وأما قوله:
سيوف ظباها م ... ن دمى أبداً حُمْرُ
فمن قول ابن الرومي:
وغزال تَرى على وجْنتيه ... قَطْرَ سهميه من دماء القلوبِ
لم يُعادِلْهُ في كمال المعاني ... توأمُ الحسن من بني يعقوبِ
فجعل لعينيه سهمين وجعل التثنية للتثنية وجعل حمرة خديه من قطر سهميه من دم القلوب وهذا معنى لطيف ولفظ شريف وقد زاد فيه معنى ليس موجوداً في كلام أبي الطيب من صفة حمرة خديه فكلام ابن الرومي أرجح وما زاد أبو الطيب في المعنى لأنه جعل مكان السهام سيوفاً وخبر عن حمرتها لا غير، فأبن الرومي أولى بما قال.
وقال المتنبي:
تَناهى سكون الحُسن في حَركاتِها ... فَليسَ لرأي وَجْهها لمْ يَمُت عُذْرُ
قال ابن المعتز:
عُذرَ القتيل بحبِّها لكنَّ مَنْ ... قَدْ عاشَ بِعْد فراقِها ما عُذرُهُ
وقال المتنبي:
إِلى لَيْث حربٍ يُلحم اللَّيثَ سيفُهُ ... وبحْرِ ندىً في جُوده يغْرقُ البَحْرُ
أخذه من البحتري:
إِذا قُرِنَ البحرُ الخضم بأنْعُم ال ... خليفة كاد البحْرُ فيهنَّ يَغْرَقُ
وقد أختصر هذا أبو الطيب في عجز بيت شغل صدره بمعنى آخر بما أتى به البحتري وبين قوله:) يغرق البحر (وبين قول البحتري) يكاد البحر) يغرق (مبالغة هي أمدح من قول من حمدها.
وقال المتنبي:
وإِنْ كانَ يُبْقي جُودُهُ من تَليدِه ... شبيهاً بما يُبقي من العاشِقِ الهَجْرُ
هذا من قول الديك:
فَعلت مُقلتاه بالصبِّ ما تف ... علُ جَدوى الأمير بالأموالِ
وقد قال القاضي التنوخي:
وأشعث لَمْ يبق منه المور ... إلاّ مثل ما أبقت من الصب النوى
ومثله قول خالد الموصلي:
يا منزلاً ضن بالسَّلام ... سُقيت ريّاً من الغمامِ
لمْ يترك القطرُ مِنْه إلاّ ما ... تَرك الشوق مِنْ عظامي
وكل هذا من استخراج معنى من معنى أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه والسابق أولى به.
وقال المتنبي:
فَتى كلّ يومٍ يَحْتوي نفس مَالهِ ... رماحُ المعالي لا الرّدينيَّةُ السُّمْرُ
ذكر أن المعالي تحتوي نفس ماله لا يوصل إلى ذلك منه بقهر ولا غلبة فهذا البيت ينظر إلى معنى أبي تمام في قوله:
إذا ما أغاروا فاحتووا مال معش ... ر أغارتْ عليه فاحتوته الصَنائِعُ
وفيه زيادة أنّ بغاراتهم على الأعداء يملكون المال وذلك يدل على الشجاعة وتغير عليهم الصنائع فيحتوي ما حووه هم فصاروا شجعاء كرماء فهذا أمدح من ذاك وأرجح فأبو تمام أحق بقوله.
وقال المتنبي:
ولَوْ تنزلُ الدُّنْيا على حكم كَفّهِ ... لأصْبحتِ الدّنيا وأكثرها نَزْرُ
هذا من قول أبي العتاهية:
ولو كانتْ لَهُ الدنيا ... لأعطاها وما بَالى
وأبو الطيب قال:) أكثرها (فقد بقي منها بقية وأبو العتاهية أخبر عنه أنه يعطيها كلها ولا يبالي فلفظ أبي العتاهية أمدح ولفظ أبي الطيب أجزل فنحن ندخل هذا في باب المساواة.
وقال المتنبي:
أراه صغيراً أعظمها عظْمُ قدْرِهِ ... فَما لعظيمٍ عنْدهُ قَدْرُ
أخذه من أبي تمام:
أبى قدرنا في الجود إلاّ نباهة ... فَليس لمالِ عِنْدنا أبداً قَدرُ
وهما يتساويان في المبنى والمعنى والسابق أولى بما قال، فإن قال قائل: فلأبي الطيب زيادة وذلك أنه قال: فليس لعظيم يكون ما كان عنده قدر) وقد (خص أبو تمام المال وحده، قيل له: المال أنفس شيء وأفخذه وأعظم نفيس وأكبره تتلف النفوس في تطلبه وتركب الأهوال في تكسبه ويرد به سطوة الأعداء القاهرة ويتوصل به إلى الدنيا والآخرة فالمعنى فيهما واحد.
وقال المتنبي:
مَتى ما يُشِرْ نحو السَّماء بِوجْهِهِ ... تَخر لَهُ الشِّعري وينكسفُ البدْرُ
هذا من قول البحتري:
شوقاً إلى من لَوْ تبدى وَجهه ... للبدرِ كانَ من التحير يكسفُ
وهذا مثل ذلك مساوياً ولولا أن الله عز وجل خبرنا) أنه رب الشعرى (فدلنا على أشرفها لقلنا ما حاجتنا مع ذلك البدر إلى ذكر الشعرى، فقد صار له بهذا زيادة يستحق الشعر بها.
وقال المتنبي:
ترى القمر الأرضِ والملك الَّذي ... لَهُ الملك بَعْد الله والذكرُ والفخرُ
) فدل (على أن القمر الأرضي أفضل من السمائي لأنه يكسفه والذي أعرف أن أحسن بشراً إذا بولغ في صفته يشبه بقمر السماء فأما ذكر الملك والذكر والفخر فلا مدخل له في صفة القمر وهذه معان تمضي على الأسماع فإذا وقع عليها التصفح الشافي والتأمل الكافي ظهرت أسرارها وأنكشف عوارها.
وقال المتنبي:
كثيرُ سُهادِ العين مِنْ غير علةٍ ... يؤرقّهِ فيما يشرفه الذِكْر
هذا من قول ابن المعتز:
وأسهر للمجدِ والمكرماتِ ... إِذا اكتحلتْ أعين بالكرى
وهذا يدخل في قسم المساواة، وما أحسن قول ابن الرومي:
أقسمتُ باللهِ ما استيقظتم لحتا ... ولا وجدتم عن العليا بِنوام
هذا طباق حسن قد استوفى فيه أقسامه وجود نظامه وذلك أنه خبر عنهم بيقظة شريفة ورقده منيفة في الحالين جميعاً.
وقال المتنبي:
أبا أحْمدٍ ما الفخْرُ إلاّ لأهْلهِ ... وما لامْرئٍ لَمْ يُمْسِ مِنْ بُحْترٍ فَخْرُ
هذا تجاوز عن الحد وخروج عن الصدق إنما يصلح أن يقال هذا لمن له نسب متصل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن الشعراء يتجاوزون إلى الغاية في المبالغة.
وقال المتنبي:
هُم الناسُ إِلاَّ أنهُمْ من مكارمٍ ... يُغنّي بهم حَضْرُ ويحدو بهم سَفْرُ
قال ابن الرومي:
وقد سار شعري شرق أرضٍ وغربها ... وغنّى به القومُ المقيمون والسّفرُ
فألفاظ بيت ابن الرومي يأخذ بعضها بأعناق بعض وقد عرف الحضر والسفر بالألف واللام، فيمكن أن يقال إن الناس كلهم قد غنوا به، وأبو الطيب نكر فأمكن أن يكون المعنى فرقة من الحضر وفرقة من السفر، وإذا كان كلام ابن الرومي أشرح وأمدح بإمكان العموم فيما خص فيه أبو الطيب، فابن الرومي أحق بما قال ولعل قائلاً أن يقول: جمع أبو الطيب حالتي الغناء فصارت له زيادة فإنه إنما يحتسب له بذلك لو كان الغناء لا يكون إلا في الحضر فإذا صلح للحضر والسفر لم يصح تقسيمه، وقد قال عمر بن الخطاب:) الغناء يعم زاد الراكب (، فجعله بمنزلة الزاد لمسافر.
وبعدها قصيدة أولها:
ما الشّوقُ ممتنع مني بِذا الكَمَدِ ... حتى أكونَ بلا قلبٍ ولا كَبدِ
قال) فيها (:
ما زالَ كُلُّ هزيمِ الودْقِ يُنْحِلها ... والسُّقْمُ يُنحُلني حتّى حكتْ جَسدي
يشبه قول ابن الرومي:
درساً براهن البلى بَرى الضنى ... جِسمي لبين قطينها المترحل
ولبعض العرب:
ألا إنّما تذري دموعي مهارق ... فسرى إعلان ولست أبوحُ
أسائل عَنْه منزلاً شفه البلى ... كما شف جسمي السّقم وهو صحيحُ
وليس قول أبي الطيب داخلاً في حسن الخروج المليح إلى الهجاء أو المديح وبينما يخبر عن زفراته إذ سأل أين منك ابن يحيى صولته الأسد فخرج عن حديث الهوى والحزن الشاغل إلى أن يسأل ابن يحيى أين صولته من صولة الأسد وهذا من ذاك غير متقارب ولا متناسب وذلك قوله:
فأينَ من زَفَراتي من كَلفتُ به ... وأينَ منك ابن يحيى صَولةُ الأَسَدِ
وقال المتنبي:
لمّا وزنتك بالدنيا فَملت بها ... وبالورى قَلَّ عِنْدي كَثْرةُ العَدَدِ
ينظر قوله:) قلّ عندي أكثر العدد (إلى قول القائل:
ما أكثرَ الناس لا بل ما أقلهم ... الله يعلم أني لمْ أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا
هذا يذكر أنه على كثرة عددهم قليل، وأبو الطيب يذكر أنهم قلوا بالقياس الممدوح وكلا القصدين) صحيح (.
وقال المتنبي:
إِذا ما ذكرْنا جُودَهُ كان حاضراً ... نأى أو دنا يسْعَى على قَدمِ الخضْرِ
هذا لا يقرن بالبيت الذي قبله ولا يجانسه وهو على تباعده منه مسروق من قول مسلم:
فحث مطي الراحِ حَتَّى ظَننتهُ قفا ... أثر العنقاء أو سَائر الخَضْراء
الجود: عرض وليس بجسم وسعيه على قدم الخضر وقدمه جسم غير صحيح وإن كنا نعلم أن مراده من هذا الكلام سرعة حضور جوده، ولكن تشبيه مسلم المتحرك بجسم يقفو أثر ما لا يجد أو يساير الخضر أصح مقصداً وله من ذكر العنقاء زيادة يستحق بها.
يتلوها قصيدة أولّها:
أحادٌ أم سداسٌ في آحادِ ... ليلتنا المنُوطَةُ بالتَّنادي
أي ست ليال في ليلة وما عدت العرب أكثر من رباع ولكن أبا حاتم
حكى أن العرب تقول أحاد إلى عشار وكأنه قال لا يجوز ثم عاد فأجازه فأستشهد بقول الكميت:
فَلمْ يَستر يثُوكَ حتى رَميْ ... تَ فوقَ الرجالِ خِصالاً عُشارا
وما أراه رجع إلا ببيت الكميت أو ما علم أنّ الأصمعي قال: تقول العرب برق ورعد وأنشد المتلمس:
فإذا حللتُ ودُون قومي عاوةٌ ... فأبرق بأرضك ما بَدا لك وأرْعُدِ
فقيل له قد قال الكميت:
أبرق وأرعد يا يزي ... د فما وعيدك لي بضائرْ
فقال الأصمعي: الكميت مولّد لا يحتج بشعره فعلى هذا فقد أستعمل
المتنبي المختلف فيه وقاس على كلام العرب الذي ينبغي أن تؤخذ لغتهم سماعا يأتي بما أتت فيه أتباعاً وصغر ليلة على لفظها وقد سمع منه ليلية كأنه تصغير ليلاة وإن لم يسمع ذلك وهذا التصغير التعظيم كقول بعض الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقتها المرحب.
وعلى هذا تصغير الأسماء مثل كليب وعمير، وما أدري لما أراد وصف هذه الليلة بالطول وأقتصر على سداس لم أقتصر على سداس فيقول: أحاد في عشار فيكون أطول لما أحب وصفه بالطول ثم أخبر أنها موصولة بالتنادي يعني بالتنادي بالرحيل فكأنما المسافة بينه وبين
وقوع التنادي ست ليال على قياس لفظه، وهذا كلام به من قلة الماء وبهجة الرواء ما ترى.
وقال المتنبي:
كأَنَّ بنات نعشٍ في ذُراها ... خرائد سَافرات في حِدادِ
يقال: سافرات على النعت وسافرات على الحال، وقال أبو العباس الناشئ:
كأن محجلات الدهم فيه ... خَرائد سَافرات في حِدادِ
هذه سرقة توجب القطع. وقال ابن المعتز:
وأرى الثُريا في السمّاءِ كأنَّها ... قدمُ تبدت في ثيابِ حِدادِ
وقال آخر:
كأنَّ كؤوس الراحِ والليلُ مُظلم ... وجوهُ عذارى في ملاحف سُود
الخريدة الخبية وهذه معان يقرب بعضها من بعض وتتساوى فالسابق أولى بها.
وقال المتنبي:
زَعيما للقنا الخطّى عَزمي ... بسفكِ دمِ الحواضر والبَوادي
هذا يدل على قلة رأفة ودين لأنه لم يقل دم المشركين ولا المنافقين ورأى قتل العباد غويّهم ورشيدهم وذميمهم وحميدهم بغير جناية، هذا لا يدخل في العدل ولا يحسن في العقل وقد سبقه إلى هذا القبيح أبو دلف فقال.
وأحسنُ من نَزوات الصبا ... إذا ما اللبيب أطاعَ اللبيبا
ركوبُ الجيادِ وطي البلادِ ... وقتل العبادِ شعوباً شعوبا
ولا خير في المعنيين فيشتغل بها.
وقال المتنبي:
وشُغْلُ النّفسَ عن طلب المعالي ... ببيعِ الشِّعر في سُوق الكَسادِ
أخذه علي بن بسام:
قالوا تغير شعره عن حَالِه ... والفكرُ يَقطعه عن الأشعار
لا تعذلوهُ إذا تغير شِعره ... فالسوق كاسِده بغير تجار
وهما معنيان متساويان والأول أولى بقوله.
وقال المتنبي:
وَما ماضى الشباب بمستردٍ ... ولا يوم يمرَ بِمستعادِ
قال عدي بن زيد:
أمسك أمس قَدْ مَضى فانقضى ... لَيْس لأمسٍ قَدْ مضى مرتجعُ
وقال الحطيئة:
إذا ذهبَ الشباب فبان مِنهُ ... فليس لما مَضى مِنه لِقاءُ
وقال أبو العتاهية:
لا يُستعَاد اليومُ إن ... ولّى ولا للأمسَ ردُ
وقال البحتري:
فهل عقب الزمان يَعُدنَ يوماً ... بيومٍ من لقائك مُستفادُ
فكل هذه المعاني متساوية وهي إخبار بما لا يجهل ولكنه كالتوجع والتفجع غير أن أبا الطيب أختصر الكثير الطويل في الموجز القليل وذلك أنه خبر أن ماضي الشباب لا يسترد وأن يوماً يمر غير مستعاد. خبر عن الشباب
والزمان وأفرد غيره بالإخبار إما عن الزمان وإمّا عن اليوم وكان بيت أبي الطيب ينوب عن أبياتهم فهو أحق به.
وقال المتنبي:
مَتى لحظت بياضَ الشيب عَينٌ ... فقدْ وجدتهُ مِنها في السَّوادِ
هذا من قول القائل:
في كل يومٍ أرى بيضاء نابتةٍ ... كأنّما تنبت في حبةِ البَصرِ
فالمعنى المعنى ولكن مبنى أبي الطيِّب أرجح مما يأتي به من المطابقة بين البياض والسواد والأول ذكر البياض وجعل حبة البصر موضع السواد من بيت المتنبي، ولو قال:) في أسود البصر (كانت الصنعة واحدة وكان أحق بما قال، ولكن تأتي لأبي الطيب أن رجح كلامه على كلام من أخذ عنه فصار أولى به.
وقال المتنبي:
مَتى ما ازددت من بعد التَّناهي ... فقد وقع انتقاصي في ازديادي
أخذه من محمود الوراق:
إذا ما ازددت من عمري صُعوداً ... ينقصه التَزيُّدُ والصُّعُودُ
أما السرقة في هذا الكلام ففاضحة، إلا أن لفظه من أبي الطيب أصنع ألا ترى أن الزيادة مع النقصان ضدان والصعود مع الهبوط ضدان فأبو الطيب
أوقع اللفظ على استحقاقه في استعمال الأضداد، ومحمود تساهل في ذلك، فرجح كلام المتنبي، واستحق ما أخذ، فأما قول أحمد) بن (أبي طاهر:
متى ما زاد عمرك كان نقصاً ... ونُقصانُ الحياة مع التَّمامِ
فالنقص والتمام ضدان وقد استوفى معنى بيت أبي الطيب في صدر بيته، وعجزه زيادة في المعنى ما هو من تمامه ومثله قول أبي المعتصم:
كمالُ المرء نقصٌ في قواه ... ونقصُ المرءِ من بعد الكمالِ
وهو يشبه بيت أحمد بن أبي طاهر سواء، وهذا يدخل في قسم المساواة وللسابق فضل السبق.
وقال المتنبي:
جَزى الله المسير إليه خيراً ... وإنْ تَرك المطايا كالمزادِ
المزاد: يكون فيها الملاى الجديد فيكون التشبيه يدل على الصلابة والسمن وقلة الكد وليس هذا مراده لأنه لا يوجب على الممدوح ذماً ما في قصده لأنه ما كد إليه راحلة ولا جهد نفسه في إتيانه وقد تكون فارغة يابسة فيشبه الهزلي من الإبل ولكنه ما أتبع هذا بنعت يفسر إرادته، والجيد قول بعض الأعراب:
كأنّها والشوكُ كالشنان ... تَميسُ في حلةِ أرجوانِ
فالشنان: القرب البالية جمع شنّة فدل بمعنى الشنان على بلاها وهزالها فرجح لفظه على لفظ أبي الطيب.
وقال المتنبي:
فَلمْ تلق ابن إبراهيم عنسى ... وفيها قُوتُ يومٍ للقُدادِ
هذا معنى ينظر إلى قول الحطيئة:
سناماً ومحضاً أنبتا اللحم فاكتستْ ... عظامُ امرئ ما كان يَشبع طائرهُ
أي لو وقع عليه طائره ما كان يشبع طائره من لحمه فجعل الناقة مكان الرجل وجعل القداد مكان الطير وهذا من استخراج معنى من معنى احتذى عليه وإن فارق ما قصد به.
وقال المتنبي:
وأبعدَ بعدنا بعد التَّداني ... وقرّب قُربنا قُرب البِعادِ
معناه وأبعد بعدنا مثل بعد التداني وأقرب قربنا مثل قرب البعاد كان
بيننا أي قربني إليك بحسب ما كان بيننا من البعد فهذا كما قلنا إنما يشبه كلام أهل علم الباطن) خذني مني وغيبني عني حتى لا أبقى أنا بلا أنا (وهذا مما لا يلتمس له استخراج سرقة وإنما فسرت لك معناه لئلا تسمع تهويلاً فتتوهم أن له محصولاً.
وقال المتنبي:
فلما جئته أعلى مَحلّي ... وأقعدني على السّبعِ الشّدادِ
قد ألمّ بمعنى زهير:
لو كَانَ يقعد فَوقَ الشمسِ من كرمٍ ... بآبائهم أو مجدهم قَعدوا
فزهير أحترس وقال:) لو جاز أن يقعد قوم بحسب أو مجد فوق الشمس لقعدوا وأبو الطيب حقق جلوسه على السبع الشداد فليس هذا في قدرة الممدوح فكان زهيراً بالاقتصاد في المحال ورجحان لفظه على لفظ من أخذ عنه أحق بما قال.
وقال المتنبي:
تَهلَّل قبل تَسليمي عَليهِ ... وألقىَ كيسهُ قبل الوِسادِ
أما ذكر التهلّل فلا أعرف فيه أحسن من قول زهير:
تراهُ إذا ما جئته متهلّلاً ... كأنَّك تعطيه الذي أنت سائلُه
وذلك أنه قد عرف مقدار تهلله لأنه قد يتهلل المعطي ولا يبلغ تهلل
المعطي ما يفرح به وذكر الكيس واللقاء به ليس مدح فأخر ولا يبلغ نهاية المدح بالجود لأنه قد يلقي كيساً ليس فيه ما يغني المعطى ولا يفقد المعطي والبدرة أولى من الكيس بإغراق في المدح وخبر أنه ألقى الكيس وأتبعه وساداً فخبر عن الممدوح بالسخاء وإكرام عفاته فكأنه ينبه على المعنى بقول أبي الهندي:
سألناهُ الجزيلَ فما تلكى ... وأعطى فَوقَ منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسنَ ثم عُدنا ... فأحسنَ ثم عُدتُ له فعادا
مراراً ما قصدت إليه إلا ... تَبسَّم ضاحكاً وثنى الوسادا
فذكر معاودته مراراً والتكرم يكون مع كثرة المعاودة غير مأمون وخبر ببشاشة وإفراط هشاشة، فإن قال قائل شرط أبو الطيب إلقاء الكيس قبل الوساد والإكرام أولى بالتقديم وقد خبر أبو الهندي بأنه أعطاه فوق منيته وذلك مما يتسع الظن في كثرته وأنه عاوده دفعات فكلامه يفيد معاني من كرمه يرجح بها على أبي الطيب.
وقال المتنبي:
وأنّكَ لا تجودُ على جَوادٍ ... هباتُكَ أن يلقب بالجوادِ
هذا من ألفاظه التي تحتاج إلى تفسير فإذا فسرت قلت فائدة مسبوكها ومعناه هباتك لا تجود على أحد بأن يلقب جواداً ولو قال أن يسمى بالجواد كان أحسن من قوله) أن يلقب (.
وقال المتنبي:
كأنَّ الهامَ في الهَيجا عيُونٌ ... وقَدْ طُبعتْ سُيوفكَ من رقادِ
فسر هذا بعض النحويين فقال: إن معناه أن سيوفك تألفها الهام كما تألف العيون الرقاد، وهذا ضعف في النقد وخروج عن القصد لأن الهام تكره السيوف ولا تألفها قال أبو محمد: وهذا الكلام يحتمل معنيين أحدهما أن لا يقدر الهام على الامتناع من سيوفك كما لا تمنع العيون دخول الرقاد عليها أحبته أو كرهته والآخر أن يكون أراد موقع سيوفك في هامهم كموقع الرقاد في المقل يريد إمّا بطلان الحس والغيبة بها أو يريد حسن وقعها كوقع الرقاد في العيون كقول الأول:
فكأنما وقع السيوف بهامهم ... خَدرُ المنية أو نعاس الهاجع
يقرب منه قول أبي نواس:
ولها دَبيبُ في العظامِ كأنَّهُ ... أخذ النعاسِ، وقبضهُ بالمفصلِ
وكلام أبي نواس يشبه نعنى الأول إذ ليس يمتنع العقل ولا المفصل لمن عمل النعاس فيهما وأخذه إياهما لأنه فعل للطبيعة يدخل عليهما من حيث لا يمتنع.
وقال المتنبي:
وقَدْ صُغتَ الأَسنَّة من هُمومٍ ... فما يخطُرنَ إلا في فُؤادِ
يجوز الكسر والضم في الطاء من) يخطرن (ومن أراد الرماح كسر، وهو ينظر إلى قول أبي تمام:
كأنّه كان تربَ الحبِّ مُذْ زمنٍ ... فليس يُعجزه قلبُ ولا كَبد
وقد أخذ أبو الطيب هذا المعنى أخذاً جلياً واضحاً قبيحاً ومن ذلك قول بعض بني عبد شمس:
الطاعنُ الطعنة النَّجلاء عن عرضٍ ... أثر الكتيبة يُرميه ويرميها
بلهذمٍ من همومِ النفسِ صيغتهُ ... فليس ينفكُّ يجري في مَجاريها
وكلام الشمسي مساو لكلامه في معناه فالأول أحق بما قال.
وقال المتنبي:
ويْومَ جلبتَها شُعثَ النَّواصي ... مُعَقّدة السَّبائبِ للطِّرَادِ
هذا بيت لا معنى فيه فيطلب له استخراج سرقة وإنما ذكرناه للضمير الذي لم يجر له ذكر ولكنه ذكر من الهيجاء والرماح ما يدل على حضور الخيل فاستعمل الإيجاز والاختصار واكتفى بعلم المخاطب وهو مذهب صحيح قد ورد في القرآن والشعر ففي القرآن قوله تعالى:) حتى توارت بالحجاب (و) كل من عليها فانٍ (ولم يجر للشمس ولا للأرض ذكر وفي الشعر قال حميد بن ثور أول قصيدة:
وأدماء منها كالسَّفينة تضحتْ ... به الحَمل حتى زاد عشراً عَديدُها
فقال منها يريد ناقة وأضمرها لعلم المخاطب.
وقال المتنبي:
وَحام بِها الهلاكُ على أناسٍ ... لهمْ باللاَّذقيةِ بَغيُ عادِ
قال ابن الجهم:
أعطاكَ يا ابن أبي داود رُتبةً ... فجريت في ميدانِ أحمر عَادِ
وهذا يدخل في باب التساوي.
وقال المتنبي:
لقُوكَ بأكبدِ الإِبلِ الأبايَا ... فسقتهم وَحدُّ السَّيق حَادي
هذا البيت جيد الصنعة لأنه ما خرج عن ذكر الإبل وسوقها وحدائها فلم يخرج عما يتبع بعضه بعضاً ويلتقي بمعناه لفظه وهو ينظر إلى قول البحتري:
فدعوتهم بظُبا الصَّفيح إلى الرَّدى ... فأتوكَ طُرّأ مُهطعين خُشُوعَاً
ولغيره:
لما التووا بمقاده عَنْ سُبلهِ ... أخذ المقادةِ عن ظباه حِدادِ
وقال المتنبي:
فَما تَركوا الإمارةَ لاختيارٍ ... ولا انتحلوا ودادكَ مِنْ وِدَادِ
ثم قال:
ولكنْ هبَّ خوفكَ في حشاهُمْ ... هُبوبَ الريحِ في رجل الجرادِ
هذا البيت تفسير لِما تقدم وهو موجود المعنى في بيت شريف وذلك قوله:
ذلها أظهرَ التودد منها ... وبها مِنكمْ كزء المَواسي
فمن بلغ مراده في بيت وأتى في عجز بيته بتشبيه صحيح كان أحق بما قال ممن عمل بيتين تفسيرهما في الثالث بعدهما واستعار استعارة غير صحيحة لأن الخوف عرض والهبوب لا يصح إلا من جسم والمعنى موجود في قول القائل:
تَولوا حزاناً مُدبرين كأنّهم ... جَراد شمال كية وابلِ القَطَرِ
فهذا شبه جواهر بجواهر وقال الحطيئة:
ونحنُ إذا ما الخيل وافت كأنّها ... جراد زفت أعجازه الرّيح منتشر
ومثله قول مسلم:
ما كان جَمعهم لمّا لقيتهُمُ ... إلا كمثل جراد ريعُ مُنجفَلِ
وكل ذلك أصح معنى من معنى بيت أبي الطيب وأرجح لفظاً وهم أحق بما قالوا.
وقال المتنبي:
وماتوا قَبْلَ مَوتهم فَلمَّا ... مننتَ أعدتُهمْ قبل المَعادِ
ينظر إلى قول أبي تمام:
مَعادُ البعث معروفٌ ولكنْ ... ندى كفَّيك في الدُّنيا معادي
وقد أتبع أبو تمام هذا بمثله فقال:
مَعادُ الورى بَعد الممات وجوده ... مَعادُ لنا قبل الممات ومَرجعُ
وهذه معان تدخل في قسم التساوي.
وقال المتنبي:
غَمدْتَ صوارماً لو لم يتوبوا ... مَحوتهُمْ بها مَحو المِدَادِ
وقد أتى بهذا اللفظ أبو تمام فقال:
محوٌ من البيض الرّقاق أصابَهُ ... فَعفاهُ لا محوٌ من الأحوالِ
ومحو المداد أصل الكلام ومحو الأحوال استعارة والمعنى مساو.
وقال المتنبي:
وما الغضبُ الطّريفُ وإن تَقَّوى ... بمنتصف من الكَرمِ التِّلادِ
ليس الغضب ضد الكرم، وإنما ضده اللؤم ولو قال:) من الحلم التلاد (كان في الصنعة أجود ويقوى لفظه هجيته ضاق عطته عن أملح منها.
وقال المتنبي:
فلا تغررك ألسنةُ مَوال ... تُقبلهُنّ أفئدة أعادي
فهذا يشبه قول القائل:
وأبلغ مُصعباً عني رسولاً ... وهل يجد النصيح بكل وادِ؟
تعلم أن أكثر من بكا فيّ وإن ... ضحِكوا إليك هُمْ الأعادي
وقال ابن المعتز:
عرفت أخلاء هذا الزمان ... فأكثرت بالهجر منهم نصيبي
فكلهم إن تأملته صديق العتاب عدوّ المعيب.
وهذه الأبيات تتساوى والسابق بها أولى.
وقال المتنبي:
وكُنْ كالموتِ لا يرثى لباكٍ ... بكى منه ويروى وهو صَادِ
ينظر إلى قول لقيط:
لا حرثَ يشغلهم بلْ لا يرون لكمْ ... مِنْ دون نَبضتكم رياً ولا شبعا
وقال المتنبي:
فإِنَّ الجُرحَ ينفر بعد حينٍ ... إذا كانَ البِناءُ على فسادِ
هذا من قول البحتري:
إذا ما الجُرح ذم على فسادٍ ... تبيّن فيه تفريطُ الطبيب
هما متساويان والأول أحق بقوله.
