْ يفنِ ما ف ... يك، بَلْ الكلام
فخبر أن ما فيه من الفضائل لم يفن ولكن فني الكلام فجعل) لنفاد كرمه نهاية من نفاد الكلام وابن الرومي خبر أنه لم يفن ما فيه ولكن فني الكلام (فهذا أبلغ من الأول وهو أخصر. وقال البصير:
مدحت الأمير الفتح طالبُ عُرفَهُ ... وهل يستزاد قائل وهو راغبُ
فأفنى فنونَ الشعر وَهي كثيرةٌ ... وما فنيت آثارُهُ والمناقبُ
وقول ابن الرومي:) بل الكلام (اختصار يفوق فيه غيره وكلام المتنبي
(1/359)
أشرح وفي لفظه جزالة فهو بعد ابن الرومي أحق بما قال، وقد ملح القائل بقوله:
بأبي شكري قليلُ ... وأياديك كثيرة
لمْ يقل فيك لساني ... قَطْ فاستوفى ضميره
ويتلو هذه القصيدة أبيات أولها:
لَيسَ الغليل الذي حُماه في الجسدِ ... مثل الغليل الذي حماهُ في الكبدِ
أقسمت ما قتل الحمّى هوى ملك ... قبل الأمير ولا اشتاقت إلى أحدِ
فلا يلمها رأت شيئاً فأعجبها ... فعاودتك ولو ملك لمْ تَعد
أما البيت الأول من هذه الأبيات فإنه يريد أنه من حمى الأمير محموم الكبد فهذا يشبه قول القائل:
قَدْ قلت للدهر على أنني ... أناس أن يرجع عن ظلمه
أسقمتَ من أهوى وعاقبتني ... حكمت في الحبِ سوى حلمه
فقال لم تفهم وكل امرئ ... آفته النقصان من فهمه
قد نلت من قلبك لما أشتكى ... أضعاف ما قد نلت من جِسمه
وهذا الشعر لولا سؤالات فيه وجوابات لكان البيت الأخير أحسن من قول أبي الطيب، فأما قوله: أقسمت ما قتل الحمى..... البيت فالحمى عرض يستولي على الأجسام، والعبارة عن الأعراض بالقتل والشوق فاسدة، وأما قوله:
فلا يلمها رأت شيئاً فأعجبها ... فعاودتك ولو ملك لم تعد
الحمى تعاود من الأجسام ما لا يعجب ولا يستحسن كمعاودتها المعجب المستحسن فقد صارت عليه معلولة، فأما قول القائل:
(1/360)
حمّاك خماشة حماك عاشقة لَوْ ... لمْ تكن هكذا ما قبلتْ فاكا
فله في قوله في الحمى خماشة وعاشقة أصح من علة أبي الطيب لأن الناس يشبهون آثار ما تبقيه الحمى من آثارها في فم المحموم بالتقبيل فيحسن أن يعبر عن الحمى بالتخميش والعشق لأن التقبيل موضوع لمن هذه صفته من العاشق والمعشوق فكلام هذا القائل أملح وعليه أرجح وهو أولى بما قال.
ويتلوها أبيات أولها:
أهْوِنْ بطول الثواء والتَّلف ... والسِّجْنِ والقيْدِ يا أبا ذُلَفِ
قال فيها:
غَيْر اختيارٍ قبلْتُ برّكَ بي ... والجوع يُرضى الأُسود بالجيفِ
هذا يقرب من قول ابن أبي عيينة:
ما كنت إِلاَّ كلحْم مَيْتٍ ... دعا إلى أكْلِهِ اضْطِرَارُ
ويقارب هذا قول ابن المعتز:
(1/361)
خُذْ ما أتاكَ من اللئا ... مِ إذا نأى أهْلُ الكَرَمْ
فالليثُ يفترس الكلا ... ب إِذا تعذرتِ الغَنمْ
وقد أخذ هذا المعنى الخليع الحماني وكان قد خرج في سفر له فقطع عليه الطريق فرجع إلى ناحية فيها بعض الأمراء من التنوخيين وكان جائعاً عارياً راجلاً فوقف بين يديه فأنشده:
أنا شاكرٌ أنا ناشرٌ أنا ذاكرٌ ... أنا راجلٌ أنا جائعٌ أنا عارُ
هي ستة فكن الضمين لنصفها ... أكن الضمين لنصفها بعيار
أجمل وأطعِمْ وأكسي ولك الوفا ... عِنْد اختيار مَحَاسنِ الأخبارِ
والعارُ في مدحي لغيرك فاكفني ... بالجود منك تعرّضي للعارِ
والنارُ عندي كالسؤال فهل ترى ... أن لا تكلفني دُخول النارِ
(1/362)
فحمله وكساه وأطعمه وخرج من عنده فلقيه بعض أهله فقال أيرضى لنفسك أن تقبل عطاء التنوخي فقال:
وَقالوا قَدْ قَتلت جَدّي تنوخ ... فقلتُ الليث يَفْترس الكَلابا
إِذا أبيضَ الحِسام فَحلّ عَنْه ... يصيبُ الضريبة ما أصابا
وأجود هذه الأبيات قول ابن أبي عيينة وهو أولى به من غيره المنية في معنى الجيف والجوع يرضى بها والمضطر صفة تقع بالإنسان والأسود فما عم جميع المضطرين كان أرجح من تخصيص الأسود بالجوع وذكر السجن فقال:
كُنْ أيّها السِّجنُ كيف شئت فَقَدْ ... وطّنْتُ للموت نَفْس مُعْتَرِفِ
لو كان سُكناي فيك مَنْقصةً ... لمْ يكن الدّرّ ساكِنَ الصَّدفِ
(1/363)
فالبيت المتقدم من قول كثير:
فقلتُ لها يا عَزَّ كلُّ مُصيبةٍ ... إِذا وطّنتْ يوماً لها النَّفْسُ ذَلَّتِ
وهذا يدخل في باب المساواة وقوله: لمْ يكُنْ الدرّ ساكن الصَّدفِ مأخوذ من قول أبي هفان:
تَعَجبتْ درّ من شَيبي فَقلتُ لها ... لا تَعْجبي فطلوع البْدر في السُّدف
وَزادها عجباً أنْ رُحْتُ في سَملٍ ... وما دَرتْ درّ أنّ الدّرّ في الصدفِ
ويلي هذه الأبيات قصيدة أولها:
أيا خَدَّدَ الله وَرْدَ الخُدُود ... وَقَدَّ قُدودَ الحسانِ القُدُود
ورد الخدود هو حمرتها والتحديد للخد يكون لا للحمرة وكان ينبغي أن يقول ألا خدود الله الخدود والمليح فيها قول محمد بن يحيى الأسدي:
حادثات الفراق كُل أوانٍ ... مُولعات بالمستهام العميد
كَمْ قلوبٍ قَدْ أحرقْت في صدورٍ ... وخدود قَدْ غادرتْ في خدودِ
هذه المجانس المليح وقد دعا أبو الطيب على أحبابه دعاه على أعدائه بأن يخدد الله خدودهم ويقد قدودهم والقد القطع طولاً والقط القطع عرضاً وليس الدعاء بمثل هذا من شأن شعر المحدثين اللطاف العشاق الظراف ولعل مثل هذا أن يرد في شعر من غلبت عليه عنجهية الإعراب ويكون ذلك خارجاً عن الرقة والصواب كقول كثير:
رَمى الله في عَينْي بُثينَة بالقذى ... وفي الغُر من أنيابها بالقَوادحِ
(1/364)
وهذا مما عيب به مع تقدمه، فأما المتأخرون فيقولون كما قال الديك:
كيفَ الدّعاءُ على مَنْ خان أو ظلما ... ومالكي ظالمٌ في كُلّ ما حَكما
لا واخذ الله من أهْوى بجفوَتِهِ ... عنّي ولا أقتصّ لي منه ولا ظَلما
فهذا تجنب الدعاء على الظالمين لأن مالكه محبوبه متهم ويسأل الله أن لا يقتصّ له منهم ولا ينتقم.
