* الرسالة الأولى
لاهاي، كانون الثاني ١٨٧٣
تَيّو العزيز
لا تعرف مدى سعادتي بوصول اخبارك عن طريق العائلة، مدهش أن تسير أمورك بشكل جيد في بروكسل. حافظ على إنطباعك الاول عن المدينة، حينها ستشعر بأن كل شيء سيمضي على مايرام. أعرفُ واقدر جيداً كيف تكون البدايات غريبة وصعبة في أغلب الأحيان،
لكني اعرف أيضاً بأنَّكَ ذكي وماهر، لذلك ستمضي بكل ثبات نحو هدفك. أرجو حسب، أن تكتب لي كي اطمئن عليك واعرف كيف تسدد أجرة السكن.
بعد بدايتك الطيبة هذه، أتمنى أن تسير الامور الباقية بدون صعوبات. لقد كتب أبي يقول لي، بأن صداقتك قد توثقت مع سميت. انا ايضاً اعتقد بانه شخص رائع وسيساعدك كثيرا في خطواتك القادمةأيام الكريسمس كانت جميلة هنا، وقد قضينا وقتاً ممتعاً. لكن رغم ذلك، وفي غمرة سعادتي بكل ما يحيطني من دفء، كنت أفكر بك أيضاً، وأحاول أن أتَخَيَّلُ ما ستَطَّلِعُ عليه، وما سَيَمُرُّ أمام ناظريك في بروكسل، أرجو أن تكتب لي عن مشاهداتك وانطباعاتك، وبشكل خاص عن اللوحات التي تشاهدها وما تراه جميلاً منها، فهذا يهمني كثيراً كما تعرف.
مع بداية السنة انهمكت على نحو متواصل بالعمل، وهذا أعطاني شعوراً بأني سأمضي نحو الأشهر المتبقية من هذه السنة بخطوات واثقة. أودّ أن أخبرك أيضاً بأني بعد ان كنت أتقاضى خمسين فلورين في الشهر حصلت على خمسين أخرى كعلاوة، وبهذا اصبح راتبي الشهري مئة فلورين، أليس هذا أمراً مدهشاً؟ بعد هذه التطورات أستطيع القول بأني سأوفر كل ما احتاجه من متطلباتي واعيش بشكل جيد.
أنا سعيد لأنك تُمارسُ الآن في بروكسل، ذات العمل الذي أمارسه هنا. في كل لحظة أرى أن عملنا رائع وممتع. ربما يكون شاقاً في البداية، لكنك ستتعرف عليه وعلى تفاصيله مع مرور الوقت وستحبه أكثر. أرجو أن تسأل سميت إن كان ممكناً توفير كتاب رسومات الفنان كورو* الذي صَدَرَ بالليثوغراف عن مطبوعات أميل رينيه، وما هو ثمنه؟ لأن أحد زبائننا هنا في لاهاي قد طلب الحصول عليه، وأنا أعرف ان هذا الكتاب في متناول اليد عندكم.
سأبدأ يوم الأحد القادم برسم بورتريت لي وسأرسل لك تفاصيل عنه في رسالتي القادمة. بالمناسبة، أردت سؤالك، هل ذهبت الـى قصر دوكال؟ أتمنى أن تقوم بهذه الزيارة إن كان لديك بعض الوقت. ينبغي عليك أن تَطَّلِعَ على هذا المكان الجميل.
كيف أحوال العم هين؟ أتألم كثيراً بسبب حالته الصحية وأتمنى أن يتحسن وضعه في الأيام القادمة، تحيات حارة له ولعمتي أيضاً، إبلغهما بـأني أفكر بهما كثيراً. وبالنسبة للعم سنت*، هل جاءك الى بروكسل كما عرفت من الأهل أم تراه أجَّلَ سفرته؟
أودعك ياأخي الجميل وأطلب منك أن تعتني بنفسك جيداً.
كل المعارف هنا يرسلون لك تحياتهم ويتمنون لك أيام قادمة مليئة بالنجاح، لا تنسى أيضاً أن توصل تحياتي الى سميت وإدوارد، ولا تتأخر بأرسال اخبارك والكتابة لي.
اخوك المحب
فنسنت
*كورو: رسّام فرنسي (١٧٩٦-١٨٧٥) عُرِفَ بمناظره الطبيعية، وقد أثَّرَت أعماله على الانطباعيين وخاصة مونيه وبيسارو.
*العم سنت: تصغير ل (العم فنسنت) وهو عَم فنسنت وتَيّو، واسمه الكامل أيضاً (فنسنت) فان غوخ، وكان تاجراً للأعمال الفنية، وقد ساعدهما للعمل في هذا المجال.
***
* الرسالة الثانية
لاهاي ١٧ آذار ١٨٧٣
تَيّو العزيز
مرَّ وقت طويل لم يصلك فيه مني شيئاً، اعرف انك تنتظر ذلك. في الحقيقة أنا أيضاً متشوق لأَخبارَكَ وما يحدث معك، كذلك أفكر بصحة العم هين. حاول حين يسعفك الوقت ان تكتب لي عن كل التفاصيل.
أظنُّ بأنك عرفت بأني سأذهب الى لندن، نعم سأشد رحالي الى هناك قريباً جداً. أتمنى أن يترتب الوقت وتساعدنا الظروف كي نلتقي قبل أن أسافر. ربما سأذهب في أيام عيد الفصح الى هلفويرت، لكن هذا إيضاً يتعلق بما يحدث من مستجدات، لأَنِّي بانتظار إيترسون ولا أستطيع التحرك قبل مجيئه.
في لندن ستكون الحياة جديدة ومختلفة بالنسبة لي، حيث سأعيش في غرفة صغيرة، وهناك الكثير من الأشياء والصعوبات التي يجب أن أعتاد عليها، أشياء لم تشغلني كثيراً وتؤثر عليَّ هنا في لاهاي. لكن رغم ذلك، وبذات الوقت الذي يحزنني فيه ترك لاهاي، فأنا متشوق الى ابعد الحدود لرؤية لندن، لقد تقرر موضوع السفر، وسأنظر الى نصف القدح المليء وليس الى نصفه الفارغ.
أتمتع الآن بترديد بعض المفردات الانجليزية، هذه اللغة التي أفهمها جيداً عند السماع، لكن عليَّ ان أُحَسِّنُ التحدث بها ومعرفتها أكثر. أخبرتني آنّا* بأنك قد رسمت لنفسك بورتريت، ان كنت بحاجة الى ملاحظات أو إرشادات، فأنا حاضر. كيف هو العم هين؟ عرفت مع الأسف بأنه يشعر بآلام دائمة ووضعه لم يتحسن بعد. هل عمتي بجانبه؟ أنقل لهما محبتي وابلغهما بأنني أفكر بهما كثيراً.
أردت أن أسألك عن عملك. أنا متأكد بأنك منشغل كل الوقت بذلك. لدينا هنا ذات الانغماس في أعمالنا الكثيرة. وأجرة البيت؟ هل مازالت تستطيع توفيرها بسهولة؟ هذه المسألة من الاولويات طبعاً. عليك أن تكتب لي عن كل ذلك، وعن مشاهداتك أيضاً، وسأظل اطلب منك ذلك دائماً.
يوم الأحد سأذهب الى أمستردام، وقد مضى أسبوعان على زيارتي الأخيرة لها. سأُخَصصُ وقتي هناك لزيارة معرض مجموعة من فنانينا الهولنديين، والذي سَيُنْقَلُ للعرض في فيَنّا. كم أنا متحمسٌ لرؤية اللوحات، ولديَّ فضول حول نتائج المعرض وما سيعكسه فنانونا من اثر وانطباع في النمسا. كذلك أشعر بتوقٍ لرؤية أعمال الفنانين الإنجليز، لأننا هنا لا نَطَّلِعُ إلّا على القليل من لوحاتهم، فأغلب ما يرسمونه يبقى في إنجلترا ولا يصلنا.
في لندن سيتغير ويتطور عمل شركتنا (فان غوبيل) حيث ستتوقف عن بيع المنتجات الفنية الى الزبائن وستتحول الى توريد المنتجات الى المحلات، التي ستقوم بدورها ببيعها الى زبائنها. وكذلك سيتوسع عملنا في بيع الاعمال الفنية. نسيت ان اخبرك ان العم سنت سيأتي الى هنا نهاية هذا الشهر، سعيد لأني سألتقيه واستمع الى أفكاره حول العمل.
الجو الآن مدهش في لاهاي، وانا أتمتع بذلك الى أبعدِ حد. الأحد الماضي كنت مع وليم، وقد قضينا وقتاً هادئاً في مركب وسط الماء، تحدثنا كثيراً وجذَّفنا بمتعة ونحن ننسابُ بين الماء والشمس. اشعر احياناً بأن عليَّ ان ابقى هذا الصيف في لاهاي، لكني سأدع الأمور تمضي كما هو مُخَطَّطٌ لها. نسيت ان اقول لك ان العمة فَيْ تسأل عنك هي وكل عائلة هانيبيك*.
والآن أودعك بمحبة وأرجو ان تكتب لي لأطمئن عليك. أُوصِل سلامي ايضاً الى عمي وعمتي وكذلك الى سميت وإدوارد.
اخوك المحب
فنسنت
فاتني ان اخبرك بأن السيد والسيدة روس، وكذلك ادوارد هنا، يبلغونك تحياتهم.
استلمت رسالتك الآن قبل ان ارسل لك رسالتي هذه، لقد أدهشني كثيراً البورتريت الذي أرفقته بالرسالة، لقد نجحت بذلك ايها الولد الكبير. انا سعيد جداً بذلك.
اسمع يا تَيّو، اريد ان انصحك مرة أخرى بشأن تدخين الغليون، انه ممتع بطريقة لا تصدق. وانت تدخن الغليون، تشعر بأنك تُحَلِّقُ في عالم آخر، انك تطير، كما اشعر في هذه اللحظة.
* آنّا: أخت فنسنت وهي تصغره بسنتين (١٨٥٥- ١٩٣٠) وكانت تراسله ايضاً.
* عائلة هانيبيك: عائلة تربطهم صلة قرابة من بعيد بعائلة فنسنت الذي كان يحب ابنتهم كارولين، بينما كان تَيّو يحب اختها آنيت التي توفيت وهي صبية سنة ١٨٧٥ وحزن عليها حزناً كبيراً.