وقال المتنبي:
فإِنّ الماءَ يجري من جَمادٍ ... وإنَّ النَّار تخرجُ مِنْ زنادِ
أما صدره فيشبه قول ابن الرومي:
يا شبيه البدر في الحس ... ن وفي بعد المنالِ
جد فقد تتفجر الصخ ... رة بالماءِ الزلالِ
وأما عجزه فمن قول ابن الجهم:
والنارُ في أحجارِها مخبوءةٌ ... لا تُصطلى إنْ لم تُثرها الأزندُ
وتمثل المأمون:
أنا النار في أحجارها مسكنة ... متى ما يهجها قادح تتصرمُ
ويدخل في معنى هذا قول أبي تمام:
أخرجتموه بكره من سجيته ... والنارُ قد تتنضى من ناضر السَلمِ
وقد جمع أبو الطيب في بيته معنيين وأختصر وجاء باللفظ الطويل في الموجز القليل فهو أحق بما أخذ.
وقال المتنبي:
وكيفَ يبيت مضطجعاً جبان ... فرشت لجنبهِ شوكَ القْتَادِ
ما كان يجب أن يطلق أسم الجبن على أعدائه فيوثق تأثيره منهم وليس شوك القتاد في المراقد مما يخص الجبان الشهر به دون الشجاع، فأما التشبيه فمستعمل فمنه قول ابن مناذر:
كأنّ عوائدي مِنْ بعد هذء ... العيون فَرشنني شوك القتادِ
ومثله قول أبي تمام:
إني بعلتك أعتللت ... فمفرشتي شوكُ القتادِ
وهذا المعنى كثير الاستبدال متواتر الاستعمال لا يعبأ بسرقته ولكن أبا الطيب لا يحقر شيئاً من المعاني فيلزمنا أن نعبأ بما عني به لئلا يتوهم متوهم أن الغامض أوردناه والمكشوف جهلناه.
وقال المتنبي:
ترى في النّوم برمحك في كُلاهُ ... ويخشى أن تراه في السُهادِ
أحسن من هذا قول أشجع:
وعلى عدُوّك يا ابن عمِّ مُحمّدٍ ... رَصدان: ضوءُ الصًّبحِ والإِظلامُ
فإذا تنبهَ رعَتهُ وإذا غَفا ... سَلَّتْ عليه سيوفك الأحلامُ
وقد ألمَّ بهذا أبو تمام في قوله:
إنْ يَنتبه ترتعدْ فَرائصه ... ويهتجدْ بعجلة عن حِلمه
وقال المتنبي:
أشرتَ أبا الحُسينِ بمدح قَومٍ ... نزلتُ بهم فَسرتُ بِغير زادِ
يقرب من قول ابن عيينه:
نَزلتُ عليهم ورحلتُ عَنْهم ... فكان صُدودهم نُزلي وزادي
وقول ابن أبي عيينه أهجا لأنه ذكر أنه راح منهم بغير زاد وهذا ذكر أنهم
زودوه الصدود فخبر بمنع البشر والزاد فصار كلامه أرجح في الهجاء فهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
وَظنُّوني مدحتهُمُ قَديماً ... وأنت بما مَدحتهُمُ مُرادي
قال كثير:
متى ما أقلُ في آخر الدَّهر مدحةٍ ... فَما هي إلا لابن لَيلى المكرَّمِ
قال أبو نواس:
إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإنْ جَرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
فقوله:) إنساناً (حشو لأن المدح لغيره مفهوم أنه إنسان.
وقال الديك:
ونَمدحُ أقواماً ما سِواكَ وإنما ... إليك نُسدِّيه وفيك نزخرفه
فلكثير فضل السبق والديك يساوي أبا الطيب بغير زيادة فالسابق أولى من السارق.
وقال ابن الرومي:
ومَا قِيلَ فِيه من مديحٍ فإِنَّه ... مَديحك، والنياتُ نَحوك عُمَّدُ
وقال المتنبي:
وإني عنك بعد غدٍ لغادٍ ... وقلبي عن فنائِكَ غير غادِ
يشبه قول الخبزأرزي:
أنا غائبٌ والقلبُ عندكَ حاضِرُ ... سافرتُ عنكَ وما الفؤاد مُسافرُ
وقال المتنبي:
مُحبّك حيثما اتجهتْ ركابي ... وضيفُكَ حيثُ كنتُ مِنَ البِلادِ
هذا من قول أبي تمام:
وما سافرت في الآفاق إلا ... ومن جَدواكَ راحِلتي وزادي
ومنه قول أبي تمام أيضاً:
مُقِيمُ الظنِّ عِندكَ والأماني ... وإن قَلقتْ ركابي في البلادِ
يليها قصيدة أوّلها:
مُلِثَّ القَطرِ أعطشها رُبُوعاً ... وإلا فأسقِها السَّمّ النقيعا
من شأن منازل الأحباب أن يدعى لها بالترويض والبهجة كقول أبي تمام:
يا دارُ درَّ عليكِ أرهامُ النّدى ... واهترَّ روضك في الثرى فَتزادا
وقال مخلد الموصلي:
يا منزلاً ضنّ بالسَّلامِ ... سُقيتَ صوباً من الغَمامِ
لمْ يترك المُزن منك إلا ... ما تركَ السقمِ من عظامي
وما سبق أحد أبا الطيب إلى الدعاء على منازل الأحباب بالعطش ولا من عادة السحاب سقيا السم ولا السم مما يدعى به على الجمادات ولو قال: أمطرها حجارة تهدمها وأرسل عليها صواعقاً تحرقها مما يجوز مثله أن يقع من السحاب لكان أحسن في الدعاء عليها ولما أغرب في الدعاء عليها جاء بعذرٍ أشبه شيء باستئناف ذم وقال:
أسائلها عن المتدَيّريها ... فَلا تَدري ولا تُذري دُموعا
فجعل ذنبها أنها لا تذري الدموع وقد دعا البحتري على نفسه باللوم في سؤال ما لا يستجيب فقال:
وسألتُ ما لا يستجيبُ فكنتُ ... في استخباره كمجيب من لَمْ يَسلْ
فعذر المنازل ولا نفسه والعاقل أولى باللوم مما لا يعقل، وألزمها أبو الطيب الجواب وأذرى الدموع وذلك تكليف غير ممكن فلما امتنع عليه منها ما لا يمكنها دعا عليها بما قد سمعت وإنما وقف الناس بالمعاني وبكوا رسوم الديار، وتغير الآثار إما لإظهار وفاء لمن كان بها أو أعثار بخرابها وانقلاب الدهور وتغير العصور فإما أن يسألوها لتجيب وإلا اغتاظوا فدعوا عليها، فهذا تخيل فاسد ومعنى بارد.
وقال المتنبي:
لحاها الله إلا ماضيَيْها ... زمان اللهو والخود الشموعا
ماضيها كان يوجبان الدعاء عليها بالسقيا والنضرة والالتفاف بالخضرة والزهرة أما سمع قول البحتري:
وإذا ما السحاب كان ركاماً ... فسقى بالرباب دار) الرباب (
وكمثل الأحباب ... لو يعلم العا ذل عندي منازل الأحباب
فإن كان كما قال البحتري فقد دعا أبو الطيب على أحبابه بالعطش والسم النقيع فهذه معان أقل تأملها ونقدها.
وقال المتنبي:
منعّمةٌ، ممنعّةٌ، رداحٌ ... يكلفُّ لفظها الطَّيرَ الوُقوعا
هذا يشبه قول ابن رومي:
مَديحٌ إذا ما الطير مَرْت مَرت رعالها ... بمنشده ظلت هُناكَ تكفكِفُ
والمبنى والمعنى متساويان لأن لفظ المحبوبة التي ذكر أنها تكلف لفظها الطير الوقوع يشبه لفظ المنشد لهذا الشعر الذي ذكره ابن الرومي وهما يدخلان في قسم المساواة، والذي على هذا المعنى قول كثير:
وأدنيتني حتى إذا ما سبتني ... بقولٍ يُحلّ العُصَم سَهْل الأباطح
توليت عني حين لا لي حيلة ... وخلفتَ ما خلفت بين الجوانح
وقد أخذ هذا المعنى ابن دريد فقال:
لو ناجَتْ الأعصمَ لأنحطَّ لها ... طَوع القيادِ من شَماريخ الذُّرى
وقوله:) طوع القتاد (أحسم من قول: أبي الطيب:) يكلف لفظها الطّير الوُقُوعا (لأن من كلف ليس كمن فعل أفعاله طوعاً ولا يتوهم الضعيف النقد باختلاف الجنسين) العصم، والطير (أن هذا ليس من هذا فإنه منه وهو من توليد كلام من كلام لفظهما مفترق ومعناهما متفق فكلام من أخذ المتنبي أرجح من كلامه فهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
يُرفّع ثَوبها الأرداف عنها ... فَيبقى مِنْ وشاحيها شسوعا
) شسوع (بعيد وهو لفظ غير عذب وأحسن من هذا قول رجل من كلب:
أبتِ الغلائل والثدي لِقميصها ... مَس البطونِ وأنْ تَمسّ ظُهوُرا
وإذا الرياح برتجهن تعطرت ... نبهن حاسدة وهَجْن غُيورا
وقال المتنبي:
إذا ماست رأيتَ لها أرتجاجاً ... لهُ لَولا سواعدُها نَزُوعا
الهاء تعود على الثوب في) له (وتقدير الكلام رأيت لها ارتجاجاً نزوعاً له لولا سواعدها وما أدري كيف ينزع ارتجاجها قميصها عنها أما لهذا القميص طوق أم ليس لها عنق يمنعها من خروجها من قميصها وقد وافى الناس بلولا في هذا الموضع فكان أحسن وأدنى إلى الإمكان، فقال ابن المعتز:
يكاد يجري من القميص من ال ... نعمة لولا القميص يمسكه
فذكر نعمة يكاد يجري من أجلها فيمسكه القميص وقال في صفة فرس:
يكاد يخرج من أهابه ... إذا بدا السوط له لولا اللبيب
فجعل اللبيب يمسكه من أن يطير ويخرج من أهابه كما جعل القميص يمسك الإنسان، من أن يخرج من قميصه فأما أن ينزع قميصها ارتجاجها لولا سواعدها فبعيد وأما ما قيل في هذه المعاني قول أبي الشيص:
لولا التمنطقُ والسّوار معاً ... والحجلُ والدملوج في العضدِ
لتزايلت من كلّ ناحيةٍ ... لكن جعلن لها على عمدِ
وقال المتنبي:
تألّم دَرزهُ والدّرز لينٌ ... كما يتألَّمُ الغَضْبَ الصَّنيعا
فخبر بتألمها في الدّرز، وهو لين يريد رقتها ونعمتها وأول من فتح هذا المعنى امرئ القيس فقال:
من القاصرات الطّرف لو دبّ مُحولٌ ... من الدَّر فوق الأتبِ مِنها لأثرا
والذر أخف وزناً على الجسم من درز القميص فإذا أثر في الجسم كان أبلغ وصفاً من أبي الطيب وله فضل السبق وقد أخذه القائل فقال:
لو يَدبُّ الحَوليُّ مِنْ ولد الذَّ ... رّ عليها لأندبتها الكُلومُ
والخارج أبلغ من المؤثر في حسنها فذلك أبلغ من قول أبي الطيب وأرجح لفظاً.
وقال المتنبي:
ذراعاها عَدُوَّا دُملجيْها ... يَظنُّ ضَجِيعُها الزَّندَ الضجيعا
لو ضاجع الفيل ما كان يجب أن يتخيل أن زنده ضجيع له وهذه مبالغة مع استحالتها غثة.
وقال المتنبي:
كأنَّ نِقَابها غيْمٌ رقيقٌ ... يُضيء بمنعه البَدْرَ الطُّلوعا
سرقه من قول بشار:
بَدا لكَ ضَوءُ ما انتقبت عليهِ ... بَدُوّ الشَّمس من خَلل الغَمامِ
فقال أبو الطيب يضيء لمنعه البدر الطلوع، والغمام لا يمنع البدر الطلوع بل يمنعه الظهور وهو طالع تحت الغمام وهي عبارة غير طائلة وفيها تسامح وكلام بشار أحسن كلاماً لأنه خبر بضوء نقابها من نور وجهها، وشبه وجهها بالشمس والنقاب بالغمام وقد وفى كلامه أقسامه، فكلام بشار أرجح وهو أولى بشعره.
وقال المتنبي:
أقُولُ لها اكشفي ضُرّيَ وقُولي ... بأكثر من تدَللها خُضُوعا
خاطبها يقول) أكثر من تدللها خضوعاً (يريد أن خضوعي أكثر من تدللها ولو كان لتدللها خضوع لكان قد أوقع الكلام موقعه ووضعه بموضعه، فإذا لم يكن ذلك وإنما شبه كثرة خضوعه بكثرة تدللها وكان يجب أن يقول تمثيلاً: وخضوع قولي أكثر من تدللها، فيكون الاعتماد على كثرة الخضوع المشبه بكثرة تدللها.
وقال المتنبي:
أخفتِ الله في إحياءِ نفسٍ ... متى عُصي الإِلهُ بأن أطيعا
يشبه قول الخبزأرزي:
ما حَرامُ إحياءُ نفسٍ ولكن ... قَتلُ نفسٍ بغير نفسٍ حَرَامُ
هذا يناسب قول أبي الطيب وقول الخبزأرزي أسهل كلاماً وأعذب نظاماً فهو أحق بمعناه.
وقال المتنبي:
غَدا بِك كلُّ خِلْوٍ مُستهاماً ... وأصبحَ كلُّ مَستُورٍ خَليعا
ليس هذا مما يلتمس له استخراج سرقة ولكن ذكرته لفساد صنعته لأن ضده المملوء لا المستهام والخليع ضد الناسك المستور ولو قال:
غَدا بك كلّ خلوٍ في اشتغال ... وأصبح كلُّ ذي نَسك خليعا
كان أجود لصنعته وكان طباقاً حسناً.
وقال المتنبي:
بَعيدُ الصَيتِ مُنبثُّ السّرايا ... يشيب ذكرهُ الطفل الرَّضِيعا
هذا كثير ولا يحقر أخذ شيء من المعاني فلا نحقر نحن إيرادها فمن ذلك قول بعض الأعراب:
وما شيبتني كبرة غير أنّني ... لدهرٍ لهُ رأس الوليدِ يَشيبُ
وقال إبراهيم بن المهدي:
إلا شغلتنا عنك يا أرو نكبة ... يَشيبُ لها قَبل الفطام وليدها
وقد يفارق الوليد الفطام والرضاع ويسمى وليداً فإبراهيم بن المهدي قد ضيق القول بقوله: قبل الفطام وليدها.
والرضيع أشد مبالغة والمعنيان متساويان فأبن المهدي أحق بشعره.
وقال المتنبي:
يَغضُّ الطّرف مِنْ مكرٍ ودهي ... كأنَّ به وليس به خشُوعا
من قول ابن الرومي:
ساهٍ وما تتقى سقطتهُ ... داهٍ وما يُنْطوي منهُ على ريبِ
فَدَهْيُهُ للدواهي الرُّبد يدرؤها ... وسهوه عن عُيوبِ الناسِ والغَيبِ
وقد قسم تقسيماً رجح به كلامه.
وقال المتنبي:
قُبولك مِنَّهُ مَنٌّ عليه ... وإلا يبتدئ يَرهُ فظَيِعا
صدره من قول أبي تمام:
يعطي ويشكُرُ مِنْ يأتيه يسألُهُ ... فَشكُرهُ عِوَضٌ، ومالُهُ هَدرُ
فصدر بيت أبي تمام كصدره، وباقيه عبارة غثة يسقط دون ما سرقت منه
ونصف بيت أبي تمام الثاني مفيد من تمام الأول فهو أرجح بذلك.
وقال المتنبي:
لهونِ المال أفرشَهُ أديماً ... وللتَّفْريقِ يكرهُ أن يضيعا
أي لهوانه عليه يبسط تخته أنطاعاً ليهينه على عفاته وطالبي عرفه، وقوله:) للتّفريق يكره أن يضيعا (أي لأنه يكره ضياع المال ليس لادخاره لنفسه ولكنه يجمعه ليفرقه كما قال ابن الجهم:
ولا يَجمعُ الأموال إلا لبذلَها ... كما لا يساقُ الهَدْيُ إلا إلى النحرِ
فخبر بنظير خبر أبي الطيب بكلام سهل ولفظ جزل ثم مثل المال بالهدي الذي يعنى بسوقه إلى النحر فزاد في كلامه ما هو من تمامه واستحق ابن الجهم شعره على من أخذ عنه.
وقال المتنبي:
إذا مدّ الأميرُ رقابَ قَومٍ ... فما لكرامةٍ مدّ النُّطُوعا
أنه لا يمد رقاب من يقتله لكرامة بل لهون كما أفترش المال أديماً فالمال ليفرقه والرقاب ليقطعها وهذه معان كان اطراحها أصلح له.
وقال المتنبي:
فليس بواهب إلا جزيلاً ... وليس بقاتلٍ إلا قريعا
يشبه معنى قول مسلم:
حَذار من أسدٍ ضرغامةٍ بطلٍ ... لا يولغُ السيف إلا هامةَ البطَلِ
فقد خبر أبو الطيب بخبرين من المدح عن الممدوح فخبر بالسخاء والشجاعة فزاد على مسلم ورجح كلامه فصار أولى بما أخذ.
وقد حكى أنّه كان في عسكر الأمين حبشي بأبيات ويرمي بمقلاع معه يخاطب بالأبيات طاهر بن الحسين ويقول:
دُونك الرمية يا طاهر ... مِنْ كفِ ابن حبيش
حَبشي يَقتِل الناس ... على قطعة خيش
مرتد بالشمس راض ... بالمنى من كلّ عيش
يَحمِلُ الحملة لا يق ... تل إلاّ رأس جيش
فلم يخبر إلا بقتله رأس الجيش ولأبي الطيب ورود معنيين من المدح يستحق على الشاعرين ما قالا لأنه أختصر معناهما في بيت واحد.
وقال المتنبي:
وليس مُودِّبا إلا بنصلٍ ... كَفى الصّمصامةُ التَّعبَ القطيعا
نبهه على هذا المعنى شريف بقوله:
فضع السيف وأرفع السوط حتّى ... لا ترى فَوق ظَهرِها أمويا
وقال المتنبي:
عليٌّ ليس يمنع مِنْ مجيءٍ ... مبارزَهُ ويمنعُهُ الرُّجُوعا
هذا من قول الفضل بن العباس الخزاعي:
لا يمنعُ الواردين الورد ما نَهلوا ... إلى اللقاء ولكنْ يمنع الصَدرا
وهذا يدخل في المساواة.
وقال المتنبي:
على قاتل البطل المُفدى ... ومُبدلُهُ من الزرد النجيعا
قوله) المفدى (ضيق عطن عن كلمة أجود منها ولو كانت المفدى في معشوق كان أولى منها في شجاع.
وقال المتنبي:
إذا أعوج القنا في حامِليهِ ... وجازَ إلى ضُلوعهم الضُّلُوعا
معنى) حامليه (: المطعونين وقال أبو الطيب بقول: كنت قلبه وأشبه في ضلوعهم الضلوعا والمحدث الذي ذكره البحتري والبيت الذي قيل له قوله:
في مأزقٍ ضنك تخالُ به القنا ... بين الضلوع إذا انحنين ضُلوعا
وأما تقبل حكاية أبي الطيب إذا لم يسرق من البحتري إلا هذا البيت وأما سرقته منه أكبر من العذر وأشد تواتراً من ذنوب الدهر ولكن أخذ منه كما عود الله وظن ذلك قد خفي فما خوطب عليه علم أنه بيت منكشف وما يأمن أن بيته على استشفاف شعره فيؤخذ فيه كثير فرجع عنه وغيره بما لا فائدة فيه إذ ليس غريباً من فعل القنا أن يجوز من جنب إلى جنب آخر، وكلام البحتري أرجح وهو أولى بما قال.
وقال المتنبي:
ونالت ثأرها الأكباد منهُ ... فأولتهُ اندقاقاً أو صُدُوعا
هذا كلام ينقض بعضه بعضاً بينا هو يخبرنا بجوازه من الضلوع إلى الضلوع وما كان بهذه الصنعة فهو سالم غير مندق ولا متصدع إذ أخبرنا أن الأكباد نالت ثأرها منه باندقاقه وانصداعه فإذا اندق وانصدع لم ينفذ إلى الضلوع التي بعدها والعجب أن هذا القنا صادم عظام الأضلاع فلم يصدعه ولم يدقه وجازها فلما صار إلى الأكباد الرطبة التي تلين ملاقاتها عليه اندق وأنصدع ولو تأتى له أن يقول:) ونالت ثأرها الأيدي) من (الأكباد (لجاز أن يلحقه ذلك من مصادمة الأيدي إياها وهذا من قوله للتخريف وقلة التأمل.
وقال المتنبي:
وإن ماريتني فأركب حِصاناً ... وَمَثِّلْهُ تخرّ لهُ صَريعا
فقوله:) أركب حصاناً (من أغث عبارة كأنه لا يخر له صريعاً إلا فارس على فرس ولو رآه راجل ما خَرَّ له إلا أن يحتج محتج فيقول: إذا كانت هذه حال الفارس غنينا عن ذكر حال الراجل، وقد يكون الراجل أشجع من الفارس وأقتل للفرسان وهذه معان غير مستعملات وكلام ناقص ألما ولو قال فمثله يخر له صريعاً من غير ذكر ركوب الحصان كان أحسن وأعم للفارس والراجل وأحسن
من كلامه قول أبي تمام:
وإلا فأعلمهُ بأنك ساخطٌ ... ودعهُ فإنَّ الخوفَ لا شكَّ قاتلُه
فإن قلت ببيت أبي تمام في الخوف وهذا في الهيبة قلنا كلاهما غرضان يفعلان فعلاً واحداً، وكلام أبي تمام بغير حشو وهذا من استخراج معنى من معنى احتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
فَصَيَّرَ سَيْلُهُ بلدي غديراً ... وصَيَّر خيرُهُ سنتي ربيعا
نحا نحو الخبزأرزي:
فضيفُهُ في ربيعٍ طولُ مدّتهُ ... وجارهُ كلّ حين منهُ في رَجَبِ
فجعل ضيفه في ربيع من جوده طول زمانه وجعل جاره كل حين منه في رجب أراد في حمى من طالب الثأر لأن العرب في الجاهلية كانت لا تقاتل في الأشهر الحرم ولا تسقك دماً فكلام الخبزأرزي أرجح لأنه جمع بين الجودة والأمن في الخبر عن ممدوحه، وأبو الطيب ما خبر إلا عن سخاء الممدوح فقط.
وقال البحتري:
وكمْ لبستُ الخفض في ظلّهِ ... عُمري شبابٌ، وزماني ربيعُ
وهذا تقسيم مليح جاء فيه بمعنيين مفيدين كما جاء الخبزأرزي بهما، فهو أولى بالمعنى منه، وقال أبو هفان في ذكر الربيع:
لربيعِ الزّمانِ في الجَوْل وَقْتٌ ... وابن يَحْيى في كُلّ وقتٍ رَبيعُ
وقال المتنبي:
أمنسيَّ السكون وَحَضْرموتا ... وَوالدتي وكِنْدَةَ والسَّبيعا
حصول والدته بين هذه القبائل غير مستحسن وكان ينبغي أن لا يخرج عن ذكر قبيلة مكان والدته والمعنى الذي قصده غير مفصح عن إرادته لأنه لم يذكر السبب في نسيانه من نسي.
وقال البحتري:
جَفُوتُ الشَّأمَ مُرتبعي وأنسي ... وعلْوةَ جَنتي وهوى فُؤادي
ومِثلُ نَداكَ أذْهلني حبيبِي ... وأكسبني سُلّواً عنْ بِلاَدي
فبيّن سبب نسيانه وخبرنا عن سلوانه فأوضح وأرجح فهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
إِذا ما لمْ تُسِرْ جيشاً إِليهمْ ... أسبرْتَ إلى قُلوبِهم الهُلُوعا
هذا يقرب من قول أبي تمام:
لمْ يسر يوماً ولمْ ينهدْ إلى بلدٍ ... إلاّ تقدّمهُ جيشٌ من الرُّعبِ
وهذا يدخل في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
رَضُوا بك كالرضى بالشَّيبِ قسراً ... وقد وخَطَ النَّواصي والفُرُوعا
أما صدر هذا البيت فجيّد المعنى، وهو ينظر إلى قول مخلد الموصلي:
أراكمْ تنظرونَ إِليَّ شُرزاً ... كما نظرتْ إلى الشيبِ الملاحِ
تَحدون العيونَ إليَّ شُزراً ... كأنّي في عيونكمْ السماحِ
وعجزه حشو لأن المعنى: رضوا بك كالرضى بالشيب فلو ظهرت منه شيبة واحدة لمقتها من يلحظها وقد قال بشار:
يَحبوني ودّي كأنّي ... شيبةٌ بين فروقه
ولا فرق بين شيبة وشيب، وإنما كانت الشيبة بحدوثها بعد أن لم تكن أشد ترويعاً.
وقال المتنبي:
فَلا عزلٌ وأنتَ بلا سلاحٍ ... لِحاظك ما يكونُ به مَنيعا
أي فلا عزل بك وأنت بغير سلاح لأنك بلحاظك منيع، وهذا لفظ قصير عن إرادة قائلة وهو مأخوذ من قول بعض الموسوسين وهو مجنون ديرزكى:
لحظاتُ طرفك في الوغَى ... تُغْنِيكَ عَنْ سل السيُوف
وعَزيمُ رأيك في النُّهى ... يَكْفيكَ عاقبة الصُّرُوفِ
وسُيولُ كفّك في الوَرى ... بَحْرٌ يفيضُ على الضَّعيف
ذكر عن أبي نواس أنه قال: مدحت الرشيد بقصيدة فقصدته لأنشده إياها فوجدته راكباً فاعترضته فإذا بمجنون ديرزكا قد أخذ بلجامه ثم أنشده الأبيات المقدم ذكرها ثم قال له أعطني ألف درهم فقال له الرشيد: ما تصنع بها فقال: أكل بها زبداً وتمراً فأمر بدفعها إليه فرجعت والله عن إنشاده لأنه لم يكن في شعري ما يفي بأبيات المجنون.
وقال المتنبي:
لو استبدغْتَ ذهْنكَ من حُسامٍ ... قَددْتَ به المغافِر والدُّرُوعا
هذا ينظر إلى قول القائل: -
نظرتُ إليها نظرة لو حشوتها ... سَرابيلَ أبدانِ الحديد المُسَرّدِ
لقضتْ حَواشِيها وذابتْ بحرِّها ... ولانتْ كما لانتْ لَداود في اليدِ
قال أبو محمد: هذا مما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
وَهَبْكَ سَمحْتَ حتى لا جَوادٌ ... فكيفَ علوْتَ حتّى لا رَفيعا
قوله: وهبك سمحت حتى لا جواد لم أستغرب ألا يكون جواد يقاس به ولم يجوز أن يكون رفيع أرفع منه وسبب رفعته ما خبرنا به بأنه لا جواد يشاركه في جوده. ويليها قصيدة أولها:
أحقُ عافٍ بدمعِكَ الهممُ ... أحْدثُ شَيء عَهداً بها القِدَمُ
ينظر إلى قول البحتري:
بكى آماله لمَّا رآها ... عِياناً وهي دراسةُ الرُّسُومِ
يقول فيها:
إِني وإنْ لمتُ حاسديَّ فما ... أنكُرُ أني عُقوبةٌ لهُمُ
هذا يشبه قول أبي زرعة:
ومالتْ حسادُ الأميرِ وقَدْ رأوا له ... فوق أعناقِ المكارمِ معرْسا
وقال المتنبي:
وكيفَ لا يحسدُ إمرؤ عَلَمٌ ... لَهُ على كُل هامةٍ قَدَمُ
معناه موجود في قول ابن دريد:
والناسُ فوق رؤوسهم أقدامنا ... لا ينطبقُ الأقوام ما لمْ تَنْطِقُ
فجاء في صدر البيت بالمعنى وجاء في عجزه بخبر يدل على الهيبة فقد رجح كلامه بزيادة على المتنبي فهو أحق بشعره.
وقال ابن دريد:
وعامر أوطأ هَاماتِهم ... أخمص مِلك فرعه الأطول
قال ابن المعتز:
أسلم وعشْ أبداً وغِظْ ... حسداً وَبِهَامِ مَنْ عاديت فأنتَعِل
وهذه معان يتساوى في المبنى والمعنى فالسابق أحق بها.
وقال المتنبي: كفاني الذّمَّ أنّني رجُلٌ أكرمُ مالٍ ملكتُهُ الكَرمُ هو مأخوذ ممن قال:
ليس لي مالٌ سوى كَرمي ... فيهِ ليأمن مِنْ العدمِ
وهذا البيت من أبيات أذكرها بجملتها لجودتها تلي البيت الأول:
لا أقولُ اللهُ يظلمني ... كيف أشْكو غير مُتهمِ
قنعتُ روحي بما رزقت ... وتمطتْ في العُلا هِمَمي
ولبستُ الصبرَ سابغة ... فَهي من قُرني إلى قدمي
هذا كلام مليح لو لم يكن في الأحسن الاستعارة في) تمطت في العلا هممي (وقد أتى ببيت أبي الطيب في مصراع وزاد في كلامه ما هو من تمامه فهو أحق بما قال.