قال أبو محمد: وقد سلكت أنا هذا المسلك فقلت:
فَهمٌ غالط منى فَهِمَا ... جاءني يسألُ عما عَلمَا
مُقْسم ما بلغتهُ علّتي ... كاذبُ والله فيما زعما
كيف لم يبلغه عن سقمي ... وهو المهدي إليّ أسقّما
رزق المظلوم منا رحمة ... ثم لا أدعو على من ظلما
قال أبو محمد: وقد قلت في معناه أيضاً:
إنْ كنتَ تعلمُ ما بي ... وأنتَ بي لا تُبالي
فصارَ قَلبكَ قَلْبي ... وصِرت في مثل حَالي
بلْ عِشْتَ في طيب عَيشٍ ... تقيك نَفسي وَمالي
دَعوْتُ إذْ ضاق صدري ... عليك ثُم بَدَالي
(1/365)
فهذا مذهب العشاق وإشفاق الرفاق ومثل هذا قول الرشيد في الفضل بن الربيع:
يعز عليّ بأن أراك عليلاً ... أو أن يكون بِكَ السّقام نَزيلا
فَرددت أني مالك لِسلامتي ... فأغيرها لك بكرةً وأصيلا
فتكون تشفى سالماً لِسَلامتي ... وأكون دُونك للسّقام بَدِيلا
ويروى للواثق:
لا بِك السّقم ولكنْ حَلّ بِي ... وبأهلي وأمي وأبي
قيل لي إنك صَدعت فَما ... خَالطت سمعي حتى ديربي
وقال آخر:
فَقْلتُ للسّقم عُدْ إلى بدني ... إنساً بشيء يكون مِنْ سَنيك
وقال آخر:
قد سرني أنهم قد سرهم سقمي ... فازددت سقماً ليزدادوا به فرحا
(1/366)
هذا المذهب المعتاد فأما أن يقول العاشق لمعشوقه:) خدَّد الله خدك وقدَّ قدّك وأعمى بصرك وطمس حسنك (فهذه دعوات المستضعف من المظلومين على الأعداء القاهرين لا على الأحباب المعشوقين وقد عد الناس جريراً من الجفاة لقوله.
طوقتك صائدةُ القُلوب وليس ذا ... وَقْتَ الزَّيارةِ، فارجعي بِسَلامِ
وقد اتبع هذا الجفاء بجفاء مثله فقال في خروجه أعني المتنبي:
فكانَتْ وكُنْتَ فداءَ الأمير ... وزَالَ من نِعْمةٍ في مَزيدِ
ومما لم يسبق إليه أن جعل محبوبه فداء الأمير الذي رغب إليه وأظنه قال هذه القصيدة أول زمان عشقه قبل أن يرق.
وقال المتنبي:
لَقْد حالَ بالسّيف دُون الوعيد ... وحَالتْ عَطاياه دُون الوعُود
وهو من قول البحتري:
تمضي المنايا داركا ثُم يُتبعُها ... بيضَ العطايا ولمْ يُوعد ولم يِعِدِ
والمعنى المعنى وهو يدخل في باب المساواة.
وقال المتنبي:
فأنجُمُ أموالِهِ في النُّحوسِ ... وأنجم سُؤاله في السُّعودِ
صدر هذا البيت لفظ ينظر من مثله في أن يجعل أمواله منحوسة وإن كان
(1/367)
مراده تفريقها وتبديدها، وأحسن من هذا قول أبي تمام:
طَلعتْ نُجومك للخليفة أسعدا ... وعلى ابن ميخائيل كُن نَحوسا
وكقوله أيضاً:
رَأى بابكُ منه التي طَلَعتْ لَهُ ... بنحسٍ وللدِّين الحَنيفِ بأسعَدِ
فجعل النحوس لعدوه والسعود له ولدينه وليس في الحالتين لفظ يكره سماعه ولا وقوعه وهو في اللفظ الراجح على لفظ من أخذ عنه وصاحبه أحق به.
وقال المتنبي:
ولَوْ لمْ أخف غَير أعدائه ... عَلْيه لبشّرتُهُ بالخُلُودِ
يشبه قول القائل:
زَعم الفرزدق أنْ سيقتلُ مَرْبعاً ... أْبشِرْ بطولِ سلامةٍ يا مَرْبَعُ
وبعد هذا البيت:
(1/368)
رمَى حَلبا بنواصي الخُيُولِ ... وسُمْر يُرقنَ دماً في الصَّعيدِ
الصعيد: الأرض التي لم يخالطها سبخ، وقال ثعلب: هي الأرض التي فيها رفعة. قال أبو محمد: فإن كان مراده أن الرماح تريق السلام فيما سمي صعيداً خاصة فليس كذلك يريق الدم في أصناف الأرضين عبر الصعيد وإن كان عبّر عن الصعيد بالأرض أي أرض كانت، فما أفاد فائدة لأن الدم إذا أريق ما يقع إلا على الأرض وهذا من الحشو المذموم.
