طاخ طيخ.. طاخ طيخ.. منذ ليلتين لم أنم، لا أعرف ما إذا كان رجلاً أم امرأة في الشقة التي تعلو شقتي، يحدث الضجيج بعد الساعة الثانية عشرة ليلاً ويستمر حتى الفجر.. أنا حديثة سكن منذ أربعة أيام فقط في هذه العمارة، قلت سيتوقف الأمر حتماً، لا يمكن أن يستمر فالبلد فيها قوانين مشددة بشأن الضجيج وإزعاج الآخرين.. لكن الأمر لم يتوقف ولا أظنه سيتوقف.
قطع أثاث تهبط على الأرضية التي هي سقف شقتي، طناجر تضرب الجدران، أشياء زجاجية تتهشم، يعقبها بكاء وصراخ ثم تعود الأشياء تضرب الجدران والأرضية.
بعد الليلة الثانية نزلت الى مكتب الآنسة مورين مسؤولة العمارة، وأبلغتها بما يحدث، مطت شفتيها المصبوغتين بالروج الأحمر وقالت:
ـ أوه عزيزتي، إنه مستر جون، رجل مسالم بدرجة كبيرة، لكنه مدمن هيروين، اطمئني سأعالج الأمر.
لم يُعالج الأمر، والرجل لا يمكن أن يكون مسالماً، استمر الضجيج والصراخ وسقوط الأشياء وتكسرها بلا رحمة كأنها تسقط على رأسي، بل إنني وجدت ذات صباح نثار حجرعلى فراشي ونظرت الى السقف فإذا به بعض الحُفر، لقد أصبح الأمر لا يطاق.
ثانية نزلت الى مورين، وهذه المرة تملكني الغضب، وكنت أعاني من صداع شديد جراء عدم النوم، قلت لها بأنني غير ملزمة ببنود عقد الإيجار ما لم تجد حلاً.. أمسكت بيدي، وبشفتيها المصبوغتين بالروج البنفسجي هذه المرة قالت:
ـ أوه عزيزتي، صعدت إليه ولم أجده، فتركت له على باب الشقة إنذاراً مكتوباً على ورقة، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه سأطالبه بإخلاء الشقة.
قلت بنفاد صبر:
ـ وحتى يتم ذلك ماذا أفعل برأسي الذي يكاد ينشطر؟
ـ اليوم سأنهي المشكلة معه وإن عاد الضجيج اخبريني لأتصل بالشرطة.
أعرف أن من حقي الاتصال بالشرطة مادمت قد أخبرت المسؤولة وبقي الأمر على ما هو عليه، لكن مجرد أن تأتي لفظة شرطة على خاطري أرتبك ويصيبني دوار، لقد أخرجتها من ذاكرتي منذ زمن بعيد حتى أنني نسيتها، فلماذا أعادتني إليها مورين؟
**
ذات ظهيرة اقتادوني الى مركز الشرطة، كنا في شهر تموز والحرارة ملتهبة، وكنت آخذ قيلولة، صحوت على ضرب عنيف على الباب فقفزت من على السرير، وكانت أمي قد فزعت هي الأخرى فسبقتني الى الباب:
ـ أين ابنتك زهرة؟
ـ أنا زهرة.. ماذا هناك؟
ـ غيري ملابسك بسرعة وتعالي معنا.
ـ الى أين؟
ـ الى مركز الشرطة.
صرخت أمي وسألته:
ـ لأي سبب.
ـ لا ندري، فقط لدينا أوامر بإلقاء القبض على ابنتك زهرة.
شهقت أمي:
ـ البنت صغيرة ولا يمكن أن تكون قد فعلت شيئاً.
ـ أمسكت بيدها مستجيرة فاحتضنتني.. قال الشرطي:
ـ لست أعرف ماذا فعلت، أنا أقوم بواجبي فقط.
