بدأت قصة معرفتي بالدكتور عبد الوهاب المسيري بقصة في منتهى السذاجة والجهل من جانبي فأول معرفتي وأول مرة أسمع اسم دكتور المسيري كنت وقتها لازالت طفلة مراهقة صغيرة تخطو أولى خطواتها نحو الجامعة في بداية الألفية الثالثة من القرن وكنت أبحث عن عمل وطلبت من زميل أن يساعدني وبعد فترة أخبرني أن دكتور عبد الوهاب المسيري يبحث عن فتاة تدير له شؤون مكتبه وتنظم له المواعيد وسألته بجهل من هذا الدكتور؟ فبهت هذا الصديق وفتح عينيه بشدة ورجع برأسه إلى الخلف مندهشًا وغير مصدق أن هناك من لايعلم دكتور عبد الوهاب المسيري ومن وقتها بدأت أنتبه وأركز مع الاسم وأركز مع ابداعات هذا المفكر البسيط جدًا العميق جدًا.
استطاع الدكتور عبد الوهاب المسيري أن يتجرد من الشكل النمطي للمفكر أو الفيلسوف البعيد عن الناس ومن همومهم ومشكلاتهم فكان منتجه وتجربته مختلفة وقريبة من الناس ومن حياتهم وهمومهم.
قدم سيرته الشخصية بصورة مختلفة وصرح أنها سيرة غير ذاتية وغير موضوعية واستفاض في إطلاعنا على شخصيته ونشأته في مدينة دمنهور ومدرسته الابتدائية ومدى تحول حياته وكيفية تكوين أفكاره ومواقفه وإيمانه، وقسم سيرته إلى ثلاث أقسام مرحلة البذور والجذور والثمر وأكد أن رحلته من الجذور تبدأ من مدينة دمنهور تلك المدينة الممتلئة بعبق التاريخ الذي ملأ روحه وترك أثرًا فيه ويذكر مدرسته ومرحلة تعليمه التي تخللها مشاركته في المظاهرات المناهضة للاحتلال الانجليزي.
وطرح في المذكرات بداية اتجاهه نحو الماركسية مع بداية دراسته للفلسفة في المرحلة الثانوية وطرح الدكتور المسيري سؤال “ما أصل الشرور في العالم والحكمة من وجوده” وعندما لم يجد إجابة قرر ترك الصلاة والصوم حتى يجد لسؤاله إجابة، ثم بدأ يقرأ عن الماركسية وانضم إلى الحزب الشيوعي ولكنه لم يصل إلى الإلحاد كما أكد في كتابه، لإنه عندما اندمج في صفوف وجد أن سلوكيات أعضاء الحزب بعيدة كل البعد عن مثالية الدين والأخلاق ولكنها مليئة بالتناقضات وتغلب عليها المصلحة الخاصة، وانضمام بعض الأعضاء واعتناقهم للفكر الماركسي ناتج عن حقد طبقي وتطلعات طبقية.
وانتقل الدكتور المسيري إلى رحلته إلى نيويورك بأمريكا للحصول على الماجستير والدكتوراه، ويقول أن التقدم في الغرب ماهو إلا نتيجة نهب ثورات العالم الثالث وأن نهضة الغرب جاءت على حساب العالم بأسره، وأنه بعد أن عاش فترة في الولايات المتحدة الأمريكية ومعرفته بماهية حضارتها المادية و وثقافتها البراقة المزيفة قرر العودة إلى مصر والعمل كناقد أدبي محاولا ربط الأدب بتاريخ الفكر وتعرض بعد عودته إلى مصر والإقامة بها إلى هجوم ما أسماه الذئاب الثلاثة وهي الثروة والشهرة والمعلومات وقال دكتور المسيري في كتابة أنه استطاع أن التغلب على ذئب الثروة والرغبة في أن يكون ذو مال بالحكمة والعلاقات الإنسانية الدافئة واستطاع أن يجعل من المال وسيلة وليس غاية وأن يوظفه لتلبية متطلباته لا أن يوظفه المال عنده وأن يصبح عبد جمعه والحصول عليه.
أما ذئب الشهرة فقد حصل عليه عندما عاد من أمريكا وعمل بالأهرام وكان مسؤولا عن وحدة الفكر الصهيوني في مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام فوجد أن إحساسه أشبع وليس هناك حاجة لشهرة أكثر من ذلك.