وقال المتنبي:
وبيضٍ مُسافرةٍ ما يُقم ... ن لا في الرقابِ ولا في الغُمُودِ
قال أبو تمام:
فَلاَ تَطلبُوا أسيافَهُمْ في جُفُونِهم ... فَقدْ أسكنتْ بين الطُّلى والجَماجمِ
) فأبو تمام يمنع من كونها في غمودها في حال ويجعل سكناها بين الطلى والجماجم (وأبو الطيب يذكر أنها لا تقيم في الغمود ولا في الرقاب فتكون مرة كذا ومرة كذا وقد قال أبو الطيب في قصيدة له:
إلى الهامِ تُصْدر عَنْ مِثْلِهِ ... تَرى صدراً عنْ وُرودٍ وُروُدا
يقول إن سيوفه تصدر عن هام إلى هام فكان صدرها ورود فهي لا تبرح بين الهام وهو معنى أبي تمام بعينه فما لا يبرح الهام والطلى أمدح مما يكون في الغمد وقتاً ثم ينتقل إلى الهام والطلى وكلام أبي تمام أرجح ووصفه وأمدح فهو أحق بقوله ممن أخذ منه، وقال ابن الرومي:
(1/369)
ما ضم سيفاً لنا غمد ولا برحتْ ... ضَريبتاه من الأعناق والجزرِ
يخبر أنه لا يضم سيفه ودعا بأن لا يبرح ضريبتاه من الأعناق والجزر وخبر بالبأس والكرم جميعاً فرجح لفظه على لفظ أبي تمام فاستحق ما أخذ.
وقال المتنبي:
يُروَن من الذُّعْرِ صَوتَ الرياحِ ... صَهيل الجيادِ وخَفْقَ البُنُودِ
هذا في معنى قول جرير:
تَركوك تَحْسِبُ كل شَيء بَعْدَهم ... خَيلاً تشدّ عليكمُ ورَجالا
وقول جرير أبلغ لأنه جعل كل شيء يخيفهم وخصّ أبو الطيب الرياح فهذا أرجح.
وقال المتنبي:
سَعوا للمعالي وهُمْ صبيةٌ ... وسادُوا وجادُوا وهُمْ في المُهُودِ
وهذ) ا (مبالغة مستحيلة غير ممكنة لأن السيادة وقود العساكر لم يكن قط لمن هو في المهد، وإنما كان في المسيح عليه السلام كلام في المهد خرج به عن عادة البشر لتظهر المعجزة في نبوته.
وأما قول ابن بيض:
بَلغت لعشر مَضتْ مِنْ سَنيك ... ما يبلغُ السيد الأشيب
وقال البحتري:
قَدْ أكمل الحلمَ واشتدَّتْ شكيمتُهُ ... على الأعادي ولْم يَبْلغْ مدى الحُلُم
(1/370)
فقد وسعا ما كان يبعد فهو إلى الإمكان أقرب من ذكر عدة السنين ومن سبق بلوغ الحلم، وقد تمكن مع زائد الفضل وإفراط النبل أن يكون في صبي من التمييز بازاء ما هو في شيخ هو دونه في الفضل وقال سوار بن أبي شراعة:
تَعرف السؤدد في مَولدِهم ... وتراهُ سيداً إن أيفعا
ومعرفة السؤدد بظهور صحة التمييز في الطفل وما يخالف به أشكاله من الصبيان فإذا أيفع كان سيداً على مذهب ابن بيض والبحتري، فأما إطلاق السيادة على الأطفال وقود الجيوش فمحال واضح وكذب فاضح وعلى كراهية العلماء المبالغة المستحيلة فأصحاب الأبيات التي قبله أصح معنى وأحق بما أخذ منهم.
وقال المتنبي:
أمالِكَ رّقِي ومن شأنُهُ ... هبات اللُّجَين وعْتقُ العَبيدِ
لو قال:) من شأنه هبات التضار لنا والعبيد (.
كان أمدح لأن الذهب واهبه أسمح من واهب الفضة لنفاسته وارتفاع قيمته وإلا من فساده إذا أكثر) وعتق العبيد (يستعاض عليه بالأجر في الآخرة والواهب العبيد منهم ليوصف بالجود لا ليعاض عرضاً يصل إليه) من (منفعته.
(1/371)
يليها أبيات:
أجابه منه للضبّ الش ... اعر بها حين هَجاه الضبّ
أيها أتاك الحمام فاحت ... رمك غير سفيه عليك مِنْ شتمك
ولا فائدة فيها فيطلب لها استخراج سرقه، وقال فيه أيضاً:
أي شعرٍ نَظرتْ فيه لضبّ ... أوحد ماله على الدهر عونُ
يقول فيها:
يا لك الويل ليس يعجز م ... وسى رجل حشو خلده فرعونُ
هذا معنى ينظر إلى قول أبي نولس:
فإِن يكن باقي إفك فرعون ... فيكم فإِنّ عصى موسى بكف خَصيب
(1/372)
وقال ابن الحاجب:
وإذا المرء فرعنته لهاة ... كنت موسى فرعون ذي الأوتادِ
وقال المتنبي:
أنا في عينيك الظلام كَما ... أنّ بياض النهار عَندك جُون
وهذا يشبه بيتاً لابن الرومي من أبيات يذكرها لجودتها وهي:
بحقهم إن باعدوني وقربوا ... سواي، وتقريبُ المباعد أوجبُ
رأى القوم لي فضلاً يعاريه نقصهم ... فمالوا إلى ذي النقص، والشكل أقربُ
بهائم لا تصغي إلى شدو مَعْبدٍ ... وأمّا على جافي الحداء فَتطربُ
خَفافيش أغشاها نهار بضوئِه ... ولاءمها قطع من الليل غيهبُ
فشبههم بالخفافيش التي من شأنها أن لا تبصر بالضوء ويكون بصرها في الظلام وخبر أبو الطيب أنه عين الهجو ظلام كما أن النهار عنده أسود ولم يذكر العلة الموجبة لذلك فكلام من جعل المهجّوين مثالاً صحيحاً أرجح كلاماً وأولى بما قال.
(1/373)
يليها أبيات أولها:
أبا عَبْد الإِلهِ مُعاذُ أنّي ... خَفي عَنْك في الهيجا مَقامي
يقول فيها:
أمثلي تَأخُذُ النكباتُ مِنه ... ويجزعُ من مُلاقاة الحِمام
وليس هذا من المعاني البديعة ولا الألفاظ الرفيعة ولكنه إذا أخذه أوجب علينا إخراج أصله وهذا من قول أبي هفان:
أمثلي يخوف بالنائباتِ ... ويَخشى بوائق صرف الزمنِ
(1/374)
أذاقني الله مُر الهَوى ... وأدخلني في حرامي إذن
فزاد على أبي الطيب بما يزيل الشك في مخافته وبالغ حتى سخف لفظه.