ومد يده ليسحبني من بين ذراعي أمي، فصرختْ بوجهه:
ـ لن أدعك تأخذها قبل أن أرى مذكرة إلقاء القبض، ألا يمكن أن تكون أنت وجماعتك عصابة تتخفى في زي الشرطة؟
لم تكن عصابة، كانت هي الشرطة نفسها، لم يسمحوا لأمي أن تدخل معي الى غرفة المفوض الذي حقق معي فبقيت في الممر، كان رجلاً في الأربعينيات من عمره، ضخم الجثة وذا عينين ذئبيتين، يجلس وراء مكتبه العريض، وأقف أنا قبالته على الطرف الثاني من المكتب، تتلاحق من فمه الأسئلة بنبرة خشنة، وأرد عليه بالأجوبة المرتعشة خوفاً، وحين كف عن الكلام بعد دهر نظر إليّ، ولمحت على وجهه ابتسامة ماكرة، ثم قام وخطا باتجاهي، والتف من ورائي فتسمرت في مكاني، وارتعش جسدي مثل سعفة في يوم عاصف، فقد لامسني من الخلف بجسده الضخم.. تقدمت خطوتين مرتجفتين، واستدرت نحوه، واضعة كفي على فمي متلافية صرخة كادت تشق لساني.
من المؤكد أنه لاحظ الرعب في عيني وهروب الدم من وجنتي، لكنه سعى لما نوى عليه كما لو أنه يقوم بعمل روتيني، بدأ بملامسة شعري وقال كلاماً لم أعد أسمعه، ولم أعد أرى أو أحس بأي شيء، أظنني سمعت ارتطام شيء بالأرض لعله جسدي.
وحين صحوت وجدت نفسي في غرفة أخرى، ممددة على أريكة، وأمي تجلس على الأرض وتضع كفها على رأسي.. كان عمري وقتها ثلاثة عشر عاماً.
وفي صباح اليوم التالي، بعد جولة من الإهانات والوعيد أثناء التحقيق، تبين أن هناك تشابهاً في الأسماء مع بنت تسرق المتبضعين في الأسواق، والأغرب أنها تشبهني، كنت مصدومة ولازمني الخوف من كل شرطي طيلة حياتي.
**
أمسكت برأسي كما لو أنني أحميه من الانشطار، ربتت مورين على كتفي، عدت الى شقتي، ورميت نفسي على السرير لأنام، لقد تغير موعد نومي بسبب مستر جون، وصرت أنام في النهار.
أربعة ليالٍ ولم يتغير شيء، وقت محدد تبدأ به حفلة الضجيج، هو الثانية عشرة، وبالضبط تنتهي في الرابعة فجراً، غريب أن يتذكر رجل مدمن هذا التوقيت وينسى بأنه يسكن في عمارة سكنية وعليه احترام حياة الآخرين.
ـ يا آنسة مورين، إما أن تجدي لي شقة أخرى في العمارة وإما أن تجدي حلاً لهذه المشكلة، لا تجبريني على الاتصال بالشرطة وسأحملك المسؤولية عندها.
وخرجتُ من مكتبها، غاضبة، ويائسة.. أنا التي لفظت كلمة الشرطة هذه المرة ووجدتها أهون علي مما يفعله رجل مدمن حطم أعصابي.
قبيل الظهيرة حين استيقظت من النوم سمعت دربكة وخطوات ثقيلة في الشقة العليا، هو اليوم الخامس لي في هذه العمارة، هل سيغير الرجل حفلته وينقلها للنهار؟ ثم سمعت أصواتاً تتداخل لم أفهمها، نهضت وارتديت الروب فوق ملابسي وصعدت، ظانة أن مورين تعمل على إنهاء المشكلة، وربما حدث جدل بينهما، لكن ما إن دخلت الطابق حتى هاجمتني رائحة كريهة، ورأيت رجلين من الشرطة وثلاثة رجال آخرين ومورين، الجميع يضعون الكمامات على أنوفهم، وإحدى الساكنات تطل برأسها من الباب لتستطلع الأمر، ثم خرج من الشقة رجلان يدفعان عربة تحمل جثة ملفوفة بكيس نايلون أسود سميك، وجاءت مورين مسرعة وغاضبة نحوي حين لمحتني، يبدو وجهها ممتقعاً وملامحها متحجرة، أما أحمر شفاهها فلم يعد أحمر أو بنفسجياً، بل صار ذا لون باهت، قالت بامتعاض شديد وهي تهز يدها أمام وجهي:
ـ كيف تقولين إن الضجيج يحدث كل ليلة بما فيها ليلة أمس؟ الرجل ميت قبل مجيئك الى هذه العمارة بوقت طويل ولم يعرف به أحد، يا لك من……
ولم تكمل، فقد نادى عليها أحدهم، وبقيت أنا أتساءل في الأيام التالية عمن كان يصرخ ويبكي ويُحدِث كل ذاك الضجيج الذي لم أعد أسمعه منذ حملوا جثة مستر جون.
