انطلقوا في الهزيع الأخير من الليل بعد أن اعتلوا صهوات خيولهم، مخلـّفين وراءهم رائحة الموت ودخان الحرائق وعفن اللحم البشري ونباح الكلاب الضالة وهدير الطائرات وعويل سيارات الاسعاف. كانت الخيول تعدو خببا ً باديء الأمر وقد اخذت تجتازشريط الأرض الذي يفضي الي الصحراء، وما لبث ايقاع عدوها أن أخذ يتصاعد ولكن بحذر وتوجّس، فمازالت عتمة آخر الليل تسدل ستارتها علي الأفق.
ثمة فسحة تفصل بين كوكبة فرسان المقدمة وفرسان المؤخرة، فسحة يحرص الطرفان علي أن تبقي قائمة. هكذا تقضي الأعراف والتقاليد. فرسان المقدمة علي خيول مطهمة، قوية، شبعة، أما فرسان المؤخرة فعلي خيول ضامرة، عجفاء، تبدو عظامها للناظر، يبين هزالها مثلما يبين هزال الفرسان الذين يمتطونها. انها ليست خيولهم إنما هي من أسوأ ما في اصطبلات فرسان المقدمة، جادوا بها عليهم مؤقتا ً من اجل انجاز رحلتهم السعيدة هذه.
ها ان السماء تنشق عن أول خيط من خيوط الفجر، ما يلبث أن يتسع ليكشف عن هذا الحشد غير المتجانس من الفرسان والخيول، وهو يشق طريقه صوب الصحراء. سيتوغلون في الصحراء وصولاً الي الواحة الموعودة التي زيـّن فرسان المقدمة جدوي الوصول اليها لفرسان المؤخرة: كل شيء سيكون ميسورا ً هناك: النسيم العليل،الماء العذب، الأمان وراحة البال، ومَن من فرسان المؤخرة لايبحث عن ذلك وقد اكتووا بشواظ الحرمان وهم في بيوتهم الطينية أو ذوات الجدران الحجرية المتآكلة أو السقوف الأيلة الي السقوط؟ لا ماء ولا ضوء، ولهب شمس الصيف يلسع أرواحهم وزمهرير الشتاء ينفذ الي عظامهم. من حقهم إذن، أن يحلموا بالواحة التي قال عنها فرسان المقدمة بأنها جنـّة من جنان الله علي أرضه، فهي الأمل الذي يتشبثون بأذياله والملاذ الذي يلوذون به. ما زالت أصوات وعود فرسان المقدمة ترن في آذانهم: سنبني لكم مدينة فاضلة هناك. لن تجدوا فيها جائعا ً أو محروما .ً اصبروا علينا فقط. وهاهو أحد فرسان المؤخرة يهمس لنفسه وقد استرجع تلكم الوعود: لقد صبرنا عليكم طويلا ً.ما الذي فعلتموه لنا طوال السنوات المنصرمة؟
كانت كوكبة فرسان المقدمة محاطة بثلة من الخدم والأعوان والرجال المدججين بالسلاح، منهم من ينشر مظلاات فوق رؤوس سادته ومنهم من يحمل مراوح تعمل بالبطاريات لتروّح لهم. انهم يخافون علي سادتهم، أولياء نعمتهم الذين أغدقوا عليهم الأموال ولكن ليس من جيوبهم الخاصة. وكانت الشمس السخية بحرارتها تحرق رؤوس فرسان المؤخرة، وقد دنت الظهيرة.
فجأة توقف ركب فرسان المقدمة وأخذ الرجال يترجلون عن صهوات خيولهم، ومكث فرسان المؤخرة في أماكنهم وهم هلي صهوات خيولهم الجائعة، لايدرون ما الذي سيحدث، لكنهم حين رأوا سرادقا ً يرتفع، أدركوا أنْ حان وقت الغداء. شمـّوا رتحة شواء فصاروا يلمظون شفاههم، وتوقعوا أن يجدوا من يدعوهم الي السرادق، وقد مضّ بهم الجوع إذ لم يتناول كل منهم سوي شطيرة يابسة مع بداية مساء أمس. لكن أملهم خاب حين رأوا السرادق يُرفع دون أن يدعوهم أحد، وما لبثوا أن رأوا ركب كوكبة فرسان المقدمة يتحرك فكان لزاما ً عليهم أن يتحركوا هم أيضا ً لكن ثمة شعورا ً بالاستياء بدأ يغلي في صدورهم، وإذ بلغوا المكان الذي كان السرادق قد رفع فيه، رأوا فتات ما تركته مائدة فرسان النخبة فأشاحوا بأبصارهم عنها مشمئزين..