وقال المتنبي:
ولَوْ برز الزمان إليّ شخصاً ... لخضّبَ شَعْرَ مفرقه حُسامي
هذا من قول دريد:
لَوْ مُثّل الحتف لَهُ قرناً لما ... صدّتْهُ عنه هَيبةٌ ولا انثنى
ومعنى) ابن (دريد لا يفيد غير أَلاَّ نهاب شخص الموت لو مثل له وقول أبي الطيب أحسن عند مدح من المبالغة لأنه شرط يخصب مفرقه بحسامه فأبو الطيب أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
وما بَلَغتْ مشيتَها الليالي ... ولا سارتْ وفي يَدِها زمامي
قال البحتري:
لَستُ الذي إنْ عارضتهُ مُلمَّةٌ ... ألقى إلى حُكم الزَّمان وفوَّضَا
يليها أبيات أولها:
أنا عين المسوّد الجحجاحِ ... هَيّجتني كلابُكُمْ بالنُّباحِ
(1/375)
ولو قال:
أنا عين الصارم الكلاح ... هيجتني كلابكم بالنباحِ
واحتمل غثاثة الكلاح كان بالمعنى أوقع أن يجعل نفسه ليثاً ويجعلهم كلاباً تنبحه والأبيات فارغة.
قال ابن المعتز:
سَمع الليث نباحاً منكمْ ... فَلهُ في وسطِ الغابةِ زارُ
يليها أبيات أولها:
ألذّ من المُدامِ الخندريسِ ... وأحلى مَنْ مُعطاةِ الكُئُوسِ
مُعطاة الصَّفائحِ والعَوَال ... وإقحامي خميساً في خَميسِ
هذا شعر يحتاج أوله إلى ما بعده وهو معيب عند الشعراء يسمى التضمين وذلك أن يبتدئ معنى في بيت لا يتم إلا بالبيت الثاني، وقد قال إسحاق بن خلف ما فيه التضمين والمعنى:
لَسلُ السيوف وشقُّ الصُّفوف ... وخوضُ الحُتوف، وضربُ القُللْ
ألذّ من المسمعاتِ القيان ... وحُث المدامة في يوم طَلْ
ولا فرق بين المبنى والمعنى فهو داخل في قسم المساواة والأول أحق بما قال.
(1/376)
وقال المتنبي:
وموتي في الوغَى عيشي لأني ... رأيتُ العيش في أربِ النفوسِ
صدره من قول أبي تمام:
يَستعذبونَ مناياهُمْ كأنَّهمُ ... لا ييأسوُنَ من الدنيا إذا قُتِلوا
ولأبي تمام فيه زيادة يرجح بها، وتمام البيت من قول الأحوص:
فما العيشُ إلا ما تَلذُّ وتَشتهي ... وإنْ لامَ فيه ذو الشَّنان وفَنّدا
ولكن أبا الطيب قد أختصر الطويل في الموجز القليل فاستحق ما قال.
يليها أبيات وهما:
إذا ما سربْتَ الخمْرَ صرفاً مُهنّأ ... شربنا الذي من مثله شرب الكَرْمُ
ألا حَبّذا قَومٌ نداماهم القنا ... يُسقونها) رياً (وساقيهم العزْمُ
أما ما ذكره من شرب الشارب الخمر فإنه يشرب من مثل ما شرب الكرم فإنه نسي قوله:
فإن تكُنْ تغلِبُ الغلباءُ عُنصرها ... فإِنَّ في الخمر معنى ليس في العِنَبِ
(1/377)
فجعل العنب لا يلحق الخمر فكيف يجعل ذلك مثل الماء وهل للماء تسخية البخيل وتشجيع الجبان وزوال الهموم وصحة الجسم هذه فضائل لا توجد في الماء فكيف يكون الشرب للخمر كالشرب للماء، وقد خبر الله عنها بمنافع لولا التحريم ما تركت فقد ماثل بين شيئين مختلفين وبينهما فرق لا يخيل.
ويلي ذلك أبيات أولها:
لأحبَّتي أن يَمْلَئوا ... بالصّافياتِ الأكْوُبا
وهي أبيات فارغة ما أظنه أثبتها إلا ليدل على شجاعته وليس) له (مما يطلب له استخراج سرقة.
وبعد ذلك بيتان:
أما تَرى ما أراهُ أيُّها الملِكُ ... كأنّنا في سماءٍ ما لها حُبُك
ما لذكر الحبك هاهنا فائدة غير إتمام القافية.
وقال المتنبي:
الفَرْقدُ أبنكَ والمصباحُ صاحبُهُ ... وأنْتَ بَدْرُ الدُّجى والمجْلسُ الفَلكُ
وهذا التشبيه من قول ابن الجهم:
كأنَّهُ وولاةُ الأمر تَتْبعُهُ ... بَدْر السماءِ تليه الأنجمُ الزّهُرُ
ولا زيادة لأبي الطيب فيه غير صفة المجلس وقد أشار له إلى هذه الزيادة أبو نواس في قوله:
(1/378)
مضى أيْلولُ، وارتفعَ الحُرورُ ... وأخْبتْ نارها الشِّعرى العبُورُ
فقوما فالقحا خمراً بماء ... فإِنّ نتاج بينهما السّرُورُ
نتاجٌ لا تدرُّ عليه أمٌّ ... بحمْل لا تعدّ له الشُّهورُ
إِذا الكاساتُ كرّتْها علينا ... تكوَّنَ بينَها فلكٌ يدُورُ
تسير نجومه عجلاً وريثاً ... مُشرّقةً وأحياناً تَغُورُ
إِذا لم يجرهِنَّ القُطْبُ مِتْنا ... وفي دَوْراتهِنَّ لنا نَشُورُ
فشبه دوران الكؤوس على الندامى بفلك دائرة الكؤوس نجومه فإلى هذا ذهب أبو الطيب وقول أبي نواس ينبه عليه وإن كان في معنى غيره فهو من قسم استخراج معنى من معنى احتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه وبالجملة فقد زاد علي بن الجهم زيادة في كلامه هي من تمامه فهو أحق بما أخذ وقال ابن أبي فنن:
بَنوك نجوم بهم يقتدى ... سبيل الرشادِ وأنْتَ القمرُ
وقال بعد ذلك بيتين في نائم أنشده شعره وهما:
إِنَّ القوافي لمْ تُنمكَ وإِنَّما ... مَحقتْكَ حتى صدت ما لا يُوجدُ
(1/379)
خبرنا بوجود بعده عدم ثم خبر أن له أذناً وفماً فدل على وجود فناقض والمعنى في هذا أنك نمت عند الإنشاد وإنما تشكى منها إذا هجاها غماً فأما إذا أسمع شعراً قصد به غيره فلم يمحقه ويسكره، وهذا معنى نبه عليه أبو تمام بقوله:
عِنْدي من الأيَّام ما لَو أنهُ ... بإِزاء شارب مُرقد ما غَمَّضا
فأبو تمام يذكر أنه لو شرب المرقد ما غمض وأبو الطيب يذكر أنه نام حتى كأنه شارب مرقد، فكلام أبي تمام أشد مبالغة وأرجح معنى وقد أتى ابن الرومي في معنى قول أبي الطيب:) حتى صرت ما لا يوجد (بقوله:
وإنّ كنت لا أهجوك إلا كحالم ... يَرى ما يراهُ النائمون فَيهجرُ
لأنك معدوم الوجود وإنما ... يرينيك ظني ريثما أتدبرُ
(1/380)
فخبر عن عدمه ثم احتاط وقال:
فإِن كُنتَ شيئاً ثابتاً فهباءةٌ ... تضاءل في عينِ اليقين وتصغرُ
كأنه جعله معدوماً ثم رآه مهجواً ومخاطباً فعلم أن ذلك لا يقع على معدوم فجعله شيئاً حقيراً كالهباء صغيراً.