وبالنسبة لذئب المعلومات فقد قال عنه أنه ذئب من نوع خاص جدًا ويظهر ويعبر عن نفسه عندما تنتابه الرغبة العارمة في كتابة كتاب نظري فيكون لديه جوع رهيب للحصول على المعلومات ومحاولة تطويعها واستخدامها واستخراج نتائج واستنتاجات مذهلة.
وعندما بدأ يهتم بالصهيونية كحركة سياسية واليهودية كديانة والتفريق والتمييز بينهما ترجع بذورها إلى الطفولة من مدينة دمنهور ومولد أبو حصيرة ثم عاد الشغف مرة أخرى عندما سأل زميلة له في امريكا عن جنسيتها فأجابت أنها يهودية فأجاب أنه يسألها عن جنسيتها لا الديانة فكررت نفس الإجابة فبدأ يسعى ويدرس ويقرأ بنهم في الصهيونية واليهودية ووجد ان بداخله رغبة وجوع شديد للمعرفة والكشف في هذا الجانب حتى خرج بأكبر موسوعة عن اليهود واليهودية والصهيونية.
وتقول د. هبة رؤوف عزت أن دكتور عبد الوهاب المسيري استقال من جامعة عين شمس عام 1990 ليتفرغ لإنهاء موسوعته عن اليهود واليهودية وترى أن هذا دليل على أن العلم لدى دكتور المسيري كان عبارة هدف ورسالة وليس وسيلة لتكسب الرزق، وأنه كان عقلًا موسوعيا يرغب في المعرفة والحكمة.
وأن دكتور المسيري كان شخصًا رومانتيكيًا حتى في علمه وفكره وأن الرومانتيكية كانت خط متصل في أفكاره وأبحاثه ويمكن إكتشاف هذ الخط في مسيرة دكتور المسيري منذ بداية رحلته الفكرية والإبداعية فعندما اتجه نحو الماركسية كان يبحث عن العدل المثالي المطلق، ولم يتجه كغيره نحو الاسلام السياسي، ولكن الاسلام بمفاهيمه السمحة ونشر العدل والمساواة.
هذه الرومانتيكية جعلته يرفض الاستيطان كفكرة وليس الاستيطان الصهيوين للأراضي الفلسطينية فقط بل الفكرة بمفهومها الواسع مثل الاستيطان الرأسمالي في حنوب أفريقيا والاستيطان الأمريكي لمناهج المعرفة.
رؤيته وتأمله لما وراء الأحداث وما وراء الخطاب الصهيوني، وربط الصهيونية بمشروع الحداثة ورأى أن الصهيونية جزء من الرأسمالية الامبريالية.
وترى د. هبة أنه ربط دوائر فكره ربط مركب عبر تماذج تحليلية فلا يجد القاريء غرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية وفي الشعر وفي رؤى الحداثة وفي العلمانية وفي التحيز الاكاديمي العلمي الغربي وضد نهاية التاريخ وفي الخطاب الاسلامي الجديد ثم يذهب إلى عالم أدب الأطفال ويكتب قصص للاطفال ويقدم فلسفته وفكره بصورة مبسطة ولكن شيقة للأطفال وينال جوائز قومية.
دراسة دكتور المسيري للأدب الانجليزي في الأصل تتضح وتتجلى طوال الوقت في فكره وفي اختياراته ويتجلى حسه الرومانتيكي في دراسته للقصائد الواحدة تلو الأخرى والاحساس بالتتالي التاريخي ومحاولة حل المشكلة المنهجية الكبرى وهي كيفية الانتقال من النموذج الجمالي الذي يؤكد استقلال القصيدة إلى النموذج التاريخي الذي يؤكد انها جزء لايتجزأ من عملية التوالي التاريخي.
فعندما يدرس قصائد الغرب مثل كوليردج أو وردز ورث فإن تفسيراته تكون مختلفة ومغايره عن طريقة تفكير غيره، وبقدم إضافات ويقرأها بعين مختلفة وجديدة.