الي أين يقودهم فرسان المقدمة وهم يتوغلون بهم في هذه الصحراء العارية من كل شيء، تحت هجيرهذه الظهيرة القاسية؟ لا أحد مر ّ حتي الآن لكي يسألوه. غير أنه حدث فجأة ً ما لم يكونوا يتوقعونه. ها أن مقدمة قافلة جمال تلوح في البعيد، فانتعش الأمل في صدورهم. وها أن القافلة تقترب وما لبثت أن اجتازت كوكبة فرسان المقدمة دون أن بعيرها أحد منهم اهتماما ً. وإذ اقتربت، استوقفها فرسان المؤخرة وعنّ لهم أن يسألوا رجالها: متي سنصل الي الواحة؟
رد ّ رجل مسن من القافلة:
ــ أية واحة تعنون؟
ــ الواحة التي في هذه الصحراء!
ــ ومن الذي قال لكم ان هناك واحة في هذه الصحراء؟!
ــ الفرسان الذين هناك.
ــ أوه! لقد سمعناهم يتهاترون فيما بينهم ويتشاتمون ويتنابزون بالألقاب!
ــ لا نصدّق ذلك. نعرف انهم يد واحدة.
ــ اقتربوا منهم لتسمعوا بآذانكم.
هز فرسان المؤخرة رؤوسم وهم يتبادلون نظرات الاستنكار. قال كبيرهم:
ــ هل انتم واثقون من أنْ ليس هناك واحة في هذه الصحراء؟
ــ كل الثقة. أنها مملكتنا التي نعيش بها منذ زمن طويل. لقد جبناها شبرا ً شيرا ً وخبرنا كل مكان فيها.
تهامس فرسان المؤخرة: لقد خدعونا إذن. استهانوا بنا. انحنينا لهم كثيرا حتي صعدوا علي ظهورنا ليتسلقوا علي اكتافنا فيما بعد. وقال قائل منهم:
ــ وبماذا تنصحوننا؟
هم يقودونكم، في رحلة التيه هذه، نحو المجهول. ليس أمامكم سوي أن تعودوا إلي دياركم لتصنعوا واحتكم بأنفسكم هناك. عودوا قبل ان يجييء الظلام فتظلون تتخبطون في مفازات الصحراء، لاسيما اننا نشم رائخة عاصفة صفراء قادمة.
صاح كبير فرسان المؤخرة:
ــ لنعد إذن.
شدّوا الأعنـّة اليهم فلوت الخيول اعناقها واستدارت بالاتجاه المعاكس علي طريق العودة. تنبه واحد من ركب فرسان المقدمة. صاح عن ذعر: انهم يهربون!
وتلك اللحظة استدارت الرؤوس الي الوراء. صاح كبير الفرسان:
ــ امنعوهم من ذلك.
لكن صيحات التهديد تبددت في فراغ الصحراء. قال قائل منهم:
ــ سيفسدون خطتنا.
والآن كشفوا عن نواياهم المبيّتة. كانوا ينوون ان يشجعوهم علي مواصلة التوغل في الصحراء للوصول الي الواحة الكاذبة. سيقولون لهم انهم سيرجعون الي المدينة لكي يهيئوا لهم ما يعينهم علي مواصلة التوغل، ليتركوهم يتشبثون بسراب حلم الوصول الي الواحة، حتي إذا ما جنّ الليل تسللوا هم الي بيوتهم الفارهة وغرف نومهم المكيّفة.
صاح كبيرهم:
ــ أطلقوا عليهم النار!