وقال المتنبي بيتين:
كتِمْتُ حُبّك حتى مِنْك تكرمةً ... ثمَّ استوى فيك إسراري وإعِلاني
كأنَّه زاد حتى فاض في جسدي ... فصار سُقْمي به في جسم كتماني
فخبر أنه قد استوفى فيه إسراره وإعلانه حتى كأنه زاد ففاض وضعف كتمانه حتى صار حبه في جسم كتمانه الضعيف على وجه الاستعارة وفيه تكلف.
وبعدهما بيتان أولهما:
وأخٍ لنا بَعث الطّلاقَ أَلِيَّةً ... لأُعَلِّلَنَّ بهذه الخرطوم
فهذا فارغ، وقال يليه:
فَجعلتُ رَدّي عِرْسَهُ كفارةً ... عَنْ شُربها وَشربْتُ غير أثيمٍ
ففقه أبو الطيب في هذا البيت فقهاً غير إسلامي لأنه ذكر أن حالفاً حلف عليه بالطلاق ليشربن الخمر فشربها وجعل رده عرسه وإليه كفارة ذنبه في معصية كان اجتناب الحالف عليها واجتناب ما نهى الله عز وجل عن شربه أولى بمذهب المسلمين.
ويليها قصيدة أولها:
أظَبيةَ الوحْشِ لولا ظَبيةُ الأنَسِ ... لما غَدوْتُ بجَدّ في الهوى تَعِسِ
(1/381)
قال فيها:
ولا سَقيتُ الثَرى والمُزْنُ مُخْلفُهُ ... دَمْعاً ينشفهُ من لَوْعةٍ نَفسي
قال الخُبزأرزي:
وكذاك نيرانُ القلوب إذا الْتظَتْ ... يوماً تُنشِّفُ في العُيون الماءَ
وقال آخر:
لَولا الدُّموعُ وفيضهن لأحْرقَتْ ... أرضَ الوداعِ حَرارةُ الأكبادِ
فساوى الخبزأرزي المتنبي في معناه من نشف ماء العيون بنار القلوب في بيته مطابقة من النار والماء ليس في بيت أبي الطيب والبيت الثالث جعل فيض الدموع سبباً منع من الإحراق فهو أقل مبالغة. ويقرب من هذا قول الحصني:
وكنتُ أرجّي الدمع أنْ يطفئ الأسى ... فَغالبهُ نِيران تُوقد في صَدْري
وقال المتنبي:
ولا وقفْتُ بجسْمِ مُسْي ثالثةٍ ... ذي أرْسُمٍ درس في الأرسم الدُّرُسِ
قال العكوك:
خَلَّفتني نِضْو أحزانٍ أُعالجُها ... بالجزع أنْدبُ في أنْضاء أطْلالِ
فجعل نصفه) نضو أحزان (يندب في أنضاء أطلال وهو مثل قوله:) ذي أرسم درس في الأرسم الدرس (.
(1/382)
وأملح من الجميع قول الديك:
أنضاءُ طلّتْ دَمْعهُمْ أطْلالهمْ ... فتخالهُمْ بين الرَّسُومِ رُسُوما
في هذا البيت تجنيس مليح وتشبيه من رسوم أجسام برسوم أطلالهم فهذا البيت يزيد على بيت العكوك ويرجح لفظه فهو أولى به من أبي الطيب.
وقال المتنبي:
ما ضاقَ قبلك خَلخالٌ على رشاءٍ ... ولا سمعتُ بديباجٍ على كَنسِ
) الكنس (جمع كانس مثل غائب وغيب ولو قال:) على كانس (وأفرد على مقصده شخصاً كان أحسن والذي قاله يحسن على مذهب من قال من أهل اللغة: كنس وكناس ومعنى هذا البيت أن ساق الظبي دقيق فلا يضيق فيه خلخال وأن الديباج على الهودج مثل الديباج على كنس الظبي أي هذا مخالف لسائد الظباء الوحشية كما قال ابن دريد:
أعَنِ الشمسِ عشاءً ... كشفت تلك السّجوف
أمْ على ليتي غزال ... علقت تلك الشّنوف
ومثله لآخر:
ظبي أتاكَ مُعطراً ... والظبي لا يتعطرُ
(1/383)
فكلهم يعرب بصفات لا تكون للظباء الوحشية.
وقال المتنبي:
مِنْ كل أبيْض وضّاحٍ عمامَتُهُ ... كأنَّما اشْتملتْ نوراً على قَبسِ
هذا يساوي قول ابن قيس) الرقيات (:
إِنّما مُصْعب شهابٌ من اللّ ... هـ تجلّتْ عن وجهه الظّلمْاءُ
وقال المتنبي:
أكارمٌ حَسَدَ الأرضَ السماء بهم ... وَقصّرت كل مِصْرٍ عن طَرابلُسِ
فقال:) قصرّت (والفعل للكل ولكنه أراد الجماعة كما تقول:) جاءت كل صاحبة لك (كأنك قلت صواحبك كلهنّ.
وبعد ذلك قصيدة أوّلها:
هَذِي بَرزْت لنا فهجتَ رسيسا ... ثُمّ انصرفت وما شَفيتْ نَسيسَا
(1/384)
حذف حرف النداء من المبهمات لحن عند البصريين لأنه لا إعراب له يدل على إرادتك كما يدل قولك:) زيد أقبل (على المحذوف وهو من المبهمات التي لا إعراب لها لا يدل على مرادك) ويشكل (ولا يجوز إلا في رواية شاذة غير موثوق بها ولا معمول عليها.