وقال المتنبي:
يَجْني الغنى للئام لو عَقَلُوا ... ما ليْس يَجْني عليهم العَدمُ
لو أمكنه على في أول البيت لكان أحسن ليعتدل الكلام في النصفين
والمعنى من قول الحصيني:
وما الفقرُ بالإِقلالِ إنْ كنت قانعاً ... ولكنْ شحَّ النفس عندي هو الفقرُ
فمعنى بيت أبي الطيب أن جناية الغنى عليهم أكثر من جناية الفقر وفسّر العلّة في ذلك فقال:
همُ لأموالهم وليس لَهم ... والعارُ يبقى والجرحُ يَلْتئمُ
معناه أنهم يخدمون أموالهم ولا ينتفعون منها لبخلهم فكأنها ليست لهم ويبقى عليهم العار وهو الجرح الذي لا التئام له، وقد جاء مراده في بيتين فأما قوله:) والعار يبقى والجرح يلتئم (فمأخوذ من قول امرئ القيس:
ولوْ عن نثا غيره جَاءني ... وجرحُ اللّسانِ كجرح اليَدِ
فتبعه الحطيئة فقال:
وجرحُ السيفِ ينمى ثُمَّ يعفو ... وجرح الدهرِ ما جرح اللسانِ
وقال صالح بن جناح:
فإِنك ما يخرج لسانك لا تعدْ سل ... يماً وما يجرجُ بكفّك يَسلَمُ
ولصالح أيضاً:
إِنَّ جرح القول لا يبرأ وقَدْ ... يَبرأ الكلمُ إِذْ السيفُ جرح
وجميع هذه الأبيات أحسن صنعة من بيته لأن جميعها سمي القول فيه جرحاً ثم شبه جرحاً بجرح أحدهما حقيقة والآخر استعارة، وأبو الطيب ذكر العار ولم يذكر جرحاً فصنيعتهم أجود.
وقال المتنبي:
ويعرف الأمر قَبْلَ موقعه ... فما لهُ بعَدَ فعله نَدَمُ
هذا من قول إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
بصيرُ بعورات العواقبِ لا يرى ... على سقطةٍ من رأيه متندّما
أسكن عورات ضرورة، وقال أبو تمام:
وكمْ من يدٍ أسديتها وملمةٍ ... فرجتَ فلم يقرع بها سنُّ نادمِ
وال ابن الرومي:
لك الرأي إِنْ تُورده لا تلفْ نادماً ... يعض على إصداره باباهِم
بيت إسحاق هو بيت أبي الطيب مبنى ومعنى من غير زيادة وأبو تمام يخبر عن كرم وشجاعة وجزالة رأي وليس في بيت أبي الطيب غير جزالة رأيه فيما يفعل فهو يعرف الشيء قبل ركوبه فلا يندم فهو أحق بالزيادة، وابن الرومي يساوي
أبا الطيب وله من ذكر الإيراد والإصدار طباق له به فضل وقد شرك البحتري ابن الرومي في الطباق والمعنى فقال:
مُدبرُ رأيٍ ليس يوردُ عَزْمَهُ ... فيقرعَ في إِيرادهِ سنَّ نادِمِ
وقال المتنبي:
يُرعيكَ سمعاً فيه استماعٌ إلى الدَّا ... عي وفيه عَنْ الخنا صَمَمُ
هذا من قول القائل:
غائبُ السمعِ إذا قِيلَ خَنا ... وإِذا ناداهُ عافٍ سَمِعا
ولإسحاق بن إبراهيم:
إِنْ ذكر الخير عِنْدهم إِذْ ... نواله وفيهمُ عن الخَنا صَممُ
وقال ابن الحاجب:
أصمُّ عَنْ عذل عاذليه فأمّا ... عَنْ سؤالِ العافيّ فغير أصمّ
فهذه معان متساوية لا زيادة في شعره عليها والسابق أحق بها.
وقال المتنبي:
ملتُ إِلى منْ يكادُ بينكما ... إِنْ كنتما السائلين يَنقسمُ
هذا كلام قليل الإفادة ناقص عن الإرادة ابتدأ بيته لم يجد لصاحبيه قبل ذلك ذكر وذكر أنه ينقسم إن كنتما السائلين ولو نكر السائلين كان أطبع في الشعر وكان يجب أن يقول إن كنتما سائلين في انقسامه فهو ينقسم وليس هذا
من المبالغة الحلوة، وقول مسلم:
يجودُ بالنفسِ إن ظنّ الجوادُ بها ... والجودُ بالنّفسِ أقْصى غاية الجودِ
ومعناه أنه لو سأله أن يهب له نفسه لدفع ما يخافه عليها لبذل ذلك له، وهذا من صفات الكرام الشجعان ومن هذا قول القائل:
ولو لمْ يكنْ في كفّه غير نَفْسه ... لجادَ بها فَلْيتّقِ اللهَ سائِلُهْ
هذا مذهب حسن يقول: لو كانت نفسه مما يجوز أن تكون في كفه لتعوده بذل ما في كفه وسبيل لإجرائها مجرى الموهوبات ولم يخرج عن عادته إلى المنع فهي مبالغة مليحة، فأما سؤاله أن ينقسم بين السائلين فقد دخل عليه ضرر، ألا ينتفعان به وإطلاق اللفظ في قول مسلم أنه يجود بنفسه في المكارم والمعالي واكتساب الشكر وبقاء الذكر أحسن من قول أبي الطيب) يكاد (.
وقال المتنبي:
مِنْ بعد ما صِيغَ مِنْ مواهبه ... لمنْ أحبَ الشّنوف والخَدمُ
فتخصصه من أحبَ بالشنوف والخدم ولم يجعل ذلك عاماً، فيه بعض النحل ولعله قصد أن يهب من يحبه أبو الطيب ما يصاغ منه الشنوف والخدم حتى افتقر الممدوح، فلو سألتماه عطاء كان ينقسم بينهما وجملة هذا المعنى لا خير فيه.
وقال المتنبي:
بنو العفرني محطة الأسَد ال ... أُسد ولكن رِماحُها الأجَمُ
قال العكوك:
كأنّها والرّماحُ شابكةُ ... أسْدٌ عليها أظلَّتِ الأجَمُ
فالمعنى والمبنى متساويان، وقال أبو تمام:
آسادُ موتٍ مخدراتٌ مالها ... إِلاّ الصّوارِمَ والقَنا آجامُ
وقال المتنبي:
قومٌ بُلوغ الغُلامِ عندهَمُ ... طعْنُ نُحور الكُماةِ لا الحُلُمُ
قال أبو دلف:
علامةُ القومِ في بُلوغهِمُ ... أنْ يرضعوا السيفَ هامةَ البطلِ
وقال يحيى بن زيد بن علي:
خَرجْنا نقيمُ الدّين بَعْد أعْوجاجهِ ... سوياً ولمْ نخرُجْ لكسب المالِ
إِذا أحكم التَّنزيلُ والحِلْمُ طفلنا ... فإِن بلوغَ الطّفلِ ضرُب الجَماجمِ
وهذا يدخل في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
كأنّما يولدُ النّدى مَعَهمْ ... لا صِغر عاذر ولا هَرمُ
هذا ينظر إلى قول أبي تمام:
أنا ابن الذينَ أستُرضعَ المجد فيهمُ ... وربّى فيهمْ فهو ناشٍ ويَافعُ
قال يزيد بن محمد المهلبيّ:
قومٌ يسرون ما يولونَ من حُسن ... حتى كأنّهمْ إِنْ أحسنوا احْترموا
فبيت أبي الطيب فيه صفتان وتطبيق إن كان أراده فقد قصد فيه لأن ضد الكشف التغطية والكتمان للإعلان وبيت المهلبي وإن كانت فيه صفة واحدة فقد زاد في كلامه ما هو من تمامه فزيادة الصفة بالزيادة في المعنى، فهو أحق بما قال.
وقال المتنبي:
تظن من فَقْدِكَ اعْتدادهُمُ ... أنّهمُ أنْعموا وما عَلِمُوا
هذا إن شاء مدخل أن يدخله في الهجاء أدخله لو كان قال إنهم قد نسبوا الذي فعلوا في غير هذه القافية لأصاب فأما توهمه أنّهم أحسنوا وما علموا فقد جوّز عليهم فساد الحسن وبلادة الذّهن في قلة علمهم بما صنعوا، ويدخل ذلك في
قول أبي القاسم الأعمى في الحسن بن وهب يهجوه:
إِنّ ابن وهب مُحيل في تناهيه ... ما كانَ يدري أأعطى المال أم حَرما
لكنّها خطرات مِنْ وساوسه ... يُعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما
والجيد الذي قد يحترز منه قول منقذ بن عبد الرحمن الهلالي:
لا تنكرن في صنيعةٍ سَلَفَتْ ... مِنكَ وإنْ كُنت لَست تُنكرها
عند امرئ أنْ تَقول إنْ ذكرت ... يوماً من الدهر لست أذكرها
فإِن أحياها أماتها و ... إن منّ بها يكدّرها
ويقرب من قول الخريمي:
زادَ معروفك عِنْدي عظماً ... أنّهُ عِندكَ مَستورٌ حقيرُ
تَتناساهُ كأنْ لمْ تأتهِ ... وهو عند الناسِ مَشْهورٌ خَطيرُ
أمر الهلالي بأن لا يظهر تلك الصنيعة وإن كنت ذاكراً لها من طريق الكرم والأدب، ولم يطلق عليهم أنّهم قلة يحسنون ولا يعلمون. وقال الخريمي: أنت تتناسى المعروف كأنك لم تأته تناسياً لأنه يأتي الجميل ولا يعلم وإذا كان معنى المتقدم أصح وأرجح فهو أولى بما قال وسبق إليه.
وقال المتنبي:
أو حلفوا بالغُموس واجْتهَدوا ... فقولهم:) خابَ سَائلي (القَسمُ
المليح من هذا البيت أن الغموس من الإيمان وهي التي تغمس صاحبها في الإثم أن يقول:) خاب سائلي (وهذا المعنى موجود في قول الأشتر:
وفَرتُ وفري وانحرْفتُ عن العُلا ... فلقيتُ أضْيافي بوجْهٍ عَبُوسِ
إِنْ لمْ أشُنَّ على ابن هندٍ غارةً ... لم تخلُ يوماً من ذهاب نفوسِ
خيلاً كأمثالِ السعالي شُزباً ... تعدو ببيضِ في الكريهةِ شُوسِ
حمى الحديدُ عليهمْ فكأنَّهمْ ... لمعانُ برقٍ أو ضياءُ شُموسِ
فقسمه في هذا الضروب من المكارم أرجح من قسم من مدحه أبو الطيب في الكرم.
وقال المتنبي:
أو شَهِدوا الحرب لاقحاً أخَذوا ... من مُهجِ الدارعِينَ ما احْتَلموا
وهذا يقرب من قول ابن المعتز في كلاب الصيد:
إِنْ أطلقت من قدِّها لم ترها ... إِلاّ وما شاءت من الصيدِ لَها
وقال المتنبي:
تُشْرق أعراضُهُمْ وأوجههُمْ ... كأنّها في نُفوسِهمْ شِيَمُ
يشبه قول الحسين بن دعبل:
أما تَرى غرة النيروز مشرقةً ... كأنَها بعض ما تُسديه مِنْ كَرمِك
وقال المتنبي يصف البحيرة:
فهي كماويَّةٍ مطوّقةٍ ... جُرّد عنها غَشاؤها الأدمُ هذا مولد من قول بعض الأعراب:
كأنّ هُلاله مرآة قَين لَها ... شطرُ يلوحُ مِن الغلافِ
وهذا من استخراج معنى من معنى أحتذي عليه، وإن فارق ما قصد به إليه، شبه أبو الطيب البحيرة بالمرآة، والروض بغشاء الأديم، وشبه هذا الهلال الذي هو دون كمال ببعض امرأة تبدت من غلافها، وكلاهما تشبيه حسن.
وقال المتنبي:
أبا الحسين أستمعْ، فمَدحكمُ ... في الفعلِ قَبْل الكلامِ مُنْتظِمُ
هذا من قول ابن الرومي:
لو سكتَ المادحونَ لأجتلب ... المدحُ له نفسه ولا انْتظما
وهذا يدخل في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
أعِيذكُم من صُروفِ دَهْركُم ... فإِنَّه في الكِرامِ مُتَّهَمُ
قال ابن أبي فنن:
أودى الزمان بإِخواني ومزّقهم ... إِنَّ الزمانَ على الإِخوانِ مُتّهمُ
وقال الحصني:
ما زلتُ قيه لريب الدهر متهماً ... إِنَّ الزمانَ على الأحرارِ مُتهَمُ
وبيت الحصني أملح الأبيات لأنه قد ردّ أعجاز الكلام على صدوره
والأحرار أرجح من الإخوان) والكرام أرجح منهما (فهو أرجح كلام منهما وأولى بما سبق إليه.
يليها قصيدة أوّلها:
دمع جرى فقضى في الرّبع ما وجبا ... لأهله وشفى أنّاً ولا كربا
سرق هذا البيت من الوائلي وكانت معاملته متصلة في أخذ معانيه وذلك قوله:
سأشكر الدمع إنّ الربع كان له ... حقٌّ فقام له عند نَواجيه
وقال المتنبي:
عجباً فأذهبَ ما أبقى الفراقُ لنا ... من العُقُول وما ردَّ الَّذي ذَهَبا
ما طلب الباقي لم يردّ الماضي، وفي هذا الشعر شبيه بما أنشد فيه أبي رحمه الله قال: أنشدنا أبو الحسن جحطة وهو:
يا كبدُ أفنى الهوى جَلهاً ... مِنهُ بالذاعِ وإحراقِ
حتّى إِذا أنفسها ساعة ... كَرتْ يدُ البينِ على الباقيِ
وكأن البين أخذ ما بقي فيها يقارب المعنى والكلام أعذب من الكلام وإن كان أبو الطيب قد اختصر وجاء ببيتين في بيت واحد فنحن نجعل عذوبة اللفظ بازاء الاختصار والسابق أولى به وقال المتنبي:
سَقيتُه عبراتٍ ظَنّها مطراً ... سَوائلاً من جُفُونٍ ظَنَّها سُحُبا
الربع لا ظن له ولا يقين استعارة والمعنى من قول أبي تمام:
مطرٌ من العبرات خَدِّي أَرضُهُ ... حتَّى الصَّباحِ ومقلتاي سَماؤُه
فذكر الدموع وموقعها، وأين تقع، فَوَفّى الكلام أقسامه، ولم يذكر أبو الطيب إلا العبرات والجفون الذي يدل على المورد ولم يذكر المصدر وهذا ذكر المورد والمصدر فرجح وزاد في المعنى ما هو من تمامه.
وقال المتنبي:
ناءيتُه فَدنى، أدْنيتُه فَنأى ... جَمَّشتُهُ فَنبا، قَبلته فأبَى
قوله:) قبلته فأبى (إنما كان يجب أن يقول أردت تقبيله فأبى فيشتق وقوع الفعل للإباء، ولو قال قائل وقع يريد الضرب فأمتنع لم يكن كلام له حقيقة إنما الكلام أريد ضربه فأمتنع ولكنه على المجاز والتسامح يجوز وقد قال ابن بسام:
فأشربُ على الوردِ مِنْ وَرديةٍ عَب ... قتْ كأنّها خَدُ ريمٍ ريْمَ فأمتنعا
فقد أجتمع في هذا البيت مجانسة مليحة وألفاظ صحيحة فهو أرجح كلاماً من كلامه.
وقال المتنبي:
هامَ الفؤادُ بأعرابيةٍ سكنتْ ... بيتاً من القلبِ لمْ تحدد لهُ طُنُبا
أما معنى: سكنت بيتاً من القلب فكثير، من ذلك قول أبي تمام:
متى أنتَ عن ذُهْلِيّةِ الحَيِّ ذاهِلُ ... وصَدْركَ مِنْها مُدَّة الدَّهْرِ آهِلُ
فخبر عن سناها صدره وقال الآخر:
شطَتْ منازلُ مَنْ في القلبِ منازله ... وحلّ في كبدي ما لشيب أحْمِلهْ
ظَبيٌ تسبّب لي هجراً بلا سببٍ ... قَدْ حرم الله ما مني يحلَلهْ
هذا هو المستعمل فأما بيت من) في (القلب بلا طنب فغير مفيد.
وقال المتنبي:
مظلومةُ القدّ في تَشبيهه غُصناً ... مظلومةُ الرّيق في تَشبيههِ ضَرَبا
مظلومة لفظة مليحة، وقد قلت أنا في معناها:
تجاوزَ الإِسرافَ في ظْلمهِ ... حتى لقدْ هَمَّ بإِسْرافهِ
فثغرهُ مظلومٌ مِسواكهِ ... وَخصره مظلومٌ أردافهِ
مِنْ ظْلمه جار على نَفْسِه ... كيف أرجِّي حُسْنَ إِنصافهِ
وقد قال ابن الجهم:
إِذا نَحْنُ شبَّهناك بالبدر طالعاً ... بَخسناكَ حظّاً أنت أبهى وأجْملُ
ونظلمُ إنْ قسناك بالليثِ مرّةً ... فإِنّكَ أحمى للحريمِ وأبْسَلُ
وقال آخلا:
قالت ظلوم وما جارتْ ولا ظلمت ... إنّ الذي قاسني بالبدر قد ظلما
وهذا البيت فيه من أسمها وفعلها مجانسة مليحة أو قد حشا البيت حشواً حسناً من قوله:) ما جارت ولا ظلمت (وهذا من الحشو السديد في المعنى المفيد وشاعره أحق به.
وقال المتنبي:
بيضاءَ تُطمعُ فيما تحت حُلَّتِها ... وعزَّ ذلك مطلوباً إِذا طَلبا
هذا يشبه قول القائل:
سألتكَ حاجة فَأَجَبْتَ عنها ... بأسرع ما يكون من الجوابِ
فلما رمتها رمت الثريا ... وأبعدُ ما يكون من السحابِ
وهذا المعنى غير أن المتنبي قد جاء باللفظ الطويل في الموجز القليل
فهو أحق به ويشبه هذا أيضاً.
تحسبن من لين الحديث ذوائباً ... ويصدهن عن الخنا الإِسلام
وهذا البيت يدخل في قسم التساوي.
وقال المتنبي:
كأنّها الشّمسُ يُعيي كفَّ قابضِهِ ... شُعاعُها، ويراه الطَّرف مُقْتربا
هذا مأخوذ من جماعة منهم ابن أبي عيينة قال:
فقلتُ لأصحابي هي الشمس ضَوؤها ... قريبٌ ولكن في تناولها بُعْدُ
وقال آخر:
فأضحت مكان الشمس يقرب ضوؤها ... ويا بعدها عن ملمس المتناول
وقال المتنبي:
هي الشُمس يغشاني سُناها وَضوؤها ... ويعجز لمسي حين يطلبُها لمسي
وقال البحتري:
دانٍ على أيدي العُفاةِ وشاسعٌ ... عن كل ندٍّ في الورى وضريب
كالبدر أفرط في العلوّ وضوؤُه ... للعُصبة السارينِ جدُّ قريبُ
وأعاد المعنى فقال:
دنوت تواضعاً، وبعدت قَدْراً ... فشأناك: أنحدار وأرتفاعُ
فذاك الشمس تُبعدُ أن تُسامى ... ويدنو الضوء مِنْها والشُّعاعُ
وجميع هؤلاء في المعنى أشعر منه لأن جميعهم جعل القرب للضوء والشعاع والبعد للجرم يقرب ضوؤها ويبعد لمسها والضوء عرض والشمس جرم لا يقع إلا على الأجسام، وأبو الطيب تعجب من عجز القابض شعاعها، ومن توهم أن الشعاع مما يمكن قبضه فهو مختل وهذا من رجحان كلام المسروق منه على كلام من أخذ عنه.
وقال المتنبي:
مَرّتْ بنا بين تربيها فقلت لها ... من أين جَانَسَ هذا الشَّادِنُ العَربَا
سؤاله لها: من أين جانس هذا الغزال العرب يشبه قول الحسين العرجي:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي مِنْكنَّ؟ أمْ ليلى من البَشرِ
ثم أتبع أبو الطيب بقوله:
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشَّرى وهو من عجلٍ إِذا انتسبا
هذا من الخروج المليح إلى ما أراد من المديح ولا تعرفه الأعراب إنما قولها دع ذا وامدح فلاناً وقد تقدم أمثلته من أشعار المحدثين يساوي هذا.
وقال المتنبي:
لو حلَّ خاطرهُ في مقعدٍ لمشى ... أو جاهلٍ لصحا أو أخْرسٍ خطبا
أما صدره فينظر إلى قول القائل:
ومقعدُ قومٍ قد مشى من شرابنا ... وأعمى سقيناه مليّاً فأبصرا
فقوله:) أو جاهل لصحا (كان ينبغي أن يقول أو سكران لصحا أو جاهل لعقل فأما قوله:) أو أخرس خطبا (فكلام بليغ لأنه لو قال: أو أخرس نطق كان جيداً فأما خطب فنهاية لأنه ليس كل ناطق خطيباً وهذا المعنى موجود في قول ابن الرومي:
دعا الناس حتى أسمع الصمَّ لفظه ... وأنْطق حتى قال فيه الأَخارسُ
وهذا البيت قد شتت شمله من فرق جمعه على بيتين أحدهما المتقدم، وهو:) لو حل خاطره في مقعد لمشى (
والثاني بيت له آخر آخره) وأسمعت كلماتي من به صمم (فصار مقسم الجملة وإن كان لأبي الطيب بالخطابة زيادة يستحق بها المعنى.
وقال المتنبي:
إِذا بدا حجبت عينيك هيبته ... وليس يحجبه ستر إِذا احتجبا
ذكر أنه يحجب العيون عن رؤيته بالهيبة ولا يحجبه الحجاب لنور وجهه وقد قال مسلم:
حجبُ العيون فما يكادُ يبينه ... مِنْ وجههِ الإِهلال والتكبيرُ
فما زاد عن ذكر الهيبة، ولأبي الطيب رجحان يذكر معنى النور، وقد ولد هذا البحتري فقال: فأراني دونه الحجاب فما تستر عنهم آلاءه حجبه فالبحتري يقول: إنه محتجب غير محتجب الآلاء، وذكر أبو الطيب أنّه محجوب بالهيبة غير محجوب لنور وجهه فهذا من استخراج معنى من معنى أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه وقال المتنبي:
بياضُ وجٍ يريكَ الشمس كالحةً ... ودرُّ لفظٍ يريك الدُّرَّ مخْشَلبا
جعل أبو الطيب كلام العامة لغة وأصلاً يبني عليه ويستند إليه أي عربي عرف المخشلب قط وفي أي شعر ورد الفصيح أو مولد حتى يجيز له.
وقال المتنبي:
عُمْرُ العدوّ إِذا لاقاهُ في رهجٍ ... أقلُّ من عُمْرِ ما يحوي إِذا وهَبَا
هذا بيت كثير الحشو لأنه إذا ذكر اللقاء فقد وجب أن يقل عمره إذا لاقى الممدوح وكان في رهج أو ضده، وجعل عمر ماله قليلاً بشرط وهو أن يهب وكان إمساكه عن أن يقول إذا وهب أعمّ وأتمّ لأنه يدل على بقاء ما يحويه كل زمان وعلى ضيّة في كل أوان إلا في الحين الذي يسخ له أن يهبه فهذا حشو غير مفيد ولا معنى سديد، والمعنى موجود في قول الوائلي:
إِنْ سمته كفر نعمى لا بقيتُ إِذاً ... إِلاّ بقاءَ لُهاهُ أو مُحَاربه
اللهم لا يكون إلا من مال فكأنّه قال: إلاّ بقاء ماله أو محاربه. فقد جمع المعنيين في عجز بيته فصار بالاختصار أولى بما قال.
وقال المتنبي:
تَوقَّه فمتى ما شئت تبلوَهُ ... فكُنْ مُعَاديهُ أو كُنْ لَهُ نَشَبا
هذا تكرير لمعنى الوائلي وفيه إلمام بقول مسلم:
تَظّلمَ المالُ والأعداءُ من يدهِ ... لا زالَ للمالِ والأعداءِ ظلاّما
وقال أبو نواس:
ليتَ من كان عَدُوي ... كانَ لإِْبراهيمٍ مالا
هذا المعنى يقارب قول مسلم غير أن في بيت أبي نواس ضعفاً في نظامه وركاكة في كلامه، وبيت أبي الطيب أجزل وأفصح وأوفى وأرجح.
وقال المتنبي:
تَحْلو مذاقتُهُ حتى إِذا غَضَبا ... حالتْ فلو قطرتْ في الماءِ ما شَرِبا
جعل المذاقة تقطر وهي من عذوبة ألفاظه وهذا من الاستعارات وهو يشبه القائل:
لو أنْ ما تبتلني الحادثاتُ به ... يصبُّ في الماءِ لم يشرب من الكَدرِ
وقال ابن الرومي:
حلا لشفاه الذائقين وأنَّهُ ... على لَهواتِ الآكلين لَعلْقَمُ
وقال المتنبي:
وتغبطُ الأرضَ منها حيثُ حلَّ به ... وتحسدْ الخَيْلُ منها أيَّها رَكِبا
عجزه عن قول علي بن الجهم:
وتَطْربُ الخيلُ إِذا ما علا ... مُتونَها، فالخيلُ تَسْتبشرُ
ونظر صدره إلى قول أبي تمام:
مَضى طاهرُ الأثوابِ لم تَبْق روضةٌ ... غداة ثَوى إِلاّ اشْتَهت أنّها قَبْرُ
غير أن أبا الطيب اختصر في بيت ما ورد في بيتين فهو بالاختصار أولى، وقال ابن دريد:
ومَنْ له تَخْشع الملوك ومَنْ ... تزهى به الخيلُ حين يركبُها
وقال المتنبي:
وكُلمّا لقي الدِّينارُ صاحِبُه ... في مِلْكه افْترقا من قبل يَصْطحبا
هذا يدل على أن الممدوح لا يجتمع عنده مال يجود به حمله إنما يفرق ديناراً دينارا وإنما يفرق
ديناراً دينارا لأن الدينار يفارق صاحبه قبل الصحبة، والعجيب أنه خبر بلقاء الدينار للدينار وسماه صاحباً له، واعلم بافتراق بتقدم الصحبة، وكيف يسمى صاحباً من لم يصحب وكيف يجتمع اللقاء والفراق في حال واحدة، وأصح من هذا قول مسلم:
تأتي البُدور فتُقنيها ضائِعُه ... وما يُدنّسُ منها كَفُّ مُنْتقِد
لا يعرف المال إِلا عند ناقله ... ويوم يجمعه للنِّهْبِ والبرد
وواهب البدور المجتمعة أجود من واهب الدينار بعد الدينار وقد دلّ بقوله:) لا يدنس منها كف منتقد (، لأنه إنما يأمر بنقدها ليخبرها وهي عند مجيئها توهب فلا معنى لنقده وزاد) بأنه (بقوله: -) لا يعرف المال إِلا عند ناقله (.
وذكر أنه يجمعه ليبدده فذهب إلى معنى قول ابن الجهم:
ولا يجمعُ الأموالَ إِلاّ لبذْلِها ... كما لا يُساق الهَدْيُ إِلاّ إلى النحر
وقال النضر بن جؤيه:
قالتْ طريفةُ ما تبقى دَرَاهِمُنَا ... وما بنا سَرفٌ فيها ولا خُرُقُ
إِنّا إِذا اجتمعتْ يوماً دَراهُمنا ... ظلّت إلى طُرقِ المعروفِ تَسْتَبِقُ
فذكر اجتماعاً يقع بعده تفريق وذكر أنها تستبق إلى طرق المعروف فاحتاط لأنها قد تنصرف في تبذير وشهرة محرمة ولم يحتط أبو الطيب فكلام ابن جؤية أرجح فإن قال قائل قد قال بعد هذا:
ما يسكنُ الدرهمُ المنقوش صُرَّتنا ... إلا يمرُّ عليها ثُمّ ينطلقُ
قيل له قد خبر عن الدرهم أنه قد يسكن صرته فقد قارب معنى أبي الطيب لأنه يريد الجنس لقول العرب قل الدينار والدرهم في أيدي الناس فيكتفي بالواحد الدليل على جنسه من الجمع فهذا مراده، فإن قال قائل: كيف يكثر عندهم ما ليس في صرّتهم، قيل لهم جمع المال في الصرار يصلح للاقتناء وإنما يريد أن المال إذا جاءهم فرّقوه لوقته قبل ذلك.
وقال المتنبي:
مالٌ كأنَّ غُرابُ البينِ يَرقُبهُ ... فكلّما قيلَ هذا مُجتدٍ تَعبا
قال بعض النحويين المحققين بتفسير كلام أبي الطيب: إن معنى هذا البيت أن غراب البين متصل الصياح كاتصال عطاء هذا الممدوح وليس النحو من صناعة الشعر، وإنما يقع على معاني الشعر فطن الذهناء وتستخرجه قرائح العقلاء كما قلت أنا في بعض النحويين:
عليك بالنحو لا تعْرضْ لصنْعِتنا ... فإِنَّ شِعْركَ عِنْدي أشْهَرُ الشُّهرِ
لوْ كان بالنّحو قولُ الشَّعرُ مكتسباً ... كانَ الخليلُ به أحْظى من البشرِ
وإنما أراد أبو الطيب: أنّ غراب البين إنما ينعب لفراق، فإذا رأى الغراب
مجتدياً علم أنّ أبياته سبب لفراق المال فنعب لذلك، وليس ما ذهب إليه النحوي بشيء.
وقال المتنبي:
هَزّ اللّواءَ بَنُو عجلٍ به فَغَدا ... رأساً لهمْ وغدا كلٌّ لهُمْ ذَنبا
هذا من قول الحطيئة:
قومٌ هم الأنفُ والأذنابُ غيرهُمُ ... فَمِنْ يساوي بأنفِ الناقةِ الذَّنبَا
قال أبو دلف:
لا تحسبيني ذَنباً لِمَنْ غلب ... نَحنُ رؤوس الناسِ والناسُ ذَنْبُ
وقال ابن الرومي:
قومٌ هم الرأس إذ حسّادهم ذنبٌ ... ومن يُمثّلُ بين الرأْس والذنب
وكل هذه المعاني متساوية.