هاج أزيز الرصاص الخيول العجفاء فبدأت تسابق الريح وكأنها توشك أن تطير بفرسانها في الفضاء (من أين تهيأت هذة القوة الخارقة في العدو لهذه الخيول العجفاء الجائعة؟)، وكانت المسافة بينها وبين خيول المقدمة التي وراءها تتسع وتتسع حتي أصبحت بسعة الصحراء!
ثمة فسحة تفصل بين كوكبة فرسان المقدمة وفرسان المؤخرة، فسحة يحرص الطرفان علي أن تبقي قائمة. هكذا تقضي الأعراف والتقاليد. فرسان المقدمة علي خيول مطهمة، قوية، شبعة، أما فرسان المؤخرة فعلي خيول ضامرة، عجفاء، تبدو عظامها للناظر، يبين هزالها مثلما يبين هزال الفرسان الذين يمتطونها. انها ليست خيولهم إنما هي من أسوأ ما في اصطبلات فرسان المقدمة، جادوا بها عليهم مؤقتا ً من اجل انجاز رحلتهم السعيدة هذه.
ها ان السماء تنشق عن أول خيط من خيوط الفجر، ما يلبث أن يتسع ليكشف عن هذا الحشد غير المتجانس من الفرسان والخيول، وهو يشق طريقه صوب الصحراء. سيتوغلون في الصحراء وصولاً الي الواحة الموعودة التي زيـّن فرسان المقدمة جدوي الوصول اليها لفرسان المؤخرة: كل شيء سيكون ميسورا ً هناك: النسيم العليل،الماء العذب، الأمان وراحة البال، ومَن من فرسان المؤخرة لايبحث عن ذلك وقد اكتووا بشواظ الحرمان وهم في بيوتهم الطينية أو ذوات الجدران الحجرية المتآكلة أو السقوف الأيلة الي السقوط؟ لا ماء ولا ضوء، ولهب شمس الصيف يلسع أرواحهم وزمهرير الشتاء ينفذ الي عظامهم. من حقهم إذن، أن يحلموا بالواحة التي قال عنها فرسان المقدمة بأنها جنـّة من جنان الله علي أرضه، فهي الأمل الذي يتشبثون بأذياله والملاذ الذي يلوذون به. ما زالت أصوات وعود فرسان المقدمة ترن في آذانهم: سنبني لكم مدينة فاضلة هناك. لن تجدوا فيها جائعا ً أو محروما .ً اصبروا علينا فقط. وهاهو أحد فرسان المؤخرة يهمس لنفسه وقد استرجع تلكم الوعود: لقد صبرنا عليكم طويلا ً.ما الذي فعلتموه لنا طوال السنوات المنصرمة؟
كانت كوكبة فرسان المقدمة محاطة بثلة من الخدم والأعوان والرجال المدججين بالسلاح، منهم من ينشر مظلاات فوق رؤوس سادته ومنهم من يحمل مراوح تعمل بالبطاريات لتروّح لهم. انهم يخافون علي سادتهم، أولياء نعمتهم الذين أغدقوا عليهم الأموال ولكن ليس من جيوبهم الخاصة. وكانت الشمس السخية بحرارتها تحرق رؤوس فرسان المؤخرة، وقد دنت الظهيرة.
فجأة توقف ركب فرسان المقدمة وأخذ الرجال يترجلون عن صهوات خيولهم، ومكث فرسان المؤخرة في أماكنهم وهم هلي صهوات خيولهم الجائعة، لايدرون ما الذي سيحدث، لكنهم حين رأوا سرادقا ً يرتفع، أدركوا أنْ حان وقت الغداء. شمـّوا رتحة شواء فصاروا يلمظون شفاههم، وتوقعوا أن يجدوا من يدعوهم الي السرادق، وقد مضّ بهم الجوع إذ لم يتناول كل منهم سوي شطيرة يابسة مع بداية مساء أمس. لكن أملهم خاب حين رأوا السرادق يُرفع دون أن يدعوهم أحد، وما لبثوا أن رأوا ركب كوكبة فرسان المقدمة يتحرك فكان لزاما ً عليهم أن يتحركوا هم أيضا ً لكن ثمة شعورا ً بالاستياء بدأ يغلي في صدورهم، وإذ بلغوا المكان الذي كان السرادق قد رفع فيه، رأوا فتات ما تركته مائدة فرسان النخبة فأشاحوا بأبصارهم عنها مشمئزين..