********
باريس، ١٥ تموز ١٨٧٥
تَيّو العزيز
أكتب لك لأخبرك بأن عمي فنسنت كان هنا مرة أخرى، وقد قضيتُ معه بعض الوقت، حيث تحدثنا حول الكثير من الأشياء، ومنها تفاصيل العمل. وقد سألته عن إمكانية إنتقالك الى باريس،
عسى أن يكون ذلك متاحاً له هذه الايام. لكنه لم يكن متحمساً لسماع هذه الفكرة الآن، ويفضل بقائك حالياً في لاهاي. لكني مع ذلك، سأبقى أحاول معه بكل تأكيد، وسأظل أمهد لخطواتك بإتجاه باريس. على كل حال، أرجو ان تطمئن ولا تهتم كثيراً. هو سيفكر بذلك بالتأكيد، مادمتُ قد وضعت الموضوع في رأسه. وأنا متأكد بأن العم سيحدثكَ حول ذلك عند عودته الى لاهاي. أطلب منك فقط حينها، ان تدعه يقول ما يريد، ولا تخبره بأني قد حدَّثتُكَ عن الموضوع، حاول قدر الامكان ان لا تتحدثَ عني إن رأيتَ ذلك يبدو مقحماً. ربما تعرف ان عمي شخص ذكي جداً. نعم، انه لمّاح وبارع في صياغة الكلام ومعرفة المقاصد. أتذكرُ انه قال لي في الشتاء الماضي حين كان هنا (اسمع يافنسنت، ربما ان معرفتي تبدو وكأنها لا تتعدى الأشياء العامة والتقليدية، لكني أُوكد لك بأني لست عارفاً بكل الاشياء التقليدية فقط، بل أفهم ماهيتها وتفاصيلها وكل تقلباتها). لا اتذكر الآن بالضبط ان كان قد استخدم نفس هذه المفردات، ام انه قال كلمات مقاربة لها. هل تعلم ان الشاعر دي موسيه* كان قد كتب ذات مرة (في داخل كلٍ منّا شاعر نائم، لكنه يمكن ان يستيقظ في كل لحظة). وبالنسبة للعم فنسنت، فأنا أرى ذلك فيه دائماً وبوضوح. أقول لك ذلك كي تعرف انك تتعامل معَ مَنْ، وعليك ان تحترس بعض الشيء بإختيار كلماتك. وان كان عليَّ ان اوضح لك شخصيته اكثر، فهو معجب بشكل لا مثيل له بلوحة (الأوهام المفقودة) للرسام غلير*، وهذا ايضاً يقول الكثير حول شخصيته. فأن قررت أَن تسأله حول انتقالك من لاهاي، فحاول ان تطلب ذلك بهدوء، وتُبَيِّن له رغبتك بالانتقال الى هنا او الى لندن.
شكراً لرسالتك التي إستلمتها هذا الصباح، وممتن لإرسالك كتاب روكيرت*. هل لديك قصائد اخرى له؟ أود فعلاً التعرف أكثر على شعره. في اقرب فرصة سأرسل لك الكتاب المقدس باللغة الفرنسية وكذلك كتاب تقليد المسيح، وهذا الاخير يظهر في اللوحة التي رسمها فيليب دي شامباين، والمعروضة في اللوفر، حيث رسم امرأة بهيئة راهبة. ويظهر الكتاب موضوعاً على الكرسي الذي بجانبها. أوصيك أن تنتبه لما يحدث حولك وتهتم بنفسك جيداً ايها الفتى الرائع. لقد كتب لي أبي ذات مرة قائلاً (كن طيباً مثل حمامة، وحذراً مثل أفعى)، أنت ايضاً عليك أن تضع هذه الكلمات نصب عينيك، وأنت تسير في دروب هذه الحياة المتقلبة. هل لديك في المحل صور للوحات ميسونيه*؟ تأملها جيداً، وخاصة لوحتيه (رجل يدخن قرب النافذة) و (شباب يتناولون الغداء) عندها ستعرف قصدي جيداً، وستستلهم منها الكثير.
أخوك المحب
فنسنت
* هوامش المترجم:
- الفريد دي موسيه: شاعر رومانسي فرنسي (١٨١٠-١٨٥٧)
- تشارلس غلير: رسام سويسري (١٨٠٦-١٨٧٤) عاش في باريس، وكان استاذاً لكل من مونيه ورينوار وسيسلي، الذين اعطاهم دروساً في مرسمه قبل ان يبتكروا المدرسة الأنطباعية ويحدثون ثورة في الرسم. ولوحته الأهام المفقودة أخذَت اسمها بتأثير من رواية بلزاك التي تحمل نفس الاسم، ويسميها البعض(الغروب)، وهذه اللوحة التي تحمل الكثير من الشعرية والرمزية والغموض، رسمها غلير سنة ١٨٤٣ حيث يظهر فيها مركباً على ضفاف النيل وقت الغروب، مليئاً بنساء يمارسن بعض الطقوس والاحتفالات.
- فردريك روكيرت: شاعر ومترجم وعالم لغة ألماني (١٧٨٨-١٨٦٦) وقد ألَّفَ الكثير من الموسيقيون موسيقى عظيمة حول قصائده، مثل شوبرت وبرامز وآخرين.
- أرنست موسينيه: رسام فرنسي كلاسيكي (١٨١٥-١٨٩١) اهتم برسم المحاربين والفرسان والمواضيع التاريخية.
*****
باريس ١١ تشرين الاول ١٨٧٥
تَيّو العزيز
شكراً لرسالتك التي وصلتني هذا الصباح. هذه المرة، قررت أن أرد عليك بسرعة، وليس مثل المرات السابقة التي أتأخر فيها بالكتابة اليك. سأكتب لك اليوم عن حياتي وكيف تسير الامور معي هنا. أسكنُ الآن كما تعلم في حي مونمارتر*، وأوِّدُ أن أحدثك عن شاب آخر يعيش معي في نفس البيت. أنه انجليزي، يعمل معنا في المتجر وعمره ثمانية عشر عاماً. أبوه تاجر أعمال فنية في لندن، ويحاول أن يمهد له الطريق كي يحل محله فيما بعد. لكن قبل الشروع بذلك، عليه أن يتعلم الكثير. فقبل مجيئه الى باريس، لم تكن لديه تجارب خارج حدود بيتهم في لندن. وفي الاسابيع الأولى له هنا، كان يفعل أشياء غير مألوفة بالنسبة لي، فهو مثلاً يقوم مع كل وجبة طعام، بإلتهام خمس أو ست قطع من الخبز مع الأكل (الخبز هنا رخيص جداً) بعدها يكمل وجبته بكمية كبيرة من التفاح والكمثري، يفعل ذلك بشراهة بادية على ملامح وحركات وجهه، لكنه رغم كل ذلك نحيف كلوحِ خشب. لديه صَفَّي اسنان قوية وبارزة، وشفتين حمراوين، ممتلئتين ونضرتين، وعينين صافيتين مثل خرزتي قلادة، بينما تبرز على جانبي وجهه إذنان كبيرتان حمراوان، تبدوان وكأنهما مُقحمَتَين أو وُضِعَتا بشكلٍ اعتباطي، ويزيد من هذا الانطباع، رأسه الحليق الذي كشفَ عن ظهور شعر أسود في بدايةِ نموهِ. ليس هناك حاجة لأثبت لك بأنّه لا يشبه النساء الجميلات اللواتي يرسمهن فيليب دي شامباين.
لا أخفيك بأنه كان في البداية مصدر تهكم بالنسبة لي، لأني كنت أراه غريباً وربما مثيراً للسخرية بعض الشيء، لكن مع مرور بعض الوقت، نال محبتي واهتمامي. أما الآن، فبإستطاعتي أن أؤكد لك سعادتي الكبيرة وأنا أقضي المساء بصحبته في البيت. إنه شاب بسيط، لكنه نقي السريرة وطيب القلب، وهو فوق هذا كله يعمل بنشاطٍ كبير وهِمَّة عالية. نعودُ من العمل سوية كل يوم، وهو يُفَضِّل أن يتناول طعام العشاء معي في غرفتي، وبعد قليلٍ من الاسترخاء، أقرأ شيئاً من الكتاب المقدس. في أحيان كثيرة يستمع اليًّ وأنا اقرأ، بوجهه الشارد وأذنيه اللتان تبدوان اكثر احمراراً وشفافية بفعل الضوء المنبعث من خلفهِ عبر باب الغرفة. صديقي هذا ينهض باكراً من سريره كل يوم، وبعفويته التي اعرفها يدخل غرفتي بين الساعة الخامسة والسادسة صباحاً وهو يتحسس الحيطان، ليوقظني من نومي العميق، قبل أن نتناول الافطار في غرفتي ايضاً. ونقوم بعدها بترتيب بعض التفاصيل في البيت. لننطلق معاً قبل الساعة الثامنة نحو مكان العمل.
في الايام الاخيرة صار معتدلاً في الاكل، وبدأ بجمع الصور والمطبوعات التي تضم لوحات وأعمال فنية، وقد ساعدته كثيراً بهذا الامر. ذهبنا البارحة معاً الى لكسمبورغ، وهناك أريتَهُ مجموعة من اللوحات التي أحبها، وتحدثت له عن الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالفن. لقد ملأه الفرح وهو يشاركني هذه التجربة. لكن أقول لك الحق، ان هذا الشاب البسيط فاجئني بِحِسِّهِ المميز في اكتشاف مكامن الجمال في اللوحات، إنه بصراحة يعرف أكثر من العديد من المتخصصين بالفن.
لقد توقفنا كثيراً أمام لوحة يوليس بريتون (عودة غلانيوس) ولوحة برينير (شتاء الحقول) ولوحة كابان (بُرْكة في مساء خريفي) ولوحة بريون (حجاج سانت أوديل) ولوحة دوفرغيه (فلّاح بصحبة اولاده) ولوحة ميليه (كنيسة غريفيل) ولوحة غلير (الملاريا)، وهناك لوحة رائعة لا يحضرني اسم رسامها الآن، يظهر فيها مجموعة من الرهبان عند إستقبالهم شخصاً غريباً في الدير، وقد اكتشفوا ان هذا الغريب ما هو سوى السيد المسيح، حيث كُتِبَ على جدار الدير (الرجل الذي يقوده الله) ثم تتبعها جملة (مَنْ يستقبلك، يستقبلهُ الله).