وقال المتنبي:
إِنْ كُنْت ظاعِنةً فإِنَّ مدامِعي ... تكفي مَزاركُمُ وتُرْوي العِيسا
من قول علي بن هشام:
ويا أخا الذود طال الظمأ بها ... لا تعرف الري من جذب وأقتار
قف بالعطاش على عيني ومحجرها ... نرو العطاش بماء سافح جار
(1/385)
فالمعنى المعنى ولكنه قد جاء بالكثير الطويل في الموجز القليل فصار أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
حاشى لمثلك أن تكون بخيلة ... ولمثل وجهك أن يكون عبوسا
كان الوجه أن يقول:) أن يكون مبخلاً (فيتم وزن الشعر ويصح الإعراب ويحمله على مثل وقد يجوز على ما قال على المعنى كما قيل: ذهبت بعض أصابعه:
وقال المتنبي:
خود جنت بيني وبين عواذلي ... حرباً وغادرت الفؤاد وطيسا
) الوطيس (: التنور، أوّل من تكلم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:) لأن حمى الوطيس (أي أشتد القتال على التشبيه وليس الوطيس من صفات الحرب فكأنّ
(1/386)
عواذله حين تلته كانوا كأنهم في حرب حمي لها قلبه فكان كالوطيس، فأما قول أبي تمام:
فتركْتَ تلك الأرضِ فَصْلاً سَجْسجاً ... من بَعْد ما كادت تكُونُ وَطِيسَا
وهذا الكلام أصح من كلامه والأقسام أصح من أقسامه لأن السجسج ضد الوطيس وليس الحرب ضد الوطيس فأبو تمام أحق بمعناه.
وقال المتنبي:
إِنْ حلَّ فارقَتِ الخزائِنُ ما لَهُ ... أوْ سار فارقتِ الجُسوم الرُّوسا
هذا كلام مليح النظام مستوفي الأقسام ذكر حال حلوله في سلمه) وحال مسيره في حربه (.
وهو من قول أبي نواس:
فيومٌ لإِلحاق الفقير بذي الغنى ... ويومُ رقابٍ بوكرتْ لِحصادِ
وقال المتنبي:
لَوْ كان ذو القرنين أعمل رأيَهُ ... لمّا أتى الظُّلماتِ صِرْنَ شُمُوسا
هو من قول القائل:
لَوْ أن في الظلمات شَعْشع كأسَها ... ما حار ذُو القرنين في الظُّلماتِ
(1/387)
قال الخبزأرزي:
لَوْ أنَّ ذا القَرْنين في ظُلُماتِهِ ... ورآهُ يضحك لاسْتضاءَ بثغْرِهِ
فهذه معان تدخل في قسم ما احتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه لأن أبا الطيب نقل ما قيل في الخمر أو الثغر إلى الرأي وجاء بالمعنى بعينه.
وقال المتنبي:
لَوْ كانَ صادفَ رأس عازَر سيفُهُ ... في يَوْمِ مَعْركةٍ لأعيا عِيسَى
هذه مبالغة ما كنت أوثرها له لأن) عازر (لم يكن مضروب العنق وإنما كان ميتاً فأحياه عيسى عليه السلام وكذلك قال:
أوْ كان لجّ البحْرِ مِثْل يمينه ... ما أنْشقّ حتى جازَ فيه مُوسَى
وهاتان آيتان من قدرة الله تعالى تدلان على صحة نبوة مظهرها منه افتراه يعتقد أن قدرة الله لا تستولي على قطع عنق عازر إذا صادفه سيف الممدوح
(1/388)
أو لا تستولي على شق البحر لموسى، هذه مبالغات تركها الشعراء غير معتقدين لها ولا يحملهم عليها محبة الجودة في الكلام والتناهي في معاني النظام.
وقال المتنبي:
لمّا سمعتُ به سمعتُ بواحدٍ ... ورأيتُه فرأيت منه خَمِيسا
هذا معنى متداول ولفظ متناقل، ومنه قول أبي تمام:
لَوْ لمْ يقُدْ جحفلاً يوم الوغى لغدا ... مِن نفسه وَحْدَها في جَحْفل لَجِبِ
وقال أيضاً:
بيتُ المقام يرى القبيلة واحداً ... ويُرى فَيحسَبُه القَبيلُ قبيلا
وقال ابن الرومي:
فَرْدٌ وحيدٌ يراه النّاسُ كُلُّهُمُ ... كأنّه النَّاسُ طُراً وهُو إنسانُ
هذه الأبيات يتساوى معانيها ومبانيها ولم يرجح لفظ أبي تمام فالسابق إليها أولى بها:
(1/389)
وقال المتنبي:
ولحظْتُ أنمله فَسِلْنَ مواهباً ... ولمسْتُ مُنْصلهُ فسال نُفُوسَا
هذا من قول البحتري:
تَلْقاهُ يقطُرُ سيفُهُ وسنانُهُ ... وبنانُ راحتِهِ ندىً ونَجِيعَا
وقال ابن دريد:
تَصرفُ في حالي نداه وبأسِه ... أناملُ يُقْطرن السَماحةُ والدمَا
قال أبو محمد: وأنشدت لدعبل:
وإِذا صادقْتَ أكدْتَ الصفا ... وإِذا أدْبرت يوماً لم أعج
وإذا عاذَ بقومي عائذٌ ... وَتَر الناس جميعاً لم يهج
لو قال:
وإذا عاذ بقومي ... عائذ لم يهج
لكان مديحاً كافياً فحشي البيت حشواً مليحاً مفيداً من قوله:) وتر الناس جميعاً (وقال دعبل بعد ذلك:
فَعلى أيْماننا يَجْري النَدى ... وعَلى أسيافنا تَجْري المُهجْ
وكل ذلك يدخل في باب المساواة والسابق أولى به.
وقال المتنبي:
(1/390)
بَلدٌ أقمْتَ به وذِكْركَ سائرُ ... يَشْنى المَقيلَ ويكرَهُ التّعْريسا
أسكن الهمزة على ما جرت به عادته بغير قياس ولو قال: يأبى المقيل ويكره التَّعْريسا استراح من الضرورة، وهذا المعنى مأخوذ من قول أبي تمام:
جَرّدتُ في ذَمِّيك خَيْل قضصائد ... حَالتْ بِك الدُّنيا وأنْتَ مُقِيمُ
وذكر ابن الرومي قصيدة له فقال:
تَظلُ مقيماً في محلك خافضاً ... وأنْتَ بها في كل فج تُسيّرُ
وكلها معان متقاربة تتساوى في معانيها ومبانيها وأصحابها السابقون أحق بها.
وقال المتنبي:
فإِذا طَلبتَ فريسةً فارقْتَهُ ... وإذا خدرت تخذته عِرِّيسا
أشار له إلى هذا ابن الرومي:
هو الليث طوراً بالعراقِ وتارةً ... لَهُ بين آحامِ القَنا مُتاجَّمُ
وقد قال قبله أبو تمام:
أسَدانِ حَلا مِنْ دِمشْقَ وأوطنا ... مِنْ حِمْص أمْنعَ بلدةٍ عرّيسَا
تَخِذَ القَنَا خِيساً فإِنْ طاغٍ طَغى ... نَقَلا إلى مَعْناهُ ذَاكَ الخِيْسا
صرح أبو تمام باسم أسدين يحسن معهما ذكر العريس والخيس وكذلك ابن الرومي ولم يذكر أبو الطيب أسداً في شعره وإنما دلّ على إرادته بذكر (1/391)
الفريسة وإنه إذا خدر تجده عريسا، ومن شرح مراده أرجح لفظاً وأولى بشعره.
