عُرف عن الروائي الباحث الفيلسوف والسيموطيقي الإيطالي أومبرتو إيكو ولعه بالتقنيات الرقمية الحديثة، وغالباً ما كان يستخدم في أثناء المقابلات الصحفية عدّاداً رقمياً لإحصاء الكلمات والحروف وتكراراتها في أثناء حديثه، وهو أسوة بسلفه العظيم ليوناردو دافينشي يشكل استمراراً لجيل المبدعين الايطاليين ذوي المواهب المتعدّدة الذين يمزجون الفلسفة والفن بالتكنلوجيا.
ولد أومبرتو إيكو في مدينة ألساندريا بإقليم بيدمونتي شمال إيطاليا عام 1932، وكان أبوه جوليو محاسباً قبل أن ينخرط جندياً في الحرب العالمية الثانية لتنتقل أمه جوفانا معه إلى قرية صغيرة تقع على الجانب الجبلي من الإقليم.
أُخذ اسم عائلته إيكو Eco من الحروف اللاتينية الأولى لجملة (Ex Coelis Oblatus)، ومعناها "هبة السماء"، وهو الاسم الذي منح لجده الذي كان لقيطاً، من قبل مكتب المدينة. حاول أبوه، الذي كان ابناً لعائلة فيها ثلاثة عشر ابناً آخر، دفعه لأن يكون محامياً، غير أنه انتسب إلى جامعة تورينو لدراسة فلسفة القرون الوسطى والأدب. كتب أطروحته حول توما الأكويني، وحصل على دكتوراه في الفلسفة عام 1954، وخلال هذا الوقت، هجر إيكو الكنيسة الكاثوليكية.
مارس إيكو، إضافة إلى نشاطه الروائي، إلقاء المحاضرات الجامعية وكتابة البحوث في الفلسفة وعلم الدلالات، كما كان لديه عمود ثابت في الصفحة الأخيرة لصحيفة Espresso الأسبوعية، وقد ارتأيت هنا ترجمة المقال الطريف الذي يتحدث فيه عن صراع الحواسيب الرقمي بنبرة لاهوتيّة:
ثمة حقيقة تفيد بأن العالم منقسم بين مستعملي حاسوب ماكنتوش (Mac) وحاسوب مايكروسوفت المتوافق مع نظام دوس (DOS). شخصياً أؤمن بالفكرة التي تقول بأن الماكنتوش كاثوليكي، أما الدوس فبروتستانتي.
في الحقيقة، الماكنتوش معاد للإصلاح ومتأثر بالنظام التعليمي لليسوعيين. إنه مرح، ودود وتوفيقي؛ يخبر المخلِصين كيف ينبغي لهم أن يمضوا خطوة فخطوة للوصول، إن لم يكن إلى مملكة السماء، فإلى اللحظة التي تكون فيها وثيقتهم مطبوعة. إنه نظام تلقيني: روح الوحي تتعامل معك عبر الصيغ المبسطة والأيقونات الفاخرة. كل شخص له الحق بالخلاص.
أما الدوس فبروتستانتي، أو حتى كالڤيني. يسمح بالتفسير الحر للكتاب المقدس، يقتضي قرارات شخصية صعبة، يفرض تأويلات حاذقة على المُستخدِم، ولا يستحسن الفكرة التي تقول بأن ليس بإمكان الجميع نيل الخلاص. لجعل النظام يعمل ،تحتاج لتأويل البرنامج بنفسك بعيداً عن عربدة المجتمع الباروكي، المُستخدِم منغلق على نفسه في عزلة عذابه الداخلي الشخصي.
قد تعترض على أنه من خلال العبور إلى ويندوز، فإن عالم دوس يصير أكثر شبهاً بتسامح مناهضة الإصلاح الماكنتوشي. هذا صحيح: فنظام ويندوز يمثل انشقاقاً على الطراز الإنجليكاني، طقوس كبيرة في الكاتدرائية، إلا أن هناك دائماً امكانية العودة إلى دوس لتغيير الأشياء طبقاً لقرارات غريبة: حين تهبط إليه، يمكنك أن تقرر مصير النساء والمثليين إذا شئت.
طبيعي، فإن كاثوليكية أو بروتستانتية النظامين لا علاقة لهما بالمواقع الثقافية والدينية لمستعمليهما. ربما يتساءل أحدهم، بمرور الوقت، عما إذا كان استعمال نظام معين من دون غيره يقود إلى تغييرات داخلية عميقة؟ هل يمكنك أن تستعمل دوس وتكون واحداً من أنصار الفاندا؟ وأكثر من ذلك: هل تكتب "سيلينا" مستعملة برنامج "وورد"، "وورد بريفكت" أم "وورد ستار"؟ هل كان ديكارت يبرمج في نظام "باسكال"؟
وشيفرة الجهاز، تلك التي تكمن تحت وتقرر مصير كلا النظامين (أو البيئتين إن أحببت)؟ أوه، إن ذلك ينتمي إلى العهد القديم، وهو تلمودي وقَبالي، اللوبي اليهودي كالعادة...
