احمد خلف - اللصوص

تعلم السيد آدم مهنة بيع الورق والأحبار والقرطاسية العامة في حانوت صغير يقع على شارع عام في احدى ضواحي بغداد،حانوت يمربه الناس جماعات ووحدانا وفي هذا المكان يلتقي عدد من اصدقائه او يقف نفر من المارة امام الحانوت الذي لم يكن بالكبير
ولا هو بالصغير انما له مساحة تلائمه وتجعله قادرا من السيطرة على عمله الذي يحبه منذ الطفولة، هذه المهنة التي اكتسب حرفيتها ومعرفة اسرارها وما يمكن لها ان تعطيه له وما تحجبه عنه من خفاياها الكثيرة كما يعتقد دائما، عرفها وادرك كل شيء عنها من ابيه عن جده، لا مأخذ له عليها وتعتبر في ميزان تصنيف المهن، مهنة انيقة ومريحة كذلك منتجه ويمكن ان تسنده في الشدائد والأيام الصعبة التي يردد السيد آدم بشأنها:
- ما اكثر ايامنا الصعبة يا صاحبي ؟
ولما سألته بنبرة واضحه:
- هل تتحدث مع نفسك عادة يا آدم أم يحدث معك كلما ضاقت بك سبل الحياة ؟
قال دون النظر اليّ:
- لا يتحدث المرء مع نفسه الا اذا اصبح مجنونا او على وشك ان يكون كذلك !!
كنت اعجبُ من طاقته على سرد الحكايات اواحداث تخصه وحده وسط هذه الفوضى العارمه التي تحيط بنا من كل حدب وصوب، وعندما حدثته عن شدة تذمره من الحياة ولكثرة ما يسرده من احداث ومجريات، سيكون من الصعب على مستمعيه ان يفرقوا بين حكاية واخرى، والغريب انه حين امعن النظر بما قلته له ابتسم وندت منه آهة قصيره، لكنها من العمق بحيث بدت مثيرة بنبرتها، عندئذ ادركت: لابد وانه في يوم مضى قد عاش محنة تخصه وحده دون علمي بالذي جرى وصار له في ايامه التي لم اكن فيها قريبا منه ، وفكرت مليا التوجه اليه بسؤال عن الذي عاشه من محن ما زال يعاني منها حتى الان وقد علت وجهه سحابة من عدم ارتياح كنت غالبا ما اراها واضحة على محياه في الايام الاخيرة التي اكثرت فيها زيارا تي لمحل عمله.. حين وردت في رأسي فكرة التوجه اليه بالسؤال عن ماضي حياته، وجدت ان سؤالا من هذا النوع سيرغمه (ربما) على تلفيق ما لا يحتمل تصديقه، لكني فكرت ايضا: ان السؤال منه افضل بكثير من عدم سؤاله اواللجوء الى الاخرين من معارفنا وانا ادري عدم ميله لمعارفه وقد ملأوا قلبه الرهيف بالريبة منهم، وذات يوم وجدته يرعد دون معرفتي اسباب غضبه اول الامر حتى دخلت عليه ووجدته منفعلا، لم يترك لي مجالا لسؤاله، بل بادرني القول وهو منفعل تماما:
- السفهاء عندما وضعت ثروتي ومالي بين ايديهم، تصور بماذا كان جزائي ؟
- اذكر انك حدثتني عن عملية اختلاس او سرقة تحت جنح الظلام !!
ضحك ضحكته المقهقه والمجلجله:
- كيف في الظلام يا رجل، بل في عز الظهيره ودون تردد او وجل من احد ؟!
- كيف يجرؤ المرء على سرقة مال غيره ؟
- عملية لصوصية نفذها اقرب الناس اليّ، انه احد ابناء عمومتي، لقد هتك ملكيتي بلا رحمة حتى اوشكت عل الافلاس..
- اذكر انك حدثتني طويلا عن احد ابناء عمومتك، اظن كان اسمه ؟
- ضحك وعلامة تعجب ظاهرة على محياه:
- كلا ليس الاسم مهما، انا ابحث عن حقي الضائع بينهم !
- هل قلت انه من ذويك ؟
- تستطيع ان تقول: انه من ابناء عمومتي لكن اصراره على الاذى عجيب ويجد متعه حين يعاقب احدا او يتكامل لديه فعل الاساءه فانه يغدو في غاية السعاده وهذا ما فعله معي !! ..