وقال المتنبي:
إِني نثْرتُ عنك دُرّا فأنْتقِدْ ... كثرَ المدلّسُ فأحْذر التَّدْليسا
لم يثق بفطنة الممدوح في النقد فحذره التدليس وصدر هذا البيت من قول أبي نواس:
ونَثرى عليك الدُّرَّ يا درَّ هاشمٍ ... فَيا من رأى دُرّا على الدرِّ يُنْثَرُ
فجمع أبو نواس بين تشبيه كلامه وتشبيه الممدوح فصارت له زيادة يرجح بها فهو أولى بما قال، وابن الرومي يقول في صاعد:
أوّلُ ما أسألُ منْ حاجَةٍ ... أن يُقْرأ الشِّعْرُ إلى آخرِهْ
ثُمَّ كفاني بالَّذي تَرْتئي ... في جَيد الشعر وفي شَاعرِهْ
فسأله قراء شعره مما استقصاه ثم اكتفى بالذي يرتئي في جودة الشعر فسلم المعرفة بما يسم وإنما سأله استقصاء الشعر فهذا أحسن من كلام من حذره أن يقع عليه التدليس في الكلام وابن الرومي أولى بما قال.
وقال المتنبي:
حَجبتها عن أهلِ إنطاكية ... وجَلوتها لك فاجتليت عَروسا
(1/392)
هذا المعنى موجود في قول الحسن بن وهب وقد أنشده:
كفيّ وغاك فإِنني لك قال ... ليست هواري عزمتي بتوالي
فقال له: لقد أهديت إلينا منها عروساً يا أبا تمام وقام فاعتنقه فقال أبو تمام: لو أنها من الحور العين لكان قيامك أفضل مهورها.
وقد قال البحتري:
هذي القصائد قد أتتك حسانها ... تَسعى إليكَ كأنَهنّ عَرائسُ
ولم يزد على أن شبه قصائده بالعرائس ولأبي الطيب من ذكر الحجاب وذكر الجلوة ما يقتضيه ذكر العروس وإنها مضنون بها على الأكفاء من الممدوحين ومن أكفانها الممدوح فرجح كلامه فصار أولى بما أخذ.
ويتلوها قصيدة أولها:
بكيتُ يا ربعُ حتى كدْتُ أبكيكا ... وَجْدتُ بي وَبِدمْعي في مَغانيكا
النصف الأول من قول الحصني:
لَما وقفنا بها أضْحت تُدارسنا ... عَهد الخَليط فتبكينا ونبكيها
(1/393)
فأطلق لفظه ولم يقل:) حتى كدت (فرجح بذلك وهذه مجازات لا حقائق لها وقد قال ابن الرومي:
فَلوْ استطاعت إِذْ بكيت دُثُورها ... لبكيتُ نحولي بالدُّموع الهمل
فمنعها الاستطاعة للبكاء على نحوله وذكر ممكناً.
وقال المتنبي:
بأي حُكمْ زمانٍ صرْتَ متّخذاً ... ريمَ الفلا بدلاً من ريم أهْليكا
هذا من قول أبي تمام:
وظباءُ أنُسك لَمْ تُبدَّلْ مِنْهُم ... بِظباءِ وحْشِكَ ظاعناً بِمُقيمِ
وقال الخليع:
عَهدتكُ مستن الخواذلَ للهوى ... فَما أنْتَ مُستن الظباء الخَواذِلِ
المعنى متقارب ولكن للخليع من الخواذل والخواذل تجنيس مليح يرجح ويصير أحق به.
وقال المتنبي:
أيّامَ فيك شُموس ما انبعثنَ لنا ... إِلاّ انْبعثنَ دما باللحْظِ مَسْفوكا
هذا بيت رديء الصنعة لأنه كان في حديث الوحش ثم قال:) شموس (ولو قال ظباء كان قد أورد ما يجانس البيت الأول وأحسن من قوله في بقية البيت قول أشجع:
وإِذا نَظرْتَ إلى مَحَاسِنها ... فَلِكُلّ مَوْضع نَظْرة قَتْلُ
وقال أبو نواس:
(1/394)
رسْمُ الكرى بيْن الجفونِ محيلُ ... عَفّي عليه بُكا عليك طويلُ
يا ناظراُ ما أقلعَتْ لحظاتُه ... إلاّ تشخط بينهن قَتيلُ
قال أبو محمد: وقد أخذت هذا المعنى فقلت أنا:
لا، وَوجهٍ لك يُبْدي ... صَفْحةَ السّيف الصَّقيل
وسواد الشَّعر الأسْ ... ودِ في الخدِّ الأسيْلِ
وَجُفون لك لا تَطْ ... ف إلاّ عن قَتيلِ
ما جميلُ الصَّبر عن مِثْ ... لك عندي بجميلِ
ومن ميز اللفظين عرف الفرق بينهما.
وقال المتنبي:
أحيْيت للشُّعراء الشّعر فامتدحوا ... جَميعَ من مَدحُوهُ بالذي فِيكا
هذا قول ابن الرومي:
على أنّهُ من أحسن القولِ مِنْهم ... فمِنكَ ومن آثارِكَ ما حِسْنَه
(1/395)
وقال ابن الرومي أيضاً:
لولا بدائعُ من صِفاتِك لمْ تكنْ ... للمادين إلى البديع تَغلغلُ
ومما جاء فيه ابن الرومي في هذا المعنى وبالغ فيه قوله:
مَدحَ الأوَّلون قوماً بأخْلا ... قِكَ من قَبْلِ أنْ تُرى مَخْلُوقا
نحلوهُمْ ذخائراً لك بالْبا ... طِلَ مِنْ قَولهم وكانَ زَهُوقا
فانتزعْنا الغصوبِ مِنْ غاصبيها ... فحبا صَادقٌ بها مَصْدوقا
فتجاوز معنى أبي الطيب وبالغ ورجح عليه ولابن المعتز في نظر قول أبي الطيب:
إِذا ما مدحناهُ استعنا بِفعْلِه ... لنأخذ مَعنى مدحه من فَعالِهِ
وهذا يساوي قول أبي الطيب، فابن الرومي أولى منه بذلك وابن المعتز قد ساواه، وهما أحق بما أخذ منهما وقريب من هذا قوله:
وعَلّموا النّاس منك المجْدَ واقتدرُوا ... على دقيقِ المعاني مِنْ معانيكا
فالسرقة متقاربة فيهما.
