لم ينجُ سليمانُ من مرضِه الذي تنادى له عطارو وعجائزُ القريةِ، إلا بقراءةِ التعاويذ عند رأسِه ومسح جسده بخل التمر وحشر طلاسم كتبت بماء الزعفرانِ في وسادتِه، فقد أستعرت في جسده حرارةٌ فصّدت لحمَه وتركتهُ عظماً أجردَ على الفراشِ طيلةَ أسابيعٍ، وقد فقد الرجاء في حياته.
فتح فمه ولم تخرج منه غير ريح سموم تصفر. سقته اخته الماء ومسحت جبينه ويديه العاطلتين وهي تبكي، فقد عاد لها من براثن الموت بعد معركة لا انصاف فيها لقلب ضعيف.
جالَ بعينيه في السقف وكان عالياً وبعيداً جداً. حزمةُ الضوءِ الحادةِ التي تسللّت عبْر النافذة المواربة الى الضلع المواجِه جرحت نظره فعاد واغمض عينيه. حوّل وجهه الى اخته، كانت تبتسم له، حاول أنْ يبتسم ولم يكن واثقا من ابتسامته. كان واهناً وهناً عظيماً، عاجزاً عن الادراك، ليس على شفتيه غير شحوبٍ وجفافٍ وخرس.
فتح فمَه ليسأل عن امه، كان فمُه خالياً من الصوت. سألته اخته عما يود قوله، لم يسمعها، كان رأسه محشواً بالصوف، اذناهُ مغلقتان وفمُه قناةٌ خاويةٌ. اجتهد الحكماءُ في أنّ الخرسَ والصممَ حلاّ به جرّاء ضربة الحمى الشديدة التي كَوَتْه لأسابيع، وسيشفى منها كما شفي من الحمى ذاتها، فلليتامى شفاعة كبرى لدى الأولياء. والحال؛ انه لم يبق مزارُ امامٍ ولا وليٌ صالح ولا ساحر يعتب على سليمان وامه.
طالَ صمتُه، وطالَ صمَمُه، وطالت ساعاتُ وحدتهِ. في حشاشته وثقَ من أنّه فَقَدَ النطق والسمع الى الأبد، ولم يبق لديه غير أنْ يتعلم كيف يتكلم ويسمع بلا صوت، وكيف ينتبه للعالم الاخرس من حوله. فكانت الأشياءُ أولَ ما تفاهم معها، أول ما لمس حرارتها، وشمّ وجودها الواضح، وشاف لونها الذي يعشق الضوء، فكان يراها في الصباح غير ما يراها ساعة الظهر وغير ما يراها في المساء. تفاهم معها فكانت أولَ ما تبناه وزكى وجوده بلا صوت ولا اشارة، ووهبت له ذاتها كما هي. تعلم كيف يسخّرُها ويعلّمها انْ تؤدي أدوارها في حياته. أعظمها كان النهر الذي كان يستقبل جسده النحيل كل يوم، ويحمله من ضفة إلى أخرى كما يحمل قشة تخاتل التيار وتتحايل عليه، دون كلمات غير ملامسة الجسد الطيّع والأطراف التي تكاد تذوب في الماء وهي تجدف بلا جهد وكأنها موجة لا همّ لها غير ان تكون موجة صغيرة يهدهدها التيارلا غير.
بعيد عن هذا العالم، كانت اخته وسط الناس لسان حاله وقناة سمعه، فالناس هم الأكثر غموضاً والأعسر فهماً في حياته. تعلم معها لغة خاصة، وإشارات تشبه الرقصات، واخترعا طريقة لسماع الصمت على الشفاه وفي العيون، وكان يفهمها كما يفهم قلبه. كانا معاً مسرحاً صامتا لا يكف عن العروض اليومية، والناس مشاهدون صُمٌّ، بُكمٌ، عابرون.
***
في البساتين على الشواطئ، تكبر الشجيرات بغتة في غفلة عن نظيراتها على البر، وفي غفلة عن نفسها. كذلك شبّ سليمانُ وكبُر، وكَبُرُت معه رغباتُه الرعوية البكر. أمسى في عالم خالٍ من المباغتة مضربَ مثلٍ في تسخير الأشياء وتطويعها. كان يعبر النهر ويعود مثل سمكة تحت سطح الماء، فيما أقرانه مازالوا على الجرف يجدّفون بلا طائل.