وقال المتنبي:
مُبرقعي خَيلهم بالبيضْ مُتّخذي ... هامِ الكُماةِ على أرماحِهم عَذَبا
يشبه قول أبي تمام:
مِنْ كلّ ذي لِمّةٍ غَطَّتْ ضفائرُها ... صَدر القناةِ فقد كادت تُرى عَلما
فشبه الضفائر المنشدة بالعلم وأحتاط بأن قال: كادت وأما إلهام نفسها فلا تشبه العذب وقال ابن الرومي:
تطيرُ عليه لحيةٌ منه أصبحتْ ... لهُ رايةٌ يهدى بها الجيْش مطْردُ
فالضفائر واللحى أشبه بالأعلام والمطارد من إلهام.
وقال ابن المعتز:
ويجعلُ هامات أعدائِهِ ... قلانس يُلبسهُنَّ الرِماحا
وما في تشبيهه بعد وجميع هذه التشبيهات أصح وأرجح من تشبيهه وهم بالمعنى أحقّ.
وقال المتنبي:
مراتبُ صعدتْ والفكرُ يتبعُها ... فجازَ وهو على آثارها الشُّهبا
يقرب منه ابن الرومي:
وسمت هِمّتي فجاوزت العُي ... وق بعداً، وجازت العيّوقا
ويقرب منه قول البصير:
سَما بالأمير الفتح بيت مُشيد ... له فَوق أفلاك النجوم مَراتِبُ
وقال المتنبي:
محامدٌ نزفت شعري ليملأها ... فآل ما امتلأت مِنهُ ولا نضبَا
هذا يقرب منه وينظر إليه قول أبي تمام:
فلو كان يفنى الشّعر أفناه ما قرتْ ... حياضُكَ مِنهُ في العُصُور والذواهبِ
ولكنَّه صوب العُقول إذا انجلت ... سَحائبُ منهُ أعقبتْ بِسحائبِ
وقال ابن الرومي:
أصبحتَ بحر سماحٍ غير منتزفٍ ... لاقاه بحرُ ثناءٍ غير منترفِ
وما عبر عنه بأن نزف فقد نضب أو قارب النضوب، فهي عبارة رديئة.
وقال المتنبي:
مكارمٌ لك فُتّ العالمين بها ... مَنْ يستطيعُ لأمرٍ فائتٍ طلبا
ينظر إلى قول البحتري:
أيها المُبتغي مساجلةَ) الفت ... ح (تَبغيتَ نيلَ ما لا ينَال
وقال المتنبي:
بِكل أشعث يلقى الموتَ مُبْتَسماً ... حتّى كأنَّ لهُ في قتله أربا
هذا مثل قول أبي تمام:
يَستعذبونَ مناياهُم كأنَّهم ... لا ييأسونَ من الدُّنيا إذا قُتِلوُا
وقال الوائلي:
تأتي الوغى عجلاً كأنَّك تبتغي ... طُولَ البقاءِ من الفناء الأَعجل
فبيت أبي تمام وبيت المتنبي يدخلان في قسم التساوي، فأما قول الوائلي فذكر أنه يأتي الوغى كأن له طيب بشيء وأعذبه عنده من البقاء الفناء الأعجل فكلامه أرجح فهو أولى بما أخذ منه.
يليها قصيدة أولها:
فُؤادٌ ما تسليّه المُدامُ ... وعمرٌ مثلُ ما تهبُ اللئامُ
عجز هذا البيت من قول البحتري:
أرى غفلة الأيام إعطاءَ مانعٍ ... يصيبك أحياناً، وحلْمَ سَفيه
) فإعطاء مانع، مثل قوله: ما تهب اللئام، وقد قال جحظة:
يا ذل عرسة لنا بطعامٍ ... وشرابِ نزر كنيل البخيل
والبحتري أحق بالمعنى بزيادته تشبيهاً فقد زاد في كلامه ما هو من تمامه بقوله:) حلم سفيه (فصار أحق بقوله.
وقال المتنبي:
ودهرٌ ناسهُ ناسٌ صِغارٌ ... وإن كانت لهم جُثثٌ ضِخَامُ
قال الحصني:
إذا اعترضوا فأجسامٌ ضِخام ... وإن عجموا فأخلاقٌ صِغارُ
ولا فرق بينهما في مبنى ولا معنى فالأول أحق بقوله.
وقال المتنبي:
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن مَعدنُ الذَّهبِ الرَّغامُ
أخذه من قول علي بن بسام:
إذا ما المرء كانَ له خصالٌ ... تزينه وترقعُ منه عرضه
فَليس يصبر إن لم يعتقله ... فيزرعُ من ذوي الأحساب عضه
فأصل المعدنِ المطلوب صَخرٌ ... وفيه عروقه ذهبٌ وفضه
فالذهب معدنه الصخر لا التراب فقول علي بن محمد بن بسام أصح ولكن قول أبي الطيب أخصر.
وقال المتنبي:
ُأرانبُ غير أنهمُ ملوكٌ ... مفتحةٌ عيونهُمُ نِيامُ
هذا معنى فتحه أبو تمام بقوله:
انقطعت هاجعهُمْ وهل يغنيهُمُ ... سهرُ النواظِرِ والعيونُ نِيامُ
ويشبه قول القائل:
وخبرني البوابُ أنّك نائمٌ ... ولكن إذا استيقظت أيضاً فنائِمُ
وقال المتنبي:
خليلكَ أنتَ، لا من قلت خِلّي ... وإن كثر التجملُ والكلامُ
يقرب من قول القراطيسي:
وما أحد يكون أشد نُصحاً ... علمت مكانه مني لنفسي
وكلام المتنبي فيه شرح واضح ولفظ راجح فهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
ولو حِيز الحِفاظُ بغيرِ عقل ... تجنب عُنقَ صيقلِهِ الحُسامُ
يقول أبو الطيب: لو كان السيف بغير عقل له حفاظ لوجب أن يتوقى عنق صيقله لأنه هو الذي أرهفه وصيّره قاطعاً ولوجب أن يحفظ الصقل عنايته لجماله وتزينيه ولكنه لا يحفظ ذلك لكونه غير عاقل وإنما جعله تشبيهاً للإنسان الذي هو غير عاقل وقد أشار له إلى هذا المعنى ابن الرومي فقال:
قد يميط القذى عَنْه ويعض ... منا وليس في السيفِ عفو من صياقله
وقال المتنبي:
وشبهُ الشيء منجذب إليه ... وأشبُهنا بدنيانا الطَّغامُ
هذا يقرب من قول القائل:
دنيا تحيدُ عن الكرام وتنثني ... نحو اللئيم الساقط الوغَد
إن ساعدته فإِنّها أهل لهُ ... والقردُ مسلوك مع القرد
فكلام المتنبي جزل وهذا الكلام رذل فهو أحق بالبيت.
وقال المتنبي:
ولو لمْ يَعل إلا ذو مَحلٍّ ... تعالى الجَيشُ وانَحطّ القَتَامُ
هذا المعنى لم يبلغني من أين أخذه ولكن فتحه له ابن الرومي بقوله:
يا زماناً أحكامَهُ ... فَسروج الخيلِ تَعلوُها اللُّبودُ
وقد أكثر ابن الرومي في ارتفاع الوضيع وانحطاط الرفيع فمنه قوله:
دهرٌ علا قدرُ الوضيع بِه ... وغَدا الشريفُ يحطه شرفُهْ
كالبحر يرسبُ فيه لؤلؤه ... سِفلاً، ويعلو فوقه جِيفُه
وقال أيضاً:
طارَ قومٌ بخفَّة الوزنِ حتّى ... لحقوا رفعةً بقاب العقابِ
ورسا الراجحونَ من جلّة النا ... سِ رُسُوّ الجبال ذات الهضابِ
لا وما ذاك للئام بفخرٍ ... لا، ولا ذاك للكرامِ بعابِ
هكذا الصخر راجح الوزن راسٍ ... وكذا الذُّر شائل الوزن هاب
جيف أنتنت فأضحت على الل ... جة والدر تحتها في حجاب
وغثاء علا عباباً من اليمّ ... وغاص المرجانِ تحت العبابِ
وجميع هذا من قول بعض العربيات:
قل للذي بصروف الدّهر غيرنا ... ما عاند الدهر إلاّ من له خَطَرُ
إنْ كان قدْ نشبت أيدي الزمان ... بنا ومسنا من تناهي صَفوه كدرُ
فقد نرى البحر تعلو فوقه جيفٌ ... ويستقر بأقصى قعره الدررُ
وفي السماء نجوم ما لها عددٌ ... وليس يكسفُ إلاّ الشمس والقمرُ
وبيت أبي الطيب من قسم ما احتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
إذا كانَ الشّباب السكر والشَّي ... بُ هُمّاً، فالحياةُ هي الحِمامُ
هذا بيت بني على صيغة بيت البحتري:
أبْرحَ العيشُ فالمشيبُ قذى في ... أعيُنِ البيض، والشَّبابُ جَمَالُ
وهو يساويه والبحتري بالتقدم أولى وأحق.
وقال المتنبي:
بأرض ما اشتهيتُ رأيتُ فيها ... فَليسَ يَفوتها للإّكِرَامُ
يقرب من قول فضيل الأعرج:
دُور تحاكي الجنان حُسناً ... لكن سُكانها خِساسُ
متى أرى الجيد ساكنيها ... وفي دهاليزها التِراس
وكلام أبي الطيب أجزل.
وقال المتنبي:
بِها الجبلان من فخرٍ وصخرٍ ... أنافا: ذا المغيث، وذا اللهام
هذا من الخروج المليح إلى ما أراد من المديح ولولا ما تبع هذا البيت كان قد هجا الممدوح لما قدم في البيت الأول الذي قبله من عوز الكرام بهذه الأرض ولكنه أحتاط في مدحه بقوله:
وليستْ من مواطنِهِ ولكن ... يَمُّر بها كما مَر الغمام
أخذه من أبي تمام في قوله:
إن حنَّ نجدٌ وأهلوه إليك فقد ... مررتَ فيه مرور العارضِ الهطل
فقد زاد أبو تمام في كلامه ما هو من تمامه لأن الغمام قد يمكن أن تزيد سرعته في المضي وهذا مرور العارض الهطل يريد أنه إحياء من مرّ به بجوده الكثير فهو أرجح وأحق به.
وقال المتنبي:
سَقى الله ابن مُنجيةٍ سَقاني ... بِدَرٍّ ما لراضعه فِطامُ
هذا من قول ابن الرومي:
وقالوا ما فَواصِلهُ فقلنا ... عطاء ما لراضعه فِطَامُ
فهذا يقارب اللفظ المدعى هو معناه معاً، فهو أقبح أقسام السرقات.
وقال المتنبي:
تَلَذُّ لهُ المروءةُ وهي تُؤذي ... ومَنْ يعشقُ يَلذّ لَهُ الغَرامُ
وأتبعه:
تعلّقها هَوى قَيسٍ لليلى ... وواصلها فليس به سقامُ
وهذا كلام مستوفي الأقسام مليح النظام أخبرنا بالتذاذه بالمروءة التي يثقل حملها على الناس وشبه ذلك بالتذاذ العاشق الغرام وذكر أن تعلقه لها قيس لليلى وهي في نهاية التعلق بها وذكر أنّ مواصلته لها تؤمنه السقام الذي يقع من المقاطعة. وقد قال ابن الرومي:
عشق العلا وعشقتهُ فكأنَّما ... وافى هوى لبنى هوى ابن ذَريح
وقال ابن الرومي أيضاً:
أتحجبُ عنّي عشرة قد ومقتها ... فشوقي إليها شَوق قيس إلى ليلى
فالتشبيه كالتشبيه ولكنه زاد بقوله وواصلها فليس له سقام زيادة استحق بها المعنى.
وقال الخليع الحراني.
ما زال يوعدك التعشق لِلعُلى ... والمجد منية عروة بن حزام
هَب ذاك أغرمهُ الفراق فأنت لم ... أو المجد خدنك كنت خدن غرام
معنى هذا الكلام أن العشق إذا كان غراماً كان سقاماً إنما يحدث عن مقاطعة ويقول له فأنت مواصل فمن أين أتاك الغرام، وبالجملة فكلام المتنبي أرجح من جميع هذا كله وهو أحق بما) أخذ (.
وقال المتنبي:
يَروعُ ركانة، ويذوبُ ظرفاً ... فما تَدري: أشيخٌ أن غُلامُ؟
هذا يحسن أن يقال: لو كان كل شيخ ركيناً وكل غلام ظريفاً وإلا احتاج إلى أن يستظهر نبغت فيقول ما يدري أشيخ ركين أم غلام ظريف وقد أتى بهذا المعنى أبو تمام فقال:
غلامٌ حوى في أريحه دَهره ... ذكاءُ الفتى الزاكي وأبهةُ الكهل
فاحتاط على الفتى الزاكي ولم يحتط في الكهل، وقال ابن الرومي:
هو كهل الكهول حزماً وعزماً ... وهو ظرفاً يدعي فتى الفتيان
فاحتاط في الأمرين جميعاً بأن جعله كهل الكهول وفتى الفتيان وشرح
ولم يدع بقية قوله:
فتى ... إذا شِئت لا جهلاً ولا سفهاً كهلاً إذا شئت لا شيباً ولا جلحا
فتاهُ شرخ شبابي وكهله ... حلم، إذا شالَ حلم ناقص رجحا
وقال آخر:
وفتيانيهُ الظرفاءِ فيه ... وأبَّهة الكبير بغيرِ كبر
وجميع معانيهم أو في من معنى المتنبي، وفي البيت الأخير من لفظ الكبير والكبر مجانسة وزيادة من قول قائله هي من تمامه، وقد قال ابن الرومي:
نهتُ جَهلي نها وشيبتني ... لهاه فها أنا الشيخ الغلامُ
وقال المتنبي:
وقبضُ نوالِهِ شرفٌ وعزٌّ ... وقبضُ نوالِ بعض القومِ ذَامُ
أخذه من قول أبي خالد المهلبي:
شرفٌ للشريف مِنكَ نوالٌ ... رُبّ نيلٍ تعافهُ الأحرارُ
المعنى متساو ولأبي خالد زيادة في قوله:) للشريف (لأنه أبلغ في المدح لأنه قد يأخذ نواله وضيع فلا ينقصه أخذ ما أخذ، وقد أتى بهذا المعنى أبو تمام فقال:
تُدعى عطاياهُ وفراً وهي إن شُهرتْ ... كانت فخاراً لمن يعفوُهُ مؤتنقا
ما زلتُ منتظراً أعجوبةً عنفاً ... حتى رأيتُ نوالاً يقتضي شرفاً
فالبيتان مشتملان على معنى واحد من أنّ نواله شرف ولم يخبرنا عن نوال غيره واستوفى أبو الطيب في بيته معنى البيتين فهو أحق بما أخذ.
وقال المتنبي:
أقامت في الرّقاب لهُ أيادٍ ... هي الأطواقُ والناسُ الحمام
قال أبو تمام:
مِنَنٌ منكَ في رقابِ أُناسٍ ... هي فيها أبقى من الأطواقِ
معنى أبي تمام: أنّ بقاء منن الممدوح كبقاء الأطواق في رقاب الحمام غير أنه ذكر الأطواق واكتفى بذلك عن ذكر الحمام فكان أبو الطيب أشرح كلاماً، وقد قال علي بن محمد بن بسام:
أبا علي لقد طوقتني نعماً ... طوقُ الحمامةِ لا تبلى على القدم
فهو يساوي أبا الطيب، وقال محمد بن حازم يصف أبياته:
وهًنّ إذا وسمتُ بهن قوماً ... كأطواق الحمائم في الرُقابِ
وهنّ وإن أقمت مسافراتٌ ... تهاداها الرّواة مع الرّكابِ
وهذا النوع مما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
إذا عد الكرامُ فتلكَ عِجْلٌ ... كما الأنواءُ حينَ تُعدُّ عامُ
وهذا كما قال ابن الرومي:
جمعن العُلا بالجودِ بعد افتراقها ... إلينا كما الأيام يَجمعها الشهرُ
فهذا من قسم ما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
ولو يمّمتهُمْ في الحشر تَجدو ... لأعطوك الذي صَلّوا وصامُوا
يقال جداه تجدوه، وفي هذا المعنى قول أبي تمام:
ولو قصرتْ أموالهُ عن سماحةٍ ... لقاسم من يجدوه شطر حَياتهِ
فإِنْ لم يجد في شركة العُمر حيلةً ... وجاز له الإِعطاء من حسناتهِ
لجادَ بها من غير كفرٍ لربّهِ ... وآساهُمُ في صَومهِ وصلاتِهِ
فالمعنى المعنى ولكنه في تطويل وتضمين وبيت أبي الطيب قد جمع الطويل في الموجز القليل فهو أحق بما أخذ وإن كان قد أطلق عليهم السماحة بصلاتهم وصيامهم فهي مبالغة يمكن الطعن عليهم بها لأنها تدل على سماحهم بأديانهم واحتاط أبو تمام فقال:) من غير كفر لربه (فدّل على صحة الدين والجود معاً.
وقال المتنبي:
فإِن حلموا فإنّ الخيل فيهم ... خفافٌ والرّماحُ بها عُرامُ
قصد الحلم السفه والجهل وضد الحلم عند أبي الطيب الخفة وليس كذلك إلا على التسامح في العبارة والمجازفة في الاستعارة ولو قال:
فإِن ثَقلوا فإِنّ الخيل فيهم ... خِفافٌ والرّماحُ بها عُرامُ
كان قد طابق بين الثقل والخفة والذي قاله أبو تمام:
عَليه مُطعن بطل حليم ... سَفيه السيف ذُو رُمحٍ جَهولُ
فجعل الحلم للرجل والسفه للسيف، والجهل للرمح ووفى مطابقته أقسامها ورجح كلامه فهو أحق بما سبق إليه.
وقال المتنبي:
نُصرّعهُمْ بأعيننا حياءً ... وتنبوُ عن وجوههِم السّهامُ
فتصريعهم بالحياء حسن، نبوّ السهام عن وجوههم بلا علة توجيه إلاّ صلابة بشراتهم فهذا في الهجاء أدخل لما قال بعض الشعراء:
اللؤمُ أَكرمُ من وبرٍ ووالدِهِ ... واللّؤمُ أكرمُ من وبرٍ وما ولدا
لو أنّ حافرَ برذوني كأوجههمْ ... بني الزواني لما أنعلتهُ أبدا
فأما قول ابن الرومي:
فتى يتقي لحظَ العيون ويرعوي ... ويغشى رماح الحظّ مُشتبكات
أخذه من العكوك في قوله:
فتى يتقي مأثور ما يتقي الفتى ... ويغشى المنايا والرماح دَواني
فالمعنيان يدلان على أن القوم ممدوحون بالحياء والشجاعة فأما نبو السهام
عن وجوههم فلا نصيب له في المدح، وينظر إلى قول العكوك وابن الرومي قول أبي دلف:
نحنُ قومٍ تذيبنا الحدقُ النحل ... على أننا نذيبُ الحديدا
لا نصدّ الوجوه من خشية الناس ... ونخشى من الغواني الصدودا
وهذا من قسم ما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
قبيلٌ أنت أنت وأنت منهم ... وجدّك بِشرٌ الملكُ الهُمامِ
فذكر أنه على شرفه واحد منهم وهو على الانفراد قبيلٌ وحده، وأحسن من هذا قول ابن الرومي:
قالوا أبو الصقر من شَيبان قُلت لهم ... كلا لعمري ولكن مِنه شيبان
وكم أبٍ قد علا بأبن ذرى شرفٍ ... كما علا برسول الله عدنان
تَسمو الرجال بآباء وآونة ... تَسمو الرجال بأبناء وتزدان
جعل شيبان منه ولم يجعله منهم ذهاباً به عن الإضافة إلى أحد وذكر أنها على ارتفاعها ترتفع به، وأبو الطيب إضافة إليهم وابن الرومي أرجح كلاماً وأبلغ في معناه فهو أحق بقوله.
وقال المتنبي:
لقد حسنتُ بك الأيام حتى ... كأنّك في فم الزَّمنِ ابتسامُ
يشبه قول ابن الرومي:
قعدت بِك الدنيا وما ظلمت ... مفترة عَنْ كل مبتسم
وقال البحتري:
فأبقَ أنساً لهُ فما ضحِكَ الدَّه ... رُ إلينا إلاّ وعَنْكَ إفترِارُهْ
وقال ابن الرومي أيضاً:
أناسٌ إذا دهرٌ تبسم ضاحكاً ... فعنهم وعن آبائهم يبتسمُ
فذكر الابتسام ولم يذكر فماً وهي استعارة يجوز فيها أن يراد بها بهجة الدهر وبشاشته، وأبو الطيب جعل للدهر فماً وشبه بابتسامة فحقق المعنى وملح فرجع كلامه.
ويتلو هذه قصيدة أولّها:
لجنّيةٍ أم غادةٍ رُفِعَ السجفُ ... لوحشية؟ لا. ما لوحشيةٍ شَنْفُ
معلوم أن هذا الكلام سؤال متباله يسأل من أي الجنسين هي، وهو يعلم أنها بشر ولا أعلم من خبره أنّ الجن لأحسن منظراً من الأنس حتى يسأل من أي الجنسين هي، فأما قوله:) لوحشيّة؟ لا ما لوحشية شنف (.
فمستعمل من ذلك قول أبي تمام:
لم يُخطك الجيدُ مِنْ غَزال ... لو عطّلوه من السحابِ
فأنكر هذا الشنف كما أنكر هذا السحاب، وقد أنشدني أبي رحمه الله قال: أنشدنا ابن دريد:
أعنْ الشّمس عشاءً ... كشفَتْ تلك السجوفُ
أمْ على لبتي غزال ... عُلّقت تلك الشُّنوفُ
فسأل هل كشف السجوف عن الشمس، وهل تعلق الشنوف على لبتي الغزال لتشابه المعنيين عنده، فهو تباله مليه مع علم ليدل على قوة الشبه بين المشتبهين، والقرط ما كان في شحمة الأذن من أسفل، والشنف ما كان في حياز الأذن من فوق.
وقال المتنبي:
وخُيِّلَ مِنها مرطُها، فكأنَّما ... تَثنّى لنا خوطُ ولاحَظنا خِشْفُ
فتخيل مرطها إياها يعمل لها حركة في قدها يشبه بها الخوط ولا عمل لتخييل مرطها في لحظها وهذه صفات متداولة منها قول ابن الرومي:
إن أقبلتْ فالبدر لاح، وإنْ مشتْ ... فالغصنُ مال، وإن رنت فالرّيمُ
فإن كان الناظر في كتابنا يحتسب بهذه الشبهات المتداولات المستعملات فبيت ابن الرومي لا مطعن في أقسامه، وأبو الطيب لم يذكر في شعره غير لحظها وقدها وذكر ابن الرومي وجهها وقدّها ولحظها فكلامه أرجح وهو أولى بما سبق إليه.
وقال المتنبي:
زيادةُ شيبٍ وهي نقص زيادتي ... وقوةُ عشقٍ وهي من قُوّتي ضَعفُ
صدره من قول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
الشوقُ يزدادُ كُلَّ يومٍ ... إليك والجسمُ في انتقاصِ
ومثله قول القائل:
زيادةُ عمر المرء نقص حياته ... فَما عجب من نُقصانِه من تَمامه
ويقرب منه قول البحتري:
أدلّةُ المرء أيّامٌ عددنَ لهُ ... يرينهُ الفضل تقويماً وإرشاداً
وقدْ يُطالبن ما قدّمنَ من سلف ... فيه وينقصهُ الفضل الذي ازدادا
وينظر إلى قوله قول ابن الحاجب:
أكرهُ الموت والزيادة في أيام ... عمري نقصان عُمر السواد
وقد أتفق لأبي الطيب من ذكر الزيادة والنقصان والقوة والضعف ما صار به
أجود صنعة بالزيادة في كلامه ما هو من تمامه وهذه معان تدخل في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
هراقَتْ دمي من بي من الوجد ما بها ... من الوجد بي والشوق لي ولها حَلفُ
هذا يشبه قول الشاعر:
وجدتُ بي ما وجدتُ بها ... فكِلانا مغرمٌ دَنِفُ
وعلى الأيام مظلمتي ... هلْ من الأيام منتصفُ
وقال المتنبي:
ومَنْ كلما جرّدتها من ثيابها ... كَساها ثياباً غيرها الشّعرُ الوحفُ
من بلغ إلى تجريد محبوبه من ثيابه فقد بلغ نهاية مناه وبغية هواه فلم يهرق دمه، فأما المعنى فقد قال أبو تمام:
من كلّ فتنانة تَردّى ... بِثوبِ فينانها الأثيثِ
فقد تساوى المعنى ولكن أبا الطيب أكثر إبانة وأرجح بالإبانة والجزالة فهو أحق بالمعنى.
وقال المتنبي:
وقابلني رُمّانتا غُصن بانةٍ ... يميلُ به بدرٌ ويمسكُهُ حِقْفُ
إضافته الرّمانتين إلى غصن البانة يدل على أنّ أغصان ألبان من ثمرها الرمان، وقد عرفنا مقصده إنما شبه الثديين بالرمانتين وقدها بالغصن وأرانا جمع حلقها غرائب لا تجتمع ولا تقع إلا فيه ولو أمكنه أن يقول:) رمانتان في غصن بانة (
.....، كان أسوغ في مقصده، كما قال ابن الرومي:
أغصان بانٍ عليها الدهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل ألبان
فكل تعجب مما ليس في العادة إجماعه، فأما إطلاق اللفظ على الرمان أنه من ثمر ألبان بغير مقدمة توضح مراده فلا أستحسنه هاهنا وقوله:) يميل به بدر (فالبدر وجهه وليس يميل وجهه بقده لأن إذا مال مال بوجهه حيث يميل، وابن الرومي أشعر منه في إتيانه أن الفواكه ليس مما يحمل ألبان، فدل على أن المراد التشبيه لا الحقائق وهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
أرددُ) ويلي (لو قضى الويل حاجةً ... وأكثر) لهفي (لو شفى غلةً لهفُ
يشبه قول البحتري:
فيا أسفاً لو قابلَ الأسفُ الجوى ... ولهفاً لو أَن اللهف في ظالمٍ يُجدي
وهذا من قسم المساواة، وقال ابن الرومي:
أسفي لو أنّ قولي أسفي ... كان يشفيني من حر الأسف
وقال المتنبي:
ضَنَىً في الهوى كالسُّم في الشَّهد كامناً ... لذذت به جهلاً وفي اللّذةِ الحتفُ
هذا من قول إبراهيم بن المهدي:
يشوب بنادي النصح غِشّاً يسره ... كما خيض بالسم الرحيقِ المُشعشع
وقال أبو تمام:
أعلى يا ابن الجهم أنَّك دقت لي ... خمراً وسماً في إناءٍ واحدِ
ويقرب من هذا قول القائل:
إذا استوحشتَ مِنْ رجلٍ ... فكُن منه على وجَلِ
ولا يغرركَ ظاهرُهُ ... فباطنُهُ على دَغَلِ
فقد يُلفي حِمامُ المو ... تِ بين السمِّ والعَسلِ
فجاء بالسم والعسل كما جاء به وهذا من قسم ما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه، ومثله لأبي الشيص:
أعلّلُ آمالي بكانت ولم تكن ... وذلك طعمُ السمِّ والسهد في الكأسِ
وبيت أبي الطيب أفصح وأرجح.
وقال المتنبي:
فأفنى وما أفنته نفسي كأنَّما ... أبو الفرجِ القاضي لهُ دونها كَهفُ
الهاء في) أفنته (عائدة على أفنى، أي نفسي ولا أفنيه كأن الممدوح كهف للضنى دون أن تفنيه نفسي، فقد أراد الخروج المليح إلى المديح ولم يظفر بمعنى فائق ولا جاء بحفظ رائق.
وقال المتنبي:
قليلُ الكرى لو كانت البيضُ والقنا ... كآرائهِ ما أغنتْ البيضُ والزَّغفُ
قال أبو تمام:
وأستلَّ من آرائِهِ الشُّعلَ التي ... لو أنهُنَّ طُبعنَ كُنَّ سُيوفا
لم يزد أبو تمام على أنّ أراهم لو طبعن كدن سيوفاً، وأبو الطيب يذكر أن السيوف لو كنّ كآرائه ما أغنت البيض والزغف أي لقطعن ما لا تقطع السيوف فلفظه أرجح فهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
يقومُ مقامَ الجيشِ تقطيبُ وجههِ ... ويستغرق الألفاظ مِنْ لفظهِ حَرفُ
قال البحتري:
وإذا خِطابُ القوم في الخطبِ اعتلى ... فَصل القضيةَ في ثلاثةِ أحرفِ
فقد جاء أبو الطيب في صدر بيته بمعنى، وجاء في عجز البحتري ونقصنا حرفين فهو أرجح وأولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
وإن فَقَدَ الإِعطاء حنت يمينُهُ ... إليه حنينَ الإِلفِ فارقَهُ الإِلفُ
وهذا يقارب معنى أبي تمام:
واجدٌ بالجميل من رُحاءِ الشّ ... وقِ وجدانَ غَيرِهِ بالحبيبِ
فأما قول البحتري:
يحنُّ إلى المعروف حتى يُنيلَهُ ... كما حنَّ إلف مستهامٌ إلى إلفِ
فهذا أخذ واضح يكاد يدخل في أخذ اللفظ المدعى هو ومعناه معاً والبحتري أحقّ بقوله.