أما بخصوص عملي هنا، فأنا أمارسه بأفضل وجه، والعمل لا ينتهي كما تعرف، وهو يمضي طالما تمضي بِنَا الحياة وتستمر. هل فعلتَ ما طلبته منك بشأن كتب ميشيليه* ورينان*؟ هل تخلصتَ منها كما نصحتك؟ أعتقد بأنك ستشعر بطمأنينة بعد ذلك. أعرف بأنك سوف لن تنسى بسهولة ما كتبه ميشيليه حول النساء اللواتي رسمهن شامباين، كذلك ليس من السهولة ان تضع كتابات رينان خلف ظهرك وتمضي! لكن مع ذلك تخلص من كتبهما، فذلك سيجلب لك راحة البال. فإن وَجَدتَ عسلاً فهذا لا يعني بأنك سوف تترك كل شيءٍ، لتبقى تأكل منه الى الأبد، ودافعك الوحيد هو عدم استطاعتك مقاومة طعمه اللذيذ ورغبتك في الأكل.
ربما الأفضل لك الآن، هو ان تشغل نفسك بقراءة كتب أركمان- شاتريان* فعسى ان تكون مفيدة لك في هذا الوقت. إهتَمَّ بطعامك جيداً، وإلتَمِس لي العذر على ما أطلبه منك أحياناً (فلسنا بحاجة الى ان نُبقي قوسنا مُهَيئاً دائماً للرماية)*. أنت تعرف اننا نتعلم الكثير، حتى من الاشياء السيئة. وبكل الاحوال، أنت تستطيع ان تميز دائماً بين الجمال والقبح، وبين النور والظلام. فإمضي في طريقك المستقيم، وسيشملك الرب من السماء بعنايته وعطفه. فنحن بحاجة الى ذلك يا أخي، كي تمضي حياتنا بسكينة. والرب هو من يقودنا في النهاية.
أكتب لي بسرعة وخاصة عن الاشياء المهمة التي تحصل معك. سلامي الى العائلة وتحياتي للسيد ترستيخ وكل المعارف. اعتني بنفسك قدر ماتستطيع، وإبقني جدير بثقتك.
اخوك المحب
فنسنت
- هوامش المترجم:
* مونمارتر: حي من أشهر احياء مدينة باريس، يقع على مرتفع خارج مركز المدينة، وقد عاش فيه اعظم فناني باريس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. اصبح الآن مكاناً سياحياً، حيث يتمركز في وسطه رساموا البورتريهات السريعة التي تستهوي السائحين.
* جول ميشيليه: مؤرخ فرنسي (١٧٩٨-١٨٧٤)، عُرِفَ بإسلوبه البارع ومناهضته للكتاب المقدس. وهو اول من استخدم وعرَّفَ كلمة النهضة. وقد استخدم فنسنت فيما بعد كلماته (كيف لنا ان نسمح بوجود امرأة وحيدة ومهجورة على هذه الارض) حيث كتبها على حاشية رسمه التخطيطي (الحزن).
* أرنست رينان: كاتب وفيلسوف فرنسي (١٨٢٣-١٨٩٢) اشتهر بآراءه التي تُعِدُّ المسيح انساناً عادياً مثل بقية الناس، وأن الكتاب المقدس يجب أن يخضع للبحث والتقصي مثل أيَّة وثيقة تاريخية.
* اميل اركمان - الكسندر شاتريان: هما كاتبان فرنسيان من القرن التاسع عشر، قاما بكتابة الكثير من المؤلفات معاً، وقد تخصصا بكتابة القصص ذات الاجواء العسكرية، وقصص الاشباح، والحكايات المشوقة التي تثير الفزع، وكانا من اكثر الكتّاب شعبية.
* قول هولندي شائع، يُقْصَدُ به، التصرف بعفوية وعدم تحميل الامور اكثر من طاقتها.
****
باريس، ١٥ تموز ١٨٧٥
تَيّو العزيز
أكتب لك لأخبرك بأن عمي فنسنت كان هنا مرة أخرى، وقد قضيتُ معه بعض الوقت، حيث تحدثنا حول الكثير من الأشياء، ومنها تفاصيل العمل. وقد سألته عن إمكانية إنتقالك الى باريس،
عسى أن يكون ذلك متاحاً له هذه الايام. لكنه لم يكن متحمساً لسماع هذه الفكرة الآن، ويفضل بقائك حالياً في لاهاي. لكني مع ذلك، سأبقى أحاول معه بكل تأكيد، وسأظل أمهد لخطواتك بإتجاه باريس. على كل حال، أرجو ان تطمئن ولا تهتم كثيراً. هو سيفكر بذلك بالتأكيد، مادمتُ قد وضعت الموضوع في رأسه. وأنا متأكد بأن العم سيحدثكَ حول ذلك عند عودته الى لاهاي. أطلب منك فقط حينها، ان تدعه يقول ما يريد، ولا تخبره بأني قد حدَّثتُكَ عن الموضوع، حاول قدر الامكان ان لا تتحدثَ عني إن رأيتَ ذلك يبدو مقحماً. ربما تعرف ان عمي شخص ذكي جداً. نعم، انه لمّاح وبارع في صياغة الكلام ومعرفة المقاصد. أتذكرُ انه قال لي في الشتاء الماضي حين كان هنا (اسمع يافنسنت، ربما ان معرفتي تبدو وكأنها لا تتعدى الأشياء العامة والتقليدية، لكني أُوكد لك بأني لست عارفاً بكل الاشياء التقليدية فقط، بل أفهم ماهيتها وتفاصيلها وكل تقلباتها). لا اتذكر الآن بالضبط ان كان قد استخدم نفس هذه المفردات، ام انه قال كلمات مقاربة لها. هل تعلم ان الشاعر دي موسيه* كان قد كتب ذات مرة (في داخل كلٍ منّا شاعر نائم، لكنه يمكن ان يستيقظ في كل لحظة). وبالنسبة للعم فنسنت، فأنا أرى ذلك فيه دائماً وبوضوح. أقول لك ذلك كي تعرف انك تتعامل معَ مَنْ، وعليك ان تحترس بعض الشيء بإختيار كلماتك. وان كان عليَّ ان اوضح لك شخصيته اكثر، فهو معجب بشكل لا مثيل له بلوحة (الأوهام المفقودة) للرسام غلير*، وهذا ايضاً يقول الكثير حول شخصيته. فأن قررت أَن تسأله حول انتقالك من لاهاي، فحاول ان تطلب ذلك بهدوء، وتُبَيِّن له رغبتك بالانتقال الى هنا او الى لندن.
شكراً لرسالتك التي إستلمتها هذا الصباح، وممتن لإرسالك كتاب روكيرت*. هل لديك قصائد اخرى له؟ أود فعلاً التعرف أكثر على شعره. في اقرب فرصة سأرسل لك الكتاب المقدس باللغة الفرنسية وكذلك كتاب تقليد المسيح، وهذا الاخير يظهر في اللوحة التي رسمها فيليب دي شامباين، والمعروضة في اللوفر، حيث رسم امرأة بهيئة راهبة. ويظهر الكتاب موضوعاً على الكرسي الذي بجانبها. أوصيك أن تنتبه لما يحدث حولك وتهتم بنفسك جيداً ايها الفتى الرائع. لقد كتب لي أبي ذات مرة قائلاً (كن طيباً مثل حمامة، وحذراً مثل أفعى)، أنت ايضاً عليك أن تضع هذه الكلمات نصب عينيك، وأنت تسير في دروب هذه الحياة المتقلبة. هل لديك في المحل صور للوحات ميسونيه*؟ تأملها جيداً، وخاصة لوحتيه (رجل يدخن قرب النافذة) و (شباب يتناولون الغداء) عندها ستعرف قصدي جيداً، وستستلهم منها الكثير.
أخوك المحب
فنسنت
- هوامش المترجم:
* الفريد دي موسيه: شاعر رومانسي فرنسي (١٨١٠-١٨٥٧)
* تشارلس غلير: رسام سويسري (١٨٠٦-١٨٧٤) عاش في باريس، وكان استاذاً لكل من مونيه ورينوار وسيسلي، الذين اعطاهم دروساً في مرسمه قبل ان يبتكروا المدرسة الأنطباعية ويحدثون ثورة في الرسم. ولوحته الأهام المفقودة أخذَت اسمها بتأثير من رواية بلزاك التي تحمل نفس الاسم، ويسميها البعض(الغروب)، وهذه اللوحة التي تحمل الكثير من الشعرية والرمزية والغموض، رسمها غلير سنة ١٨٤٣ حيث يظهر فيها مركباً على ضفاف النيل وقت الغروب، مليئاً بنساء يمارسن بعض الطقوس والاحتفالات.
* فردريك روكيرت: شاعر ومترجم وعالم لغة ألماني (١٧٨٨-١٨٦٦) وقد ألَّفَ الكثير من الموسيقيون موسيقى عظيمة حول قصائده، مثل شوبرت وبرامز وآخرين.
* أرنست موسينيه: رسام فرنسي كلاسيكي (١٨١٥-١٨٩١) اهتم برسم المحاربين والفرسان والمواضيع التاريخية.
****
باريس ١١ تشرين الاول ١٨٧٥
تَيّو العزيز
شكراً لرسالتك التي وصلتني هذا الصباح. هذه المرة، قررت أن أرد عليك بسرعة، وليس مثل المرات السابقة التي أتأخر فيها بالكتابة اليك. سأكتب لك اليوم عن حياتي وكيف تسير الامور معي هنا. أسكنُ الآن كما تعلم في حي مونمارتر*، وأوِّدُ أن أحدثك عن شاب آخر يعيش معي في نفس البيت. أنه انجليزي، يعمل معنا في المتجر وعمره ثمانية عشر عاماً. أبوه تاجر أعمال فنية في لندن، ويحاول أن يمهد له الطريق كي يحل محله فيما بعد. لكن قبل الشروع بذلك، عليه أن يتعلم الكثير. فقبل مجيئه الى باريس، لم تكن لديه تجارب خارج حدود بيتهم في لندن. وفي الاسابيع الأولى له هنا، كان يفعل أشياء غير مألوفة بالنسبة لي، فهو مثلاً يقوم مع كل وجبة طعام، بإلتهام خمس أو ست قطع من الخبز مع الأكل (الخبز هنا رخيص جداً) بعدها يكمل وجبته بكمية كبيرة من التفاح والكمثري، يفعل ذلك بشراهة بادية على ملامح وحركات وجهه، لكنه رغم كل ذلك نحيف كلوحِ خشب. لديه صَفَّي اسنان قوية وبارزة، وشفتين حمراوين، ممتلئتين ونضرتين، وعينين صافيتين مثل خرزتي قلادة، بينما تبرز على جانبي وجهه إذنان كبيرتان حمراوان، تبدوان وكأنهما مُقحمَتَين أو وُضِعَتا بشكلٍ اعتباطي، ويزيد من هذا الانطباع، رأسه الحليق الذي كشفَ عن ظهور شعر أسود في بدايةِ نموهِ. ليس هناك حاجة لأثبت لك بأنّه لا يشبه النساء الجميلات اللواتي يرسمهن فيليب دي شامباين.