ادرك سليمان أنَّ كل شيء يكمن في الاعماق، صوته وكلماته ونهره وحبه؛ فسكن الضفاف. كان يقترب من شاب لا يعرف غير اسمه: حمزة، يسكن اطراف الحي يذهب للصيد على الجرف البعيد. يجلس بجواره، يراقبه وهو يصيد السمك برهافة وخفة كما لو انها تنتظره ليصطادها. كان توتر خيط السنارة، وجره باتقان وحذر شديدين من قبل الشاب مبعث فرح لا يقاوم في قبله، فكان يرقص على الارض ويدور مثل درويش، ينتظر السمكة تلبط على الجرف مثله.
أشار الى أخته أن تسأل الشابَ كيف يمكنه هذا؟
ابتسم حمزة واحاط سليمان بذراعه المتينة، وقال له:
– اعلّمك على أنْ تحفظ سري، وأنا أعرف أنّ سر الأخرس بئرٌ عميقٌ.
هزّ سليمان رأسه وابتسم بوجهه.
قال له انّ السر في الطُعم، فهو خليط من زيت السمك المستحضر من بطنه بعد تذويه على النار، والطحين الابيض والبيض. وهو يصف له كيف يخلط العجينة ذات الرائحة المثيرة للاسماك، وكيف يكوّر الطعم ويلقم السنارة، اهتز الخيط بعنف في يد الصياد، جفل سليمان ونهض حمزة ليدير الدفّة بما يلزم… فسرّح لها الخيط بضعة اذرع ثم شدّه، سحبه بخفة، ثم توقف ليسمح للسمكة تسبح في آخر عمرها في النهر، وأخذ يسحب ببطء شديد، ثم انتظر برهة لتستكين وتطمئن لنهايتها، ثم سحبها وهي مستسلمة لمصيرها.
قال حمزة وهو ينزع السنارة عن فم السمكة العملاقة:
“وجودكما معي مبعث للخير، هذه السمكة لكما”.
رفعها على ساعديه وقدّمها للاخت وهو يغوص في عينيها يختبر فرح الرغبة فيهما. انبثق سليمان مثل وتد بينهما، ورفع كفه بوجه حمزة وهزّ رأسه، فيما راحت كفه الاخرى تُبعد أخته الى الخلف.
تراجع حمزة وعلى وجهه ابتسامة عذبة يشوبها الاعتذار والود وقال:
– انها هدية لكما… فلدي الكثير.
قبل أنْ يكمل حمزة جملته، كان سليمان واخته قد أولياه ظهرهما بجفاء تام. طيلة الطريق كانت كفه المعروقة تضغط على معصمها، ففهمت غضبه. في البيت اعرب لها امام امه انّه لا يحتاج لها لترافقه بعد اليوم. فهمت الام أن البنت امست مثيرة للنظر والرغبات، فأعفتها من ملازمة اخيها.
***
جرب سليمان الصيد وكانت سنارته تخرج من الماء فارغة. على الجرف شاهد حمزة يقترب منه. لم يوله اهتماما ولا ضغينة، انما حوّل رأسه صوب الخيط المشدود على سبابته. لوّح له حمزة محيياً واقترب منه مشيراً له برغبتة في الجلوس الى جانبه. ردّ عليه التحية وامومأ له بالجلوس. اشار له انه لم يتمكن من الصيد. سحب حمزة الخيط وقال له، لابد للسنارة ان تكون قريبة من القاع، وعليه ان يُغيّر مكان الفلينة على الخيط. غيّرها له وألقم السنارة بالطعم ورماها بعيدا، واعطاه الخيط. شدّ سليمان عليه وكانت يده متوترة. ابتسم له حمزة واوصاه بالاسترخاء، فالاسماك تسمع نبض القلوب الملتاعة على الساحل وتخافها. ابتسم سليمان والتفت الى حمزة وهو يعدّ سنارته. ارتجف الخيط في يده وصعدت من اعماقه أهة عميقة، والتفت يستنجد بحمزة، فاشاره له ان يناور السمكة بهدوء وحزم. فعل كما كان حمزة يفعل واخرجها بعد صبر جميل. براقة كانت ذات اصداف ذهبية منتظمة مثل حلية نادرة، متناسقة القوام بذيل يلعب في الهواء ويحرك الاشواق. علّمه حمزة كيف ينزع عن فمها السنارة ويذبحها على النهر فهذه مباركة للصيد وغفران. اصطاد بعدها العشرات غير انها ظلّت في وجدانه كما الحب الاول.