(1994)
كُتب هذا العمود قبل ست سنوات مضت، وفي غضون ذلك الوقت تغيرت أمور كثيرة. الويندوز انضمّ إلى ماك في ثالوث كاثوليكي مع إصدار نسخة نظام 95 و98، شُعلة البروتستانتية أضحت الآن في يد لينُكس Linux. لكن المعارضة ما تزال شرعيّة.
(1999)
المصدر: موقع The Phora
هوامش ثيولوجية ورقمية:
ماكنتوش المعروف اختصاراً " ماك": عائلة حواسيب شخصية يتم تطويرها وإنتاجها وتسويقها من قبل شركة أبل.
مايكروسوفت: شركة متعددة الجنسيات تعمل في مجال تقنيات الحاسوب.
دوس: أحد أقدم الأنظمة المستخدمة في إدارة وتشغيل الحاسوب قديماً.
الكاثوليكية: مصطلح يصف جميع الكنائس المسيحية التي تقر بسيادة البابا وتجمعها شراكة مع الكرسي الرسولي.
البروتستانتية: أحد مذاهب وأشكال الإيمان في الدين المسيحي. تعود أصولها إلى الحركة الإصلاحية التي قامت في القرن السادس عشر بهدف إصلاح الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا الغربية.
اليسوعيون: إحدى أهم الرهبنات الفاعلة في الكنيسة الكاثوليكية وأكبرها.
الكالڤينية: وتعرف أيضاً باللاهوت المصلح، مذهب مسيحي بروتستانتي يعزى تأسيسه للمصلح الفرنسي جون كالڤن الذي وضع بين عامي 1536 ـ 1559 ميلادية مؤلَّفه (مبادئ الإيمان المسيحي) الذي يعتبره الكثيرون من أهم ما كتب في الحركة البروتستانتية.
الباروكية: مرحلة تاريخية في الثقافة الغربية نشأت عن طريق أسلوب جديد في فهم الفنون البصرية (الأسلوب الباروكي) انطلاقاً من سياقات تاريخية وثقافية مختلفة أنتجت أعمالاً عديدة ومتنوعة في حقول الفن.
الأنجليكانية: تقليد داخل المسيحية يضم كنيسة إنجلترا والكنائس التي ترتبط بها تاريخياً، أو تلك التي تحمل معتقدات ذات صلة وثيقة بها.
القَبالة: معتقدات وشروحات روحانية فلسفية تفسر الحياة والكون والربانيات، بدأت عند اليهود في القرن الثاني عشر وبقيت حكراً عليهم لقرون طويلة حتى أتى فلاسفة غربيون وطبقوا مبادئها على الثقافة الغربية.
لينُكس: نظام تشغيل حر ومفتوح المصدر.
ولد أومبرتو إيكو في مدينة ألساندريا بإقليم بيدمونتي شمال إيطاليا عام 1932، وكان أبوه جوليو محاسباً قبل أن ينخرط جندياً في الحرب العالمية الثانية لتنتقل أمه جوفانا معه إلى قرية صغيرة تقع على الجانب الجبلي من الإقليم.
أُخذ اسم عائلته إيكو Eco من الحروف اللاتينية الأولى لجملة (Ex Coelis Oblatus)، ومعناها "هبة السماء"، وهو الاسم الذي منح لجده الذي كان لقيطاً، من قبل مكتب المدينة. حاول أبوه، الذي كان ابناً لعائلة فيها ثلاثة عشر ابناً آخر، دفعه لأن يكون محامياً، غير أنه انتسب إلى جامعة تورينو لدراسة فلسفة القرون الوسطى والأدب. كتب أطروحته حول توما الأكويني، وحصل على دكتوراه في الفلسفة عام 1954، وخلال هذا الوقت، هجر إيكو الكنيسة الكاثوليكية.
مارس إيكو، إضافة إلى نشاطه الروائي، إلقاء المحاضرات الجامعية وكتابة البحوث في الفلسفة وعلم الدلالات، كما كان لديه عمود ثابت في الصفحة الأخيرة لصحيفة Espresso الأسبوعية، وقد ارتأيت هنا ترجمة المقال الطريف الذي يتحدث فيه عن صراع الحواسيب الرقمي بنبرة لاهوتيّة:
ثمة حقيقة تفيد بأن العالم منقسم بين مستعملي حاسوب ماكنتوش (Mac) وحاسوب مايكروسوفت المتوافق مع نظام دوس (DOS). شخصياً أؤمن بالفكرة التي تقول بأن الماكنتوش كاثوليكي، أما الدوس فبروتستانتي.
في الحقيقة، الماكنتوش معاد للإصلاح ومتأثر بالنظام التعليمي لليسوعيين. إنه مرح، ودود وتوفيقي؛ يخبر المخلِصين كيف ينبغي لهم أن يمضوا خطوة فخطوة للوصول، إن لم يكن إلى مملكة السماء، فإلى اللحظة التي تكون فيها وثيقتهم مطبوعة. إنه نظام تلقيني: روح الوحي تتعامل معك عبر الصيغ المبسطة والأيقونات الفاخرة. كل شخص له الحق بالخلاص.