وقال المتنبي:
أديبٌ رستْ للعلمِ في أرض صَدرِهِ ... جبالٌ، جبالُ الأرضِ في جنبها قُفُّ
سيوف ظباها م ... ن دمى أبداً حُمْرُ
فمن قول ابن الرومي:
وغزال تَرى على وجْنتيه ... قَطْرَ سهميه من دماء القلوبِ
لم يُعادِلْهُ في كمال المعاني ... توأمُ الحسن من بني يعقوبِ
فجعل لعينيه سهمين وجعل التثنية للتثنية وجعل حمرة خديه من قطر سهميه من دم القلوب وهذا معنى لطيف ولفظ شريف وقد زاد فيه معنى ليس موجوداً في كلام أبي الطيب من صفة حمرة خديه فكلام ابن الرومي أرجح وما زاد أبو الطيب في المعنى لأنه جعل مكان السهام سيوفاً وخبر عن حمرتها لا غير، فأبن الرومي أولى بما قال.
وقال المتنبي:
تَناهى سكون الحُسن في حَركاتِها ... فَليسَ لرأي وَجْهها لمْ يَمُت عُذْرُ
قال ابن المعتز:
عُذرَ القتيل بحبِّها لكنَّ مَنْ ... قَدْ عاشَ بِعْد فراقِها ما عُذرُهُ
وقال المتنبي:
إِلى لَيْث حربٍ يُلحم اللَّيثَ سيفُهُ ... وبحْرِ ندىً في جُوده يغْرقُ البَحْرُ
أخذه من البحتري:
إِذا قُرِنَ البحرُ الخضم بأنْعُم ال ... خليفة كاد البحْرُ فيهنَّ يَغْرَقُ
وقد أختصر هذا أبو الطيب في عجز بيت شغل صدره بمعنى آخر بما أتى به البحتري وبين قوله:) يغرق البحر (وبين قول البحتري) يكاد البحر) يغرق (مبالغة هي أمدح من قول من حمدها.
وقال المتنبي:
وإِنْ كانَ يُبْقي جُودُهُ من تَليدِه ... شبيهاً بما يُبقي من العاشِقِ الهَجْرُ
هذا من قول الديك:
فَعلت مُقلتاه بالصبِّ ما تف ... علُ جَدوى الأمير بالأموالِ
وقد قال القاضي التنوخي:
وأشعث لَمْ يبق منه المور ... إلاّ مثل ما أبقت من الصب النوى
ومثله قول خالد الموصلي:
يا منزلاً ضن بالسَّلام ... سُقيت ريّاً من الغمامِ
لمْ يترك القطرُ مِنْه إلاّ ما ... تَرك الشوق مِنْ عظامي
وكل هذا من استخراج معنى من معنى أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه والسابق أولى به.
وقال المتنبي:
فَتى كلّ يومٍ يَحْتوي نفس مَالهِ ... رماحُ المعالي لا الرّدينيَّةُ السُّمْرُ
ذكر أن المعالي تحتوي نفس ماله لا يوصل إلى ذلك منه بقهر ولا غلبة فهذا البيت ينظر إلى معنى أبي تمام في قوله:
إذا ما أغاروا فاحتووا مال معش ... ر أغارتْ عليه فاحتوته الصَنائِعُ
وفيه زيادة أنّ بغاراتهم على الأعداء يملكون المال وذلك يدل على الشجاعة وتغير عليهم الصنائع فيحتوي ما حووه هم فصاروا شجعاء كرماء فهذا أمدح من ذاك وأرجح فأبو تمام أحق بقوله.
وقال المتنبي:
ولَوْ تنزلُ الدُّنْيا على حكم كَفّهِ ... لأصْبحتِ الدّنيا وأكثرها نَزْرُ
هذا من قول أبي العتاهية:
ولو كانتْ لَهُ الدنيا ... لأعطاها وما بَالى
وأبو الطيب قال:) أكثرها (فقد بقي منها بقية وأبو العتاهية أخبر عنه أنه يعطيها كلها ولا يبالي فلفظ أبي العتاهية أمدح ولفظ أبي الطيب أجزل فنحن ندخل هذا في باب المساواة.
وقال المتنبي:
أراه صغيراً أعظمها عظْمُ قدْرِهِ ... فَما لعظيمٍ عنْدهُ قَدْرُ
أخذه من أبي تمام:
أبى قدرنا في الجود إلاّ نباهة ... فَليس لمالِ عِنْدنا أبداً قَدرُ
وهما يتساويان في المبنى والمعنى والسابق أولى بما قال، فإن قال قائل: فلأبي الطيب زيادة وذلك أنه قال: فليس لعظيم يكون ما كان عنده قدر) وقد (خص أبو تمام المال وحده، قيل له: المال أنفس شيء وأفخذه وأعظم نفيس وأكبره تتلف النفوس في تطلبه وتركب الأهوال في تكسبه ويرد به سطوة الأعداء القاهرة ويتوصل به إلى الدنيا والآخرة فالمعنى فيهما واحد.
وقال المتنبي:
مَتى ما يُشِرْ نحو السَّماء بِوجْهِهِ ... تَخر لَهُ الشِّعري وينكسفُ البدْرُ
هذا من قول البحتري:
شوقاً إلى من لَوْ تبدى وَجهه ... للبدرِ كانَ من التحير يكسفُ
وهذا مثل ذلك مساوياً ولولا أن الله عز وجل خبرنا) أنه رب الشعرى (فدلنا على أشرفها لقلنا ما حاجتنا مع ذلك البدر إلى ذكر الشعرى، فقد صار له بهذا زيادة يستحق الشعر بها.
وقال المتنبي:
ترى القمر الأرضِ والملك الَّذي ... لَهُ الملك بَعْد الله والذكرُ والفخرُ
) فدل (على أن القمر الأرضي أفضل من السمائي لأنه يكسفه والذي أعرف أن أحسن بشراً إذا بولغ في صفته يشبه بقمر السماء فأما ذكر الملك والذكر والفخر فلا مدخل له في صفة القمر وهذه معان تمضي على الأسماع فإذا وقع عليها التصفح الشافي والتأمل الكافي ظهرت أسرارها وأنكشف عوارها.
وقال المتنبي:
كثيرُ سُهادِ العين مِنْ غير علةٍ ... يؤرقّهِ فيما يشرفه الذِكْر
هذا من قول ابن المعتز:
وأسهر للمجدِ والمكرماتِ ... إِذا اكتحلتْ أعين بالكرى
وهذا يدخل في قسم المساواة، وما أحسن قول ابن الرومي:
أقسمتُ باللهِ ما استيقظتم لحتا ... ولا وجدتم عن العليا بِنوام
هذا طباق حسن قد استوفى فيه أقسامه وجود نظامه وذلك أنه خبر عنهم بيقظة شريفة ورقده منيفة في الحالين جميعاً.
وقال المتنبي:
أبا أحْمدٍ ما الفخْرُ إلاّ لأهْلهِ ... وما لامْرئٍ لَمْ يُمْسِ مِنْ بُحْترٍ فَخْرُ
هذا تجاوز عن الحد وخروج عن الصدق إنما يصلح أن يقال هذا لمن له نسب متصل برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن الشعراء يتجاوزون إلى الغاية في المبالغة.
وقال المتنبي:
هُم الناسُ إِلاَّ أنهُمْ من مكارمٍ ... يُغنّي بهم حَضْرُ ويحدو بهم سَفْرُ
قال ابن الرومي:
وقد سار شعري شرق أرضٍ وغربها ... وغنّى به القومُ المقيمون والسّفرُ
فألفاظ بيت ابن الرومي يأخذ بعضها بأعناق بعض وقد عرف الحضر والسفر بالألف واللام، فيمكن أن يقال إن الناس كلهم قد غنوا به، وأبو الطيب نكر فأمكن أن يكون المعنى فرقة من الحضر وفرقة من السفر، وإذا كان كلام ابن الرومي أشرح وأمدح بإمكان العموم فيما خص فيه أبو الطيب، فابن الرومي أحق بما قال ولعل قائلاً أن يقول: جمع أبو الطيب حالتي الغناء فصارت له زيادة فإنه إنما يحتسب له بذلك لو كان الغناء لا يكون إلا في الحضر فإذا صلح للحضر والسفر لم يصح تقسيمه، وقد قال عمر بن الخطاب:) الغناء يعم زاد الراكب (، فجعله بمنزلة الزاد لمسافر.
وبعدها قصيدة أولها:
ما الشّوقُ ممتنع مني بِذا الكَمَدِ ... حتى أكونَ بلا قلبٍ ولا كَبدِ
قال) فيها (:
ما زالَ كُلُّ هزيمِ الودْقِ يُنْحِلها ... والسُّقْمُ يُنحُلني حتّى حكتْ جَسدي
يشبه قول ابن الرومي:
درساً براهن البلى بَرى الضنى ... جِسمي لبين قطينها المترحل
ولبعض العرب:
ألا إنّما تذري دموعي مهارق ... فسرى إعلان ولست أبوحُ
أسائل عَنْه منزلاً شفه البلى ... كما شف جسمي السّقم وهو صحيحُ
وليس قول أبي الطيب داخلاً في حسن الخروج المليح إلى الهجاء أو المديح وبينما يخبر عن زفراته إذ سأل أين منك ابن يحيى صولته الأسد فخرج عن حديث الهوى والحزن الشاغل إلى أن يسأل ابن يحيى أين صولته من صولة الأسد وهذا من ذاك غير متقارب ولا متناسب وذلك قوله:
فأينَ من زَفَراتي من كَلفتُ به ... وأينَ منك ابن يحيى صَولةُ الأَسَدِ
وقال المتنبي:
لمّا وزنتك بالدنيا فَملت بها ... وبالورى قَلَّ عِنْدي كَثْرةُ العَدَدِ
ينظر قوله:) قلّ عندي أكثر العدد (إلى قول القائل:
ما أكثرَ الناس لا بل ما أقلهم ... الله يعلم أني لمْ أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا
هذا يذكر أنه على كثرة عددهم قليل، وأبو الطيب يذكر أنهم قلوا بالقياس الممدوح وكلا القصدين) صحيح (.
وقال المتنبي:
إِذا ما ذكرْنا جُودَهُ كان حاضراً ... نأى أو دنا يسْعَى على قَدمِ الخضْرِ
هذا لا يقرن بالبيت الذي قبله ولا يجانسه وهو على تباعده منه مسروق من قول مسلم:
فحث مطي الراحِ حَتَّى ظَننتهُ قفا ... أثر العنقاء أو سَائر الخَضْراء
الجود: عرض وليس بجسم وسعيه على قدم الخضر وقدمه جسم غير صحيح وإن كنا نعلم أن مراده من هذا الكلام سرعة حضور جوده، ولكن تشبيه مسلم المتحرك بجسم يقفو أثر ما لا يجد أو يساير الخضر أصح مقصداً وله من ذكر العنقاء زيادة يستحق بها.
يتلوها قصيدة أولّها:
أحادٌ أم سداسٌ في آحادِ ... ليلتنا المنُوطَةُ بالتَّنادي
أي ست ليال في ليلة وما عدت العرب أكثر من رباع ولكن أبا حاتم
حكى أن العرب تقول أحاد إلى عشار وكأنه قال لا يجوز ثم عاد فأجازه فأستشهد بقول الكميت:
فَلمْ يَستر يثُوكَ حتى رَميْ ... تَ فوقَ الرجالِ خِصالاً عُشارا
وما أراه رجع إلا ببيت الكميت أو ما علم أنّ الأصمعي قال: تقول العرب برق ورعد وأنشد المتلمس:
فإذا حللتُ ودُون قومي عاوةٌ ... فأبرق بأرضك ما بَدا لك وأرْعُدِ
فقيل له قد قال الكميت:
أبرق وأرعد يا يزي ... د فما وعيدك لي بضائرْ
فقال الأصمعي: الكميت مولّد لا يحتج بشعره فعلى هذا فقد أستعمل
المتنبي المختلف فيه وقاس على كلام العرب الذي ينبغي أن تؤخذ لغتهم سماعا يأتي بما أتت فيه أتباعاً وصغر ليلة على لفظها وقد سمع منه ليلية كأنه تصغير ليلاة وإن لم يسمع ذلك وهذا التصغير التعظيم كقول بعض الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقتها المرحب.
وعلى هذا تصغير الأسماء مثل كليب وعمير، وما أدري لما أراد وصف هذه الليلة بالطول وأقتصر على سداس لم أقتصر على سداس فيقول: أحاد في عشار فيكون أطول لما أحب وصفه بالطول ثم أخبر أنها موصولة بالتنادي يعني بالتنادي بالرحيل فكأنما المسافة بينه وبين
وقوع التنادي ست ليال على قياس لفظه، وهذا كلام به من قلة الماء وبهجة الرواء ما ترى.
وقال المتنبي:
كأَنَّ بنات نعشٍ في ذُراها ... خرائد سَافرات في حِدادِ
يقال: سافرات على النعت وسافرات على الحال، وقال أبو العباس الناشئ:
كأن محجلات الدهم فيه ... خَرائد سَافرات في حِدادِ
هذه سرقة توجب القطع. وقال ابن المعتز:
وأرى الثُريا في السمّاءِ كأنَّها ... قدمُ تبدت في ثيابِ حِدادِ
وقال آخر:
كأنَّ كؤوس الراحِ والليلُ مُظلم ... وجوهُ عذارى في ملاحف سُود
الخريدة الخبية وهذه معان يقرب بعضها من بعض وتتساوى فالسابق أولى بها.
وقال المتنبي:
زَعيما للقنا الخطّى عَزمي ... بسفكِ دمِ الحواضر والبَوادي
هذا يدل على قلة رأفة ودين لأنه لم يقل دم المشركين ولا المنافقين ورأى قتل العباد غويّهم ورشيدهم وذميمهم وحميدهم بغير جناية، هذا لا يدخل في العدل ولا يحسن في العقل وقد سبقه إلى هذا القبيح أبو دلف فقال.
وأحسنُ من نَزوات الصبا ... إذا ما اللبيب أطاعَ اللبيبا
ركوبُ الجيادِ وطي البلادِ ... وقتل العبادِ شعوباً شعوبا
ولا خير في المعنيين فيشتغل بها.
وقال المتنبي:
وشُغْلُ النّفسَ عن طلب المعالي ... ببيعِ الشِّعر في سُوق الكَسادِ
أخذه علي بن بسام:
قالوا تغير شعره عن حَالِه ... والفكرُ يَقطعه عن الأشعار
لا تعذلوهُ إذا تغير شِعره ... فالسوق كاسِده بغير تجار
وهما معنيان متساويان والأول أولى بقوله.
وقال المتنبي:
وَما ماضى الشباب بمستردٍ ... ولا يوم يمرَ بِمستعادِ
قال عدي بن زيد:
أمسك أمس قَدْ مَضى فانقضى ... لَيْس لأمسٍ قَدْ مضى مرتجعُ
وقال الحطيئة:
إذا ذهبَ الشباب فبان مِنهُ ... فليس لما مَضى مِنه لِقاءُ
وقال أبو العتاهية:
لا يُستعَاد اليومُ إن ... ولّى ولا للأمسَ ردُ
وقال البحتري:
فهل عقب الزمان يَعُدنَ يوماً ... بيومٍ من لقائك مُستفادُ
فكل هذه المعاني متساوية وهي إخبار بما لا يجهل ولكنه كالتوجع والتفجع غير أن أبا الطيب أختصر الكثير الطويل في الموجز القليل وذلك أنه خبر أن ماضي الشباب لا يسترد وأن يوماً يمر غير مستعاد. خبر عن الشباب
والزمان وأفرد غيره بالإخبار إما عن الزمان وإمّا عن اليوم وكان بيت أبي الطيب ينوب عن أبياتهم فهو أحق به.
وقال المتنبي:
مَتى لحظت بياضَ الشيب عَينٌ ... فقدْ وجدتهُ مِنها في السَّوادِ
هذا من قول القائل:
في كل يومٍ أرى بيضاء نابتةٍ ... كأنّما تنبت في حبةِ البَصرِ
فالمعنى المعنى ولكن مبنى أبي الطيِّب أرجح مما يأتي به من المطابقة بين البياض والسواد والأول ذكر البياض وجعل حبة البصر موضع السواد من بيت المتنبي، ولو قال:) في أسود البصر (كانت الصنعة واحدة وكان أحق بما قال، ولكن تأتي لأبي الطيب أن رجح كلامه على كلام من أخذ عنه فصار أولى به.
وقال المتنبي:
مَتى ما ازددت من بعد التَّناهي ... فقد وقع انتقاصي في ازديادي
أخذه من محمود الوراق:
إذا ما ازددت من عمري صُعوداً ... ينقصه التَزيُّدُ والصُّعُودُ
أما السرقة في هذا الكلام ففاضحة، إلا أن لفظه من أبي الطيب أصنع ألا ترى أن الزيادة مع النقصان ضدان والصعود مع الهبوط ضدان فأبو الطيب
أوقع اللفظ على استحقاقه في استعمال الأضداد، ومحمود تساهل في ذلك، فرجح كلام المتنبي، واستحق ما أخذ، فأما قول أحمد) بن (أبي طاهر:
متى ما زاد عمرك كان نقصاً ... ونُقصانُ الحياة مع التَّمامِ
فالنقص والتمام ضدان وقد استوفى معنى بيت أبي الطيب في صدر بيته، وعجزه زيادة في المعنى ما هو من تمامه ومثله قول أبي المعتصم:
كمالُ المرء نقصٌ في قواه ... ونقصُ المرءِ من بعد الكمالِ
وهو يشبه بيت أحمد بن أبي طاهر سواء، وهذا يدخل في قسم المساواة وللسابق فضل السبق.
وقال المتنبي:
جَزى الله المسير إليه خيراً ... وإنْ تَرك المطايا كالمزادِ
المزاد: يكون فيها الملاى الجديد فيكون التشبيه يدل على الصلابة والسمن وقلة الكد وليس هذا مراده لأنه لا يوجب على الممدوح ذماً ما في قصده لأنه ما كد إليه راحلة ولا جهد نفسه في إتيانه وقد تكون فارغة يابسة فيشبه الهزلي من الإبل ولكنه ما أتبع هذا بنعت يفسر إرادته، والجيد قول بعض الأعراب:
كأنّها والشوكُ كالشنان ... تَميسُ في حلةِ أرجوانِ
فالشنان: القرب البالية جمع شنّة فدل بمعنى الشنان على بلاها وهزالها فرجح لفظه على لفظ أبي الطيب.
وقال المتنبي:
فَلمْ تلق ابن إبراهيم عنسى ... وفيها قُوتُ يومٍ للقُدادِ
هذا معنى ينظر إلى قول الحطيئة:
سناماً ومحضاً أنبتا اللحم فاكتستْ ... عظامُ امرئ ما كان يَشبع طائرهُ
أي لو وقع عليه طائره ما كان يشبع طائره من لحمه فجعل الناقة مكان الرجل وجعل القداد مكان الطير وهذا من استخراج معنى من معنى احتذى عليه وإن فارق ما قصد به.
وقال المتنبي:
وأبعدَ بعدنا بعد التَّداني ... وقرّب قُربنا قُرب البِعادِ
معناه وأبعد بعدنا مثل بعد التداني وأقرب قربنا مثل قرب البعاد كان
بيننا أي قربني إليك بحسب ما كان بيننا من البعد فهذا كما قلنا إنما يشبه كلام أهل علم الباطن) خذني مني وغيبني عني حتى لا أبقى أنا بلا أنا (وهذا مما لا يلتمس له استخراج سرقة وإنما فسرت لك معناه لئلا تسمع تهويلاً فتتوهم أن له محصولاً.
وقال المتنبي:
فلما جئته أعلى مَحلّي ... وأقعدني على السّبعِ الشّدادِ
قد ألمّ بمعنى زهير:
لو كَانَ يقعد فَوقَ الشمسِ من كرمٍ ... بآبائهم أو مجدهم قَعدوا
فزهير أحترس وقال:) لو جاز أن يقعد قوم بحسب أو مجد فوق الشمس لقعدوا وأبو الطيب حقق جلوسه على السبع الشداد فليس هذا في قدرة الممدوح فكان زهيراً بالاقتصاد في المحال ورجحان لفظه على لفظ من أخذ عنه أحق بما قال.
وقال المتنبي:
تَهلَّل قبل تَسليمي عَليهِ ... وألقىَ كيسهُ قبل الوِسادِ
أما ذكر التهلّل فلا أعرف فيه أحسن من قول زهير:
تراهُ إذا ما جئته متهلّلاً ... كأنَّك تعطيه الذي أنت سائلُه
وذلك أنه قد عرف مقدار تهلله لأنه قد يتهلل المعطي ولا يبلغ تهلل
المعطي ما يفرح به وذكر الكيس واللقاء به ليس مدح فأخر ولا يبلغ نهاية المدح بالجود لأنه قد يلقي كيساً ليس فيه ما يغني المعطى ولا يفقد المعطي والبدرة أولى من الكيس بإغراق في المدح وخبر أنه ألقى الكيس وأتبعه وساداً فخبر عن الممدوح بالسخاء وإكرام عفاته فكأنه ينبه على المعنى بقول أبي الهندي:
سألناهُ الجزيلَ فما تلكى ... وأعطى فَوقَ منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسنَ ثم عُدنا ... فأحسنَ ثم عُدتُ له فعادا
مراراً ما قصدت إليه إلا ... تَبسَّم ضاحكاً وثنى الوسادا
فذكر معاودته مراراً والتكرم يكون مع كثرة المعاودة غير مأمون وخبر ببشاشة وإفراط هشاشة، فإن قال قائل شرط أبو الطيب إلقاء الكيس قبل الوساد والإكرام أولى بالتقديم وقد خبر أبو الهندي بأنه أعطاه فوق منيته وذلك مما يتسع الظن في كثرته وأنه عاوده دفعات فكلامه يفيد معاني من كرمه يرجح بها على أبي الطيب.
وقال المتنبي:
وأنّكَ لا تجودُ على جَوادٍ ... هباتُكَ أن يلقب بالجوادِ
هذا من ألفاظه التي تحتاج إلى تفسير فإذا فسرت قلت فائدة مسبوكها ومعناه هباتك لا تجود على أحد بأن يلقب جواداً ولو قال أن يسمى بالجواد كان أحسن من قوله) أن يلقب (.
وقال المتنبي:
كأنَّ الهامَ في الهَيجا عيُونٌ ... وقَدْ طُبعتْ سُيوفكَ من رقادِ
فسر هذا بعض النحويين فقال: إن معناه أن سيوفك تألفها الهام كما تألف العيون الرقاد، وهذا ضعف في النقد وخروج عن القصد لأن الهام تكره السيوف ولا تألفها قال أبو محمد: وهذا الكلام يحتمل معنيين أحدهما أن لا يقدر الهام على الامتناع من سيوفك كما لا تمنع العيون دخول الرقاد عليها أحبته أو كرهته والآخر أن يكون أراد موقع سيوفك في هامهم كموقع الرقاد في المقل يريد إمّا بطلان الحس والغيبة بها أو يريد حسن وقعها كوقع الرقاد في العيون كقول الأول:
فكأنما وقع السيوف بهامهم ... خَدرُ المنية أو نعاس الهاجع
يقرب منه قول أبي نواس:
ولها دَبيبُ في العظامِ كأنَّهُ ... أخذ النعاسِ، وقبضهُ بالمفصلِ
وكلام أبي نواس يشبه نعنى الأول إذ ليس يمتنع العقل ولا المفصل لمن عمل النعاس فيهما وأخذه إياهما لأنه فعل للطبيعة يدخل عليهما من حيث لا يمتنع.
وقال المتنبي:
وقَدْ صُغتَ الأَسنَّة من هُمومٍ ... فما يخطُرنَ إلا في فُؤادِ
يجوز الكسر والضم في الطاء من) يخطرن (ومن أراد الرماح كسر، وهو ينظر إلى قول أبي تمام:
كأنّه كان تربَ الحبِّ مُذْ زمنٍ ... فليس يُعجزه قلبُ ولا كَبد
وقد أخذ أبو الطيب هذا المعنى أخذاً جلياً واضحاً قبيحاً ومن ذلك قول بعض بني عبد شمس:
الطاعنُ الطعنة النَّجلاء عن عرضٍ ... أثر الكتيبة يُرميه ويرميها
بلهذمٍ من همومِ النفسِ صيغتهُ ... فليس ينفكُّ يجري في مَجاريها
وكلام الشمسي مساو لكلامه في معناه فالأول أحق بما قال.
وقال المتنبي:
ويْومَ جلبتَها شُعثَ النَّواصي ... مُعَقّدة السَّبائبِ للطِّرَادِ
هذا بيت لا معنى فيه فيطلب له استخراج سرقة وإنما ذكرناه للضمير الذي لم يجر له ذكر ولكنه ذكر من الهيجاء والرماح ما يدل على حضور الخيل فاستعمل الإيجاز والاختصار واكتفى بعلم المخاطب وهو مذهب صحيح قد ورد في القرآن والشعر ففي القرآن قوله تعالى:) حتى توارت بالحجاب (و) كل من عليها فانٍ (ولم يجر للشمس ولا للأرض ذكر وفي الشعر قال حميد بن ثور أول قصيدة:
وأدماء منها كالسَّفينة تضحتْ ... به الحَمل حتى زاد عشراً عَديدُها
فقال منها يريد ناقة وأضمرها لعلم المخاطب.
وقال المتنبي:
وَحام بِها الهلاكُ على أناسٍ ... لهمْ باللاَّذقيةِ بَغيُ عادِ
قال ابن الجهم:
أعطاكَ يا ابن أبي داود رُتبةً ... فجريت في ميدانِ أحمر عَادِ
وهذا يدخل في باب التساوي.
وقال المتنبي:
لقُوكَ بأكبدِ الإِبلِ الأبايَا ... فسقتهم وَحدُّ السَّيق حَادي
هذا البيت جيد الصنعة لأنه ما خرج عن ذكر الإبل وسوقها وحدائها فلم يخرج عما يتبع بعضه بعضاً ويلتقي بمعناه لفظه وهو ينظر إلى قول البحتري:
فدعوتهم بظُبا الصَّفيح إلى الرَّدى ... فأتوكَ طُرّأ مُهطعين خُشُوعَاً
ولغيره:
لما التووا بمقاده عَنْ سُبلهِ ... أخذ المقادةِ عن ظباه حِدادِ
وقال المتنبي:
فَما تَركوا الإمارةَ لاختيارٍ ... ولا انتحلوا ودادكَ مِنْ وِدَادِ
ثم قال:
ولكنْ هبَّ خوفكَ في حشاهُمْ ... هُبوبَ الريحِ في رجل الجرادِ
هذا البيت تفسير لِما تقدم وهو موجود المعنى في بيت شريف وذلك قوله:
ذلها أظهرَ التودد منها ... وبها مِنكمْ كزء المَواسي
فمن بلغ مراده في بيت وأتى في عجز بيته بتشبيه صحيح كان أحق بما قال ممن عمل بيتين تفسيرهما في الثالث بعدهما واستعار استعارة غير صحيحة لأن الخوف عرض والهبوب لا يصح إلا من جسم والمعنى موجود في قول القائل:
تَولوا حزاناً مُدبرين كأنّهم ... جَراد شمال كية وابلِ القَطَرِ
فهذا شبه جواهر بجواهر وقال الحطيئة:
ونحنُ إذا ما الخيل وافت كأنّها ... جراد زفت أعجازه الرّيح منتشر
ومثله قول مسلم:
ما كان جَمعهم لمّا لقيتهُمُ ... إلا كمثل جراد ريعُ مُنجفَلِ
وكل ذلك أصح معنى من معنى بيت أبي الطيب وأرجح لفظاً وهم أحق بما قالوا.
وقال المتنبي:
وماتوا قَبْلَ مَوتهم فَلمَّا ... مننتَ أعدتُهمْ قبل المَعادِ
ينظر إلى قول أبي تمام:
مَعادُ البعث معروفٌ ولكنْ ... ندى كفَّيك في الدُّنيا معادي
وقد أتبع أبو تمام هذا بمثله فقال:
مَعادُ الورى بَعد الممات وجوده ... مَعادُ لنا قبل الممات ومَرجعُ
وهذه معان تدخل في قسم التساوي.
وقال المتنبي:
غَمدْتَ صوارماً لو لم يتوبوا ... مَحوتهُمْ بها مَحو المِدَادِ
وقد أتى بهذا اللفظ أبو تمام فقال:
محوٌ من البيض الرّقاق أصابَهُ ... فَعفاهُ لا محوٌ من الأحوالِ
ومحو المداد أصل الكلام ومحو الأحوال استعارة والمعنى مساو.
وقال المتنبي:
وما الغضبُ الطّريفُ وإن تَقَّوى ... بمنتصف من الكَرمِ التِّلادِ
ليس الغضب ضد الكرم، وإنما ضده اللؤم ولو قال:) من الحلم التلاد (كان في الصنعة أجود ويقوى لفظه هجيته ضاق عطته عن أملح منها.
وقال المتنبي:
فلا تغررك ألسنةُ مَوال ... تُقبلهُنّ أفئدة أعادي
فهذا يشبه قول القائل:
وأبلغ مُصعباً عني رسولاً ... وهل يجد النصيح بكل وادِ؟
تعلم أن أكثر من بكا فيّ وإن ... ضحِكوا إليك هُمْ الأعادي
وقال ابن المعتز:
عرفت أخلاء هذا الزمان ... فأكثرت بالهجر منهم نصيبي
فكلهم إن تأملته صديق العتاب عدوّ المعيب.
وهذه الأبيات تتساوى والسابق بها أولى.
وقال المتنبي:
وكُنْ كالموتِ لا يرثى لباكٍ ... بكى منه ويروى وهو صَادِ
ينظر إلى قول لقيط:
لا حرثَ يشغلهم بلْ لا يرون لكمْ ... مِنْ دون نَبضتكم رياً ولا شبعا
وقال المتنبي:
فإِنَّ الجُرحَ ينفر بعد حينٍ ... إذا كانَ البِناءُ على فسادِ
هذا من قول البحتري:
إذا ما الجُرح ذم على فسادٍ ... تبيّن فيه تفريطُ الطبيب
هما متساويان والأول أحق بقوله.