وحتى دراسته للشعر العربي واحتفاءه بشكل خاص بشعر المقاومة الفلسطينية ورؤيته للنموذج الانتفاضي واعتبره نموذج للمقاومة الانسانية ضد السلاح وقوى البطش باعتبار أن الفلسطيني انسان له ثقافته ولغته وشعره وتاريخه ومن حقه أن يقاوم من أجل استرداد هذا التاريخ ومن أجل الحفاظ على هويته ولغته للتعبير عن معاناته وعن حبه وعن شعوره بالظلم.
وعندما تقرأ ماكتبه الدكتور المسيري عن الانتفاضة تجده من اجمل وأروع ماكتب عن الانتفاضة الفلسطينية وبالرغم من أنه مشهور بموسوعته ودراساته الموسعة عن اليهود واليهودية إلا أن كتاباته عن الانتفاضة الفلسطينية لاتقل أهمية عنها وفي كتابه ” الانتفاضة: دراسة في الإدراك والكرامة” فقد جعل من الانتفاضة إنسان له ملامحه وسماته وعقيدته وخصائصه الحضارية، فيما أسماه بالنموذج الانتفاضي ولأن الانتفاضة ليست مجرد ثورة ضد احتلال غاشم، وتنبأ لها بالتجدد وتوسع بها إلى كل أشكال القوى الاستيطانية على مستوى العالم.
وقدم دكتور المسيري خدمة جليلة وعظيمة إلى القضية الفلسطينية والانتفاضة حيث ترجم شعر الانتفاضة إلى الإنجليزية وفند جماليات المقاومة في المراثي والأمل في الانتصار والصمود والمقاومة.
ترجم المسيري شعر توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم وحلله كي تصل التجربة من لسان آخر غير أصحابه إلى بشر آخرين وتصبح تعبيرًا انسانيًا عن الفلسطيني ليتواصل مع العالم الآخر الذي يراه جاني ومصاص دماء وآكل لحوم البشر، وينقل حقيقة معاناته.
وعندما كتب عن اليهودية وعن الجماعة اليهودية على أنها جماعة موحدة فإن المسيري فند هذه الأكذوبة وأعاد تركيب الفكر والتاريخ اليهودي وأيضا لم تكن كتاباته عبارة عن معلومات منقولة وناقلة وللرصد فقط، ولكنه ومنذ عام 1976 ربط بين الصهيونية والعنصرية حيث اعتبرها حركة عنصرية صرف وربط بين النضال الفلسطيني وكفاح شعب جنوب أفريقيا ضد الأبارتهيد.
وتنبأ الدكتور المسيري بتفكك المجتمع الصهيوني وكتب حول فهم المجتمع الإسرائيلي من الداخل وتطوير قدرتنا التفسيرية وفهمنا لطبيعة العدو وطبيعة القضية والمعركة.
وحين انتهى من موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية نموذج تفسيري جديد”، وجد أنه لابد استخلاص نتائج فلسفية ومنهجية ورغم مرضه عكف على تطويرها وإصدارها كعمل مستقل.
ويرى دكتور المسيري أن منهج مابعد الحداثة لا يشكل إنحرافًأ عن الحضارة الغربية وإنما هي كامنة في منظومة الحداثة ونزعتها التفكيكية لأنها جعلت من المادية معيارا لكل شيء بما في ذلك الظاهرة الإنسانية ولكن القانون الطبيعي لا يعترف بمطلق بل يفكك كل شيء بما في ذلك الانسان نفسه.
وعندما نصل لتفكيك كل شيء فإننا نصل إلى العدمية وإنكار المركز وإنكار الإله وانكار القيمة والحقيقة ومن ثم المقدرة على الحكم.
وهو يطور مفهوم الحلولية أي انكار المسافة بين الخالق والمخلوق ويحرره من المعنى العقيدي ويكسبه دلالة تحليلية في دراسة العلمانية ومحاولة التجاوز في تيارات ما بعد الحداثة وقصورها حيث عجزت عن التحرر من فكرة الانسان الطبيعي وحين يتم تهميش الدين تسود الحتميات وتصبح الظواهر ذات بعد واحد وتسود الواحدية.
وبهذا وصل إلى التفريق بين العلمانية الجزئية وهي فصل الدين عن الدولة وبين العلمانية الشاملة وهي فصل الدين عن حياة الانسان العامة والخاصة وعن المرجعية النهائية للدولة ولكل قرارات الانسان، أي فصل القيمة عن الحياة.