***
على سفرة الفطور صباحاً، قالت له امه أنّ صاحبه حمزة طلب يد اخته للزواج. بعينيه على سعتهما تبّث نظره على شفتيها علّها تعيد الكلام ليصدّقه. نظر الى اخته وكانت قد طأطأت رأسها ولم ير عبر شعرها المسترسل حتى حضنها غير وجنتين أدماهما الخجل، وفي يدها لقمة حائرة بين الأنامل والفم، وقامت لتهرب من عينيه. امسك بذراعها كما امسك بها مرة، نظرت اليه وكان يفرش ابتسامة عريضة على محياه، التمعت عيناه فرحا واحتضنها بقوة. بكت على عادتها في حضنه، لكنها سمعت قلبه يباركها.قبّلته ونهضت.
في مساء عليل جاء حمزة وأهله ليلبس خطيبتة خاتم عرسها ويهديها ما قدّر له. جلس سليمان الى جانبه فخورا بمكانه. احاطه حمزة بذراعه وقال له:
– أشكرك أخي.
في القرى يتعلم الناس من الطيور، فما أن جُهّز فراش العرس تزوجت الاخت، وطاف سليمان بين الناس يفرح معهم ويحظى بمباركتهم.
***
لم يبق لسليمان قريبٌ غير النهر، فاخته وصديقه غارقان بحبهما البكر، وليس لديه غير التواطؤ مع الخيط ومناورة الاسماك والتفكير ببطولة مثل بطولة حمزة الذي اختطف حبه كما يختطف السمك من اعماق النهر. في وسط النهر مر امامه زورق صغير مليئ بحزم قصب واخشاب وصناديق، على مؤخرته ينتصب رجل طويل أجرد وفي مقدمته امرأة تحتضن طفلاً. كان الزورق يتأرجح ويكاد ان ينقلب مع كل دفعة من عصا الرجل، الذي كان يحاول الاقتراب من الجرف. دفع دفعة قوية ليعكس اتجاه الزورق فمال عنقه وغطس. صرخت المرأة وسقطت، اختل الرجل وهوى في النهر.
حدث هذا بسرعة دفعت سليمان الى أنْ يقذف بنفسه الى النهر، وصل قريبا منهما ورفع رأسه، رأى الرجل يمسك بالمرأة ويعينها، ولا اثر للطفل على السطح. رفس سليمان بكل طاقته وغاص بعيدا، في لحظات أمسك بساق غضة تلبط تحته، سحبها ورفعها عاليا كما يرفع راية نصره، امسك رأس الطفل واسنده الى صدره وراح مستسلما للتيار الى الشاطئ. الناس على الضفة الاخرى جمدت قلوبهم، وشُلت ابدانهم. خرج سليمان من النهر، امسك الطفل من ساقيه ونفضه مثلما ينفض خرقة مبللة. صرخ الطفل كما لو كان قد وُلد للتو.
.
فتح فمه ولم تخرج منه غير ريح سموم تصفر. سقته اخته الماء ومسحت جبينه ويديه العاطلتين وهي تبكي، فقد عاد لها من براثن الموت بعد معركة لا انصاف فيها لقلب ضعيف.
جالَ بعينيه في السقف وكان عالياً وبعيداً جداً. حزمةُ الضوءِ الحادةِ التي تسللّت عبْر النافذة المواربة الى الضلع المواجِه جرحت نظره فعاد واغمض عينيه. حوّل وجهه الى اخته، كانت تبتسم له، حاول أنْ يبتسم ولم يكن واثقا من ابتسامته. كان واهناً وهناً عظيماً، عاجزاً عن الادراك، ليس على شفتيه غير شحوبٍ وجفافٍ وخرس.
فتح فمَه ليسأل عن امه، كان فمُه خالياً من الصوت. سألته اخته عما يود قوله، لم يسمعها، كان رأسه محشواً بالصوف، اذناهُ مغلقتان وفمُه قناةٌ خاويةٌ. اجتهد الحكماءُ في أنّ الخرسَ والصممَ حلاّ به جرّاء ضربة الحمى الشديدة التي كَوَتْه لأسابيع، وسيشفى منها كما شفي من الحمى ذاتها، فلليتامى شفاعة كبرى لدى الأولياء. والحال؛ انه لم يبق مزارُ امامٍ ولا وليٌ صالح ولا ساحر يعتب على سليمان وامه.