* عن الناقد العراقي
.
قطع أثاث تهبط على الأرضية التي هي سقف شقتي، طناجر تضرب الجدران، أشياء زجاجية تتهشم، يعقبها بكاء وصراخ ثم تعود الأشياء تضرب الجدران والأرضية.
بعد الليلة الثانية نزلت الى مكتب الآنسة مورين مسؤولة العمارة، وأبلغتها بما يحدث، مطت شفتيها المصبوغتين بالروج الأحمر وقالت:
ـ أوه عزيزتي، إنه مستر جون، رجل مسالم بدرجة كبيرة، لكنه مدمن هيروين، اطمئني سأعالج الأمر.
لم يُعالج الأمر، والرجل لا يمكن أن يكون مسالماً، استمر الضجيج والصراخ وسقوط الأشياء وتكسرها بلا رحمة كأنها تسقط على رأسي، بل إنني وجدت ذات صباح نثار حجرعلى فراشي ونظرت الى السقف فإذا به بعض الحُفر، لقد أصبح الأمر لا يطاق.
ثانية نزلت الى مورين، وهذه المرة تملكني الغضب، وكنت أعاني من صداع شديد جراء عدم النوم، قلت لها بأنني غير ملزمة ببنود عقد الإيجار ما لم تجد حلاً.. أمسكت بيدي، وبشفتيها المصبوغتين بالروج البنفسجي هذه المرة قالت:
ـ أوه عزيزتي، صعدت إليه ولم أجده، فتركت له على باب الشقة إنذاراً مكتوباً على ورقة، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه سأطالبه بإخلاء الشقة.
قلت بنفاد صبر:
ـ وحتى يتم ذلك ماذا أفعل برأسي الذي يكاد ينشطر؟
ـ اليوم سأنهي المشكلة معه وإن عاد الضجيج اخبريني لأتصل بالشرطة.
أعرف أن من حقي الاتصال بالشرطة مادمت قد أخبرت المسؤولة وبقي الأمر على ما هو عليه، لكن مجرد أن تأتي لفظة شرطة على خاطري أرتبك ويصيبني دوار، لقد أخرجتها من ذاكرتي منذ زمن بعيد حتى أنني نسيتها، فلماذا أعادتني إليها مورين؟
**
ذات ظهيرة اقتادوني الى مركز الشرطة، كنا في شهر تموز والحرارة ملتهبة، وكنت آخذ قيلولة، صحوت على ضرب عنيف على الباب فقفزت من على السرير، وكانت أمي قد فزعت هي الأخرى فسبقتني الى الباب:
ـ أين ابنتك زهرة؟
ـ أنا زهرة.. ماذا هناك؟
ـ غيري ملابسك بسرعة وتعالي معنا.
ـ الى أين؟
ـ الى مركز الشرطة.
صرخت أمي وسألته:
ـ لأي سبب.
ـ لا ندري، فقط لدينا أوامر بإلقاء القبض على ابنتك زهرة.
شهقت أمي:
ـ البنت صغيرة ولا يمكن أن تكون قد فعلت شيئاً.
ـ أمسكت بيدها مستجيرة فاحتضنتني.. قال الشرطي:
ـ لست أعرف ماذا فعلت، أنا أقوم بواجبي فقط.
ومد يده ليسحبني من بين ذراعي أمي، فصرختْ بوجهه:
ـ لن أدعك تأخذها قبل أن أرى مذكرة إلقاء القبض، ألا يمكن أن تكون أنت وجماعتك عصابة تتخفى في زي الشرطة؟
لم تكن عصابة، كانت هي الشرطة نفسها، لم يسمحوا لأمي أن تدخل معي الى غرفة المفوض الذي حقق معي فبقيت في الممر، كان رجلاً في الأربعينيات من عمره، ضخم الجثة وذا عينين ذئبيتين، يجلس وراء مكتبه العريض، وأقف أنا قبالته على الطرف الثاني من المكتب، تتلاحق من فمه الأسئلة بنبرة خشنة، وأرد عليه بالأجوبة المرتعشة خوفاً، وحين كف عن الكلام بعد دهر نظر إليّ، ولمحت على وجهه ابتسامة ماكرة، ثم قام وخطا باتجاهي، والتف من ورائي فتسمرت في مكاني، وارتعش جسدي مثل سعفة في يوم عاصف، فقد لامسني من الخلف بجسده الضخم.. تقدمت خطوتين مرتجفتين، واستدرت نحوه، واضعة كفي على فمي متلافية صرخة كادت تشق لساني.