ونتيجة لهذا نجد العلم المنفصل عن القيمة والجسد المنفصل عن القيمة والحياة المنفصلة عن القيمة وهذه هي المادية الكاملة المستحيلة وهذا ما لايمكن تقبله لأنها أيديولوجية لا مجال فيها لقيمة أو للانسان وتختزل حياة الانسان إلى البعد المادي فقط.
ومن أبرز إسهامات الدكتور المسيري تطويره لمفاهيم اجتماعية وتوظيفها في دراسة ظواهر جديد مثل الجماعات الوظيفية وهي جماعات يستوردها المجتمع أو يجندها من داخله ويوكل لها المجتمع وظائف معينة لكونها مشينة لباقي أعضاء المجتمع مثل( البغاء-الربا) أو لكونها متميزة مثل ( الطب-الترجمة) أو أمنية عسكرية أو لكونها تطلب الحياد التام (التجارة وجمع الضرائب).
أعضاء الجماعة الوظيفية تطلب حياد تام وهي جماعات نفعية تعاقدية وليس بينهم ارتباط أو انتماء وتعيش في حالة اغتراب على هامش المجتمع.
استطاع دكتور المسيري أن يسحب هذا المفهوم على الكيان الصهيوني واعتبره كيان وظيفي له دور محدد في إطار النسق الرأسمالي العالمي وذلك لخدمة اهداف استراتيجية في المنطقة العربية، واعتبر اسرائيل دولة وظيفية تؤدي الدورأو الوظيفة المطلوبة منها وسط الدول الرأسمالية العالمية.
وقدم دكتور المسيري مجموعة من القصص البديعة للأطفال قدم فيها فكره وفلسفته بصورة مبسطة للطفل ويوضح أنه من خلال القصص نستطيع تغيير العالم فقدم سندريلا وجعلها تركب مترو الانفاق وترتدي زيًأ اهدتها إياه زينب هانم خاتون وتسافر لتحصل على الدكتوراه.
وعن حياته ووعيه بضرورة التمييز بين العلمانية الشاملة والجزئية وبين القرية والمدينة والصلة بين دراسة الشعر الرومانتيكي ودراسة الصهيوينة وتاريخ الأفكار كتب سيرته الذاتية التي تؤرخ لتطوره الفكري وأطلق عليها سيرة غير ذاتية فهي سيرة مفكر عربي مسلم وتتضمن بعض الحقائق الخاصة بفرد معين له أبعاد وسمات خاصة ولهذا فهي أيضًا غير موضوعية.
sadazakera.wordpress.com
استطاع الدكتور عبد الوهاب المسيري أن يتجرد من الشكل النمطي للمفكر أو الفيلسوف البعيد عن الناس ومن همومهم ومشكلاتهم فكان منتجه وتجربته مختلفة وقريبة من الناس ومن حياتهم وهمومهم.
قدم سيرته الشخصية بصورة مختلفة وصرح أنها سيرة غير ذاتية وغير موضوعية واستفاض في إطلاعنا على شخصيته ونشأته في مدينة دمنهور ومدرسته الابتدائية ومدى تحول حياته وكيفية تكوين أفكاره ومواقفه وإيمانه، وقسم سيرته إلى ثلاث أقسام مرحلة البذور والجذور والثمر وأكد أن رحلته من الجذور تبدأ من مدينة دمنهور تلك المدينة الممتلئة بعبق التاريخ الذي ملأ روحه وترك أثرًا فيه ويذكر مدرسته ومرحلة تعليمه التي تخللها مشاركته في المظاهرات المناهضة للاحتلال الانجليزي.
وطرح في المذكرات بداية اتجاهه نحو الماركسية مع بداية دراسته للفلسفة في المرحلة الثانوية وطرح الدكتور المسيري سؤال “ما أصل الشرور في العالم والحكمة من وجوده” وعندما لم يجد إجابة قرر ترك الصلاة والصوم حتى يجد لسؤاله إجابة، ثم بدأ يقرأ عن الماركسية وانضم إلى الحزب الشيوعي ولكنه لم يصل إلى الإلحاد كما أكد في كتابه، لإنه عندما اندمج في صفوف وجد أن سلوكيات أعضاء الحزب بعيدة كل البعد عن مثالية الدين والأخلاق ولكنها مليئة بالتناقضات وتغلب عليها المصلحة الخاصة، وانضمام بعض الأعضاء واعتناقهم للفكر الماركسي ناتج عن حقد طبقي وتطلعات طبقية.