لا أخفيك بأنه كان في البداية مصدر تهكم بالنسبة لي، لأني كنت أراه غريباً وربما مثيراً للسخرية بعض الشيء، لكن مع مرور بعض الوقت، نال محبتي واهتمامي. أما الآن، فبإستطاعتي أن أؤكد لك سعادتي الكبيرة وأنا أقضي المساء بصحبته في البيت. إنه شاب بسيط، لكنه نقي السريرة وطيب القلب، وهو فوق هذا كله يعمل بنشاطٍ كبير وهِمَّة عالية. نعودُ من العمل سوية كل يوم، وهو يُفَضِّل أن يتناول طعام العشاء معي في غرفتي، وبعد قليلٍ من الاسترخاء، أقرأ شيئاً من الكتاب المقدس. في أحيان كثيرة يستمع اليًّ وأنا اقرأ، بوجهه الشارد وأذنيه اللتان تبدوان اكثر احمراراً وشفافية بفعل الضوء المنبعث من خلفهِ عبر باب الغرفة. صديقي هذا ينهض باكراً من سريره كل يوم، وبعفويته التي اعرفها يدخل غرفتي بين الساعة الخامسة والسادسة صباحاً وهو يتحسس الحيطان، ليوقظني من نومي العميق، قبل أن نتناول الافطار في غرفتي ايضاً. ونقوم بعدها بترتيب بعض التفاصيل في البيت. لننطلق معاً قبل الساعة الثامنة نحو مكان العمل.
في الايام الاخيرة صار معتدلاً في الاكل، وبدأ بجمع الصور والمطبوعات التي تضم لوحات وأعمال فنية، وقد ساعدته كثيراً بهذا الامر. ذهبنا البارحة معاً الى لكسمبورغ، وهناك أريتَهُ مجموعة من اللوحات التي أحبها، وتحدثت له عن الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالفن. لقد ملأه الفرح وهو يشاركني هذه التجربة. لكن أقول لك الحق، ان هذا الشاب البسيط فاجئني بِحِسِّهِ المميز في اكتشاف مكامن الجمال في اللوحات، إنه بصراحة يعرف أكثر من العديد من المتخصصين بالفن.
لقد توقفنا كثيراً أمام لوحة يوليس بريتون (عودة غلانيوس) ولوحة برينير (شتاء الحقول) ولوحة كابان (بُرْكة في مساء خريفي) ولوحة بريون (حجاج سانت أوديل) ولوحة دوفرغيه (فلّاح بصحبة اولاده) ولوحة ميليه (كنيسة غريفيل) ولوحة غلير (الملاريا)، وهناك لوحة رائعة لا يحضرني اسم رسامها الآن، يظهر فيها مجموعة من الرهبان عند إستقبالهم شخصاً غريباً في الدير، وقد اكتشفوا ان هذا الغريب ما هو سوى السيد المسيح، حيث كُتِبَ على جدار الدير (الرجل الذي يقوده الله) ثم تتبعها جملة (مَنْ يستقبلك، يستقبلهُ الله).
أما بخصوص عملي هنا، فأنا أمارسه بأفضل وجه، والعمل لا ينتهي كما تعرف، وهو يمضي طالما تمضي بِنَا الحياة وتستمر. هل فعلتَ ما طلبته منك بشأن كتب ميشيليه* ورينان*؟ هل تخلصتَ منها كما نصحتك؟ أعتقد بأنك ستشعر بطمأنينة بعد ذلك. أعرف بأنك سوف لن تنسى بسهولة ما كتبه ميشيليه حول النساء اللواتي رسمهن شامباين، كذلك ليس من السهولة ان تضع كتابات رينان خلف ظهرك وتمضي! لكن مع ذلك تخلص من كتبهما، فذلك سيجلب لك راحة البال. فإن وَجَدتَ عسلاً فهذا لا يعني بأنك سوف تترك كل شيءٍ، لتبقى تأكل منه الى الأبد، ودافعك الوحيد هو عدم استطاعتك مقاومة طعمه اللذيذ ورغبتك في الأكل.
ربما الأفضل لك الآن، هو ان تشغل نفسك بقراءة كتب أركمان- شاتريان* فعسى ان تكون مفيدة لك في هذا الوقت. إهتَمَّ بطعامك جيداً، وإلتَمِس لي العذر على ما أطلبه منك أحياناً (فلسنا بحاجة الى ان نُبقي قوسنا مُهَيئاً دائماً للرماية)*. أنت تعرف اننا نتعلم الكثير، حتى من الاشياء السيئة. وبكل الاحوال، أنت تستطيع ان تميز دائماً بين الجمال والقبح، وبين النور والظلام. فإمضي في طريقك المستقيم، وسيشملك الرب من السماء بعنايته وعطفه. فنحن بحاجة الى ذلك يا أخي، كي تمضي حياتنا بسكينة. والرب هو من يقودنا في النهاية.
أكتب لي بسرعة وخاصة عن الاشياء المهمة التي تحصل معك. سلامي الى العائلة وتحياتي للسيد ترستيخ وكل المعارف. اعتني بنفسك قدر ماتستطيع، وإبقني جدير بثقتك.
اخوك المحب
فنسنت
- هوامش المترجم:
* مونمارتر: حي من أشهر احياء مدينة باريس، يقع على مرتفع خارج مركز المدينة، وقد عاش فيه اعظم فناني باريس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. اصبح الآن مكاناً سياحياً، حيث يتمركز في وسطه رساموا البورتريهات السريعة التي تستهوي السائحين.
*جول ميشيليه: مؤرخ فرنسي (١٧٩٨-١٨٧٤)، عُرِفَ بإسلوبه البارع ومناهضته للكتاب المقدس. وهو اول من استخدم وعرَّفَ كلمة النهضة. وقد استخدم فنسنت فيما بعد كلماته (كيف لنا ان نسمح بوجود امرأة وحيدة ومهجورة على هذه الارض) حيث كتبها على حاشية رسمه التخطيطي (الحزن).
* أرنست رينان: كاتب وفيلسوف فرنسي (١٨٢٣-١٨٩٢) اشتهر بآراءه التي تُعِدُّ المسيح انساناً عادياً مثل بقية الناس، وأن الكتاب المقدس يجب أن يخضع للبحث والتقصي مثل أيَّة وثيقة تاريخية.
* اميل اركمان - الكسندر شاتريان: هما كاتبان فرنسيان من القرن التاسع عشر، قاما بكتابة الكثير من المؤلفات معاً، وقد تخصصا بكتابة القصص ذات الاجواء العسكرية، وقصص الاشباح، والحكايات المشوقة التي تثير الفزع، وكانا من اكثر الكتّاب شعبية.
* قول هولندي شائع، يُقْصَدُ به، التصرف بعفوية وعدم تحميل الامور اكثر من طاقتها.
****
أمستردام ٢٧ تموز ١٨٧٧
تيّو العزيز
شكراً على رسالتك الأخيرة. سمعتُ من الأهل بأنك قد زرتَ مَوف في مرسمه. أظنهُ كان يوماً مميزاً بالنسبة لك، أرجو أن أسمع منك عن تفاصيل هذا اللقاء في أقرب فرصة. ستجد مع هذه الرسالة ثلاثة أعمال ليثوغرافية صغيرة، مساهمة مني _وأرجو أن تكون جيدة_ لمجموعتك من الأعمال الطباعية.
العمل الأول للفنان بوسبوم* والأثنان الآخران للفنان فيسمبروخ*، وجدتها مطبوعة ضمن كتاب اشتريته هذا الصباح. أظن أن بوسبوم قد رسم هنا الكنيسة التي في منطقة سخيفيننغن، هل ترى هذا ايضاً؟ العمل الآخر هو للكنيسة الكبيرة في بريدا، أما الثالث، فقد أعاد فيسمبروخ فيه رسم لوحته التي عُرِضَتْ في معرض باريس. وبالنسبة لأعمال فيسمبروخ، فهي تثير إهتمامي دائماً بسبب رهافتها، إنها تَمِسُّ مشاعري كلما أتطلع اليها. لا أعرف إن كنتَ تراها أيضاً بالطريقة ذاتها. في كل الأحوال، إمض في طريقك لإحتضان كل عمل غرافيكي يتاح لك، سواء كان مطبوعاً بشكل منفصل أو تجده ضمن كتاب.
بالنسبة لي فقد أعطيت إهتمامي في الفترة الأخيرة للمواضيع اللاتينية والاغريقية، كذلك أُرَكِّزُ كثيراً على المواضيع الأخرى التي تتعلق بالتاريخ. وهذه الأيام بالتحديد إنشغلت بتفاصيل حول الاصلاح الديني، وهذا سيأخذ مني بعض الوقت. وقد تعرفت الآن على شابٍ نجح قبل بضعة أيام في امتحان القبول بجامعة لايدن، وهذا ليس سهلاً كما تعرف، وقد تحدث معي بنفسه عن نوع الاسئلة والامتحان الذي تجاوزه بتفوق. أنا متأكد بأني سأوفق أيضاً بهذا الامتحان، وأرجو أن يستجيب الله لدعائي. وقد تحدثتُ مع الاستاذ مندس، وكان متفائلاً بهذا الخصوص، وأكَّدَ أن بإمكاني الظفر بذلك بعد ثلاثة أشهر من متابعة دروسه. لا أعرف إن كنت سأستجيب لذلك أم لا، لأني أرى أن دروسه الاغريقية التي يعطيها أقرب للعامة وتغلب عليها شعبية حارات امستردام وبالذات لكنة أهالي يوردان* وهم يتجولون في ظهيرة صيف قائظ وسط العاصمة. لا تشغل بالك، فهناك الكثير من الاساتذة البارعين والمُجَرَبينَ الذين يمكنهم المساعدة في ذلك. والمسألة في كل الأحوال تحتاج الى مثابرة، إنها جديّة ولا تشبه التجوال على الساحل أو التنزه بين حقول القمح في براباند. قصدتُ من ذلك هو إننا يجب أن لا نتوقف، نمضي الى الأمام مادمنا على قيد الحياة ونبقى طموحين كما يقول العم يان.