وقال المتنبي:
فإِنّ الماءَ يجري من جَمادٍ ... وإنَّ النَّار تخرجُ مِنْ زنادِ
أما صدره فيشبه قول ابن الرومي:
يا شبيه البدر في الحس ... ن وفي بعد المنالِ
جد فقد تتفجر الصخ ... رة بالماءِ الزلالِ
وأما عجزه فمن قول ابن الجهم:
والنارُ في أحجارِها مخبوءةٌ ... لا تُصطلى إنْ لم تُثرها الأزندُ
وتمثل المأمون:
أنا النار في أحجارها مسكنة ... متى ما يهجها قادح تتصرمُ
ويدخل في معنى هذا قول أبي تمام:
أخرجتموه بكره من سجيته ... والنارُ قد تتنضى من ناضر السَلمِ
وقد جمع أبو الطيب في بيته معنيين وأختصر وجاء باللفظ الطويل في الموجز القليل فهو أحق بما أخذ.
وقال المتنبي:
وكيفَ يبيت مضطجعاً جبان ... فرشت لجنبهِ شوكَ القْتَادِ
ما كان يجب أن يطلق أسم الجبن على أعدائه فيوثق تأثيره منهم وليس شوك القتاد في المراقد مما يخص الجبان الشهر به دون الشجاع، فأما التشبيه فمستعمل فمنه قول ابن مناذر:
كأنّ عوائدي مِنْ بعد هذء ... العيون فَرشنني شوك القتادِ
ومثله قول أبي تمام:
إني بعلتك أعتللت ... فمفرشتي شوكُ القتادِ
وهذا المعنى كثير الاستبدال متواتر الاستعمال لا يعبأ بسرقته ولكن أبا الطيب لا يحقر شيئاً من المعاني فيلزمنا أن نعبأ بما عني به لئلا يتوهم متوهم أن الغامض أوردناه والمكشوف جهلناه.
وقال المتنبي:
ترى في النّوم برمحك في كُلاهُ ... ويخشى أن تراه في السُهادِ
أحسن من هذا قول أشجع:
وعلى عدُوّك يا ابن عمِّ مُحمّدٍ ... رَصدان: ضوءُ الصًّبحِ والإِظلامُ
فإذا تنبهَ رعَتهُ وإذا غَفا ... سَلَّتْ عليه سيوفك الأحلامُ
وقد ألمَّ بهذا أبو تمام في قوله:
إنْ يَنتبه ترتعدْ فَرائصه ... ويهتجدْ بعجلة عن حِلمه
وقال المتنبي:
أشرتَ أبا الحُسينِ بمدح قَومٍ ... نزلتُ بهم فَسرتُ بِغير زادِ
يقرب من قول ابن عيينه:
نَزلتُ عليهم ورحلتُ عَنْهم ... فكان صُدودهم نُزلي وزادي
وقول ابن أبي عيينه أهجا لأنه ذكر أنه راح منهم بغير زاد وهذا ذكر أنهم
زودوه الصدود فخبر بمنع البشر والزاد فصار كلامه أرجح في الهجاء فهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
وَظنُّوني مدحتهُمُ قَديماً ... وأنت بما مَدحتهُمُ مُرادي
قال كثير:
متى ما أقلُ في آخر الدَّهر مدحةٍ ... فَما هي إلا لابن لَيلى المكرَّمِ
قال أبو نواس:
إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإنْ جَرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
فقوله:) إنساناً (حشو لأن المدح لغيره مفهوم أنه إنسان.
وقال الديك:
ونَمدحُ أقواماً ما سِواكَ وإنما ... إليك نُسدِّيه وفيك نزخرفه
فلكثير فضل السبق والديك يساوي أبا الطيب بغير زيادة فالسابق أولى من السارق.
وقال ابن الرومي:
ومَا قِيلَ فِيه من مديحٍ فإِنَّه ... مَديحك، والنياتُ نَحوك عُمَّدُ
وقال المتنبي:
وإني عنك بعد غدٍ لغادٍ ... وقلبي عن فنائِكَ غير غادِ
يشبه قول الخبزأرزي:
أنا غائبٌ والقلبُ عندكَ حاضِرُ ... سافرتُ عنكَ وما الفؤاد مُسافرُ
وقال المتنبي:
مُحبّك حيثما اتجهتْ ركابي ... وضيفُكَ حيثُ كنتُ مِنَ البِلادِ
هذا من قول أبي تمام:
وما سافرت في الآفاق إلا ... ومن جَدواكَ راحِلتي وزادي
ومنه قول أبي تمام أيضاً:
مُقِيمُ الظنِّ عِندكَ والأماني ... وإن قَلقتْ ركابي في البلادِ
يليها قصيدة أوّلها:
مُلِثَّ القَطرِ أعطشها رُبُوعاً ... وإلا فأسقِها السَّمّ النقيعا
من شأن منازل الأحباب أن يدعى لها بالترويض والبهجة كقول أبي تمام:
يا دارُ درَّ عليكِ أرهامُ النّدى ... واهترَّ روضك في الثرى فَتزادا
وقال مخلد الموصلي:
يا منزلاً ضنّ بالسَّلامِ ... سُقيتَ صوباً من الغَمامِ
لمْ يترك المُزن منك إلا ... ما تركَ السقمِ من عظامي
وما سبق أحد أبا الطيب إلى الدعاء على منازل الأحباب بالعطش ولا من عادة السحاب سقيا السم ولا السم مما يدعى به على الجمادات ولو قال: أمطرها حجارة تهدمها وأرسل عليها صواعقاً تحرقها مما يجوز مثله أن يقع من السحاب لكان أحسن في الدعاء عليها ولما أغرب في الدعاء عليها جاء بعذرٍ أشبه شيء باستئناف ذم وقال:
أسائلها عن المتدَيّريها ... فَلا تَدري ولا تُذري دُموعا
فجعل ذنبها أنها لا تذري الدموع وقد دعا البحتري على نفسه باللوم في سؤال ما لا يستجيب فقال:
وسألتُ ما لا يستجيبُ فكنتُ ... في استخباره كمجيب من لَمْ يَسلْ
فعذر المنازل ولا نفسه والعاقل أولى باللوم مما لا يعقل، وألزمها أبو الطيب الجواب وأذرى الدموع وذلك تكليف غير ممكن فلما امتنع عليه منها ما لا يمكنها دعا عليها بما قد سمعت وإنما وقف الناس بالمعاني وبكوا رسوم الديار، وتغير الآثار إما لإظهار وفاء لمن كان بها أو أعثار بخرابها وانقلاب الدهور وتغير العصور فإما أن يسألوها لتجيب وإلا اغتاظوا فدعوا عليها، فهذا تخيل فاسد ومعنى بارد.
وقال المتنبي:
لحاها الله إلا ماضيَيْها ... زمان اللهو والخود الشموعا
ماضيها كان يوجبان الدعاء عليها بالسقيا والنضرة والالتفاف بالخضرة والزهرة أما سمع قول البحتري:
وإذا ما السحاب كان ركاماً ... فسقى بالرباب دار) الرباب (
وكمثل الأحباب ... لو يعلم العا ذل عندي منازل الأحباب
فإن كان كما قال البحتري فقد دعا أبو الطيب على أحبابه بالعطش والسم النقيع فهذه معان أقل تأملها ونقدها.
وقال المتنبي:
منعّمةٌ، ممنعّةٌ، رداحٌ ... يكلفُّ لفظها الطَّيرَ الوُقوعا
هذا يشبه قول ابن رومي:
مَديحٌ إذا ما الطير مَرْت مَرت رعالها ... بمنشده ظلت هُناكَ تكفكِفُ
والمبنى والمعنى متساويان لأن لفظ المحبوبة التي ذكر أنها تكلف لفظها الطير الوقوع يشبه لفظ المنشد لهذا الشعر الذي ذكره ابن الرومي وهما يدخلان في قسم المساواة، والذي على هذا المعنى قول كثير:
وأدنيتني حتى إذا ما سبتني ... بقولٍ يُحلّ العُصَم سَهْل الأباطح
توليت عني حين لا لي حيلة ... وخلفتَ ما خلفت بين الجوانح
وقد أخذ هذا المعنى ابن دريد فقال:
لو ناجَتْ الأعصمَ لأنحطَّ لها ... طَوع القيادِ من شَماريخ الذُّرى
وقوله:) طوع القتاد (أحسم من قول: أبي الطيب:) يكلف لفظها الطّير الوُقُوعا (لأن من كلف ليس كمن فعل أفعاله طوعاً ولا يتوهم الضعيف النقد باختلاف الجنسين) العصم، والطير (أن هذا ليس من هذا فإنه منه وهو من توليد كلام من كلام لفظهما مفترق ومعناهما متفق فكلام من أخذ المتنبي أرجح من كلامه فهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
يُرفّع ثَوبها الأرداف عنها ... فَيبقى مِنْ وشاحيها شسوعا
) شسوع (بعيد وهو لفظ غير عذب وأحسن من هذا قول رجل من كلب:
أبتِ الغلائل والثدي لِقميصها ... مَس البطونِ وأنْ تَمسّ ظُهوُرا
وإذا الرياح برتجهن تعطرت ... نبهن حاسدة وهَجْن غُيورا
وقال المتنبي:
إذا ماست رأيتَ لها أرتجاجاً ... لهُ لَولا سواعدُها نَزُوعا
الهاء تعود على الثوب في) له (وتقدير الكلام رأيت لها ارتجاجاً نزوعاً له لولا سواعدها وما أدري كيف ينزع ارتجاجها قميصها عنها أما لهذا القميص طوق أم ليس لها عنق يمنعها من خروجها من قميصها وقد وافى الناس بلولا في هذا الموضع فكان أحسن وأدنى إلى الإمكان، فقال ابن المعتز:
يكاد يجري من القميص من ال ... نعمة لولا القميص يمسكه
فذكر نعمة يكاد يجري من أجلها فيمسكه القميص وقال في صفة فرس:
يكاد يخرج من أهابه ... إذا بدا السوط له لولا اللبيب
فجعل اللبيب يمسكه من أن يطير ويخرج من أهابه كما جعل القميص يمسك الإنسان، من أن يخرج من قميصه فأما أن ينزع قميصها ارتجاجها لولا سواعدها فبعيد وأما ما قيل في هذه المعاني قول أبي الشيص:
لولا التمنطقُ والسّوار معاً ... والحجلُ والدملوج في العضدِ
لتزايلت من كلّ ناحيةٍ ... لكن جعلن لها على عمدِ
وقال المتنبي:
تألّم دَرزهُ والدّرز لينٌ ... كما يتألَّمُ الغَضْبَ الصَّنيعا
فخبر بتألمها في الدّرز، وهو لين يريد رقتها ونعمتها وأول من فتح هذا المعنى امرئ القيس فقال:
من القاصرات الطّرف لو دبّ مُحولٌ ... من الدَّر فوق الأتبِ مِنها لأثرا
والذر أخف وزناً على الجسم من درز القميص فإذا أثر في الجسم كان أبلغ وصفاً من أبي الطيب وله فضل السبق وقد أخذه القائل فقال:
لو يَدبُّ الحَوليُّ مِنْ ولد الذَّ ... رّ عليها لأندبتها الكُلومُ
والخارج أبلغ من المؤثر في حسنها فذلك أبلغ من قول أبي الطيب وأرجح لفظاً.
وقال المتنبي:
ذراعاها عَدُوَّا دُملجيْها ... يَظنُّ ضَجِيعُها الزَّندَ الضجيعا
لو ضاجع الفيل ما كان يجب أن يتخيل أن زنده ضجيع له وهذه مبالغة مع استحالتها غثة.
وقال المتنبي:
كأنَّ نِقَابها غيْمٌ رقيقٌ ... يُضيء بمنعه البَدْرَ الطُّلوعا
سرقه من قول بشار:
بَدا لكَ ضَوءُ ما انتقبت عليهِ ... بَدُوّ الشَّمس من خَلل الغَمامِ
فقال أبو الطيب يضيء لمنعه البدر الطلوع، والغمام لا يمنع البدر الطلوع بل يمنعه الظهور وهو طالع تحت الغمام وهي عبارة غير طائلة وفيها تسامح وكلام بشار أحسن كلاماً لأنه خبر بضوء نقابها من نور وجهها، وشبه وجهها بالشمس والنقاب بالغمام وقد وفى كلامه أقسامه، فكلام بشار أرجح وهو أولى بشعره.
وقال المتنبي:
أقُولُ لها اكشفي ضُرّيَ وقُولي ... بأكثر من تدَللها خُضُوعا
خاطبها يقول) أكثر من تدللها خضوعاً (يريد أن خضوعي أكثر من تدللها ولو كان لتدللها خضوع لكان قد أوقع الكلام موقعه ووضعه بموضعه، فإذا لم يكن ذلك وإنما شبه كثرة خضوعه بكثرة تدللها وكان يجب أن يقول تمثيلاً: وخضوع قولي أكثر من تدللها، فيكون الاعتماد على كثرة الخضوع المشبه بكثرة تدللها.
وقال المتنبي:
أخفتِ الله في إحياءِ نفسٍ ... متى عُصي الإِلهُ بأن أطيعا
يشبه قول الخبزأرزي:
ما حَرامُ إحياءُ نفسٍ ولكن ... قَتلُ نفسٍ بغير نفسٍ حَرَامُ
هذا يناسب قول أبي الطيب وقول الخبزأرزي أسهل كلاماً وأعذب نظاماً فهو أحق بمعناه.
وقال المتنبي:
غَدا بِك كلُّ خِلْوٍ مُستهاماً ... وأصبحَ كلُّ مَستُورٍ خَليعا
ليس هذا مما يلتمس له استخراج سرقة ولكن ذكرته لفساد صنعته لأن ضده المملوء لا المستهام والخليع ضد الناسك المستور ولو قال:
غَدا بك كلّ خلوٍ في اشتغال ... وأصبح كلُّ ذي نَسك خليعا
كان أجود لصنعته وكان طباقاً حسناً.
وقال المتنبي:
بَعيدُ الصَيتِ مُنبثُّ السّرايا ... يشيب ذكرهُ الطفل الرَّضِيعا
هذا كثير ولا يحقر أخذ شيء من المعاني فلا نحقر نحن إيرادها فمن ذلك قول بعض الأعراب:
وما شيبتني كبرة غير أنّني ... لدهرٍ لهُ رأس الوليدِ يَشيبُ
وقال إبراهيم بن المهدي:
إلا شغلتنا عنك يا أرو نكبة ... يَشيبُ لها قَبل الفطام وليدها
وقد يفارق الوليد الفطام والرضاع ويسمى وليداً فإبراهيم بن المهدي قد ضيق القول بقوله: قبل الفطام وليدها.
والرضيع أشد مبالغة والمعنيان متساويان فأبن المهدي أحق بشعره.
وقال المتنبي:
يَغضُّ الطّرف مِنْ مكرٍ ودهي ... كأنَّ به وليس به خشُوعا
من قول ابن الرومي:
ساهٍ وما تتقى سقطتهُ ... داهٍ وما يُنْطوي منهُ على ريبِ
فَدَهْيُهُ للدواهي الرُّبد يدرؤها ... وسهوه عن عُيوبِ الناسِ والغَيبِ
وقد قسم تقسيماً رجح به كلامه.
وقال المتنبي:
قُبولك مِنَّهُ مَنٌّ عليه ... وإلا يبتدئ يَرهُ فظَيِعا
صدره من قول أبي تمام:
يعطي ويشكُرُ مِنْ يأتيه يسألُهُ ... فَشكُرهُ عِوَضٌ، ومالُهُ هَدرُ
فصدر بيت أبي تمام كصدره، وباقيه عبارة غثة يسقط دون ما سرقت منه
ونصف بيت أبي تمام الثاني مفيد من تمام الأول فهو أرجح بذلك.
وقال المتنبي:
لهونِ المال أفرشَهُ أديماً ... وللتَّفْريقِ يكرهُ أن يضيعا
أي لهوانه عليه يبسط تخته أنطاعاً ليهينه على عفاته وطالبي عرفه، وقوله:) للتّفريق يكره أن يضيعا (أي لأنه يكره ضياع المال ليس لادخاره لنفسه ولكنه يجمعه ليفرقه كما قال ابن الجهم:
ولا يَجمعُ الأموال إلا لبذلَها ... كما لا يساقُ الهَدْيُ إلا إلى النحرِ
فخبر بنظير خبر أبي الطيب بكلام سهل ولفظ جزل ثم مثل المال بالهدي الذي يعنى بسوقه إلى النحر فزاد في كلامه ما هو من تمامه واستحق ابن الجهم شعره على من أخذ عنه.
وقال المتنبي:
إذا مدّ الأميرُ رقابَ قَومٍ ... فما لكرامةٍ مدّ النُّطُوعا
أنه لا يمد رقاب من يقتله لكرامة بل لهون كما أفترش المال أديماً فالمال ليفرقه والرقاب ليقطعها وهذه معان كان اطراحها أصلح له.
وقال المتنبي:
فليس بواهب إلا جزيلاً ... وليس بقاتلٍ إلا قريعا
يشبه معنى قول مسلم:
حَذار من أسدٍ ضرغامةٍ بطلٍ ... لا يولغُ السيف إلا هامةَ البطَلِ
فقد خبر أبو الطيب بخبرين من المدح عن الممدوح فخبر بالسخاء والشجاعة فزاد على مسلم ورجح كلامه فصار أولى بما أخذ.
وقد حكى أنّه كان في عسكر الأمين حبشي بأبيات ويرمي بمقلاع معه يخاطب بالأبيات طاهر بن الحسين ويقول:
دُونك الرمية يا طاهر ... مِنْ كفِ ابن حبيش
حَبشي يَقتِل الناس ... على قطعة خيش
مرتد بالشمس راض ... بالمنى من كلّ عيش
يَحمِلُ الحملة لا يق ... تل إلاّ رأس جيش
فلم يخبر إلا بقتله رأس الجيش ولأبي الطيب ورود معنيين من المدح يستحق على الشاعرين ما قالا لأنه أختصر معناهما في بيت واحد.
وقال المتنبي:
وليس مُودِّبا إلا بنصلٍ ... كَفى الصّمصامةُ التَّعبَ القطيعا
نبهه على هذا المعنى شريف بقوله:
فضع السيف وأرفع السوط حتّى ... لا ترى فَوق ظَهرِها أمويا
وقال المتنبي:
عليٌّ ليس يمنع مِنْ مجيءٍ ... مبارزَهُ ويمنعُهُ الرُّجُوعا
هذا من قول الفضل بن العباس الخزاعي:
لا يمنعُ الواردين الورد ما نَهلوا ... إلى اللقاء ولكنْ يمنع الصَدرا
وهذا يدخل في المساواة.
وقال المتنبي:
على قاتل البطل المُفدى ... ومُبدلُهُ من الزرد النجيعا
قوله) المفدى (ضيق عطن عن كلمة أجود منها ولو كانت المفدى في معشوق كان أولى منها في شجاع.
وقال المتنبي:
إذا أعوج القنا في حامِليهِ ... وجازَ إلى ضُلوعهم الضُّلُوعا
معنى) حامليه (: المطعونين وقال أبو الطيب بقول: كنت قلبه وأشبه في ضلوعهم الضلوعا والمحدث الذي ذكره البحتري والبيت الذي قيل له قوله:
في مأزقٍ ضنك تخالُ به القنا ... بين الضلوع إذا انحنين ضُلوعا
وأما تقبل حكاية أبي الطيب إذا لم يسرق من البحتري إلا هذا البيت وأما سرقته منه أكبر من العذر وأشد تواتراً من ذنوب الدهر ولكن أخذ منه كما عود الله وظن ذلك قد خفي فما خوطب عليه علم أنه بيت منكشف وما يأمن أن بيته على استشفاف شعره فيؤخذ فيه كثير فرجع عنه وغيره بما لا فائدة فيه إذ ليس غريباً من فعل القنا أن يجوز من جنب إلى جنب آخر، وكلام البحتري أرجح وهو أولى بما قال.
وقال المتنبي:
ونالت ثأرها الأكباد منهُ ... فأولتهُ اندقاقاً أو صُدُوعا
هذا كلام ينقض بعضه بعضاً بينا هو يخبرنا بجوازه من الضلوع إلى الضلوع وما كان بهذه الصنعة فهو سالم غير مندق ولا متصدع إذ أخبرنا أن الأكباد نالت ثأرها منه باندقاقه وانصداعه فإذا اندق وانصدع لم ينفذ إلى الضلوع التي بعدها والعجب أن هذا القنا صادم عظام الأضلاع فلم يصدعه ولم يدقه وجازها فلما صار إلى الأكباد الرطبة التي تلين ملاقاتها عليه اندق وأنصدع ولو تأتى له أن يقول:) ونالت ثأرها الأيدي) من (الأكباد (لجاز أن يلحقه ذلك من مصادمة الأيدي إياها وهذا من قوله للتخريف وقلة التأمل.
وقال المتنبي:
وإن ماريتني فأركب حِصاناً ... وَمَثِّلْهُ تخرّ لهُ صَريعا
فقوله:) أركب حصاناً (من أغث عبارة كأنه لا يخر له صريعاً إلا فارس على فرس ولو رآه راجل ما خَرَّ له إلا أن يحتج محتج فيقول: إذا كانت هذه حال الفارس غنينا عن ذكر حال الراجل، وقد يكون الراجل أشجع من الفارس وأقتل للفرسان وهذه معان غير مستعملات وكلام ناقص ألما ولو قال فمثله يخر له صريعاً من غير ذكر ركوب الحصان كان أحسن وأعم للفارس والراجل وأحسن
من كلامه قول أبي تمام:
وإلا فأعلمهُ بأنك ساخطٌ ... ودعهُ فإنَّ الخوفَ لا شكَّ قاتلُه
فإن قلت ببيت أبي تمام في الخوف وهذا في الهيبة قلنا كلاهما غرضان يفعلان فعلاً واحداً، وكلام أبي تمام بغير حشو وهذا من استخراج معنى من معنى احتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
فَصَيَّرَ سَيْلُهُ بلدي غديراً ... وصَيَّر خيرُهُ سنتي ربيعا
نحا نحو الخبزأرزي:
فضيفُهُ في ربيعٍ طولُ مدّتهُ ... وجارهُ كلّ حين منهُ في رَجَبِ
فجعل ضيفه في ربيع من جوده طول زمانه وجعل جاره كل حين منه في رجب أراد في حمى من طالب الثأر لأن العرب في الجاهلية كانت لا تقاتل في الأشهر الحرم ولا تسقك دماً فكلام الخبزأرزي أرجح لأنه جمع بين الجودة والأمن في الخبر عن ممدوحه، وأبو الطيب ما خبر إلا عن سخاء الممدوح فقط.
وقال البحتري:
وكمْ لبستُ الخفض في ظلّهِ ... عُمري شبابٌ، وزماني ربيعُ
وهذا تقسيم مليح جاء فيه بمعنيين مفيدين كما جاء الخبزأرزي بهما، فهو أولى بالمعنى منه، وقال أبو هفان في ذكر الربيع:
لربيعِ الزّمانِ في الجَوْل وَقْتٌ ... وابن يَحْيى في كُلّ وقتٍ رَبيعُ
وقال المتنبي:
أمنسيَّ السكون وَحَضْرموتا ... وَوالدتي وكِنْدَةَ والسَّبيعا
حصول والدته بين هذه القبائل غير مستحسن وكان ينبغي أن لا يخرج عن ذكر قبيلة مكان والدته والمعنى الذي قصده غير مفصح عن إرادته لأنه لم يذكر السبب في نسيانه من نسي.
وقال البحتري:
جَفُوتُ الشَّأمَ مُرتبعي وأنسي ... وعلْوةَ جَنتي وهوى فُؤادي
ومِثلُ نَداكَ أذْهلني حبيبِي ... وأكسبني سُلّواً عنْ بِلاَدي
فبيّن سبب نسيانه وخبرنا عن سلوانه فأوضح وأرجح فهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
إِذا ما لمْ تُسِرْ جيشاً إِليهمْ ... أسبرْتَ إلى قُلوبِهم الهُلُوعا
هذا يقرب من قول أبي تمام:
لمْ يسر يوماً ولمْ ينهدْ إلى بلدٍ ... إلاّ تقدّمهُ جيشٌ من الرُّعبِ
وهذا يدخل في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
رَضُوا بك كالرضى بالشَّيبِ قسراً ... وقد وخَطَ النَّواصي والفُرُوعا
أما صدر هذا البيت فجيّد المعنى، وهو ينظر إلى قول مخلد الموصلي:
أراكمْ تنظرونَ إِليَّ شُرزاً ... كما نظرتْ إلى الشيبِ الملاحِ
تَحدون العيونَ إليَّ شُزراً ... كأنّي في عيونكمْ السماحِ
وعجزه حشو لأن المعنى: رضوا بك كالرضى بالشيب فلو ظهرت منه شيبة واحدة لمقتها من يلحظها وقد قال بشار:
يَحبوني ودّي كأنّي ... شيبةٌ بين فروقه
ولا فرق بين شيبة وشيب، وإنما كانت الشيبة بحدوثها بعد أن لم تكن أشد ترويعاً.
وقال المتنبي:
فَلا عزلٌ وأنتَ بلا سلاحٍ ... لِحاظك ما يكونُ به مَنيعا
أي فلا عزل بك وأنت بغير سلاح لأنك بلحاظك منيع، وهذا لفظ قصير عن إرادة قائلة وهو مأخوذ من قول بعض الموسوسين وهو مجنون ديرزكى:
لحظاتُ طرفك في الوغَى ... تُغْنِيكَ عَنْ سل السيُوف
وعَزيمُ رأيك في النُّهى ... يَكْفيكَ عاقبة الصُّرُوفِ
وسُيولُ كفّك في الوَرى ... بَحْرٌ يفيضُ على الضَّعيف
ذكر عن أبي نواس أنه قال: مدحت الرشيد بقصيدة فقصدته لأنشده إياها فوجدته راكباً فاعترضته فإذا بمجنون ديرزكا قد أخذ بلجامه ثم أنشده الأبيات المقدم ذكرها ثم قال له أعطني ألف درهم فقال له الرشيد: ما تصنع بها فقال: أكل بها زبداً وتمراً فأمر بدفعها إليه فرجعت والله عن إنشاده لأنه لم يكن في شعري ما يفي بأبيات المجنون.
وقال المتنبي:
لو استبدغْتَ ذهْنكَ من حُسامٍ ... قَددْتَ به المغافِر والدُّرُوعا
هذا ينظر إلى قول القائل: -
نظرتُ إليها نظرة لو حشوتها ... سَرابيلَ أبدانِ الحديد المُسَرّدِ
لقضتْ حَواشِيها وذابتْ بحرِّها ... ولانتْ كما لانتْ لَداود في اليدِ
قال أبو محمد: هذا مما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
وَهَبْكَ سَمحْتَ حتى لا جَوادٌ ... فكيفَ علوْتَ حتّى لا رَفيعا
قوله: وهبك سمحت حتى لا جواد لم أستغرب ألا يكون جواد يقاس به ولم يجوز أن يكون رفيع أرفع منه وسبب رفعته ما خبرنا به بأنه لا جواد يشاركه في جوده. ويليها قصيدة أولها:
أحقُ عافٍ بدمعِكَ الهممُ ... أحْدثُ شَيء عَهداً بها القِدَمُ
ينظر إلى قول البحتري:
بكى آماله لمَّا رآها ... عِياناً وهي دراسةُ الرُّسُومِ
يقول فيها:
إِني وإنْ لمتُ حاسديَّ فما ... أنكُرُ أني عُقوبةٌ لهُمُ
هذا يشبه قول أبي زرعة:
ومالتْ حسادُ الأميرِ وقَدْ رأوا له ... فوق أعناقِ المكارمِ معرْسا
وقال المتنبي:
وكيفَ لا يحسدُ إمرؤ عَلَمٌ ... لَهُ على كُل هامةٍ قَدَمُ
معناه موجود في قول ابن دريد:
والناسُ فوق رؤوسهم أقدامنا ... لا ينطبقُ الأقوام ما لمْ تَنْطِقُ
فجاء في صدر البيت بالمعنى وجاء في عجزه بخبر يدل على الهيبة فقد رجح كلامه بزيادة على المتنبي فهو أحق بشعره.
وقال ابن دريد:
وعامر أوطأ هَاماتِهم ... أخمص مِلك فرعه الأطول
قال ابن المعتز:
أسلم وعشْ أبداً وغِظْ ... حسداً وَبِهَامِ مَنْ عاديت فأنتَعِل
وهذه معان يتساوى في المبنى والمعنى فالسابق أحق بها.
وقال المتنبي: كفاني الذّمَّ أنّني رجُلٌ أكرمُ مالٍ ملكتُهُ الكَرمُ هو مأخوذ ممن قال:
ليس لي مالٌ سوى كَرمي ... فيهِ ليأمن مِنْ العدمِ
وهذا البيت من أبيات أذكرها بجملتها لجودتها تلي البيت الأول:
لا أقولُ اللهُ يظلمني ... كيف أشْكو غير مُتهمِ
قنعتُ روحي بما رزقت ... وتمطتْ في العُلا هِمَمي
ولبستُ الصبرَ سابغة ... فَهي من قُرني إلى قدمي
هذا كلام مليح لو لم يكن في الأحسن الاستعارة في) تمطت في العلا هممي (وقد أتى ببيت أبي الطيب في مصراع وزاد في كلامه ما هو من تمامه فهو أحق بما قال.