الي أين يقودهم فرسان المقدمة وهم يتوغلون بهم في هذه الصحراء العارية من كل شيء، تحت هجيرهذه الظهيرة القاسية؟ لا أحد مر ّ حتي الآن لكي يسألوه. غير أنه حدث فجأة ً ما لم يكونوا يتوقعونه. ها أن مقدمة قافلة جمال تلوح في البعيد، فانتعش الأمل في صدورهم. وها أن القافلة تقترب وما لبثت أن اجتازت كوكبة فرسان المقدمة دون أن بعيرها أحد منهم اهتماما ً. وإذ اقتربت، استوقفها فرسان المؤخرة وعنّ لهم أن يسألوا رجالها: متي سنصل الي الواحة؟
رد ّ رجل مسن من القافلة:
ــ أية واحة تعنون؟
ــ الواحة التي في هذه الصحراء!
ــ ومن الذي قال لكم ان هناك واحة في هذه الصحراء؟!
ــ الفرسان الذين هناك.
ــ أوه! لقد سمعناهم يتهاترون فيما بينهم ويتشاتمون ويتنابزون بالألقاب!
ــ لا نصدّق ذلك. نعرف انهم يد واحدة.
ــ اقتربوا منهم لتسمعوا بآذانكم.
هز فرسان المؤخرة رؤوسم وهم يتبادلون نظرات الاستنكار. قال كبيرهم:
ــ هل انتم واثقون من أنْ ليس هناك واحة في هذه الصحراء؟
ــ كل الثقة. أنها مملكتنا التي نعيش بها منذ زمن طويل. لقد جبناها شبرا ً شيرا ً وخبرنا كل مكان فيها.
تهامس فرسان المؤخرة: لقد خدعونا إذن. استهانوا بنا. انحنينا لهم كثيرا حتي صعدوا علي ظهورنا ليتسلقوا علي اكتافنا فيما بعد. وقال قائل منهم:
ــ وبماذا تنصحوننا؟
هم يقودونكم، في رحلة التيه هذه، نحو المجهول. ليس أمامكم سوي أن تعودوا إلي دياركم لتصنعوا واحتكم بأنفسكم هناك. عودوا قبل ان يجييء الظلام فتظلون تتخبطون في مفازات الصحراء، لاسيما اننا نشم رائخة عاصفة صفراء قادمة.
صاح كبير فرسان المؤخرة:
ــ لنعد إذن.
شدّوا الأعنـّة اليهم فلوت الخيول اعناقها واستدارت بالاتجاه المعاكس علي طريق العودة. تنبه واحد من ركب فرسان المقدمة. صاح عن ذعر: انهم يهربون!
وتلك اللحظة استدارت الرؤوس الي الوراء. صاح كبير الفرسان:
ــ امنعوهم من ذلك.
لكن صيحات التهديد تبددت في فراغ الصحراء. قال قائل منهم:
ــ سيفسدون خطتنا.
والآن كشفوا عن نواياهم المبيّتة. كانوا ينوون ان يشجعوهم علي مواصلة التوغل في الصحراء للوصول الي الواحة الكاذبة. سيقولون لهم انهم سيرجعون الي المدينة لكي يهيئوا لهم ما يعينهم علي مواصلة التوغل، ليتركوهم يتشبثون بسراب حلم الوصول الي الواحة، حتي إذا ما جنّ الليل تسللوا هم الي بيوتهم الفارهة وغرف نومهم المكيّفة.
صاح كبيرهم:
ــ أطلقوا عليهم النار!
هاج أزيز الرصاص الخيول العجفاء فبدأت تسابق الريح وكأنها توشك أن تطير بفرسانها في الفضاء (من أين تهيأت هذة القوة الخارقة في العدو لهذه الخيول العجفاء الجائعة؟)، وكانت المسافة بينها وبين خيول المقدمة التي وراءها تتسع وتتسع حتي أصبحت بسعة الصحراء!