وانتقل الدكتور المسيري إلى رحلته إلى نيويورك بأمريكا للحصول على الماجستير والدكتوراه، ويقول أن التقدم في الغرب ماهو إلا نتيجة نهب ثورات العالم الثالث وأن نهضة الغرب جاءت على حساب العالم بأسره، وأنه بعد أن عاش فترة في الولايات المتحدة الأمريكية ومعرفته بماهية حضارتها المادية و وثقافتها البراقة المزيفة قرر العودة إلى مصر والعمل كناقد أدبي محاولا ربط الأدب بتاريخ الفكر وتعرض بعد عودته إلى مصر والإقامة بها إلى هجوم ما أسماه الذئاب الثلاثة وهي الثروة والشهرة والمعلومات وقال دكتور المسيري في كتابة أنه استطاع أن التغلب على ذئب الثروة والرغبة في أن يكون ذو مال بالحكمة والعلاقات الإنسانية الدافئة واستطاع أن يجعل من المال وسيلة وليس غاية وأن يوظفه لتلبية متطلباته لا أن يوظفه المال عنده وأن يصبح عبد جمعه والحصول عليه.
أما ذئب الشهرة فقد حصل عليه عندما عاد من أمريكا وعمل بالأهرام وكان مسؤولا عن وحدة الفكر الصهيوني في مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام فوجد أن إحساسه أشبع وليس هناك حاجة لشهرة أكثر من ذلك.
وبالنسبة لذئب المعلومات فقد قال عنه أنه ذئب من نوع خاص جدًا ويظهر ويعبر عن نفسه عندما تنتابه الرغبة العارمة في كتابة كتاب نظري فيكون لديه جوع رهيب للحصول على المعلومات ومحاولة تطويعها واستخدامها واستخراج نتائج واستنتاجات مذهلة.
وعندما بدأ يهتم بالصهيونية كحركة سياسية واليهودية كديانة والتفريق والتمييز بينهما ترجع بذورها إلى الطفولة من مدينة دمنهور ومولد أبو حصيرة ثم عاد الشغف مرة أخرى عندما سأل زميلة له في امريكا عن جنسيتها فأجابت أنها يهودية فأجاب أنه يسألها عن جنسيتها لا الديانة فكررت نفس الإجابة فبدأ يسعى ويدرس ويقرأ بنهم في الصهيونية واليهودية ووجد ان بداخله رغبة وجوع شديد للمعرفة والكشف في هذا الجانب حتى خرج بأكبر موسوعة عن اليهود واليهودية والصهيونية.
وتقول د. هبة رؤوف عزت أن دكتور عبد الوهاب المسيري استقال من جامعة عين شمس عام 1990 ليتفرغ لإنهاء موسوعته عن اليهود واليهودية وترى أن هذا دليل على أن العلم لدى دكتور المسيري كان عبارة هدف ورسالة وليس وسيلة لتكسب الرزق، وأنه كان عقلًا موسوعيا يرغب في المعرفة والحكمة.
وأن دكتور المسيري كان شخصًا رومانتيكيًا حتى في علمه وفكره وأن الرومانتيكية كانت خط متصل في أفكاره وأبحاثه ويمكن إكتشاف هذ الخط في مسيرة دكتور المسيري منذ بداية رحلته الفكرية والإبداعية فعندما اتجه نحو الماركسية كان يبحث عن العدل المثالي المطلق، ولم يتجه كغيره نحو الاسلام السياسي، ولكن الاسلام بمفاهيمه السمحة ونشر العدل والمساواة.
هذه الرومانتيكية جعلته يرفض الاستيطان كفكرة وليس الاستيطان الصهيوين للأراضي الفلسطينية فقط بل الفكرة بمفهومها الواسع مثل الاستيطان الرأسمالي في حنوب أفريقيا والاستيطان الأمريكي لمناهج المعرفة.
رؤيته وتأمله لما وراء الأحداث وما وراء الخطاب الصهيوني، وربط الصهيونية بمشروع الحداثة ورأى أن الصهيونية جزء من الرأسمالية الامبريالية.