قبل يومين تعثر طفل أثناء لعبه على جسر كاتنبروخ وسقط في الماء، وقتها شاهد العم يان ذلك، وفي لمح البصر أخذ قارباً من مرفأ تصليح القوارب وانتَشَلَهُ بصعوبة من الماء، قمتُ بعدها مع شابين من طبابة المرفأ بتجفيف الصبي وتدفئته، لكن دون فائدة مع الأسف، فقد مات الصبي ولم نستطع فعل أي شيء حيال ذلك. وقد حضر والده الذي يعمل مُشَغِّلاً لمحركات السفن ولَفَّهُ ببطانية صوفية قديمة ومضى به الى البيت. بعد ساعة ونصف إنشغل الناس هنا ايضاً بإنتشال طفلة صغيرة زلت قدمها وسقطت في ذات النهر، لكن لحسن الحظ، انهم استطاعوا انقاذها في اللحظة المناسبة.
في المساء ذهبتُ الى عائلة الطفل الذي غرق. كان بيتهم مظلماً، بينما جثمان الطفل يتمدد برفق على سرير صغير في غرفة جانبية، وكم بدا لي ودوداً رغم شحوبه. ما أثار ألمي وقتها، هو أن هذا الصبي الذي كان يضيء البيت ببهجته، قد إنطفأ نوره وبريقه، وغدا أهله في حالة ذهول وتوسل وانكسار. هنا رأيت كيف تُطيحُ خشونة الحياة بالكرامة وتُهينُ عزة النفس. لقد تأثرتُ حقاً بمنظر الأم المُطرِقَة والمفجوعة وسط ظلام البيت. بعدها تجولتُ كثيراً، نحو منتصف الليل، لأخفف من وطأة العتمة التي ملأت نفسي. وللتقليل من هذه المشقة، إستعدتُ صورة العم يان وهو يحاول إنقاذ الطفل، وقد التمعت عيناه وظهرت العزيمة على ملامح وجهه الذي لفحته الشمس. لحظتها رأيت عمي على حقيقته وبانَ لي معدنه الطيب. صورته تلك المليئة بالإيثار، أعادت لي ثقتي بالناس، وإستعدتُ معها رباطة جأشي.
في صباح يوم الاحد قمت بجولة طويلة، بدأتها من كنيسة الشمال الى جزيرة بيكرس، بعدها عبرتُ السد لأصل الى آي*، لأكمل طريقي بعدها نحو كنيسة آيلاند، حيث إلتقيت بالعم ستريكر. عدنا سوية بعد ذلك، وقد مضى الوقت سريعاً، وقررنا أن نكرر الجولة في الاسبوع القادم.
اكتب لي وحدثني عنك وعن احوالك يارجل، أغلب الوقت كنتُ مشغولاً بك. أدعو الله أن يساعدنا ويجعلنا في أفضل حال. مدهش إنك صرت أكثر تعلقاً بالفن والفنانين. أنا أيضاً كما تعرف ملتصق ومتمسك بعالم الفن وما يصنعه الفنانون. في النهاية فإن الأشياء الجميلة هي التي تنتصر وتدوم، سواء كانت هنا أو في أي مكان آخر. علينا فقط أن نسعى، والله يساعدنا في النهاية.
الآن اقترب وقت ذهابي الى العمل، لكني في كل الاحوال، سأملأ هذه الورقة بالكتابة. آنّا ذهبت كما تعرف الى لايدن، وستأتي هذه الأيام الى امستردام بصحبة الشاب الذي أحبته، صهرنا المستقبلي. كم أنا متشوق للقاء هذا الشاب الذي أحبته أختنا. لقد كتب لي أبي بحماسة وشغف حول علاقتها بهذا الشاب، وهو يرى إن كل شيء سيكون رائعاً، وما علينا جميعاً سوى أن نبارك لأختنا ونجعلها سعيدة. فهذا مهم جداً لترابطنا.
في الاسبوع القادم سيأتي العم والعمة بومبه لزيارتي والمبيت عندي، وسيأتي معهم فَنِي وبَتْ. لقد مرَّ وقت طويل لم التقيهم فيه. وبالنسبة لتفاصيل حياتي الباقية، مازلت انهض مبكراً من النوم، لأراقب الشمس وهي تشرق بهدوء رويداً رويداً وتنسكب فوق حوض تصليح السفن، ليعلن النهار خطواته الصفراء الفتية التي تتعثر برؤوس العمال. ياله من مشهد جليل، هذا الذي أراه من خلال النافذة. تمنيت أن تكون بجانبي لترى ذلك معي، انه شيء مقدس، هنا رأيت الله في نور الشمس ياتيّو.
إن كان تحت يديك طابع بريد، وتوفر عندك بعض الورق، فإكتب لي بسرعة.
لقد شاهدت في متجر العم كور كتاباً فيه تخطيطات حول الكتاب المقدس للفنان بيدا*، ياللجمال، ويالها من لذة حقيقية شعرت بها وأنا أتابع الخطوط التي نَفَّذَ بها هذه الرسومات. كيف لي أن أصف لك ذلك؟ يكفي أن هذه الرسوم جعلتني أفكر سريعاً بريمبرانت.
والآن أشد على يدك وأتمنى لك كل ماهو جميل.
تحيات العم يان لك.
ابق على ثقتك بي.
أخوك المحب فنسنت
هوامش المترجم:
يوهانس بوسبوم: فنان هولندي (١٨١٧-١٨٩١) ينتمي الى مدرسة لاهاي في الرسم. اشتهر بمائياته التي تعكس ضوء المناخ الهولندي، وعُرِفَ ايضاَ بأعماله الليثوغرافية الرائعة.
يان هندريك فيسنبروخ: فنان هولندي (١٨٢٤-١٩٠٣) واحد من أهم أعمدة مدرسة لاهاي. اشتهر بأعمال الليثوغراف ومناظره الطبيعية مذهلة ويشع منها الضوء، ومرصعة بغيوم شفافة وفضاء مفتوح.
يوردان: أشهر حي في امستردام، ويُعرَفُ سكانه بلكنتهم الهولندية الخاصة وتصرفاتهم التي تقترب من تصرفات الشارع ذات الوقاحةالمحببة.
جزيرة بيكرس: جزيرة صغيرة جداً، وهي واحدة من ثلاث جزر تابعة لمدينة امستردام.
آي: نهر صغير شمال امستردام
بيدا: فنان رومانتيكي فرنسي (١٨١٣-١٨٩٥)، تتلمذ على يد الفنان ديلاكروا. يعتبر من الفنانين المستشرقين، ويُعَدُ من أعظم المخططين في تاريخ الرسم
*****
رامسغيت ١٧ نيسان ١٨٧٦
أبي وأمي العزيزين
محبتي لكما ولباقي العائلة، وأرجو أن التلغراف الذي أرسلته قد وصلكما. تساءلت مع نفسي وأنا أغادر، والحزن يملأ قلبي، ترى هل يمكننا إختيار سعادة البقاء معاً، أم إننا مرغمون على الفراق الذي يثير الحزن والكآبة؟ لقد كُتِبَ علينا أن نفترق عن بعضنا مراراً. لكن،
لا أعرف لماذا شعرتُ هذه المرة بحزن أكبر مما كنت أحسُّهُ في المرات السابقة، وهذا ما لاحظته على وجهيكما أيضاً. لكن حسبنا أن نتحلى بالصبر ونَتَكَيَّفُ مع الضرورات التي لا مناص منها.
في محطة القطار، بدت لي الطبيعة غريبة وليست كما عرفتها، كان الجو رمادياً تتخلله موجات من البرد القارس. بيد أنَّه تَحَسَّنَ قليلاً مع مرور الوقت، وأنا كذلك صرتُ أفضل حالاً. مرَّ القطار على بعض المراعي التي ظهرت وهي تتمددُ مسترخية بصمت وسكينة. وبينما الهدوء يَعِمَّ كل شيء، إختفى جزء كبير من الشمس خلف سحابة رمادية، وقد إختَرَقَ شعاعها الذهبي حافة السحابة، ليلتمع بعدها فوق الحقول مثل قطع نقود ذهبية تنثرها السماء. مع هذا أحسست بحنين كبير يسحبني بقوة الى البيت. فكرت بكما وبتيّو وآنّا وبباقي العائلة، وفي غمرة إنشغالي بكم، اقترب القطار من التلال السبعة*، فغطى الحنين ملامح وجهي من جديد، حيث أعادني هذا المشهد، لذلك اليوم الذي أوصلتماني فيه الى المكان ذاته، حيث المدرسة الداخلية عند السيد بروفيلي، أتَذَكَرُ حينها كيف وَقَفتُ مع حقيبتي على الرصيف المحاذي لباب المدرسة، وأنا أراقب العربة التي بدأت تختفي شيئاً.. فشيئاً وهي تنطلق بكما على الشارع المبتل بالمطر. تذكرتُ ايضاً ذلك المساء الذي زارني فيه أبي لأول مرة في المدرسة، ليأخذني بعدها معه الى البيت لقضاء الكريسمس.
