فؤاد بن أحمد - قطعة خبز وبيض وكوكاكولا.. قصة قصيرة

قضت ماريا جزءا كبيرا من نهارها في تنظيف شقتها. تشعر بنوع من اليأس من أن تعثر على مُساعِدة تقوم بدلا عنها بهذه الأعمال التي ما عادت تطيقها. يوما ما اعترضت سبيلنا امرأة سمراء تطلب مالا، أعطيتها بسرعة قدرا بسيطا فبادلتنا بدعوات بصوت مرتفع. إثر ذلك أسرّت لي ماريا بأنها تتمنى دائما أن تجد من يصدق في مساعدتها بأعمال البيت صدقَ الدعوات التي أمطرتنا بها هذه المرأة... جسم ماريا لم يعد يحتمل مثل هذا الضنك، ولا روحها. تعبت من هتك روحها على حيطان بيتها وإسفلته. لم تنتبه إلى الزمن إلا بعد أن كان على وشك الانقضاء. آنذاك أدركت أن جسمها لم يتغذ إلا على سجائر تخطئ الطريق إلى رئتيها فتذهب إلى روحها رأسا.
”لا تنظر إلي،“ قالت، وقد أخذت أحمر الشفاه من محفظتها اليدوية پول كليمون لتمرره على شفتيها المتوردتين أمام مرآة كرسي السيارة. ”إني لا أستعمل أحمر الشفاه إلا من أجل وقاية شفتي من الآثار الجانبية للسجائر.“ همهمت: ”لا شك أن حركة عقب السيجارة بين شفتين لطيفتين يجعلها تُمتع؛ لذلك فإن التجمل للسيجارة قد يكون من باب حسن الاستقبال.“ هذا ما كنت قرأته يوما في مجلة؛ وما كنت لأود قوله. ” وعلى كل حال فالشفتين المجملتين تجعلان التدخين ذا جاذبية أكبر، كما يجعل التدخينُ حركة الشفتين أجمل“ دفعت بالفكرة لتدور في ذهني محدثة نوعا من الإثارة الدفينة.
أخذت ماريا سيجارة أخرى وهي تستعد لجمع معدات التنظيف. أدركت آنذاك أن أمرا آخر لم تقم به إلى جانب كونها لم تتناول وجبة الغداء؛ الهرة جيسي هي الأخرى لم تقتت ولم تصدر أي صوت يعبر عن ذلك. ولعلها فعلت ذلك بنوع من ” التضامن في صمت“ أو بنوع من ” الكبرياء“ وعلى الأقل هذا ما فهمته ماريا، وهي تحدثني عنها.
” أعرف من قسمات وجهك أنك لا تكترث، بل تكاد تسخر من حديثي عن جيسي، لكن صدقني إنها تتصرف بشكل يحمل الكثير من الإنسانية... بل أجزم إنها ليست بحيوان“ هذا ما قالته، وهي تنظر إلى صور جيسي على هاتفها، مضيفة بصوت رخيم: ” على كل حال، لن تجد في هاتفي غير صور جيسي.
بعد أن أفرغت علبة الكروكيت في صحن، شرعت مباشرة في التفكير في أن معدتها فارغة فعلا. ” طيب، هل أنا قادرة على حمل بدني إلى الخارج وأخذ وجبة خفيفة في مقهى پان دي پوم؟“ لم تجب عن هذا السؤال الذي اعتبرت طرحه من باب الفضل، فهي تعرف أن قدميها ما عادتا قادرتين على الحركة؛ لكنها شعرت بحرارة السؤال تسري في كلية كيانها الهش. ” اطمئن، فوراء هذه الرشاقة هشاشة بنيوية“. هذا ما قالته لي مرة وهي تحدثني عن آلام أفقدتها الحركة تماما. ازدادت ماريا توترا لما شعرت بتلك الحرارة تسلك طريقها إلى الخارج لترتسم في قطرات عرق على جبينها.
اتخذت قرارا حاسما في حياتها ذلك اليوم، أن تُعد أسرع وجبة في العالم: بيض. أرفقته بقارورة كوكا كولا. ولتذهب الشركة الأمريكية إلى الجحيم، والرأسمالية معها؛ ” لا شيء ألذ من أن ترفق وجبة بيض سريعة بكوكا كولا باردة... لعله عالم السرعة...ثم إنها وجبة مغذية. نحن جيل السبعينيات محصنون إلى حد ما ضد ثقافة الإستهلاك“. هكذا قالت مواسية نفسها، وعلى وجهها مسحة ابتسامة قلقة.
انتهت من الأكل. مددت جسمها الرشيق هيأةً على أريكتها؛ أشعلت سيجارة دونما تجميل لشفتيها هذه المرة. بدأ دماغها في الاشتغال؛ استولى عليها بعض شتات الأفكار؛ شعرت أن رأسها لا يحتمل كل ذلك. فحاولت طرد تلك الأفكار. أو بالحري حاولت أن تمضي بروحها بعيدا عن كل إزعاج. فشغلت نفسها بإشعال سيجارة أخرى ومداعبة جيسي التي كانت تُراقبها في صمت حكيم.

الرباط، 19 مايو 2013
التفاعلات: ليلى منير أورفه لي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...