وترى د. هبة أنه ربط دوائر فكره ربط مركب عبر تماذج تحليلية فلا يجد القاريء غرابة في أن يكتب المسيري في اليهودية والصهيونية وفي الشعر وفي رؤى الحداثة وفي العلمانية وفي التحيز الاكاديمي العلمي الغربي وضد نهاية التاريخ وفي الخطاب الاسلامي الجديد ثم يذهب إلى عالم أدب الأطفال ويكتب قصص للاطفال ويقدم فلسفته وفكره بصورة مبسطة ولكن شيقة للأطفال وينال جوائز قومية.
دراسة دكتور المسيري للأدب الانجليزي في الأصل تتضح وتتجلى طوال الوقت في فكره وفي اختياراته ويتجلى حسه الرومانتيكي في دراسته للقصائد الواحدة تلو الأخرى والاحساس بالتتالي التاريخي ومحاولة حل المشكلة المنهجية الكبرى وهي كيفية الانتقال من النموذج الجمالي الذي يؤكد استقلال القصيدة إلى النموذج التاريخي الذي يؤكد انها جزء لايتجزأ من عملية التوالي التاريخي.
فعندما يدرس قصائد الغرب مثل كوليردج أو وردز ورث فإن تفسيراته تكون مختلفة ومغايره عن طريقة تفكير غيره، وبقدم إضافات ويقرأها بعين مختلفة وجديدة.
وحتى دراسته للشعر العربي واحتفاءه بشكل خاص بشعر المقاومة الفلسطينية ورؤيته للنموذج الانتفاضي واعتبره نموذج للمقاومة الانسانية ضد السلاح وقوى البطش باعتبار أن الفلسطيني انسان له ثقافته ولغته وشعره وتاريخه ومن حقه أن يقاوم من أجل استرداد هذا التاريخ ومن أجل الحفاظ على هويته ولغته للتعبير عن معاناته وعن حبه وعن شعوره بالظلم.
وعندما تقرأ ماكتبه الدكتور المسيري عن الانتفاضة تجده من اجمل وأروع ماكتب عن الانتفاضة الفلسطينية وبالرغم من أنه مشهور بموسوعته ودراساته الموسعة عن اليهود واليهودية إلا أن كتاباته عن الانتفاضة الفلسطينية لاتقل أهمية عنها وفي كتابه ” الانتفاضة: دراسة في الإدراك والكرامة” فقد جعل من الانتفاضة إنسان له ملامحه وسماته وعقيدته وخصائصه الحضارية، فيما أسماه بالنموذج الانتفاضي ولأن الانتفاضة ليست مجرد ثورة ضد احتلال غاشم، وتنبأ لها بالتجدد وتوسع بها إلى كل أشكال القوى الاستيطانية على مستوى العالم.
وقدم دكتور المسيري خدمة جليلة وعظيمة إلى القضية الفلسطينية والانتفاضة حيث ترجم شعر الانتفاضة إلى الإنجليزية وفند جماليات المقاومة في المراثي والأمل في الانتصار والصمود والمقاومة.
ترجم المسيري شعر توفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وغيرهم وحلله كي تصل التجربة من لسان آخر غير أصحابه إلى بشر آخرين وتصبح تعبيرًا انسانيًا عن الفلسطيني ليتواصل مع العالم الآخر الذي يراه جاني ومصاص دماء وآكل لحوم البشر، وينقل حقيقة معاناته.
وعندما كتب عن اليهودية وعن الجماعة اليهودية على أنها جماعة موحدة فإن المسيري فند هذه الأكذوبة وأعاد تركيب الفكر والتاريخ اليهودي وأيضا لم تكن كتاباته عبارة عن معلومات منقولة وناقلة وللرصد فقط، ولكنه ومنذ عام 1976 ربط بين الصهيونية والعنصرية حيث اعتبرها حركة عنصرية صرف وربط بين النضال الفلسطيني وكفاح شعب جنوب أفريقيا ضد الأبارتهيد.
وتنبأ الدكتور المسيري بتفكك المجتمع الصهيوني وكتب حول فهم المجتمع الإسرائيلي من الداخل وتطوير قدرتنا التفسيرية وفهمنا لطبيعة العدو وطبيعة القضية والمعركة.