إنطلقت بنا السفينة نحو بريطانيا، لحظتها تذكرت اختي آنّا وإستَعَدتُ رحلاتنا الممتعة معاً. أصبح الجو صافياً بعد ان تجاوزنا نهر الماس*، حيث لَمِحْتُ رمال الشاطئ التي إلتمعت وَبَدَتْ شقراء بفعل الشمس، عندها مَدَّ لنا البحرُ يدهُ الزرقاءَ ليقودنا بعيداً، فتغيبُ هولندا خلفي ولم يظهر منها سوى فنار بعيد شاحب. بقيت على سطح السفينة الى المساء، ثم نزلت الى المقصورة بعد أن بدأ البرد يتسلل الى جسدي. في الصباح التالي، خلال الطريق من هارويش الى لندن، إمتدت حقول داكنة اللون، ومراعٍ خضر
كبيرة، مليئة بالأغنام والحملان الصغيرة. تظهر بينها بعض النباتات الشوكية، كذلك تناثرت هنا.. وهناك أعدادٌ من أشجار البلوط التي بَدَتْ أغصانها معتمة، بينما تسلقت سيقانها بعض الطحالب الخضراء الرطبة. السماء صارت زرقاء مظلمة قليلاً، مع بضعة نجيمات بعيدة، وغيمة رمادية وحيدة وكبيرة سَدَّت الأفق. وبينما كانت الشمس تَهِمُّ بالشروق تناهى الى سمعي صفير قُبَّرَة، خِلتُهُ تلويحة بعيدة من الوطن.
محطة واحدة تفصلنا عن لندن. بدأ الصباح وغدا المناخ مختلفاً. ذَهَبَتْ السُحُب الرمادية ولاحت الشمس بسيطة دافئة، كانت مريحة مثل فتاة غير متكلفة، وكبيرة وواسعة بالقدر الذي تسمحُ به الطبيعة. كانت شمساً تليق بعيد الفصح. وأنا أنظر الى العشب الطري الناصع بفعل الندى، تذكرتكم وتمنيت أن أستبدل كل هذا الجمال بمناخٍ كئيبٍ مظلمٍ شريطة أن تكونوا معي. قضيت وقت الظهيرة على سطح السفينة، حتى مغيب الشمس، كان لون البحر أزرقَ داكناً، تَتَخَلَّلُهُ أمواج عالية ذات حافات بيض مسننة. الشاطيء بعيد عن متناول البصر، والسماء زرقاء شاحبة، ولا أثر لأية غيمة. الشمس هيَّأت نفسها للمغيب من جديد، ورَمَتْ شريطاً لامعاً ومتحركاً فوق سطح الماء، أحال المكان الى مشهدٍ جليلٍ وبسيطٍ وصامت. إن هذه التفاصيل تجعلني أقشَعِرُّ بشكل لا إرادي من فرط جمالها، وبكل الاحوال هي تحملُ عمقاً ومودةً أكثر من مقصورتي التي قضيتُ فيها الليل بين المسافرين السكارى والمدخنين الذين يملأون المكان بغنائهم الصاخب.
في لندن، تأخر وصول القطار ساعتين، بعدها كان علينا أن نقضي أربع ساعات ونصف، لنصل الى رامسغيت. الطريق كانت ممتعةً وتحيطها بعض المرتفعات الصغيرة التي ذَكَّرَتني بالمرتفعات هناك. بانَتْ الأعشاب الجافة وهي تفترش أماكن واسعة على مَدِّ البصر، ومن بينها إنبثقت أشجار البلوط الضخمة. وبمحاذاة التلال رقدت قرية صغيرة، يتسلق اللبلاب على واجهات بيوتها، وتتوسطها كنيسة رمادية، بينما إلتمعت أشجار الفاكهة المزهرة، وبَدَتْ رائقة بفضل الخلفية التي كَوَّنَتها السماء بلونها الأزرق الشاحب، وبضعة غيمات بيض ورمادية. مررنا على كانتربوري، وبيوتها التي تعود الى القرون الوسطى، وقد أحاطت بهذه البيوت القديمة الثابتة، مجموعة من أشجار الدردار التي جعلت المشهد بهيجاً، حتى بَدَتْ وكأنها مجموعة فتيات في عرس من اعراس القرية. أنا متأكد بأني قد شاهدتُ بعض اللوحات التي تمثل جانباً من هذه القرية الجميلة. أتأمل هذه التفاصيل من نافذة القطار الصغيرة، وفي الوقت ذات ينشغل بالي بما ستكون عليه ايامي القادمة في رامسغيت. قبيل الساعة الواحدة ظهراً ذهبت الى المدرسة، لكن السيد ستوك* لم يكن موجوداً، فعدتُ مرة أخرى في المساء، وإستقبلني ابنه ذو الثلاثة وعشرين عاماً، والذي يعمل معلماً في لندن. ظهيرة اليوم التالي كان السيد ستوك يأخذ مكانه على طاولة كبيرة بصحبة أربعة وعشرين تلميذاً تتراوح اعمارهم بين ١٢ و١٤ سنة. كان شيئاً نادراً بالنسبة لي أن أرى أربعة وعشرين صبياً يأكلون على طاولة واحدة. المدرسة ليست كبيرة، لكن نوافذها تطل على البحر. بعد أن تناولنا الطعام، تجولنا قليلاً على الساحل الذي كان مريحاً ومنعشاً، والبيوت التي تطل عليه، كانت بسيطة وتم بناؤها بالحجر الأصفر على الطريقة الغوطية. والحدائق هنا مليئة بأشجار الأرز، ونباتات عشبية صغيرة دائمة الخضرة. مع ميناء مليء بالمراكب، يفصله عن اليابسة رصيف حجري طويل يستخدمه الأهالي للتجوال.
البارحة ذهبنا بصحبة الأولاد الى الكنيسة التي لاحظتُ على أحد جدرانها كتابة تقول (أنا نصيرك في هذه الدنيا) فشعرت براحة وطمأنينة. في الساعة الثامنة مساءً ذهب الأولاد الى النوم، ليستيقظوا اليوم باكرين عند الساعة السادسة صباحاً.
بالإضافة لي يوجد هنا ثلاثة معلمين شبان، ونحن ننام سوية في بيت منفصل بمحاذاة المدرسة، وهنا خُصِّصَتْ لي غرفة صغيرة عُلِّقَتْ على جدرانها الكثير من الأعمال الطباعية. سأتوقف الآن عن الكتابة، لكن قبل هذا أقول لكما بأني قد قضيت وقتاً جيداً بما فيه الكفاية. شكراً على كل ما قمتما به من أجلي.
تحياتي الى لِيز وألبرتينا وكل اخوتي واخواتي
أشد على أيديكما بحرارة، مع كل محبتي
خالص محبتي
فنسنت
- هوامش المترجم:
* التلال السبعة: مدينة في جنوب هولندا. التحق فنسنت بمدرسة داخلية فيها أيام صباه.
* *نهر الماس: نهر ينبع من فرنسا ويمر ببلجيكا ثم جنوب هولندا، ليصب في بحر الشمال.
* *السيد ستوك: صاحب المدرسة الداخلية في مدينة رامسغيت ببريطانيا، والتي عمل فيها فنسنت مدرساً مقابل مبلغ بسيط جداً إضافة الى طعامه وشرابه ومكان إقامته.
******
رامسغيت ٣١ حزيران ١٨٧٦
تَيّو العزيز
وصلني خبر ذهابك الى أتن*. لحسن الحظ، لم يبق البيت خالياً، حيث بقي الاربعة الآخرون هناك، لقد كتبَ لي أبي وأخبرني كيف ذهبتما في ذلك اليوم معاً، وحدثني عن كل التفاصيل. فَرِحتُ بذلك كثيراً وشعرتُ بأني قربكما وأضعُ يديَّ بيديكما. أشكرك أيضاً على رسالتك الأخيرة، وأود أن أحدثكَ عن شيء هائل حدث هنا مؤخراً.
لقد مرَّت بنا عاصفة رهيبة جداً. آه لو تعرف كيف قَضينا تلك الليلة الصاخبة، لقد تحوَّلَ البحر الى قطعة صفراء، وخاصة في الجزء القريب من الساحل، ولاحَ في الأفق خط بعيد لضوءٍ خافتٍ، جثمتْ فوقهُ سحابة رمادية كبيرة تثير الرهبة. بينما أخذ وابل المطر المائل يهتَز وهو ينحدر من السماء مثل السلاسل. والريح تعصف بالغبار والاحجار الصغيرة في الممر الأبيض الضيق، وتبعثرها على صخور الساحل. كانت أشجار الزعرور تخفق بعنفٍ وتتمايل حتى تقترب أغصانها من الزهور التي نبتت على حافة السياج الصخري، بينما يرتجف على يمين المدرسة حقل القمح اليانع بلونه الأخضر الطري ويتلوى تحتَ أقدام الريح الضاربة. أمّا الأبراج والطواحين وسقوف البيوت الغوطية، وكذلك الميناء الذي يقع بين حاجزين كبيرين من الحجر، فكلها بدت تحت العاصغة كالأشباح، بعد أن اكتسبت مظهر المدن التي رسمها البرت ديورر*.
إنتهت العاصفة بشكلٍ تدريجي، لكني كنتُ أُتابعُ أذيالها الباقية وهي تمتزج مع مياه البحر وتتغلغل في ثناياه، لتحيلهُ الى مسطحٍ رمادي كئيب. بعد مرور بعض الوقت لاحَ ضوء الأفق من جديد، ليأتي الصباح هادئاً وفي فمه ملعقة من ذهب. كان الوقتُ مبكراً جداً، ومع ذلك تناهى الى سمعي تغريد بعض العنادل وصفير عدد من القبرات في الحديقة المطلة على البحر، ليبرق بعدها ضوء الفنارات ثانية مهيئاً نفسه لمراقبة السفن القادمة.
في الليلة التي تلت ذلك، قضيت وقتاً طويلاً أنظر من خلال النافذة الصغيرة التي في غرفتي نحو البيوت التي أحاطِتْ بأشجار الدردار التي بَدَتْ هاماتها كالحة كالليل، بينما أَطَلَّتْ من بينَ سطوح القرميد نجمة كبيرة حانية، منحتني إحساساً بالطمأنينة والدفء. وقتها فكرتُ بأيامي التي مضت سريعاً، وتذكرتُ بيتنا ونحن مجتمعين معاً، وإجتاحت مشاعري هذه الكلمات، وأخذتُ أرددها (إحمني من الذنوب، وامنحني نعمتك، لا لكوني أستحقُ ذلك، بل لأجل أمي الطيبة. أنت من يمنح المحبة، ولا يستقيم أمرنا دون بركاتك). ستجد مع الرسالة، تخطيط صغير رسمته للمكان الذي تطل عليه نافذتي، كي تتخيل المشهد، وكذلك لترى الساحة التي يتجمَّعُ فيهاالصبيان مع أهلهم بعد انتهاء الوقت المخصص للزيارة، لينطلق الأهل بعدها نحو محطة القطار. لا يمكن لأحدٍ هنا ان ينسى هذا المشهد ابداً.