طالَ صمتُه، وطالَ صمَمُه، وطالت ساعاتُ وحدتهِ. في حشاشته وثقَ من أنّه فَقَدَ النطق والسمع الى الأبد، ولم يبق لديه غير أنْ يتعلم كيف يتكلم ويسمع بلا صوت، وكيف ينتبه للعالم الاخرس من حوله. فكانت الأشياءُ أولَ ما تفاهم معها، أول ما لمس حرارتها، وشمّ وجودها الواضح، وشاف لونها الذي يعشق الضوء، فكان يراها في الصباح غير ما يراها ساعة الظهر وغير ما يراها في المساء. تفاهم معها فكانت أولَ ما تبناه وزكى وجوده بلا صوت ولا اشارة، ووهبت له ذاتها كما هي. تعلم كيف يسخّرُها ويعلّمها انْ تؤدي أدوارها في حياته. أعظمها كان النهر الذي كان يستقبل جسده النحيل كل يوم، ويحمله من ضفة إلى أخرى كما يحمل قشة تخاتل التيار وتتحايل عليه، دون كلمات غير ملامسة الجسد الطيّع والأطراف التي تكاد تذوب في الماء وهي تجدف بلا جهد وكأنها موجة لا همّ لها غير ان تكون موجة صغيرة يهدهدها التيارلا غير.
بعيد عن هذا العالم، كانت اخته وسط الناس لسان حاله وقناة سمعه، فالناس هم الأكثر غموضاً والأعسر فهماً في حياته. تعلم معها لغة خاصة، وإشارات تشبه الرقصات، واخترعا طريقة لسماع الصمت على الشفاه وفي العيون، وكان يفهمها كما يفهم قلبه. كانا معاً مسرحاً صامتا لا يكف عن العروض اليومية، والناس مشاهدون صُمٌّ، بُكمٌ، عابرون.
***
في البساتين على الشواطئ، تكبر الشجيرات بغتة في غفلة عن نظيراتها على البر، وفي غفلة عن نفسها. كذلك شبّ سليمانُ وكبُر، وكَبُرُت معه رغباتُه الرعوية البكر. أمسى في عالم خالٍ من المباغتة مضربَ مثلٍ في تسخير الأشياء وتطويعها. كان يعبر النهر ويعود مثل سمكة تحت سطح الماء، فيما أقرانه مازالوا على الجرف يجدّفون بلا طائل.
ادرك سليمان أنَّ كل شيء يكمن في الاعماق، صوته وكلماته ونهره وحبه؛ فسكن الضفاف. كان يقترب من شاب لا يعرف غير اسمه: حمزة، يسكن اطراف الحي يذهب للصيد على الجرف البعيد. يجلس بجواره، يراقبه وهو يصيد السمك برهافة وخفة كما لو انها تنتظره ليصطادها. كان توتر خيط السنارة، وجره باتقان وحذر شديدين من قبل الشاب مبعث فرح لا يقاوم في قبله، فكان يرقص على الارض ويدور مثل درويش، ينتظر السمكة تلبط على الجرف مثله.
أشار الى أخته أن تسأل الشابَ كيف يمكنه هذا؟
ابتسم حمزة واحاط سليمان بذراعه المتينة، وقال له:
– اعلّمك على أنْ تحفظ سري، وأنا أعرف أنّ سر الأخرس بئرٌ عميقٌ.
هزّ سليمان رأسه وابتسم بوجهه.
قال له انّ السر في الطُعم، فهو خليط من زيت السمك المستحضر من بطنه بعد تذويه على النار، والطحين الابيض والبيض. وهو يصف له كيف يخلط العجينة ذات الرائحة المثيرة للاسماك، وكيف يكوّر الطعم ويلقم السنارة، اهتز الخيط بعنف في يد الصياد، جفل سليمان ونهض حمزة ليدير الدفّة بما يلزم… فسرّح لها الخيط بضعة اذرع ثم شدّه، سحبه بخفة، ثم توقف ليسمح للسمكة تسبح في آخر عمرها في النهر، وأخذ يسحب ببطء شديد، ثم انتظر برهة لتستكين وتطمئن لنهايتها، ثم سحبها وهي مستسلمة لمصيرها.
قال حمزة وهو ينزع السنارة عن فم السمكة العملاقة:
“وجودكما معي مبعث للخير، هذه السمكة لكما”.
رفعها على ساعديه وقدّمها للاخت وهو يغوص في عينيها يختبر فرح الرغبة فيهما. انبثق سليمان مثل وتد بينهما، ورفع كفه بوجه حمزة وهزّ رأسه، فيما راحت كفه الاخرى تُبعد أخته الى الخلف.
تراجع حمزة وعلى وجهه ابتسامة عذبة يشوبها الاعتذار والود وقال:
– انها هدية لكما… فلدي الكثير.
قبل أنْ يكمل حمزة جملته، كان سليمان واخته قد أولياه ظهرهما بجفاء تام. طيلة الطريق كانت كفه المعروقة تضغط على معصمها، ففهمت غضبه. في البيت اعرب لها امام امه انّه لا يحتاج لها لترافقه بعد اليوم. فهمت الام أن البنت امست مثيرة للنظر والرغبات، فأعفتها من ملازمة اخيها.