وحين انتهى من موسوعته “اليهود واليهودية والصهيونية نموذج تفسيري جديد”، وجد أنه لابد استخلاص نتائج فلسفية ومنهجية ورغم مرضه عكف على تطويرها وإصدارها كعمل مستقل.
ويرى دكتور المسيري أن منهج مابعد الحداثة لا يشكل إنحرافًأ عن الحضارة الغربية وإنما هي كامنة في منظومة الحداثة ونزعتها التفكيكية لأنها جعلت من المادية معيارا لكل شيء بما في ذلك الظاهرة الإنسانية ولكن القانون الطبيعي لا يعترف بمطلق بل يفكك كل شيء بما في ذلك الانسان نفسه.
وعندما نصل لتفكيك كل شيء فإننا نصل إلى العدمية وإنكار المركز وإنكار الإله وانكار القيمة والحقيقة ومن ثم المقدرة على الحكم.
وهو يطور مفهوم الحلولية أي انكار المسافة بين الخالق والمخلوق ويحرره من المعنى العقيدي ويكسبه دلالة تحليلية في دراسة العلمانية ومحاولة التجاوز في تيارات ما بعد الحداثة وقصورها حيث عجزت عن التحرر من فكرة الانسان الطبيعي وحين يتم تهميش الدين تسود الحتميات وتصبح الظواهر ذات بعد واحد وتسود الواحدية.
وبهذا وصل إلى التفريق بين العلمانية الجزئية وهي فصل الدين عن الدولة وبين العلمانية الشاملة وهي فصل الدين عن حياة الانسان العامة والخاصة وعن المرجعية النهائية للدولة ولكل قرارات الانسان، أي فصل القيمة عن الحياة.
ونتيجة لهذا نجد العلم المنفصل عن القيمة والجسد المنفصل عن القيمة والحياة المنفصلة عن القيمة وهذه هي المادية الكاملة المستحيلة وهذا ما لايمكن تقبله لأنها أيديولوجية لا مجال فيها لقيمة أو للانسان وتختزل حياة الانسان إلى البعد المادي فقط.
ومن أبرز إسهامات الدكتور المسيري تطويره لمفاهيم اجتماعية وتوظيفها في دراسة ظواهر جديد مثل الجماعات الوظيفية وهي جماعات يستوردها المجتمع أو يجندها من داخله ويوكل لها المجتمع وظائف معينة لكونها مشينة لباقي أعضاء المجتمع مثل( البغاء-الربا) أو لكونها متميزة مثل ( الطب-الترجمة) أو أمنية عسكرية أو لكونها تطلب الحياد التام (التجارة وجمع الضرائب).
أعضاء الجماعة الوظيفية تطلب حياد تام وهي جماعات نفعية تعاقدية وليس بينهم ارتباط أو انتماء وتعيش في حالة اغتراب على هامش المجتمع.
استطاع دكتور المسيري أن يسحب هذا المفهوم على الكيان الصهيوني واعتبره كيان وظيفي له دور محدد في إطار النسق الرأسمالي العالمي وذلك لخدمة اهداف استراتيجية في المنطقة العربية، واعتبر اسرائيل دولة وظيفية تؤدي الدورأو الوظيفة المطلوبة منها وسط الدول الرأسمالية العالمية.
وقدم دكتور المسيري مجموعة من القصص البديعة للأطفال قدم فيها فكره وفلسفته بصورة مبسطة للطفل ويوضح أنه من خلال القصص نستطيع تغيير العالم فقدم سندريلا وجعلها تركب مترو الانفاق وترتدي زيًأ اهدتها إياه زينب هانم خاتون وتسافر لتحصل على الدكتوراه.
وعن حياته ووعيه بضرورة التمييز بين العلمانية الشاملة والجزئية وبين القرية والمدينة والصلة بين دراسة الشعر الرومانتيكي ودراسة الصهيوينة وتاريخ الأفكار كتب سيرته الذاتية التي تؤرخ لتطوره الفكري وأطلق عليها سيرة غير ذاتية فهي سيرة مفكر عربي مسلم وتتضمن بعض الحقائق الخاصة بفرد معين له أبعاد وسمات خاصة ولهذا فهي أيضًا غير موضوعية.
مقالات – صدى.. ذاكرة القصة المصرية
Posts about مقالات written by emanabuahmed, sadazakera و .مختار أمين