هذا الاسبوع استمر المطر بالهطول، وكنت اتمنى ان تشاهد منظر الساحة، خاصة عند إشعال أعمدة النور، حيث يغتسلُ الضوء الخافت بحبات المطر وينعكسُ متأرجحاً على الأرضية المبللة. في الأيام الأخيرة لم يكن مزاج السيد ستوكس جيداً، لذا فهو يقوم بحرمان الأولاد من الخبز والشاي مساءً إذا خرجوا عن طوعهِ قليلاً. عليك أن تقف هنا، خلف هذه النافذة لترى المشهد بنفسك، في هذا المكان يمكنك أن تعرف وتتحسس كيف تكون العيون مترقبة وكئيبة. تَخَيَّل، هؤلاء الأولاد المساكين ليس لديهم ما ينتظرونه سوى الأكل والشرب، ومع ذلك يُحرَمونَ من هذه (النعمة) بسبب مزاج هذا السيد! ألا يكفيهم عبء عبور السُّلَم المظلم والممر الضيق الذي يوصلهم بمشقَّة الى طاولة الطعام، ليجدونها في نهاية الأمر خالية؟
شيء آخر أثار إستغرابي هنا، وهو الحَمّام ذو الأرضية العفنة، حيث تنتصب ستة أحواض بالية لغرض الأستحمام، تغمرها رائحة نتنة، ولا يخفف من وطأة ذلك حتى الضوء الخافت الذي تبعثه الشمس ليربت بأصابعه الدافئة على المغاسل، بعد أن يتسللُ بلطفٍ من خلال النافذة ذات القضبان المتآكلة. أنت تعرف بأن هذه التفاصيل تجعلني اشعر بعدم الراحة والحزن. على كل حال، فالمرءُ بحاجة الى شتاءٍ واحدٍ هنا ليعرف نوع الكآبة التي تملأ هذا المكان.
بعض الأولاد تسببوا بسقوط بقعة زيت صغيرة على التخطيط الذي أرسلهُ لك مع هذه الرسالة. سامحتهم على ذلك، وأرجو أن تلتمس لهم العذر أيضاً.
والآن أقول لك من هنا، طاب مسائك ياأخي، أوصل تحياتي لكل من يسأل عني، وإن ذهبتَ الى بورخرس فبلغه سلامي، كذلك محبتي لويليم وفالكيس وكل عائلة روس. ستظل على بالي دائماً.
أشد على يدك بقوة.
أخوك المحب فنسنت.
- هوامش المترجم:
* أتن: مدينة في جنوب هولندا، توحدت فيما بعد مع مدينة لور القريبة منها، لتصبحان مدينة واحدة تعرف الآن بأسم أتنلور.
* البرت ديورر: رسام كلاسيكي الماني (١٤٧١-١٥٢٨) اشتهر بتخطيطاته المذهلة واعمال الحفر على الخشب. يعتبر اعظم رسام الماني على مرِّ العصور.
****
* الرسالة الثانية عشرة
لاهاي، الأحد ٧ آيار ١٨٨٢
تَيّو العزيز
أخبرك بأنى قد إلتقيتُ موف *مؤخراً، وجرى بيننا حديث محبط وغير لائق، بل يحمل الكثير من القسوة، مما أدى إلى قطيعة واضحة بيننا. ولأنه تجاوز كل الحدود في كلامه معي، فهذا يعني بأننا إفترقنا الى الأبد. لقد تمادى وهو يطعنني بكلماته،
لدرجة لم يعد ممكناً فيها إصلاح ما حدث. كُنّا قرب الكثبان* وتحدثنا في البداية حول الرسم، بعدها إستمحتهُ بلطفٍ أن يأتي الى مرسمي لإعطاء رأيه بتخطيطاتي، فأجابني بشكل قاطع (لن أذهب معك تحت أية ذريعة، لقد إنتهى ما بيننا)، وفي النهاية قالها بشكل حازم ومليء بالقسوة (أنت شخص منحل أخلاقياً)، عندها صَمَتَ كل شيء حولي، ماعدا كلماته التي ظلَّت تدور برأسي، وأستدرتُ عائداً أدراجي وحيداً منكسراً، يملأني الحزن.
في بداية حديثنا، اعترض كوني قلت عن نفسي بأني فنان! لم افهم لماذا يتقصد اهانتي ويوغل في جرحي. تصور، إنه يعترض حتى على كلمة فنان التي نَعَتُّ نفسي بها ببساطة ودون تبجح. أعرف بأني مازلت في بداية الطريق، لكني عَنَيتُ بكلمة فنان هو إنشغالي بالبحث عن بعض الحلول الفنية، ومطاردتي للأشكال محاولاً الامساك بالرسم، كذلك قصدت من قول ذلك، هو أنني أتبع قلبي وعاطفتي وأنا في غمرة تطوير الخطوط والتفاصيل، هذا كل ما في الأمر. لديَّ أذنين يا تيّو واسمع الكلمات بشكل جيد، فحين ينعتني أحداً بالمنحل، ماذا أفعل أزاءه؟ هل لك أن تخبرني بحق الاله؟ لقد تجرأ على قول ذلك، لذا تركته يتكلم وأقفلتُ راجعاً بقلب محطم وروح مليئة بالكدر. لم أطالبه بتفسير ولن أفعل، رغم تطلعي في قرارة نفسي الى أن يتراجع عما بدر منه. فمن المعيب أن يجعل موف نفسه مثل الآخرين الذين يرونني مختلفاً ومريباً، بل وغريب الأطوار. أجل، هكذا ينظر اليَّ الكثيرون ولا أعرف السبب. نعم، يبدو أن فنسنت أيها الناس، يحمل في سريرته سراً او لغزاً أو ربما ينثر شيئاً غامضاً في الهواء المحيط به يجعلكم ترتابون منه وتخشون الاقتراب منه، شيئاً غير مرئياً لكنه يثير الالتباس والشك والحيرة!
لكن رغم كل ذلك، أشعر بأنه كان يبحث عن ذريعة للابتعاد عني، وذلك بسبب تعرفي علـى إمرأة يراها غير مناسبة ويعتقد بأنها ستقودني الى الرذيلة. وها أنا أشرح لك الأمر هنا، نعم، لقد تعرفتُ بداية هذا الشتاء على إمرأة حامل، تخلى عنها الرجل الذي تسبب في حملها، تصور ياتَيّو، إمرأة وحيدة تبحث وسط البرد الذي لا يرحم عن مأوى وطعام تسد به رمقها، وقد قادها هذا العوز الى طريق لا حاجة لتسميته! طلبت منها أن تجلس لي موديلاً لرسمها طوال الشتاء، وبما أنني لا أستطيع أن أسدد لها اجرة كاملة كموديل، لذا، تقاسمت معها طعامي وسكني، لقد إهتممت بها بالفعل لأنها كانت مريضة وفي حالة عوز. ووفرت لها بعض الدواء حسب استطاعتي، بعدها لاحظتُ كيف تحسنت حالتها يوماً بعد آخر، حتى أني صحبتها الى مستشفى الولادة في لايدن، حيث اتضح هناك أن مرضها كان متوقعاً، لأن الجنين مقلوب في بطنها وتحتاج الـى عملية، ولكن مع ذلك، هناك امل كبير بتحسن حالتها، ومن المنتظر أن تضع طفلها في الـشهر القادم.
إن كان موف يلومني على علاقتي بها، فـأنا أرى أن اي رجل، حتـى وإن كان لا يساوي قيمة جلد حذائه، لو كان في مكاني، لفعل مافعلت وقام بما قمت به. من هو الرجل النبيل برأيكم ياسادة، أهوَ الرجل الذي يكسر المرأة ويرميها في الشارع، ام هو الرجل الذي ينقذ المرأة من الشارع ويوفر لها الطعام والدفء كي لا تنحرف نحو الرذيلة؟ أردت من فعل ذلك، الحفاظ على انسانيتي قبل حفاظي على جسدها المتعب. رغم العوز الذي أمرُّ به، رأيت من الضروري الوقوف الى جانبها ومساعدتها، كي لا تعود الى الطريق الذي جائت منه.
في البداية كانت تجد صعوبة في الجلوس كموديل، لكنها تعودت على ذلك مع مرور الوقت، حتى شخصيتها تغيرت وأصبحت مثل حمامة هادئة. لقد نَفَّذتُ العديد من التخطيطات والدراسات في الأيام الماضية، لكني لم أرسم بالالوان الزيتية أو المائية منذ أن تخلى عني موف، أشعر برغبة جامحة للرسم بالالوان لكن منظر الفرشاة الآن يصيبني بالقلق والتوتر. أرجو ان تخبرني عن موقف موف أزاء الموضوع، وربما تساعدك رسالتي هذه بتسليط الضوء اكثر على التفاصيل التي تحيط بالمسألة بشكل عام، فأنت شقيقي، ومن الطبيعي أن أحدثك عن أموري الخاصة، ومهما حدث بيني وبين الآخرين، وحتى حين لا يفهمني الجميع، فأنا لا أتوقع منك كلمة قاسية مثلهم. أنا ببساطة ياتَيّو أحاول أن أعمل، وأن أكون نافعاً دون حاجتي لشرح ذلك لباقي الناس. أنت تعرف بأني أُهيمُ بإمرأة أخرى بعيدة، امرأة يخفق قلبي لها، لكنها نائية، بعيدة المنال، وفوق ذلك لا تود رؤيتي والتواصل معي، أما هذه التي معي الآن فهي مريضة وحامل وجائعة... وسط شتاء لا يرحم، فلا يمكنني إختيار غير البقاء الى جانبها.
فياموف وتَيّو وتيرستيخ* إنَّ لقمة عيشي بين أيديكم، فهل سترخون قبضاتكم عن رغيف خبزي، أم ستضيقون عليه؟ هل ستمدون لي يد العون،أم تشيحون بوجوهكم وتتخلون عني في هذه الظروف؟ ها انا أخاطبكم بكل هذا الوضوح وهذه الصراحة، وانتظر جوابكم.