وقال المتنبي:
شكْرُ العفاةِ بما أوليْتَ أوْجد لي ... إلى يَديك طريق العِرف مسلوكا
(1/396)
هذا يشبه قول أبي تمام:
ولهذا أضحى ثنائي طريقاً ... عامراً بينه وبين المعالي
ومثله قول أشجع:
لَقدْ قَوم الرُّكبان من كل وجْهَه ... إِليْكَ اتِّصالَ الرَّكبِ يتْبعُهُ الرَّكْبُ
ويقرب منه قول الآخر:
لَقدْ وضَح الطّريقُ إِليك جداً ... فما أحدٌ أرادك فاسْتَدلا
وهذه معان متناسبة وألفاظ متقاربة فالسابق أحق بها.
وقال المتنبي:
وعُظْمُ قدرك في الآفاقِ أوْهَمني ... أنَّي بقلَّةِ ما أثنيتُ أهْجُوكا
قال البحتري:
جَلَّ عَنْ مذْهبِ المديح فقد كا ... دَ يكون المديحُ فيه هِجاءُ
فخبر أنه يجل عن المدح وأبو الطيب يقول: إن عظم قدره أوهمه وهماً والوهم يخطئ ويصيب أن عظم قدره في الآفاق أراه أنّ قلة ما أثنى به عليه كالهجاء له وعظم قدره في الآفاق قد يكون بخطوة لا يستحقها فقول البحتري أمدح وأرجح وهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
ولَوْ نقصتُ كما قد زِدتَ من كرمٍ) على ... الورى (لَرأوْني مثل شانيكا
أسقط الهمزة من) شانيكا (على الرسم وقوله مأخوذ من قول ابن أبي عيينة:
(1/397)
خالدٌ لولا أَبوه ... كان والكلْبَ سواء
لَو كما ينقص يَزْدا ... د إِذا نال السَّماء
هذا لفظ مطبوع مليح المطابقة سليم من العجرفة وقبيح الكلفة فصاحبه أولى به.
وقال المتنبي:
فإِنْ تقلْ: ها، فعاداتٌ عُرفت بها ... أوْلا فإِنَّكَ لا يَسْخُو بها فُوكا
جوز عليه قول لا، ثم ذكر لا يسخو بها فوه وكان ينبغي أن يقول: ولو هممت بلا لم يستطع فوكا وقد قيل في هذا المعنى أشياء منها قول أبي العتاهية:
وإِنّ الخليفةَ من بعض) لا ( ... إِليه ليبعضُ مَنْ قالها
وقد ملح العكوك في قوله:
الله أجزى من الأرزاقِ أكثرها ... على يديك بعلم يا أبا دُلَفِ
ما خطَّ) لا (كاتباه في صَحيفته ... كما تُخَطط) لا (في سائر الصحفِ
بارى الرياحَ فأعطى وهي جاريةٌ ... حتّى إِذا وقفتْ أعطى ولم يَقِفِ
وبعدها قصيدة أولها:
أريقُكِ أمْ ماءُ الغمامةِ أم خمْرُ ... بِفيَّ بُرودٌ وهو في كبدي جَمْر؟!
(1/398)
أما تشبيه الريق بالغمام أو الخمر فمن قول امرئ القيس:
كأنَّ المُدامَ وصوبَ الغمام ... وريحِ الخُزامي ونشر القُطرْ
يُعلُ به بَرْد أنيابها ... إِذا طرّبَ الطائرُ المُستحرْ
فقد زاد امرئ القيس صفتين عليه وهو أول الشعراء، وأما عجز البيت فمن قول أشجع:
وسَقاك مِن حَر الهو ... ى بَردُ المفلجة العذابِ
وقد قال ابن الرومي:
ويسقيك الذي يُروى ويُذوى ... فَفي الأحشاء بَردٌ واضطرام
فقول أشجع أن برد أنيابها يسقي أحشاءه من حر التهابها حسن جداً، وأما قول ابن الرومي فكيف أجتمع البرد والحر في أحشائه؟ وكيف يحسن موقع البرد فيها مع اضطرامها وما قاله أبو الطيب من إحساسه البرد في فيه والخمر في كبده أحسن من قول ابن الرومي وأشعرهم أشجع وهو أولى بما قال.
وقال المتنبي:
إَذا الغُصن أمْ ذا الدِّعص أمْ أنت فِتْنةٌ ... وذيَّا الَّذي قبّلتُهُ البرق أمْ ثَغْرُ!
وليس هذا مما يعنى باستخراج سرقته ولكنا نخاف من ناقص النقد أن يتوهم أنّا جهلناه فلذلك نذكر مثالاً احتياطاً. أنشد ابن قتيبة لبعض الإغفال:
أنسيم ريقك أحتال العنبرُ ... هَذا أمْ استنشاقه مِن عنبرِ
أنظام ثغرك ما أرى أمْ لمحة ... من بارقٍ أم معدن من جوهر
(1/399)
هذه معان متساوية غير أن أبا الطيب قد جاء بالكثير الطويل في الموجز القليل فهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
رأتْ وجْهَ من أهْوَى بليلٍ عَواذلي ... فَقُلْنَ نرى شمساً وما طَلَع الفَجْرُ
هذا من المستعمل قال الأول في معناه:
تراءت لنا والليلُ من دونِها سَترُ ... فكانَ لنا من غيرِ نحريهما فَجرُ
وقلت لها من أنْتِ قالتْ: تعجباً ... يُقال كذا للبدر من أنْتَ يا بدرُ
هذا كلام مستعذب والبيت الأول يقارب معنى أبي الطيب وفي الثاني زيادة مليحة عذبة تخبر عن تعجبها من سؤاله إيّاها عنها وهي أشهر من أن يسأل عنها وقال ابن المعتز:
ولمْ أدرِ أنَّ ألبانَ يُغْرسُ في النّقا ... ولا أنَّ شمساً في الظلام تَطوفُ
فشغل صدر البيت من غرس ألبان في النقى بمعنى غريب، وعجب من شمس تطوف في الظلام كما عجب أبو الطيب من رؤية شمس ولم يطلع الفجر فجمع بين الصفتين وزاد في الكلام ما هو من التمام فهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
رأيْنَ التي للسحرِ في لَحظاتِها ... سُيوفُ ظباها مَنْ دمى أبداً حُمْرُ
بينا هو يصفها بأنها كالشمس إذ خرج إلى وصف سحر جفونها وما يفعله به وكان ينبغي أن يجود صنعته ولا يخرج الكلام عن نور وجهها فيقول:
رأين التي للنور فِيها تألق ... يرد عيون الناظرين بها كَسر
400