لم تكن معرفتي به قديمة العهد انما بدأت تباشيرها قبل الذي جرى وحصل في السابع من نيسان بأيام قلائل اي قبل دخول الامريكان ارض السواد، التقيته عند احد باعة الكتب النادره وكان يتحدث بثقة كافيه لأقناع مستمعيه،قال يخاطب صاحب الكتب القديمه:-- سيدخل الأمريكان البلاد ويسقطون النظام لا محال..
من تلك الساعة اصبحنا اصدقاء وقد حدثته عن نفسي وحياتي بكل صدق واريحية وهو الاخر حدثني عن نفسه واهله وحياته ومعارفه بكل صدق واريحيه ايضا..
كان ابوه قد علمه منذ الصغر مبادئ الامانة والحرص على النزاهة وكان من الصعب عليه غفران اعمال اللصوصية والسرقة والسطو على ملكية الغير، تلك افعال يرى فيها اعمالا شيطانيه رغم اني ارى فيه شخصا غريبا عن الذين يحيطون به، وكان الجميع يتمشدق امامه بأصول الدين واحاديث الأخلاق والمبادئ العامة، واحاديث اخرى عن الخير والشر يقف لها العقل حائرا، غير انه لايصدق منها اي فقرة او حكاية ولا حتى مجرد خبر عابر، كان حريصا على مهنته ، مهنة الآباء والاجداد (الكرام) كما كان يطلق على نفسه وعلى الاخرين من زملائه الوراقين وباعة الأحبار والكتب الثمينه، او الانتيكه حين يروق له الكلام عن بقية الباعة من امثاله، وهومنسجم مع مهنته كثيرا ويحسن الدفاع عنها..
كان المخزن الكبير الذي كدس فيه عشرات الاطنان من الورق المستورد عن طريق احدى الدول المجاوره، هو مرتجاه في الازمات التي يشتد فيها الطلب على الورق في المطابع ودور النشر الحكوميه او الأهليه، هذا المخزن المليء بالاحبارالثمينة والنادرة النوع تمت سرقته تحت عباءة الليل (كما يقال عادة) وبالطبع هذا الامرأصبح كافيا ليصرعه في الحال،والحق تعرضت صحته الى سلسلة من العلل والامراض والانتكاسات غير المتوقعه وما كنت ادري اسباب سوء حالته الصحيه تلك الايام، وبعد هذه العملية المخزيه (نهب ملكيته التي كان يصبواليها ويأمل منها كل خير) كنت ارى بصورة جليه كيف راحت عزيمته تتراجع وتطلعاته وآماله تخيب، كيف تتحول الى نقطة الصفر وهذا ما جعلني اشعر بالقلق الشديد عليه، فقد كنت على معرفة بما عاناه في حياته وعبر مراحلها ولم يكن يغفر له خصومه نجاحه في السنوات الأخيرة وقد تلمست بعضا من تلك الخصومات والفواجع التي شغلته عن ترتيب مسار حياته او اعادة الثقة بنفسه وعمله، الا انه ظل بعيدا عن حماقات الحكومة في كل زمان وفي اي حقبة مرت، كانت له طريقته الخاصة في التخلص من المأزق حين يلم به ولم يشك احد من القريبين او البعيدين عنه، بفطنته وذكائه بل وتفانيه في العمل..
كان قد اهداني حزمة جميلة من الورق المصنوع في افضل المناشيء العالميه ذات السمعة الطيبه، وحين تأملت الورق بين يدي اصابتني الدهشه من جودة السلعة التي يحرص على الفوز بها وجنيها، قلت له:
- كيف تريدهم الا يسرقوك وانت تملك هذه الثروة الثمينه ؟
قال وصدره ينفث المزيد من الحسرات:
- يالهم من لصوص عتاة لا يرحمون قريباً او بعيداً، بل لم يصدقوا ان مفاتيح مخزن الورق وقع بين ايديهم حتى استولوا غلى المخزون كله، ولم يتركوا لأحد غيرهم من بقية، لعلك لا تعرفهم مثلما اعرفهم فقد عملت معهم ردحا كافيا من الزمن، وكانوا من البساطة والسلاسه والاريحيه في ايام كانت لنا فيها صولات وجولات بحيث احرص على التفاهم معهم على اصعب الامور واجدهم مذعنين، كان ذلك في الايام الخوالي التي لم يكن يملك المرء فيها شروى نقير اما الان فقد اختلف كل شيء وارجو الا تسألني ما الذي تغير ؟ لقد تبدلت اغلب الامور والحالات والامزجه والتخلي عن وعود الامس وكانت تجارتنا لا تربح الكثير ولكنها نافذه رغم وجود العسس وعشرات العيون المبثوثة في كل مكان نطير اليه او الافضل نلجأ له لكي نؤسس املا جديدا مهما بدا ضئيلا في نظر الاخرين غير ان العديد منا استمر على اصراره في ان ضوء الشمس سوف يبدد العتمه وكان ابي يحذرني من مغبة التمادي والانغماس في المزيد من الاوهام وصناعة الاحلام..