من المؤكد أنه لاحظ الرعب في عيني وهروب الدم من وجنتي، لكنه سعى لما نوى عليه كما لو أنه يقوم بعمل روتيني، بدأ بملامسة شعري وقال كلاماً لم أعد أسمعه، ولم أعد أرى أو أحس بأي شيء، أظنني سمعت ارتطام شيء بالأرض لعله جسدي.
وحين صحوت وجدت نفسي في غرفة أخرى، ممددة على أريكة، وأمي تجلس على الأرض وتضع كفها على رأسي.. كان عمري وقتها ثلاثة عشر عاماً.
وفي صباح اليوم التالي، بعد جولة من الإهانات والوعيد أثناء التحقيق، تبين أن هناك تشابهاً في الأسماء مع بنت تسرق المتبضعين في الأسواق، والأغرب أنها تشبهني، كنت مصدومة ولازمني الخوف من كل شرطي طيلة حياتي.
**
أمسكت برأسي كما لو أنني أحميه من الانشطار، ربتت مورين على كتفي، عدت الى شقتي، ورميت نفسي على السرير لأنام، لقد تغير موعد نومي بسبب مستر جون، وصرت أنام في النهار.
أربعة ليالٍ ولم يتغير شيء، وقت محدد تبدأ به حفلة الضجيج، هو الثانية عشرة، وبالضبط تنتهي في الرابعة فجراً، غريب أن يتذكر رجل مدمن هذا التوقيت وينسى بأنه يسكن في عمارة سكنية وعليه احترام حياة الآخرين.
ـ يا آنسة مورين، إما أن تجدي لي شقة أخرى في العمارة وإما أن تجدي حلاً لهذه المشكلة، لا تجبريني على الاتصال بالشرطة وسأحملك المسؤولية عندها.
وخرجتُ من مكتبها، غاضبة، ويائسة.. أنا التي لفظت كلمة الشرطة هذه المرة ووجدتها أهون علي مما يفعله رجل مدمن حطم أعصابي.
قبيل الظهيرة حين استيقظت من النوم سمعت دربكة وخطوات ثقيلة في الشقة العليا، هو اليوم الخامس لي في هذه العمارة، هل سيغير الرجل حفلته وينقلها للنهار؟ ثم سمعت أصواتاً تتداخل لم أفهمها، نهضت وارتديت الروب فوق ملابسي وصعدت، ظانة أن مورين تعمل على إنهاء المشكلة، وربما حدث جدل بينهما، لكن ما إن دخلت الطابق حتى هاجمتني رائحة كريهة، ورأيت رجلين من الشرطة وثلاثة رجال آخرين ومورين، الجميع يضعون الكمامات على أنوفهم، وإحدى الساكنات تطل برأسها من الباب لتستطلع الأمر، ثم خرج من الشقة رجلان يدفعان عربة تحمل جثة ملفوفة بكيس نايلون أسود سميك، وجاءت مورين مسرعة وغاضبة نحوي حين لمحتني، يبدو وجهها ممتقعاً وملامحها متحجرة، أما أحمر شفاهها فلم يعد أحمر أو بنفسجياً، بل صار ذا لون باهت، قالت بامتعاض شديد وهي تهز يدها أمام وجهي:
ـ كيف تقولين إن الضجيج يحدث كل ليلة بما فيها ليلة أمس؟ الرجل ميت قبل مجيئك الى هذه العمارة بوقت طويل ولم يعرف به أحد، يا لك من……
ولم تكمل، فقد نادى عليها أحدهم، وبقيت أنا أتساءل في الأيام التالية عمن كان يصرخ ويبكي ويُحدِث كل ذاك الضجيج الذي لم أعد أسمعه منذ حملوا جثة مستر جون.
* عن الناقد العراقي
.