وقال المتنبي:
يَجْني الغنى للئام لو عَقَلُوا ... ما ليْس يَجْني عليهم العَدمُ
لو أمكنه على في أول البيت لكان أحسن ليعتدل الكلام في النصفين
والمعنى من قول الحصيني:
وما الفقرُ بالإِقلالِ إنْ كنت قانعاً ... ولكنْ شحَّ النفس عندي هو الفقرُ
فمعنى بيت أبي الطيب أن جناية الغنى عليهم أكثر من جناية الفقر وفسّر العلّة في ذلك فقال:
همُ لأموالهم وليس لَهم ... والعارُ يبقى والجرحُ يَلْتئمُ
معناه أنهم يخدمون أموالهم ولا ينتفعون منها لبخلهم فكأنها ليست لهم ويبقى عليهم العار وهو الجرح الذي لا التئام له، وقد جاء مراده في بيتين فأما قوله:) والعار يبقى والجرح يلتئم (فمأخوذ من قول امرئ القيس:
ولوْ عن نثا غيره جَاءني ... وجرحُ اللّسانِ كجرح اليَدِ
فتبعه الحطيئة فقال:
وجرحُ السيفِ ينمى ثُمَّ يعفو ... وجرح الدهرِ ما جرح اللسانِ
وقال صالح بن جناح:
فإِنك ما يخرج لسانك لا تعدْ سل ... يماً وما يجرجُ بكفّك يَسلَمُ
ولصالح أيضاً:
إِنَّ جرح القول لا يبرأ وقَدْ ... يَبرأ الكلمُ إِذْ السيفُ جرح
وجميع هذه الأبيات أحسن صنعة من بيته لأن جميعها سمي القول فيه جرحاً ثم شبه جرحاً بجرح أحدهما حقيقة والآخر استعارة، وأبو الطيب ذكر العار ولم يذكر جرحاً فصنيعتهم أجود.
وقال المتنبي:
ويعرف الأمر قَبْلَ موقعه ... فما لهُ بعَدَ فعله نَدَمُ
هذا من قول إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
بصيرُ بعورات العواقبِ لا يرى ... على سقطةٍ من رأيه متندّما
أسكن عورات ضرورة، وقال أبو تمام:
وكمْ من يدٍ أسديتها وملمةٍ ... فرجتَ فلم يقرع بها سنُّ نادمِ
وال ابن الرومي:
لك الرأي إِنْ تُورده لا تلفْ نادماً ... يعض على إصداره باباهِم
بيت إسحاق هو بيت أبي الطيب مبنى ومعنى من غير زيادة وأبو تمام يخبر عن كرم وشجاعة وجزالة رأي وليس في بيت أبي الطيب غير جزالة رأيه فيما يفعل فهو يعرف الشيء قبل ركوبه فلا يندم فهو أحق بالزيادة، وابن الرومي يساوي
أبا الطيب وله من ذكر الإيراد والإصدار طباق له به فضل وقد شرك البحتري ابن الرومي في الطباق والمعنى فقال:
مُدبرُ رأيٍ ليس يوردُ عَزْمَهُ ... فيقرعَ في إِيرادهِ سنَّ نادِمِ
وقال المتنبي:
يُرعيكَ سمعاً فيه استماعٌ إلى الدَّا ... عي وفيه عَنْ الخنا صَمَمُ
هذا من قول القائل:
غائبُ السمعِ إذا قِيلَ خَنا ... وإِذا ناداهُ عافٍ سَمِعا
ولإسحاق بن إبراهيم:
إِنْ ذكر الخير عِنْدهم إِذْ ... نواله وفيهمُ عن الخَنا صَممُ
وقال ابن الحاجب:
أصمُّ عَنْ عذل عاذليه فأمّا ... عَنْ سؤالِ العافيّ فغير أصمّ
فهذه معان متساوية لا زيادة في شعره عليها والسابق أحق بها.
وقال المتنبي:
ملتُ إِلى منْ يكادُ بينكما ... إِنْ كنتما السائلين يَنقسمُ
هذا كلام قليل الإفادة ناقص عن الإرادة ابتدأ بيته لم يجد لصاحبيه قبل ذلك ذكر وذكر أنه ينقسم إن كنتما السائلين ولو نكر السائلين كان أطبع في الشعر وكان يجب أن يقول إن كنتما سائلين في انقسامه فهو ينقسم وليس هذا
من المبالغة الحلوة، وقول مسلم:
يجودُ بالنفسِ إن ظنّ الجوادُ بها ... والجودُ بالنّفسِ أقْصى غاية الجودِ
ومعناه أنه لو سأله أن يهب له نفسه لدفع ما يخافه عليها لبذل ذلك له، وهذا من صفات الكرام الشجعان ومن هذا قول القائل:
ولو لمْ يكنْ في كفّه غير نَفْسه ... لجادَ بها فَلْيتّقِ اللهَ سائِلُهْ
هذا مذهب حسن يقول: لو كانت نفسه مما يجوز أن تكون في كفه لتعوده بذل ما في كفه وسبيل لإجرائها مجرى الموهوبات ولم يخرج عن عادته إلى المنع فهي مبالغة مليحة، فأما سؤاله أن ينقسم بين السائلين فقد دخل عليه ضرر، ألا ينتفعان به وإطلاق اللفظ في قول مسلم أنه يجود بنفسه في المكارم والمعالي واكتساب الشكر وبقاء الذكر أحسن من قول أبي الطيب) يكاد (.
وقال المتنبي:
مِنْ بعد ما صِيغَ مِنْ مواهبه ... لمنْ أحبَ الشّنوف والخَدمُ
فتخصصه من أحبَ بالشنوف والخدم ولم يجعل ذلك عاماً، فيه بعض النحل ولعله قصد أن يهب من يحبه أبو الطيب ما يصاغ منه الشنوف والخدم حتى افتقر الممدوح، فلو سألتماه عطاء كان ينقسم بينهما وجملة هذا المعنى لا خير فيه.
وقال المتنبي:
بنو العفرني محطة الأسَد ال ... أُسد ولكن رِماحُها الأجَمُ
قال العكوك:
كأنّها والرّماحُ شابكةُ ... أسْدٌ عليها أظلَّتِ الأجَمُ
فالمعنى والمبنى متساويان، وقال أبو تمام:
آسادُ موتٍ مخدراتٌ مالها ... إِلاّ الصّوارِمَ والقَنا آجامُ
وقال المتنبي:
قومٌ بُلوغ الغُلامِ عندهَمُ ... طعْنُ نُحور الكُماةِ لا الحُلُمُ
قال أبو دلف:
علامةُ القومِ في بُلوغهِمُ ... أنْ يرضعوا السيفَ هامةَ البطلِ
وقال يحيى بن زيد بن علي:
خَرجْنا نقيمُ الدّين بَعْد أعْوجاجهِ ... سوياً ولمْ نخرُجْ لكسب المالِ
إِذا أحكم التَّنزيلُ والحِلْمُ طفلنا ... فإِن بلوغَ الطّفلِ ضرُب الجَماجمِ
وهذا يدخل في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
كأنّما يولدُ النّدى مَعَهمْ ... لا صِغر عاذر ولا هَرمُ
هذا ينظر إلى قول أبي تمام:
أنا ابن الذينَ أستُرضعَ المجد فيهمُ ... وربّى فيهمْ فهو ناشٍ ويَافعُ
قال يزيد بن محمد المهلبيّ:
قومٌ يسرون ما يولونَ من حُسن ... حتى كأنّهمْ إِنْ أحسنوا احْترموا
فبيت أبي الطيب فيه صفتان وتطبيق إن كان أراده فقد قصد فيه لأن ضد الكشف التغطية والكتمان للإعلان وبيت المهلبي وإن كانت فيه صفة واحدة فقد زاد في كلامه ما هو من تمامه فزيادة الصفة بالزيادة في المعنى، فهو أحق بما قال.
وقال المتنبي:
تظن من فَقْدِكَ اعْتدادهُمُ ... أنّهمُ أنْعموا وما عَلِمُوا
هذا إن شاء مدخل أن يدخله في الهجاء أدخله لو كان قال إنهم قد نسبوا الذي فعلوا في غير هذه القافية لأصاب فأما توهمه أنّهم أحسنوا وما علموا فقد جوّز عليهم فساد الحسن وبلادة الذّهن في قلة علمهم بما صنعوا، ويدخل ذلك في
قول أبي القاسم الأعمى في الحسن بن وهب يهجوه:
إِنّ ابن وهب مُحيل في تناهيه ... ما كانَ يدري أأعطى المال أم حَرما
لكنّها خطرات مِنْ وساوسه ... يُعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما
والجيد الذي قد يحترز منه قول منقذ بن عبد الرحمن الهلالي:
لا تنكرن في صنيعةٍ سَلَفَتْ ... مِنكَ وإنْ كُنت لَست تُنكرها
عند امرئ أنْ تَقول إنْ ذكرت ... يوماً من الدهر لست أذكرها
فإِن أحياها أماتها و ... إن منّ بها يكدّرها
ويقرب من قول الخريمي:
زادَ معروفك عِنْدي عظماً ... أنّهُ عِندكَ مَستورٌ حقيرُ
تَتناساهُ كأنْ لمْ تأتهِ ... وهو عند الناسِ مَشْهورٌ خَطيرُ
أمر الهلالي بأن لا يظهر تلك الصنيعة وإن كنت ذاكراً لها من طريق الكرم والأدب، ولم يطلق عليهم أنّهم قلة يحسنون ولا يعلمون. وقال الخريمي: أنت تتناسى المعروف كأنك لم تأته تناسياً لأنه يأتي الجميل ولا يعلم وإذا كان معنى المتقدم أصح وأرجح فهو أولى بما قال وسبق إليه.
وقال المتنبي:
أو حلفوا بالغُموس واجْتهَدوا ... فقولهم:) خابَ سَائلي (القَسمُ
المليح من هذا البيت أن الغموس من الإيمان وهي التي تغمس صاحبها في الإثم أن يقول:) خاب سائلي (وهذا المعنى موجود في قول الأشتر:
وفَرتُ وفري وانحرْفتُ عن العُلا ... فلقيتُ أضْيافي بوجْهٍ عَبُوسِ
إِنْ لمْ أشُنَّ على ابن هندٍ غارةً ... لم تخلُ يوماً من ذهاب نفوسِ
خيلاً كأمثالِ السعالي شُزباً ... تعدو ببيضِ في الكريهةِ شُوسِ
حمى الحديدُ عليهمْ فكأنَّهمْ ... لمعانُ برقٍ أو ضياءُ شُموسِ
فقسمه في هذا الضروب من المكارم أرجح من قسم من مدحه أبو الطيب في الكرم.
وقال المتنبي:
أو شَهِدوا الحرب لاقحاً أخَذوا ... من مُهجِ الدارعِينَ ما احْتَلموا
وهذا يقرب من قول ابن المعتز في كلاب الصيد:
إِنْ أطلقت من قدِّها لم ترها ... إِلاّ وما شاءت من الصيدِ لَها
وقال المتنبي:
تُشْرق أعراضُهُمْ وأوجههُمْ ... كأنّها في نُفوسِهمْ شِيَمُ
يشبه قول الحسين بن دعبل:
أما تَرى غرة النيروز مشرقةً ... كأنَها بعض ما تُسديه مِنْ كَرمِك
وقال المتنبي يصف البحيرة:
فهي كماويَّةٍ مطوّقةٍ ... جُرّد عنها غَشاؤها الأدمُ هذا مولد من قول بعض الأعراب:
كأنّ هُلاله مرآة قَين لَها ... شطرُ يلوحُ مِن الغلافِ
وهذا من استخراج معنى من معنى أحتذي عليه، وإن فارق ما قصد به إليه، شبه أبو الطيب البحيرة بالمرآة، والروض بغشاء الأديم، وشبه هذا الهلال الذي هو دون كمال ببعض امرأة تبدت من غلافها، وكلاهما تشبيه حسن.
وقال المتنبي:
أبا الحسين أستمعْ، فمَدحكمُ ... في الفعلِ قَبْل الكلامِ مُنْتظِمُ
هذا من قول ابن الرومي:
لو سكتَ المادحونَ لأجتلب ... المدحُ له نفسه ولا انْتظما
وهذا يدخل في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
أعِيذكُم من صُروفِ دَهْركُم ... فإِنَّه في الكِرامِ مُتَّهَمُ
قال ابن أبي فنن:
أودى الزمان بإِخواني ومزّقهم ... إِنَّ الزمانَ على الإِخوانِ مُتّهمُ
وقال الحصني:
ما زلتُ قيه لريب الدهر متهماً ... إِنَّ الزمانَ على الأحرارِ مُتهَمُ
وبيت الحصني أملح الأبيات لأنه قد ردّ أعجاز الكلام على صدوره
والأحرار أرجح من الإخوان) والكرام أرجح منهما (فهو أرجح كلام منهما وأولى بما سبق إليه.
يليها قصيدة أوّلها:
دمع جرى فقضى في الرّبع ما وجبا ... لأهله وشفى أنّاً ولا كربا
سرق هذا البيت من الوائلي وكانت معاملته متصلة في أخذ معانيه وذلك قوله:
سأشكر الدمع إنّ الربع كان له ... حقٌّ فقام له عند نَواجيه
وقال المتنبي:
عجباً فأذهبَ ما أبقى الفراقُ لنا ... من العُقُول وما ردَّ الَّذي ذَهَبا
ما طلب الباقي لم يردّ الماضي، وفي هذا الشعر شبيه بما أنشد فيه أبي رحمه الله قال: أنشدنا أبو الحسن جحطة وهو:
يا كبدُ أفنى الهوى جَلهاً ... مِنهُ بالذاعِ وإحراقِ
حتّى إِذا أنفسها ساعة ... كَرتْ يدُ البينِ على الباقيِ
وكأن البين أخذ ما بقي فيها يقارب المعنى والكلام أعذب من الكلام وإن كان أبو الطيب قد اختصر وجاء ببيتين في بيت واحد فنحن نجعل عذوبة اللفظ بازاء الاختصار والسابق أولى به وقال المتنبي:
سَقيتُه عبراتٍ ظَنّها مطراً ... سَوائلاً من جُفُونٍ ظَنَّها سُحُبا
الربع لا ظن له ولا يقين استعارة والمعنى من قول أبي تمام:
مطرٌ من العبرات خَدِّي أَرضُهُ ... حتَّى الصَّباحِ ومقلتاي سَماؤُه
فذكر الدموع وموقعها، وأين تقع، فَوَفّى الكلام أقسامه، ولم يذكر أبو الطيب إلا العبرات والجفون الذي يدل على المورد ولم يذكر المصدر وهذا ذكر المورد والمصدر فرجح وزاد في المعنى ما هو من تمامه.
وقال المتنبي:
ناءيتُه فَدنى، أدْنيتُه فَنأى ... جَمَّشتُهُ فَنبا، قَبلته فأبَى
قوله:) قبلته فأبى (إنما كان يجب أن يقول أردت تقبيله فأبى فيشتق وقوع الفعل للإباء، ولو قال قائل وقع يريد الضرب فأمتنع لم يكن كلام له حقيقة إنما الكلام أريد ضربه فأمتنع ولكنه على المجاز والتسامح يجوز وقد قال ابن بسام:
فأشربُ على الوردِ مِنْ وَرديةٍ عَب ... قتْ كأنّها خَدُ ريمٍ ريْمَ فأمتنعا
فقد أجتمع في هذا البيت مجانسة مليحة وألفاظ صحيحة فهو أرجح كلاماً من كلامه.
وقال المتنبي:
هامَ الفؤادُ بأعرابيةٍ سكنتْ ... بيتاً من القلبِ لمْ تحدد لهُ طُنُبا
أما معنى: سكنت بيتاً من القلب فكثير، من ذلك قول أبي تمام:
متى أنتَ عن ذُهْلِيّةِ الحَيِّ ذاهِلُ ... وصَدْركَ مِنْها مُدَّة الدَّهْرِ آهِلُ
فخبر عن سناها صدره وقال الآخر:
شطَتْ منازلُ مَنْ في القلبِ منازله ... وحلّ في كبدي ما لشيب أحْمِلهْ
ظَبيٌ تسبّب لي هجراً بلا سببٍ ... قَدْ حرم الله ما مني يحلَلهْ
هذا هو المستعمل فأما بيت من) في (القلب بلا طنب فغير مفيد.
وقال المتنبي:
مظلومةُ القدّ في تَشبيهه غُصناً ... مظلومةُ الرّيق في تَشبيههِ ضَرَبا
مظلومة لفظة مليحة، وقد قلت أنا في معناها:
تجاوزَ الإِسرافَ في ظْلمهِ ... حتى لقدْ هَمَّ بإِسْرافهِ
فثغرهُ مظلومٌ مِسواكهِ ... وَخصره مظلومٌ أردافهِ
مِنْ ظْلمه جار على نَفْسِه ... كيف أرجِّي حُسْنَ إِنصافهِ
وقد قال ابن الجهم:
إِذا نَحْنُ شبَّهناك بالبدر طالعاً ... بَخسناكَ حظّاً أنت أبهى وأجْملُ
ونظلمُ إنْ قسناك بالليثِ مرّةً ... فإِنّكَ أحمى للحريمِ وأبْسَلُ
وقال آخلا:
قالت ظلوم وما جارتْ ولا ظلمت ... إنّ الذي قاسني بالبدر قد ظلما
وهذا البيت فيه من أسمها وفعلها مجانسة مليحة أو قد حشا البيت حشواً حسناً من قوله:) ما جارت ولا ظلمت (وهذا من الحشو السديد في المعنى المفيد وشاعره أحق به.
وقال المتنبي:
بيضاءَ تُطمعُ فيما تحت حُلَّتِها ... وعزَّ ذلك مطلوباً إِذا طَلبا
هذا يشبه قول القائل:
سألتكَ حاجة فَأَجَبْتَ عنها ... بأسرع ما يكون من الجوابِ
فلما رمتها رمت الثريا ... وأبعدُ ما يكون من السحابِ
وهذا المعنى غير أن المتنبي قد جاء باللفظ الطويل في الموجز القليل
فهو أحق به ويشبه هذا أيضاً.
تحسبن من لين الحديث ذوائباً ... ويصدهن عن الخنا الإِسلام
وهذا البيت يدخل في قسم التساوي.
وقال المتنبي:
كأنّها الشّمسُ يُعيي كفَّ قابضِهِ ... شُعاعُها، ويراه الطَّرف مُقْتربا
هذا مأخوذ من جماعة منهم ابن أبي عيينة قال:
فقلتُ لأصحابي هي الشمس ضَوؤها ... قريبٌ ولكن في تناولها بُعْدُ
وقال آخر:
فأضحت مكان الشمس يقرب ضوؤها ... ويا بعدها عن ملمس المتناول
وقال المتنبي:
هي الشُمس يغشاني سُناها وَضوؤها ... ويعجز لمسي حين يطلبُها لمسي
وقال البحتري:
دانٍ على أيدي العُفاةِ وشاسعٌ ... عن كل ندٍّ في الورى وضريب
كالبدر أفرط في العلوّ وضوؤُه ... للعُصبة السارينِ جدُّ قريبُ
وأعاد المعنى فقال:
دنوت تواضعاً، وبعدت قَدْراً ... فشأناك: أنحدار وأرتفاعُ
فذاك الشمس تُبعدُ أن تُسامى ... ويدنو الضوء مِنْها والشُّعاعُ
وجميع هؤلاء في المعنى أشعر منه لأن جميعهم جعل القرب للضوء والشعاع والبعد للجرم يقرب ضوؤها ويبعد لمسها والضوء عرض والشمس جرم لا يقع إلا على الأجسام، وأبو الطيب تعجب من عجز القابض شعاعها، ومن توهم أن الشعاع مما يمكن قبضه فهو مختل وهذا من رجحان كلام المسروق منه على كلام من أخذ عنه.
وقال المتنبي:
مَرّتْ بنا بين تربيها فقلت لها ... من أين جَانَسَ هذا الشَّادِنُ العَربَا
سؤاله لها: من أين جانس هذا الغزال العرب يشبه قول الحسين العرجي:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي مِنْكنَّ؟ أمْ ليلى من البَشرِ
ثم أتبع أبو الطيب بقوله:
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشَّرى وهو من عجلٍ إِذا انتسبا
هذا من الخروج المليح إلى ما أراد من المديح ولا تعرفه الأعراب إنما قولها دع ذا وامدح فلاناً وقد تقدم أمثلته من أشعار المحدثين يساوي هذا.
وقال المتنبي:
لو حلَّ خاطرهُ في مقعدٍ لمشى ... أو جاهلٍ لصحا أو أخْرسٍ خطبا
أما صدره فينظر إلى قول القائل:
ومقعدُ قومٍ قد مشى من شرابنا ... وأعمى سقيناه مليّاً فأبصرا
فقوله:) أو جاهل لصحا (كان ينبغي أن يقول أو سكران لصحا أو جاهل لعقل فأما قوله:) أو أخرس خطبا (فكلام بليغ لأنه لو قال: أو أخرس نطق كان جيداً فأما خطب فنهاية لأنه ليس كل ناطق خطيباً وهذا المعنى موجود في قول ابن الرومي:
دعا الناس حتى أسمع الصمَّ لفظه ... وأنْطق حتى قال فيه الأَخارسُ
وهذا البيت قد شتت شمله من فرق جمعه على بيتين أحدهما المتقدم، وهو:) لو حل خاطره في مقعد لمشى (
والثاني بيت له آخر آخره) وأسمعت كلماتي من به صمم (فصار مقسم الجملة وإن كان لأبي الطيب بالخطابة زيادة يستحق بها المعنى.
وقال المتنبي:
إِذا بدا حجبت عينيك هيبته ... وليس يحجبه ستر إِذا احتجبا
ذكر أنه يحجب العيون عن رؤيته بالهيبة ولا يحجبه الحجاب لنور وجهه وقد قال مسلم:
حجبُ العيون فما يكادُ يبينه ... مِنْ وجههِ الإِهلال والتكبيرُ
فما زاد عن ذكر الهيبة، ولأبي الطيب رجحان يذكر معنى النور، وقد ولد هذا البحتري فقال: فأراني دونه الحجاب فما تستر عنهم آلاءه حجبه فالبحتري يقول: إنه محتجب غير محتجب الآلاء، وذكر أبو الطيب أنّه محجوب بالهيبة غير محجوب لنور وجهه فهذا من استخراج معنى من معنى أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه وقال المتنبي:
بياضُ وجٍ يريكَ الشمس كالحةً ... ودرُّ لفظٍ يريك الدُّرَّ مخْشَلبا
جعل أبو الطيب كلام العامة لغة وأصلاً يبني عليه ويستند إليه أي عربي عرف المخشلب قط وفي أي شعر ورد الفصيح أو مولد حتى يجيز له.
وقال المتنبي:
عُمْرُ العدوّ إِذا لاقاهُ في رهجٍ ... أقلُّ من عُمْرِ ما يحوي إِذا وهَبَا
هذا بيت كثير الحشو لأنه إذا ذكر اللقاء فقد وجب أن يقل عمره إذا لاقى الممدوح وكان في رهج أو ضده، وجعل عمر ماله قليلاً بشرط وهو أن يهب وكان إمساكه عن أن يقول إذا وهب أعمّ وأتمّ لأنه يدل على بقاء ما يحويه كل زمان وعلى ضيّة في كل أوان إلا في الحين الذي يسخ له أن يهبه فهذا حشو غير مفيد ولا معنى سديد، والمعنى موجود في قول الوائلي:
إِنْ سمته كفر نعمى لا بقيتُ إِذاً ... إِلاّ بقاءَ لُهاهُ أو مُحَاربه
اللهم لا يكون إلا من مال فكأنّه قال: إلاّ بقاء ماله أو محاربه. فقد جمع المعنيين في عجز بيته فصار بالاختصار أولى بما قال.
وقال المتنبي:
تَوقَّه فمتى ما شئت تبلوَهُ ... فكُنْ مُعَاديهُ أو كُنْ لَهُ نَشَبا
هذا تكرير لمعنى الوائلي وفيه إلمام بقول مسلم:
تَظّلمَ المالُ والأعداءُ من يدهِ ... لا زالَ للمالِ والأعداءِ ظلاّما
وقال أبو نواس:
ليتَ من كان عَدُوي ... كانَ لإِْبراهيمٍ مالا
هذا المعنى يقارب قول مسلم غير أن في بيت أبي نواس ضعفاً في نظامه وركاكة في كلامه، وبيت أبي الطيب أجزل وأفصح وأوفى وأرجح.
وقال المتنبي:
تَحْلو مذاقتُهُ حتى إِذا غَضَبا ... حالتْ فلو قطرتْ في الماءِ ما شَرِبا
جعل المذاقة تقطر وهي من عذوبة ألفاظه وهذا من الاستعارات وهو يشبه القائل:
لو أنْ ما تبتلني الحادثاتُ به ... يصبُّ في الماءِ لم يشرب من الكَدرِ
وقال ابن الرومي:
حلا لشفاه الذائقين وأنَّهُ ... على لَهواتِ الآكلين لَعلْقَمُ
وقال المتنبي:
وتغبطُ الأرضَ منها حيثُ حلَّ به ... وتحسدْ الخَيْلُ منها أيَّها رَكِبا
عجزه عن قول علي بن الجهم:
وتَطْربُ الخيلُ إِذا ما علا ... مُتونَها، فالخيلُ تَسْتبشرُ
ونظر صدره إلى قول أبي تمام:
مَضى طاهرُ الأثوابِ لم تَبْق روضةٌ ... غداة ثَوى إِلاّ اشْتَهت أنّها قَبْرُ
غير أن أبا الطيب اختصر في بيت ما ورد في بيتين فهو بالاختصار أولى، وقال ابن دريد:
ومَنْ له تَخْشع الملوك ومَنْ ... تزهى به الخيلُ حين يركبُها
وقال المتنبي:
وكُلمّا لقي الدِّينارُ صاحِبُه ... في مِلْكه افْترقا من قبل يَصْطحبا
هذا يدل على أن الممدوح لا يجتمع عنده مال يجود به حمله إنما يفرق ديناراً دينارا وإنما يفرق
ديناراً دينارا لأن الدينار يفارق صاحبه قبل الصحبة، والعجيب أنه خبر بلقاء الدينار للدينار وسماه صاحباً له، واعلم بافتراق بتقدم الصحبة، وكيف يسمى صاحباً من لم يصحب وكيف يجتمع اللقاء والفراق في حال واحدة، وأصح من هذا قول مسلم:
تأتي البُدور فتُقنيها ضائِعُه ... وما يُدنّسُ منها كَفُّ مُنْتقِد
لا يعرف المال إِلا عند ناقله ... ويوم يجمعه للنِّهْبِ والبرد
وواهب البدور المجتمعة أجود من واهب الدينار بعد الدينار وقد دلّ بقوله:) لا يدنس منها كف منتقد (، لأنه إنما يأمر بنقدها ليخبرها وهي عند مجيئها توهب فلا معنى لنقده وزاد) بأنه (بقوله: -) لا يعرف المال إِلا عند ناقله (.
وذكر أنه يجمعه ليبدده فذهب إلى معنى قول ابن الجهم:
ولا يجمعُ الأموالَ إِلاّ لبذْلِها ... كما لا يُساق الهَدْيُ إِلاّ إلى النحر
وقال النضر بن جؤيه:
قالتْ طريفةُ ما تبقى دَرَاهِمُنَا ... وما بنا سَرفٌ فيها ولا خُرُقُ
إِنّا إِذا اجتمعتْ يوماً دَراهُمنا ... ظلّت إلى طُرقِ المعروفِ تَسْتَبِقُ
فذكر اجتماعاً يقع بعده تفريق وذكر أنها تستبق إلى طرق المعروف فاحتاط لأنها قد تنصرف في تبذير وشهرة محرمة ولم يحتط أبو الطيب فكلام ابن جؤية أرجح فإن قال قائل قد قال بعد هذا:
ما يسكنُ الدرهمُ المنقوش صُرَّتنا ... إلا يمرُّ عليها ثُمّ ينطلقُ
قيل له قد خبر عن الدرهم أنه قد يسكن صرته فقد قارب معنى أبي الطيب لأنه يريد الجنس لقول العرب قل الدينار والدرهم في أيدي الناس فيكتفي بالواحد الدليل على جنسه من الجمع فهذا مراده، فإن قال قائل: كيف يكثر عندهم ما ليس في صرّتهم، قيل لهم جمع المال في الصرار يصلح للاقتناء وإنما يريد أن المال إذا جاءهم فرّقوه لوقته قبل ذلك.
وقال المتنبي:
مالٌ كأنَّ غُرابُ البينِ يَرقُبهُ ... فكلّما قيلَ هذا مُجتدٍ تَعبا
قال بعض النحويين المحققين بتفسير كلام أبي الطيب: إن معنى هذا البيت أن غراب البين متصل الصياح كاتصال عطاء هذا الممدوح وليس النحو من صناعة الشعر، وإنما يقع على معاني الشعر فطن الذهناء وتستخرجه قرائح العقلاء كما قلت أنا في بعض النحويين:
عليك بالنحو لا تعْرضْ لصنْعِتنا ... فإِنَّ شِعْركَ عِنْدي أشْهَرُ الشُّهرِ
لوْ كان بالنّحو قولُ الشَّعرُ مكتسباً ... كانَ الخليلُ به أحْظى من البشرِ
وإنما أراد أبو الطيب: أنّ غراب البين إنما ينعب لفراق، فإذا رأى الغراب
مجتدياً علم أنّ أبياته سبب لفراق المال فنعب لذلك، وليس ما ذهب إليه النحوي بشيء.
وقال المتنبي:
هَزّ اللّواءَ بَنُو عجلٍ به فَغَدا ... رأساً لهمْ وغدا كلٌّ لهُمْ ذَنبا
هذا من قول الحطيئة:
قومٌ هم الأنفُ والأذنابُ غيرهُمُ ... فَمِنْ يساوي بأنفِ الناقةِ الذَّنبَا
قال أبو دلف:
لا تحسبيني ذَنباً لِمَنْ غلب ... نَحنُ رؤوس الناسِ والناسُ ذَنْبُ
وقال ابن الرومي:
قومٌ هم الرأس إذ حسّادهم ذنبٌ ... ومن يُمثّلُ بين الرأْس والذنب
وكل هذه المعاني متساوية.