- اين كنت معهم وماذا كنتم تعملون ياسيد آدم ؟
ضحك ضحكة مبتسره:
- كان ذلك فيما مضى من ايام اما الان فهم لايعرفون احدا قط..
- اذن، ماذا تريد منهم ؟ لماذا تلاحقهم اينما توجهوا او ساروا، لعل ذلك سيدفعهم نحو الهاويه اكثر ثم انك تمتلك مهنة طيبه ويمكن لها ان
تدرعليك ما تصبواليه في القريب العاجل..
- لا اريد منهم اي شيء الا ان يسلموني حقي الضائع..
- واذا لم يصغوا الى طلبك ماذا ستعمل ؟
كان قد ازاح بيده علبة كبيرة من الورق المقوى ليفسح المجال ليدي كي تضع حزمة الورق التي منحني اياها هدية منه تاكيدا منه على صداقتنا العتيدة:
- سوف اشكوهم عند كل من له سلطة عليهم
حتى يذعنوا لحقي المهدور..
- سوف يتعبونك، لن يفرّطوا بالغنيمة التي اصبحت بين ايديهم
وقد اعتبروها هدية لهم من السماء !!
- امور كثيره اخفيتها عنك..........
- واضح انك عرفت الكثير مما يؤسف له معهم ؟
بدا وجهه محمرا ويكاد ان يغدو قانيا وهي علامة على غضبه الشديد وما كان يكظمه داخل نفسه، ولأني اعرفه جيدا كما اعرف الكثير من نواياه ومشاريعه بل العديد من قراراته الحاسمه التي دوخت خصومه، لم يكن خوّافا او مترددا في القيام بواجبه تجاه ما يلزمه من خطوات:
- هل لي معرفة ماذا جرى لك معهم ؟
دعك جبهته بيده وبقوة كأنه كان يبحث عن لقيا خلف عظم الجمجمه،وقبل ان يجيبني عن سؤالي الذي بدا سؤالا حائرا، عض على شفته السفلى وحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال كأنه يتوعد شخصا وهميا كان معه على موعد من قبل، او ان قرارا صارما سوف يتخذه السيد آدم عن قريب، وعن قريب ايضا سوف يدخل معركة او صولة حاسمة :
- اهانونني بشخص امي وابي وكنتُ حاضرا تلك الساعه..
- انت تبالغ في تجريح الماضي قبل الحاضر الذي تكرهه..
- خذ مجموعة الأوراق هذه واكتب فيها كل ما عرفته عني وعنهم ولا تخفي اي شيء بخصوص ما قاموا بسلبه ونهبه، سواء مني او من
الاخرين، فقد تطاولت ايديهم على حقوق الغير ولم يردعهم اي رادع او واعز من ضمير، اكتب كل ما يعن على خاطرك فانا اعهد بالأمانة هذه اليك !!
- انت تريدني ان اسجل ادانتهم..
- ليسوا بحاجه الى ادانه صريحه فقد نهبوا كل شيء صار
في متناول ايديهم، لم يبقوا في الدار من مؤونة تنفع..
كان قد اعتدل في جلسته بعد ان كان منحنيا على مجموعه من الكتب االثمينه، نظر اليّ كأنه يعاتبني لسبب اجهله، عاد ثانية وحرك رأسه حركة تشي بالكثير من امور اجهل بعضها اما البعض الاخر فانا كفيل به لأننا كنا قد تحدثنا عنه مرات كثيرة، لعل عدم مقدرته في استرداد حقوقه المنهوبة احد الامور التي ظلت تشغله ردحا من الزمن، ضياع حقوقه وفقدانه السبل للوصول الى غايته، خيبه جديدة يضاف الى سلسلة الخيبات التي يعاني منها.. بعدها اردف يتمم كلاما غيرمفهوم وقد علت صفحة وجهه امارات الغضب بل الاشمئزاز من كل ما فرضوه عليه وعلى الاخرين بالقوه او تفننوا في ترسيخ الفوضى بين معارفهم والمحيطين بهم :
- اللعنة على ساعة اتفقوا فيها على السلب والنهب.
قلت مؤيدا كلامه :
- آمين..



* عن جريدة تاتوو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...