***
جرب سليمان الصيد وكانت سنارته تخرج من الماء فارغة. على الجرف شاهد حمزة يقترب منه. لم يوله اهتماما ولا ضغينة، انما حوّل رأسه صوب الخيط المشدود على سبابته. لوّح له حمزة محيياً واقترب منه مشيراً له برغبتة في الجلوس الى جانبه. ردّ عليه التحية وامومأ له بالجلوس. اشار له انه لم يتمكن من الصيد. سحب حمزة الخيط وقال له، لابد للسنارة ان تكون قريبة من القاع، وعليه ان يُغيّر مكان الفلينة على الخيط. غيّرها له وألقم السنارة بالطعم ورماها بعيدا، واعطاه الخيط. شدّ سليمان عليه وكانت يده متوترة. ابتسم له حمزة واوصاه بالاسترخاء، فالاسماك تسمع نبض القلوب الملتاعة على الساحل وتخافها. ابتسم سليمان والتفت الى حمزة وهو يعدّ سنارته. ارتجف الخيط في يده وصعدت من اعماقه أهة عميقة، والتفت يستنجد بحمزة، فاشاره له ان يناور السمكة بهدوء وحزم. فعل كما كان حمزة يفعل واخرجها بعد صبر جميل. براقة كانت ذات اصداف ذهبية منتظمة مثل حلية نادرة، متناسقة القوام بذيل يلعب في الهواء ويحرك الاشواق. علّمه حمزة كيف ينزع عن فمها السنارة ويذبحها على النهر فهذه مباركة للصيد وغفران. اصطاد بعدها العشرات غير انها ظلّت في وجدانه كما الحب الاول.
***
على سفرة الفطور صباحاً، قالت له امه أنّ صاحبه حمزة طلب يد اخته للزواج. بعينيه على سعتهما تبّث نظره على شفتيها علّها تعيد الكلام ليصدّقه. نظر الى اخته وكانت قد طأطأت رأسها ولم ير عبر شعرها المسترسل حتى حضنها غير وجنتين أدماهما الخجل، وفي يدها لقمة حائرة بين الأنامل والفم، وقامت لتهرب من عينيه. امسك بذراعها كما امسك بها مرة، نظرت اليه وكان يفرش ابتسامة عريضة على محياه، التمعت عيناه فرحا واحتضنها بقوة. بكت على عادتها في حضنه، لكنها سمعت قلبه يباركها.قبّلته ونهضت.
في مساء عليل جاء حمزة وأهله ليلبس خطيبتة خاتم عرسها ويهديها ما قدّر له. جلس سليمان الى جانبه فخورا بمكانه. احاطه حمزة بذراعه وقال له:
– أشكرك أخي.
في القرى يتعلم الناس من الطيور، فما أن جُهّز فراش العرس تزوجت الاخت، وطاف سليمان بين الناس يفرح معهم ويحظى بمباركتهم.
***
لم يبق لسليمان قريبٌ غير النهر، فاخته وصديقه غارقان بحبهما البكر، وليس لديه غير التواطؤ مع الخيط ومناورة الاسماك والتفكير ببطولة مثل بطولة حمزة الذي اختطف حبه كما يختطف السمك من اعماق النهر. في وسط النهر مر امامه زورق صغير مليئ بحزم قصب واخشاب وصناديق، على مؤخرته ينتصب رجل طويل أجرد وفي مقدمته امرأة تحتضن طفلاً. كان الزورق يتأرجح ويكاد ان ينقلب مع كل دفعة من عصا الرجل، الذي كان يحاول الاقتراب من الجرف. دفع دفعة قوية ليعكس اتجاه الزورق فمال عنقه وغطس. صرخت المرأة وسقطت، اختل الرجل وهوى في النهر.
حدث هذا بسرعة دفعت سليمان الى أنْ يقذف بنفسه الى النهر، وصل قريبا منهما ورفع رأسه، رأى الرجل يمسك بالمرأة ويعينها، ولا اثر للطفل على السطح. رفس سليمان بكل طاقته وغاص بعيدا، في لحظات أمسك بساق غضة تلبط تحته، سحبها ورفعها عاليا كما يرفع راية نصره، امسك رأس الطفل واسنده الى صدره وراح مستسلما للتيار الى الشاطئ. الناس على الضفة الاخرى جمدت قلوبهم، وشُلت ابدانهم. خرج سليمان من النهر، امسك الطفل من ساقيه ونفضه مثلما ينفض خرقة مبللة. صرخ الطفل كما لو كان قد وُلد للتو.
.