وقال المتنبي:
مُبرقعي خَيلهم بالبيضْ مُتّخذي ... هامِ الكُماةِ على أرماحِهم عَذَبا
يشبه قول أبي تمام:
مِنْ كلّ ذي لِمّةٍ غَطَّتْ ضفائرُها ... صَدر القناةِ فقد كادت تُرى عَلما
فشبه الضفائر المنشدة بالعلم وأحتاط بأن قال: كادت وأما إلهام نفسها فلا تشبه العذب وقال ابن الرومي:
تطيرُ عليه لحيةٌ منه أصبحتْ ... لهُ رايةٌ يهدى بها الجيْش مطْردُ
فالضفائر واللحى أشبه بالأعلام والمطارد من إلهام.
وقال ابن المعتز:
ويجعلُ هامات أعدائِهِ ... قلانس يُلبسهُنَّ الرِماحا
وما في تشبيهه بعد وجميع هذه التشبيهات أصح وأرجح من تشبيهه وهم بالمعنى أحقّ.
وقال المتنبي:
مراتبُ صعدتْ والفكرُ يتبعُها ... فجازَ وهو على آثارها الشُّهبا
يقرب منه ابن الرومي:
وسمت هِمّتي فجاوزت العُي ... وق بعداً، وجازت العيّوقا
ويقرب منه قول البصير:
سَما بالأمير الفتح بيت مُشيد ... له فَوق أفلاك النجوم مَراتِبُ
وقال المتنبي:
محامدٌ نزفت شعري ليملأها ... فآل ما امتلأت مِنهُ ولا نضبَا
هذا يقرب منه وينظر إليه قول أبي تمام:
فلو كان يفنى الشّعر أفناه ما قرتْ ... حياضُكَ مِنهُ في العُصُور والذواهبِ
ولكنَّه صوب العُقول إذا انجلت ... سَحائبُ منهُ أعقبتْ بِسحائبِ
وقال ابن الرومي:
أصبحتَ بحر سماحٍ غير منتزفٍ ... لاقاه بحرُ ثناءٍ غير منترفِ
وما عبر عنه بأن نزف فقد نضب أو قارب النضوب، فهي عبارة رديئة.
وقال المتنبي:
مكارمٌ لك فُتّ العالمين بها ... مَنْ يستطيعُ لأمرٍ فائتٍ طلبا
ينظر إلى قول البحتري:
أيها المُبتغي مساجلةَ) الفت ... ح (تَبغيتَ نيلَ ما لا ينَال
وقال المتنبي:
بِكل أشعث يلقى الموتَ مُبْتَسماً ... حتّى كأنَّ لهُ في قتله أربا
هذا مثل قول أبي تمام:
يَستعذبونَ مناياهُم كأنَّهم ... لا ييأسونَ من الدُّنيا إذا قُتِلوُا
وقال الوائلي:
تأتي الوغى عجلاً كأنَّك تبتغي ... طُولَ البقاءِ من الفناء الأَعجل
فبيت أبي تمام وبيت المتنبي يدخلان في قسم التساوي، فأما قول الوائلي فذكر أنه يأتي الوغى كأن له طيب بشيء وأعذبه عنده من البقاء الفناء الأعجل فكلامه أرجح فهو أولى بما أخذ منه.
يليها قصيدة أولها:
فُؤادٌ ما تسليّه المُدامُ ... وعمرٌ مثلُ ما تهبُ اللئامُ
عجز هذا البيت من قول البحتري:
أرى غفلة الأيام إعطاءَ مانعٍ ... يصيبك أحياناً، وحلْمَ سَفيه
) فإعطاء مانع، مثل قوله: ما تهب اللئام، وقد قال جحظة:
يا ذل عرسة لنا بطعامٍ ... وشرابِ نزر كنيل البخيل
والبحتري أحق بالمعنى بزيادته تشبيهاً فقد زاد في كلامه ما هو من تمامه بقوله:) حلم سفيه (فصار أحق بقوله.
وقال المتنبي:
ودهرٌ ناسهُ ناسٌ صِغارٌ ... وإن كانت لهم جُثثٌ ضِخَامُ
قال الحصني:
إذا اعترضوا فأجسامٌ ضِخام ... وإن عجموا فأخلاقٌ صِغارُ
ولا فرق بينهما في مبنى ولا معنى فالأول أحق بقوله.
وقال المتنبي:
وما أنا منهم بالعيش فيهم ... ولكن مَعدنُ الذَّهبِ الرَّغامُ
أخذه من قول علي بن بسام:
إذا ما المرء كانَ له خصالٌ ... تزينه وترقعُ منه عرضه
فَليس يصبر إن لم يعتقله ... فيزرعُ من ذوي الأحساب عضه
فأصل المعدنِ المطلوب صَخرٌ ... وفيه عروقه ذهبٌ وفضه
فالذهب معدنه الصخر لا التراب فقول علي بن محمد بن بسام أصح ولكن قول أبي الطيب أخصر.
وقال المتنبي:
ُأرانبُ غير أنهمُ ملوكٌ ... مفتحةٌ عيونهُمُ نِيامُ
هذا معنى فتحه أبو تمام بقوله:
انقطعت هاجعهُمْ وهل يغنيهُمُ ... سهرُ النواظِرِ والعيونُ نِيامُ
ويشبه قول القائل:
وخبرني البوابُ أنّك نائمٌ ... ولكن إذا استيقظت أيضاً فنائِمُ
وقال المتنبي:
خليلكَ أنتَ، لا من قلت خِلّي ... وإن كثر التجملُ والكلامُ
يقرب من قول القراطيسي:
وما أحد يكون أشد نُصحاً ... علمت مكانه مني لنفسي
وكلام المتنبي فيه شرح واضح ولفظ راجح فهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
ولو حِيز الحِفاظُ بغيرِ عقل ... تجنب عُنقَ صيقلِهِ الحُسامُ
يقول أبو الطيب: لو كان السيف بغير عقل له حفاظ لوجب أن يتوقى عنق صيقله لأنه هو الذي أرهفه وصيّره قاطعاً ولوجب أن يحفظ الصقل عنايته لجماله وتزينيه ولكنه لا يحفظ ذلك لكونه غير عاقل وإنما جعله تشبيهاً للإنسان الذي هو غير عاقل وقد أشار له إلى هذا المعنى ابن الرومي فقال:
قد يميط القذى عَنْه ويعض ... منا وليس في السيفِ عفو من صياقله
وقال المتنبي:
وشبهُ الشيء منجذب إليه ... وأشبُهنا بدنيانا الطَّغامُ
هذا يقرب من قول القائل:
دنيا تحيدُ عن الكرام وتنثني ... نحو اللئيم الساقط الوغَد
إن ساعدته فإِنّها أهل لهُ ... والقردُ مسلوك مع القرد
فكلام المتنبي جزل وهذا الكلام رذل فهو أحق بالبيت.
وقال المتنبي:
ولو لمْ يَعل إلا ذو مَحلٍّ ... تعالى الجَيشُ وانَحطّ القَتَامُ
هذا المعنى لم يبلغني من أين أخذه ولكن فتحه له ابن الرومي بقوله:
يا زماناً أحكامَهُ ... فَسروج الخيلِ تَعلوُها اللُّبودُ
وقد أكثر ابن الرومي في ارتفاع الوضيع وانحطاط الرفيع فمنه قوله:
دهرٌ علا قدرُ الوضيع بِه ... وغَدا الشريفُ يحطه شرفُهْ
كالبحر يرسبُ فيه لؤلؤه ... سِفلاً، ويعلو فوقه جِيفُه
وقال أيضاً:
طارَ قومٌ بخفَّة الوزنِ حتّى ... لحقوا رفعةً بقاب العقابِ
ورسا الراجحونَ من جلّة النا ... سِ رُسُوّ الجبال ذات الهضابِ
لا وما ذاك للئام بفخرٍ ... لا، ولا ذاك للكرامِ بعابِ
هكذا الصخر راجح الوزن راسٍ ... وكذا الذُّر شائل الوزن هاب
جيف أنتنت فأضحت على الل ... جة والدر تحتها في حجاب
وغثاء علا عباباً من اليمّ ... وغاص المرجانِ تحت العبابِ
وجميع هذا من قول بعض العربيات:
قل للذي بصروف الدّهر غيرنا ... ما عاند الدهر إلاّ من له خَطَرُ
إنْ كان قدْ نشبت أيدي الزمان ... بنا ومسنا من تناهي صَفوه كدرُ
فقد نرى البحر تعلو فوقه جيفٌ ... ويستقر بأقصى قعره الدررُ
وفي السماء نجوم ما لها عددٌ ... وليس يكسفُ إلاّ الشمس والقمرُ
وبيت أبي الطيب من قسم ما احتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
إذا كانَ الشّباب السكر والشَّي ... بُ هُمّاً، فالحياةُ هي الحِمامُ
هذا بيت بني على صيغة بيت البحتري:
أبْرحَ العيشُ فالمشيبُ قذى في ... أعيُنِ البيض، والشَّبابُ جَمَالُ
وهو يساويه والبحتري بالتقدم أولى وأحق.
وقال المتنبي:
بأرض ما اشتهيتُ رأيتُ فيها ... فَليسَ يَفوتها للإّكِرَامُ
يقرب من قول فضيل الأعرج:
دُور تحاكي الجنان حُسناً ... لكن سُكانها خِساسُ
متى أرى الجيد ساكنيها ... وفي دهاليزها التِراس
وكلام أبي الطيب أجزل.
وقال المتنبي:
بِها الجبلان من فخرٍ وصخرٍ ... أنافا: ذا المغيث، وذا اللهام
هذا من الخروج المليح إلى ما أراد من المديح ولولا ما تبع هذا البيت كان قد هجا الممدوح لما قدم في البيت الأول الذي قبله من عوز الكرام بهذه الأرض ولكنه أحتاط في مدحه بقوله:
وليستْ من مواطنِهِ ولكن ... يَمُّر بها كما مَر الغمام
أخذه من أبي تمام في قوله:
إن حنَّ نجدٌ وأهلوه إليك فقد ... مررتَ فيه مرور العارضِ الهطل
فقد زاد أبو تمام في كلامه ما هو من تمامه لأن الغمام قد يمكن أن تزيد سرعته في المضي وهذا مرور العارض الهطل يريد أنه إحياء من مرّ به بجوده الكثير فهو أرجح وأحق به.
وقال المتنبي:
سَقى الله ابن مُنجيةٍ سَقاني ... بِدَرٍّ ما لراضعه فِطامُ
هذا من قول ابن الرومي:
وقالوا ما فَواصِلهُ فقلنا ... عطاء ما لراضعه فِطَامُ
فهذا يقارب اللفظ المدعى هو معناه معاً، فهو أقبح أقسام السرقات.
وقال المتنبي:
تَلَذُّ لهُ المروءةُ وهي تُؤذي ... ومَنْ يعشقُ يَلذّ لَهُ الغَرامُ
وأتبعه:
تعلّقها هَوى قَيسٍ لليلى ... وواصلها فليس به سقامُ
وهذا كلام مستوفي الأقسام مليح النظام أخبرنا بالتذاذه بالمروءة التي يثقل حملها على الناس وشبه ذلك بالتذاذ العاشق الغرام وذكر أن تعلقه لها قيس لليلى وهي في نهاية التعلق بها وذكر أنّ مواصلته لها تؤمنه السقام الذي يقع من المقاطعة. وقد قال ابن الرومي:
عشق العلا وعشقتهُ فكأنَّما ... وافى هوى لبنى هوى ابن ذَريح
وقال ابن الرومي أيضاً:
أتحجبُ عنّي عشرة قد ومقتها ... فشوقي إليها شَوق قيس إلى ليلى
فالتشبيه كالتشبيه ولكنه زاد بقوله وواصلها فليس له سقام زيادة استحق بها المعنى.
وقال الخليع الحراني.
ما زال يوعدك التعشق لِلعُلى ... والمجد منية عروة بن حزام
هَب ذاك أغرمهُ الفراق فأنت لم ... أو المجد خدنك كنت خدن غرام
معنى هذا الكلام أن العشق إذا كان غراماً كان سقاماً إنما يحدث عن مقاطعة ويقول له فأنت مواصل فمن أين أتاك الغرام، وبالجملة فكلام المتنبي أرجح من جميع هذا كله وهو أحق بما) أخذ (.
وقال المتنبي:
يَروعُ ركانة، ويذوبُ ظرفاً ... فما تَدري: أشيخٌ أن غُلامُ؟
هذا يحسن أن يقال: لو كان كل شيخ ركيناً وكل غلام ظريفاً وإلا احتاج إلى أن يستظهر نبغت فيقول ما يدري أشيخ ركين أم غلام ظريف وقد أتى بهذا المعنى أبو تمام فقال:
غلامٌ حوى في أريحه دَهره ... ذكاءُ الفتى الزاكي وأبهةُ الكهل
فاحتاط على الفتى الزاكي ولم يحتط في الكهل، وقال ابن الرومي:
هو كهل الكهول حزماً وعزماً ... وهو ظرفاً يدعي فتى الفتيان
فاحتاط في الأمرين جميعاً بأن جعله كهل الكهول وفتى الفتيان وشرح
ولم يدع بقية قوله:
فتى ... إذا شِئت لا جهلاً ولا سفهاً كهلاً إذا شئت لا شيباً ولا جلحا
فتاهُ شرخ شبابي وكهله ... حلم، إذا شالَ حلم ناقص رجحا
وقال آخر:
وفتيانيهُ الظرفاءِ فيه ... وأبَّهة الكبير بغيرِ كبر
وجميع معانيهم أو في من معنى المتنبي، وفي البيت الأخير من لفظ الكبير والكبر مجانسة وزيادة من قول قائله هي من تمامه، وقد قال ابن الرومي:
نهتُ جَهلي نها وشيبتني ... لهاه فها أنا الشيخ الغلامُ
وقال المتنبي:
وقبضُ نوالِهِ شرفٌ وعزٌّ ... وقبضُ نوالِ بعض القومِ ذَامُ
أخذه من قول أبي خالد المهلبي:
شرفٌ للشريف مِنكَ نوالٌ ... رُبّ نيلٍ تعافهُ الأحرارُ
المعنى متساو ولأبي خالد زيادة في قوله:) للشريف (لأنه أبلغ في المدح لأنه قد يأخذ نواله وضيع فلا ينقصه أخذ ما أخذ، وقد أتى بهذا المعنى أبو تمام فقال:
تُدعى عطاياهُ وفراً وهي إن شُهرتْ ... كانت فخاراً لمن يعفوُهُ مؤتنقا
ما زلتُ منتظراً أعجوبةً عنفاً ... حتى رأيتُ نوالاً يقتضي شرفاً
فالبيتان مشتملان على معنى واحد من أنّ نواله شرف ولم يخبرنا عن نوال غيره واستوفى أبو الطيب في بيته معنى البيتين فهو أحق بما أخذ.
وقال المتنبي:
أقامت في الرّقاب لهُ أيادٍ ... هي الأطواقُ والناسُ الحمام
قال أبو تمام:
مِنَنٌ منكَ في رقابِ أُناسٍ ... هي فيها أبقى من الأطواقِ
معنى أبي تمام: أنّ بقاء منن الممدوح كبقاء الأطواق في رقاب الحمام غير أنه ذكر الأطواق واكتفى بذلك عن ذكر الحمام فكان أبو الطيب أشرح كلاماً، وقد قال علي بن محمد بن بسام:
أبا علي لقد طوقتني نعماً ... طوقُ الحمامةِ لا تبلى على القدم
فهو يساوي أبا الطيب، وقال محمد بن حازم يصف أبياته:
وهًنّ إذا وسمتُ بهن قوماً ... كأطواق الحمائم في الرُقابِ
وهنّ وإن أقمت مسافراتٌ ... تهاداها الرّواة مع الرّكابِ
وهذا النوع مما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
إذا عد الكرامُ فتلكَ عِجْلٌ ... كما الأنواءُ حينَ تُعدُّ عامُ
وهذا كما قال ابن الرومي:
جمعن العُلا بالجودِ بعد افتراقها ... إلينا كما الأيام يَجمعها الشهرُ
فهذا من قسم ما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
ولو يمّمتهُمْ في الحشر تَجدو ... لأعطوك الذي صَلّوا وصامُوا
يقال جداه تجدوه، وفي هذا المعنى قول أبي تمام:
ولو قصرتْ أموالهُ عن سماحةٍ ... لقاسم من يجدوه شطر حَياتهِ
فإِنْ لم يجد في شركة العُمر حيلةً ... وجاز له الإِعطاء من حسناتهِ
لجادَ بها من غير كفرٍ لربّهِ ... وآساهُمُ في صَومهِ وصلاتِهِ
فالمعنى المعنى ولكنه في تطويل وتضمين وبيت أبي الطيب قد جمع الطويل في الموجز القليل فهو أحق بما أخذ وإن كان قد أطلق عليهم السماحة بصلاتهم وصيامهم فهي مبالغة يمكن الطعن عليهم بها لأنها تدل على سماحهم بأديانهم واحتاط أبو تمام فقال:) من غير كفر لربه (فدّل على صحة الدين والجود معاً.
وقال المتنبي:
فإِن حلموا فإنّ الخيل فيهم ... خفافٌ والرّماحُ بها عُرامُ
قصد الحلم السفه والجهل وضد الحلم عند أبي الطيب الخفة وليس كذلك إلا على التسامح في العبارة والمجازفة في الاستعارة ولو قال:
فإِن ثَقلوا فإِنّ الخيل فيهم ... خِفافٌ والرّماحُ بها عُرامُ
كان قد طابق بين الثقل والخفة والذي قاله أبو تمام:
عَليه مُطعن بطل حليم ... سَفيه السيف ذُو رُمحٍ جَهولُ
فجعل الحلم للرجل والسفه للسيف، والجهل للرمح ووفى مطابقته أقسامها ورجح كلامه فهو أحق بما سبق إليه.
وقال المتنبي:
نُصرّعهُمْ بأعيننا حياءً ... وتنبوُ عن وجوههِم السّهامُ
فتصريعهم بالحياء حسن، نبوّ السهام عن وجوههم بلا علة توجيه إلاّ صلابة بشراتهم فهذا في الهجاء أدخل لما قال بعض الشعراء:
اللؤمُ أَكرمُ من وبرٍ ووالدِهِ ... واللّؤمُ أكرمُ من وبرٍ وما ولدا
لو أنّ حافرَ برذوني كأوجههمْ ... بني الزواني لما أنعلتهُ أبدا
فأما قول ابن الرومي:
فتى يتقي لحظَ العيون ويرعوي ... ويغشى رماح الحظّ مُشتبكات
أخذه من العكوك في قوله:
فتى يتقي مأثور ما يتقي الفتى ... ويغشى المنايا والرماح دَواني
فالمعنيان يدلان على أن القوم ممدوحون بالحياء والشجاعة فأما نبو السهام
عن وجوههم فلا نصيب له في المدح، وينظر إلى قول العكوك وابن الرومي قول أبي دلف:
نحنُ قومٍ تذيبنا الحدقُ النحل ... على أننا نذيبُ الحديدا
لا نصدّ الوجوه من خشية الناس ... ونخشى من الغواني الصدودا
وهذا من قسم ما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه.
وقال المتنبي:
قبيلٌ أنت أنت وأنت منهم ... وجدّك بِشرٌ الملكُ الهُمامِ
فذكر أنه على شرفه واحد منهم وهو على الانفراد قبيلٌ وحده، وأحسن من هذا قول ابن الرومي:
قالوا أبو الصقر من شَيبان قُلت لهم ... كلا لعمري ولكن مِنه شيبان
وكم أبٍ قد علا بأبن ذرى شرفٍ ... كما علا برسول الله عدنان
تَسمو الرجال بآباء وآونة ... تَسمو الرجال بأبناء وتزدان
جعل شيبان منه ولم يجعله منهم ذهاباً به عن الإضافة إلى أحد وذكر أنها على ارتفاعها ترتفع به، وأبو الطيب إضافة إليهم وابن الرومي أرجح كلاماً وأبلغ في معناه فهو أحق بقوله.
وقال المتنبي:
لقد حسنتُ بك الأيام حتى ... كأنّك في فم الزَّمنِ ابتسامُ
يشبه قول ابن الرومي:
قعدت بِك الدنيا وما ظلمت ... مفترة عَنْ كل مبتسم
وقال البحتري:
فأبقَ أنساً لهُ فما ضحِكَ الدَّه ... رُ إلينا إلاّ وعَنْكَ إفترِارُهْ
وقال ابن الرومي أيضاً:
أناسٌ إذا دهرٌ تبسم ضاحكاً ... فعنهم وعن آبائهم يبتسمُ
فذكر الابتسام ولم يذكر فماً وهي استعارة يجوز فيها أن يراد بها بهجة الدهر وبشاشته، وأبو الطيب جعل للدهر فماً وشبه بابتسامة فحقق المعنى وملح فرجع كلامه.
ويتلو هذه قصيدة أولّها:
لجنّيةٍ أم غادةٍ رُفِعَ السجفُ ... لوحشية؟ لا. ما لوحشيةٍ شَنْفُ
معلوم أن هذا الكلام سؤال متباله يسأل من أي الجنسين هي، وهو يعلم أنها بشر ولا أعلم من خبره أنّ الجن لأحسن منظراً من الأنس حتى يسأل من أي الجنسين هي، فأما قوله:) لوحشيّة؟ لا ما لوحشية شنف (.
فمستعمل من ذلك قول أبي تمام:
لم يُخطك الجيدُ مِنْ غَزال ... لو عطّلوه من السحابِ
فأنكر هذا الشنف كما أنكر هذا السحاب، وقد أنشدني أبي رحمه الله قال: أنشدنا ابن دريد:
أعنْ الشّمس عشاءً ... كشفَتْ تلك السجوفُ
أمْ على لبتي غزال ... عُلّقت تلك الشُّنوفُ
فسأل هل كشف السجوف عن الشمس، وهل تعلق الشنوف على لبتي الغزال لتشابه المعنيين عنده، فهو تباله مليه مع علم ليدل على قوة الشبه بين المشتبهين، والقرط ما كان في شحمة الأذن من أسفل، والشنف ما كان في حياز الأذن من فوق.
وقال المتنبي:
وخُيِّلَ مِنها مرطُها، فكأنَّما ... تَثنّى لنا خوطُ ولاحَظنا خِشْفُ
فتخيل مرطها إياها يعمل لها حركة في قدها يشبه بها الخوط ولا عمل لتخييل مرطها في لحظها وهذه صفات متداولة منها قول ابن الرومي:
إن أقبلتْ فالبدر لاح، وإنْ مشتْ ... فالغصنُ مال، وإن رنت فالرّيمُ
فإن كان الناظر في كتابنا يحتسب بهذه الشبهات المتداولات المستعملات فبيت ابن الرومي لا مطعن في أقسامه، وأبو الطيب لم يذكر في شعره غير لحظها وقدها وذكر ابن الرومي وجهها وقدّها ولحظها فكلامه أرجح وهو أولى بما سبق إليه.
وقال المتنبي:
زيادةُ شيبٍ وهي نقص زيادتي ... وقوةُ عشقٍ وهي من قُوّتي ضَعفُ
صدره من قول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
الشوقُ يزدادُ كُلَّ يومٍ ... إليك والجسمُ في انتقاصِ
ومثله قول القائل:
زيادةُ عمر المرء نقص حياته ... فَما عجب من نُقصانِه من تَمامه
ويقرب منه قول البحتري:
أدلّةُ المرء أيّامٌ عددنَ لهُ ... يرينهُ الفضل تقويماً وإرشاداً
وقدْ يُطالبن ما قدّمنَ من سلف ... فيه وينقصهُ الفضل الذي ازدادا
وينظر إلى قوله قول ابن الحاجب:
أكرهُ الموت والزيادة في أيام ... عمري نقصان عُمر السواد
وقد أتفق لأبي الطيب من ذكر الزيادة والنقصان والقوة والضعف ما صار به
أجود صنعة بالزيادة في كلامه ما هو من تمامه وهذه معان تدخل في قسم المساواة.
وقال المتنبي:
هراقَتْ دمي من بي من الوجد ما بها ... من الوجد بي والشوق لي ولها حَلفُ
هذا يشبه قول الشاعر:
وجدتُ بي ما وجدتُ بها ... فكِلانا مغرمٌ دَنِفُ
وعلى الأيام مظلمتي ... هلْ من الأيام منتصفُ
وقال المتنبي:
ومَنْ كلما جرّدتها من ثيابها ... كَساها ثياباً غيرها الشّعرُ الوحفُ
من بلغ إلى تجريد محبوبه من ثيابه فقد بلغ نهاية مناه وبغية هواه فلم يهرق دمه، فأما المعنى فقد قال أبو تمام:
من كلّ فتنانة تَردّى ... بِثوبِ فينانها الأثيثِ
فقد تساوى المعنى ولكن أبا الطيب أكثر إبانة وأرجح بالإبانة والجزالة فهو أحق بالمعنى.
وقال المتنبي:
وقابلني رُمّانتا غُصن بانةٍ ... يميلُ به بدرٌ ويمسكُهُ حِقْفُ
إضافته الرّمانتين إلى غصن البانة يدل على أنّ أغصان ألبان من ثمرها الرمان، وقد عرفنا مقصده إنما شبه الثديين بالرمانتين وقدها بالغصن وأرانا جمع حلقها غرائب لا تجتمع ولا تقع إلا فيه ولو أمكنه أن يقول:) رمانتان في غصن بانة (
.....، كان أسوغ في مقصده، كما قال ابن الرومي:
أغصان بانٍ عليها الدهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل ألبان
فكل تعجب مما ليس في العادة إجماعه، فأما إطلاق اللفظ على الرمان أنه من ثمر ألبان بغير مقدمة توضح مراده فلا أستحسنه هاهنا وقوله:) يميل به بدر (فالبدر وجهه وليس يميل وجهه بقده لأن إذا مال مال بوجهه حيث يميل، وابن الرومي أشعر منه في إتيانه أن الفواكه ليس مما يحمل ألبان، فدل على أن المراد التشبيه لا الحقائق وهو أولى بقوله.
وقال المتنبي:
أرددُ) ويلي (لو قضى الويل حاجةً ... وأكثر) لهفي (لو شفى غلةً لهفُ
يشبه قول البحتري:
فيا أسفاً لو قابلَ الأسفُ الجوى ... ولهفاً لو أَن اللهف في ظالمٍ يُجدي
وهذا من قسم المساواة، وقال ابن الرومي:
أسفي لو أنّ قولي أسفي ... كان يشفيني من حر الأسف
وقال المتنبي:
ضَنَىً في الهوى كالسُّم في الشَّهد كامناً ... لذذت به جهلاً وفي اللّذةِ الحتفُ
هذا من قول إبراهيم بن المهدي:
يشوب بنادي النصح غِشّاً يسره ... كما خيض بالسم الرحيقِ المُشعشع
وقال أبو تمام:
أعلى يا ابن الجهم أنَّك دقت لي ... خمراً وسماً في إناءٍ واحدِ
ويقرب من هذا قول القائل:
إذا استوحشتَ مِنْ رجلٍ ... فكُن منه على وجَلِ
ولا يغرركَ ظاهرُهُ ... فباطنُهُ على دَغَلِ
فقد يُلفي حِمامُ المو ... تِ بين السمِّ والعَسلِ
فجاء بالسم والعسل كما جاء به وهذا من قسم ما أحتذي عليه وإن فارق ما قصد به إليه، ومثله لأبي الشيص:
أعلّلُ آمالي بكانت ولم تكن ... وذلك طعمُ السمِّ والسهد في الكأسِ
وبيت أبي الطيب أفصح وأرجح.
وقال المتنبي:
فأفنى وما أفنته نفسي كأنَّما ... أبو الفرجِ القاضي لهُ دونها كَهفُ
الهاء في) أفنته (عائدة على أفنى، أي نفسي ولا أفنيه كأن الممدوح كهف للضنى دون أن تفنيه نفسي، فقد أراد الخروج المليح إلى المديح ولم يظفر بمعنى فائق ولا جاء بحفظ رائق.
وقال المتنبي:
قليلُ الكرى لو كانت البيضُ والقنا ... كآرائهِ ما أغنتْ البيضُ والزَّغفُ
قال أبو تمام:
وأستلَّ من آرائِهِ الشُّعلَ التي ... لو أنهُنَّ طُبعنَ كُنَّ سُيوفا
لم يزد أبو تمام على أنّ أراهم لو طبعن كدن سيوفاً، وأبو الطيب يذكر أن السيوف لو كنّ كآرائه ما أغنت البيض والزغف أي لقطعن ما لا تقطع السيوف فلفظه أرجح فهو أولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
يقومُ مقامَ الجيشِ تقطيبُ وجههِ ... ويستغرق الألفاظ مِنْ لفظهِ حَرفُ
قال البحتري:
وإذا خِطابُ القوم في الخطبِ اعتلى ... فَصل القضيةَ في ثلاثةِ أحرفِ
فقد جاء أبو الطيب في صدر بيته بمعنى، وجاء في عجز البحتري ونقصنا حرفين فهو أرجح وأولى بما أخذ.
وقال المتنبي:
وإن فَقَدَ الإِعطاء حنت يمينُهُ ... إليه حنينَ الإِلفِ فارقَهُ الإِلفُ
وهذا يقارب معنى أبي تمام:
واجدٌ بالجميل من رُحاءِ الشّ ... وقِ وجدانَ غَيرِهِ بالحبيبِ
فأما قول البحتري:
يحنُّ إلى المعروف حتى يُنيلَهُ ... كما حنَّ إلف مستهامٌ إلى إلفِ
فهذا أخذ واضح يكاد يدخل في أخذ اللفظ المدعى هو ومعناه معاً والبحتري أحقّ بقوله.
وقال المتنبي:
أديبٌ رستْ للعلمِ في أرض صَدرِهِ ... جبالٌ، جبالُ الأرضِ في جنبها قُفُّ