التحق الراضي بعمله ساعي بريد . على دراجة زرقاء بلون بذلته يوزع " المانْـدة " وإنذارات المحكمة و رسائل الاتصال ... يدق الأبواب وينقر الأجراس ليوصل الأمانات والضمانات ...
نصف سنة على هذه العادة اليومية ، كانت كافية للتعرف على أهل حي الكدية ، وكان المقدم كثيرا ما يستفسره عن ذوات " الماندات" ومصادرها وعن المنذَرين برسائل مضمونة ...
وفي صباح خميس بارد ، استوقفته رحمة تشتكي عدم توصلها بإشعار " ماندة" الضمان الاجتماعي التي لم تتأخر مذ وفاة زوجها المباغتة وهو في ريعان الأربعين . طمأنها الراضي مبتسما وهو ينزع طربوشه بيسراه ويفرك رأسه بيمناه ، ونذر ألا يغادر العتْـبة في المرات القادمة حتى يسلمها بريدها يدا في يد . فباب العمارة الصغيرة مشرعة ليل نهار ، وقد يتلف الجيران أو أطفال الحي ما يلاقونه في السلالم ومستودعات الرسائل المكسورة . شكرته في غنج ورقّـصت أصابع يمناها : بالسّـْلامة ... ويسراها تمسك طرف جلبابها المزركش ، تجر حذاءها المنزلي على إيقاع مشية مخاتلة.
اندلف الراضي على دراجته ، وفي الصباح وقف بباب العمارة ؛ دق الجرس الثاني فكان أبكم كليل شهره السادس الطويل ، صعد السلالم حتى الباب الثاني ، دق دقتين فاترتين ... صمْـت لا يجيب ، طرق بصوت كليم ونادى :
- رحْمة.. آراحما ...
سمع جوابا ناعسا :
- شكون ؟
فرد:
- البريــــد .
نقرت سمعه تعثرات حذاء بلاستيكي يشقشق على إيقاع حركة مضطربة كصاحبتها التي استطابت نوم الصباح .
فتحت رحمة على زئير الباب متفوهة :
- آ ... الراضي ... سْماحلي عذبتك مْعاي ... أوه ... دخول ... دخل نعدلّك لفطور .
اعتذر الراضي متحججا بمسار عمله الطويل حاضنا محفظته الملأى ببريد المترقبين.
نهاية الشهر ، نقر الجرس فأطل وجه رحمة البشوش ، غرفت بيمناها علامة تدعوه للصعود ، صعد السلالم ، وصل الباب فألفاه مردودا نصف مفتوح وصوت رحمة يدعوه من الداخل:
- زد آ الراضي ... دْخول ...
تناول كأس قهوة ومرطّـَبا واستعجل الرحيل . مازالت المحفظة ممتلئة .
أول شهر جديد ، بعد أن تخلص من حمولة محفظته ، صعد السلم خفة ، دفع الباب المشقّـر فأتاه الصوت خافتا عما سبق :
- زِيد ما نْـتشي غريب دابَ ...
خطا حتى المطبخ فلم يجدها . وإذا بصوتها حنونا يأتيه من بيت رقادها :
- آجي آ المرضي ... آنا هنا ...
ومن يومها صار عنوان البيت : رحمة البريد . واعتاده أهل الكدية منزل رسائلهم المستعجلة ...
محمد البالي
نصف سنة على هذه العادة اليومية ، كانت كافية للتعرف على أهل حي الكدية ، وكان المقدم كثيرا ما يستفسره عن ذوات " الماندات" ومصادرها وعن المنذَرين برسائل مضمونة ...
وفي صباح خميس بارد ، استوقفته رحمة تشتكي عدم توصلها بإشعار " ماندة" الضمان الاجتماعي التي لم تتأخر مذ وفاة زوجها المباغتة وهو في ريعان الأربعين . طمأنها الراضي مبتسما وهو ينزع طربوشه بيسراه ويفرك رأسه بيمناه ، ونذر ألا يغادر العتْـبة في المرات القادمة حتى يسلمها بريدها يدا في يد . فباب العمارة الصغيرة مشرعة ليل نهار ، وقد يتلف الجيران أو أطفال الحي ما يلاقونه في السلالم ومستودعات الرسائل المكسورة . شكرته في غنج ورقّـصت أصابع يمناها : بالسّـْلامة ... ويسراها تمسك طرف جلبابها المزركش ، تجر حذاءها المنزلي على إيقاع مشية مخاتلة.
اندلف الراضي على دراجته ، وفي الصباح وقف بباب العمارة ؛ دق الجرس الثاني فكان أبكم كليل شهره السادس الطويل ، صعد السلالم حتى الباب الثاني ، دق دقتين فاترتين ... صمْـت لا يجيب ، طرق بصوت كليم ونادى :
- رحْمة.. آراحما ...
سمع جوابا ناعسا :
- شكون ؟
فرد:
- البريــــد .
نقرت سمعه تعثرات حذاء بلاستيكي يشقشق على إيقاع حركة مضطربة كصاحبتها التي استطابت نوم الصباح .
فتحت رحمة على زئير الباب متفوهة :
- آ ... الراضي ... سْماحلي عذبتك مْعاي ... أوه ... دخول ... دخل نعدلّك لفطور .
اعتذر الراضي متحججا بمسار عمله الطويل حاضنا محفظته الملأى ببريد المترقبين.
نهاية الشهر ، نقر الجرس فأطل وجه رحمة البشوش ، غرفت بيمناها علامة تدعوه للصعود ، صعد السلالم ، وصل الباب فألفاه مردودا نصف مفتوح وصوت رحمة يدعوه من الداخل:
- زد آ الراضي ... دْخول ...
تناول كأس قهوة ومرطّـَبا واستعجل الرحيل . مازالت المحفظة ممتلئة .
أول شهر جديد ، بعد أن تخلص من حمولة محفظته ، صعد السلم خفة ، دفع الباب المشقّـر فأتاه الصوت خافتا عما سبق :
- زِيد ما نْـتشي غريب دابَ ...
خطا حتى المطبخ فلم يجدها . وإذا بصوتها حنونا يأتيه من بيت رقادها :
- آجي آ المرضي ... آنا هنا ...
ومن يومها صار عنوان البيت : رحمة البريد . واعتاده أهل الكدية منزل رسائلهم المستعجلة ...
محمد البالي