أما الدوس فبروتستانتي، أو حتى كالڤيني. يسمح بالتفسير الحر للكتاب المقدس، يقتضي قرارات شخصية صعبة، يفرض تأويلات حاذقة على المُستخدِم، ولا يستحسن الفكرة التي تقول بأن ليس بإمكان الجميع نيل الخلاص. لجعل النظام يعمل ،تحتاج لتأويل البرنامج بنفسك بعيداً عن عربدة المجتمع الباروكي، المُستخدِم منغلق على نفسه في عزلة عذابه الداخلي الشخصي.
قد تعترض على أنه من خلال العبور إلى ويندوز، فإن عالم دوس يصير أكثر شبهاً بتسامح مناهضة الإصلاح الماكنتوشي. هذا صحيح: فنظام ويندوز يمثل انشقاقاً على الطراز الإنجليكاني، طقوس كبيرة في الكاتدرائية، إلا أن هناك دائماً امكانية العودة إلى دوس لتغيير الأشياء طبقاً لقرارات غريبة: حين تهبط إليه، يمكنك أن تقرر مصير النساء والمثليين إذا شئت.
طبيعي، فإن كاثوليكية أو بروتستانتية النظامين لا علاقة لهما بالمواقع الثقافية والدينية لمستعمليهما. ربما يتساءل أحدهم، بمرور الوقت، عما إذا كان استعمال نظام معين من دون غيره يقود إلى تغييرات داخلية عميقة؟ هل يمكنك أن تستعمل دوس وتكون واحداً من أنصار الفاندا؟ وأكثر من ذلك: هل تكتب "سيلينا" مستعملة برنامج "وورد"، "وورد بريفكت" أم "وورد ستار"؟ هل كان ديكارت يبرمج في نظام "باسكال"؟
وشيفرة الجهاز، تلك التي تكمن تحت وتقرر مصير كلا النظامين (أو البيئتين إن أحببت)؟ أوه، إن ذلك ينتمي إلى العهد القديم، وهو تلمودي وقَبالي، اللوبي اليهودي كالعادة...
(1994)
كُتب هذا العمود قبل ست سنوات مضت، وفي غضون ذلك الوقت تغيرت أمور كثيرة. الويندوز انضمّ إلى ماك في ثالوث كاثوليكي مع إصدار نسخة نظام 95 و98، شُعلة البروتستانتية أضحت الآن في يد لينُكس Linux. لكن المعارضة ما تزال شرعيّة.
(1999)
المصدر: موقع The Phora
هوامش ثيولوجية ورقمية:
ماكنتوش المعروف اختصاراً " ماك": عائلة حواسيب شخصية يتم تطويرها وإنتاجها وتسويقها من قبل شركة أبل.
مايكروسوفت: شركة متعددة الجنسيات تعمل في مجال تقنيات الحاسوب.
دوس: أحد أقدم الأنظمة المستخدمة في إدارة وتشغيل الحاسوب قديماً.
الكاثوليكية: مصطلح يصف جميع الكنائس المسيحية التي تقر بسيادة البابا وتجمعها شراكة مع الكرسي الرسولي.
البروتستانتية: أحد مذاهب وأشكال الإيمان في الدين المسيحي. تعود أصولها إلى الحركة الإصلاحية التي قامت في القرن السادس عشر بهدف إصلاح الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا الغربية.
اليسوعيون: إحدى أهم الرهبنات الفاعلة في الكنيسة الكاثوليكية وأكبرها.
الكالڤينية: وتعرف أيضاً باللاهوت المصلح، مذهب مسيحي بروتستانتي يعزى تأسيسه للمصلح الفرنسي جون كالڤن الذي وضع بين عامي 1536 ـ 1559 ميلادية مؤلَّفه (مبادئ الإيمان المسيحي) الذي يعتبره الكثيرون من أهم ما كتب في الحركة البروتستانتية.
الباروكية: مرحلة تاريخية في الثقافة الغربية نشأت عن طريق أسلوب جديد في فهم الفنون البصرية (الأسلوب الباروكي) انطلاقاً من سياقات تاريخية وثقافية مختلفة أنتجت أعمالاً عديدة ومتنوعة في حقول الفن.
الأنجليكانية: تقليد داخل المسيحية يضم كنيسة إنجلترا والكنائس التي ترتبط بها تاريخياً، أو تلك التي تحمل معتقدات ذات صلة وثيقة بها.
القَبالة: معتقدات وشروحات روحانية فلسفية تفسر الحياة والكون والربانيات، بدأت عند اليهود في القرن الثاني عشر وبقيت حكراً عليهم لقرون طويلة حتى أتى فلاسفة غربيون وطبقوا مبادئها على الثقافة الغربية.
لينُكس: نظام تشغيل حر ومفتوح المصدر.