ستجد مع الرسالة بعض الدراسات التي قمت بها في الايام الماضية، لتطلع على عملي، وترى كيف تساعدني هي أيضاً، كيف نتوحد أنا وهي كرسام وموديل، بالمناسبة، المرأة التي تعتمر الطاقية البيضاء هي أمها. على كل حال، أعدك بأن عملي كرسام سيتحسن كثيراً في السنة القادمة. لقد إهتممتُ كثيراً بهذه التخطيطات ونفذتها بعناية كبيرة كما ترى، لذا أرجو منك أن تعيدها لي بعد الإطلاع عليها، لأنها بعد إضافة بعض التفاصيل، سأدخلها في لوحات قادمة أفكر برسمها، سيكون تكوينها وموضوعها حول مشاهد داخلية للبيت أو غرفة إنتظار. أُطلعكَ عليها لأضعك وسط تفاصيل عملي. ربما ترى ان التخطيطات حذرة نوعاً ما، وهذا بسبب نوعية الورق، وستتغير التقنية بالتأكيد مع الورق السميك الذي أفضلّهُ، لكنه ليس تحت يدي الآن مع الأسف، ولا أستطيع الحصول عليه هنا.اعتقد ان اسمه (دبل إنغر) وهو بلون كتاني خافت، ارجو انك تستطيع أن ترسل لي كمية من هذا الورق. إذا نظرت الى التخطيطات جيداً سترى كيف ان الورق الخفيف لا يحتمل ضغطات القلم الحادة، حتى اني أردتُ أن أضيف شخصية صغيرة بكنزة سوداء، لكن مع هذا الورق الذي تراه، لا يمكن ذلك، وإلا سيبدو الامر مقحماً. الكرسي الذي قرب الشخصية الرئيسية لم يكتمل بعد، فهو سيكون في النهاية من خشب البلوط.
إخوك المحب
فنسنت
لك كل الحرية في إخبار موف بتفاصيل هذه الرسالة، إن رأيت ذلك مناسباً.
- هوامش المترجم:
* موف: أنطون موف (١٨٣٨-١٨٨٨) واحد من أهم رسامي مدرسة لاهاي، تربطه علاقة عائلية بفنست، وهو أول من فتح له مرسمه واعطاه دروس في الرسم. ورغم ان فنسنت كان متعلقاً به ويحبه بشدة، فقد حصلت قطيعة بينهما بسبب علاقة فنسنت بالمرأة الحامل. حين توفي موف بعد ست سنوات من كتابة هذه الرسالة، تألم فنسنت كثيراً، حيث كان في باريس، فرسم مباشرة لوحة (شجرة الخوخ المزهرة) إهداءً لذكراه، وقد كتب بفرشاته تحت الشجرة (لذكرى موف).
* الكثبان: منطقة في مدينة لاهاي، فيها تلال رملية وتقع بين منتجع سخيفيننغن وكيك داون، قريباً من بحر الشمال. وتسمى الآن ويست داون بارك.
* تيرستيخ: هيرمان تيرستيخ (١٨٤٥-١٩٢٧) رسام وتاجر أعمال فنية، ربطته علاقة بفنسنت وتيّو، وكان يعمل في متاجر عمهم (العم سنت)، وقد إقتنى مجموعة من تخطيطات فنسنت في بداياته، ولكن ايضاً كانت لديه ملاحظات دائمة حول فنسنت وطريقة حياته.
****
* الرسالة الثالثة عشرة
لاهاي ٣ أيلول ١٨٨٢
تَيّو العزيز
وصلتني تواً، رسالتك الجميلة التي أسعدتني كثيراً. وبما أن يومي الآن هادئ، وليس لديَّ الكثير مما أقوم به، لذا أكتب إليك مباشرة. أردت أن أحدثك بشكل خاص عن بعض التفاصيل التي ذكرتها في رسالتك. كم هو ممتع ما كتبته حول عمّال مونمارتر،
أكاد أن أرى المشهد بكل ألوانه، ياله من شعور منعش، لقد جعلتني أتحسس المكان وأرى الألوان من خلال كلماتك. جميل كونك قرأت الكتاب الذي يتحدث عن جافارني*، إنه كتاب مشوق حقاً، حين قرأته في وقت سابق، إزدادت محبتي كثيراً لجافارني. أعرف أن باريس ممتعة وجميلة لكن على أية حال، فالأمر هنا في لاهاي ليس سيئاً أبداً.
لقد رسمت مجموعة الرسومات هذا الاسبوع، بعضها انطباعات عن ساحل سخيفيننغن، تماماً عن المكان الذي كنا نتجول فيه دائماً. رسمت دراسة كبيرة الحجم يظهر فيها البحر ورمال الشاطئ والأفق المفتوح. وواحدة أخرى لفضاء واسع، بلون رمادي ناعم، وأبيض دافئ، مع بقع خافتة بالأزرق، وقت غروب الشمس، حيث بدت الرمال تكتسب بعض الشقرة التي امتزجت مع بقايا ملامح ناس بعيدين في العمق، وقارب وحيد، يبدو ثابتاً تحت خط الأفق، وهو ينتشل مرساته المستقرة في أعماق البحر ويسحبها الى الأعلى، بينما الخيول التي تظهر على الجانب، تتأهب لسحب القارب نحو المياه العميقة. أرسم لك هنا موتيفاً سريعاً لذلك، كي تكون لديك فكرة عن الموضوع. لقد فكرت أن أرسم كل ذلك على”كانفاس”أو”بورد"، لكن ذلك يتطلب ألواناً كثيرة، كي أتوصل لتعبير يناسب عمق التفاصيل وحقيقة اللون.
كم هو مثير للاهتمام ياتيّو أن نفكر بذات المشاعر والاحساس أزاء بعض التفاصيل، لا أستطيع أن أكتم فرحي وأنا أرى إن الأشياء التي تشرق في ذهنك، هي ذاتها التي تضيء مخيلتي ووجداني. فعلى سبيل المثال، حين عدت مساء أمس مع بعض الأعمال التي رسمتها في الغابة، وأنا أفكر بطبيعة اللون وعمقه وتأثيره، كنتُ وقتها بحاجة لأن أشاركك ذلك الإحساس العارم الذي إنتابني، أن أتقاسم معك هذا الدافع الخفي الذي يجعلني أنتبه الى اللون بشكل مختلف، وها أنت تحدثني في رسالتك التي وصلتني هذا الصباح عن اللون وتأثيره وتدرجاته، عن مونمارتر وما يؤثر على بصرك هناك، لا أجزم إن كان الشعور الذي يجمعنا أزاء اللون هو ذاته، لكني متأكد بأننا نسير في طريق واحد.
أرسل لك هنا أيضاً موتيفاً صغيراً لما رسمته في الغابة، لتتحسس مشاعري أكثر وأنا أكتب لك عن المكان، الغابة في هذا الوقت الخريفي تمنح تأثيراً لونياً لا مثيل له، فأنا لم أرَ في الفن الهولندي أبداً مثل هذه الألوان والانسجامات والتأثير. أرضية الغابة هنا يشع منها الضوء والعتمة بذات الوقت، بدرجات متعددة من اللون البني المائل للحمرة. يتجلى ذلك في ظل الأشجار الموشى بشرائط تشرق وسط العتمة، وتطوق مساحات خافتة هنا، وحادة هناك، ونصف ممحوة في منطقة أخرى. عاطفتي بدأت تتسع في المكان وأنا أرى كيف يتدرجُ اللون بقوة وثبات في عمق الغابة، هنا شعرتُ لأول مرة كيف تعددت درجات الضوء حتى في الأماكن المعتمة، وكيف تفضحُ أشعة الشمس المائلة، الألوان المختبئة في الأعماق، أشعة تخترق جذوع الأشجار والأغصان المتداخلة، لتتحول بعد ذلك الى لون برونزي وهي تستقر في خلفية المشهد. لا يمكن لأية سجادة، مهما كانت باهرة الصنع أن تعكس هذا الانطباع الذي رأيته في هذا المساء الخريفي النادر. ياللجمال الذي يكمن في أشجار الزان الصغيرة الطرية، وهي تنبثق من الأرض، وتندفع الى الأعلى كي تتلمسُ الضوء، فتتحول نهاياتها الى لون أخضر مشعٍ ومليءٍ بالحياة، وهي محاطة بظلال خضراء داكنة! ومن خلال كل ذلك تلوحُ في العمق البرونزي البعيد، مساحة صغيرة من السماء الزرقاء، هي ليست زرقاء تماماً، بل تعلوها مسحة رمادية خفيفة تُلَطِّفُ المشهد. وفي الجهة المقابلة تُشرِقُ حافة خضراء مرقطة بلون أصفر. وسط كل ذلك بانَ في البعيد، جامعو الحطب، مظللين وغير واضحي المعالم، ويضيفون للمشهد بعض الغموض. من بينهم إمرأة بطاقية بيضاء منشغلة بجمع الأغصان المتساقطة هنا وهناك، يظهر نصفها العلوي وهي منغمسة بعملها، بينما ينعكس عليها الضوء ويحيلها الى جزء مكمل للخلفية التي ينبثق منها خيطُ دخان رفيع، يخترق المكان ويتصاعد نحو السماء. الأشخاص هنا يبدون أكبر حجماً وأكثر شاعرية، بسبب ما يحيطهم من درجات اللون العديدة.
أحاول أن أرسم لك ذلك بالكلمات، ولا أعرف الى أي مدى يمكنني المضي بهذا على سطوح اللوحات، لكني أشعر بذلك حقاً وخاصة حين تتناغم وتتداخل درجات الأخضر والأحمر والأسود والأصفر والأزرق والبني والرمادي. هنا في هذا المكان، حاولت تمالك نفسي، وأنا أقف ساهماً، منسجماً مع المشهد الخريفي الذي يغمره الغموض والسحر والسطوة. لكن عليَّ أن أرسم بسرعة لأقبض على التأثير المطلوب وأسيطر علـى حركة الشخصيات الذين وضعتهم بلطخات حادة على القماشة، ولرسم جذوع الأشجار وأغصانها المتفرعة، عمدتُ لوضع الألوان من الأنبوب مباشرة على سطح اللوحة ثم حركت فوقها الفرشاة بما يمنحني التأثير المناسب. أرى أن هذا يعطي للرسم قوة أكثر.
لحسن حظي، لم أتعلم الرسم بمعناه الحرفي من البداية، وإلّا لم يكن بأستطاعتي أن أرى تأثير الألوان كما أفعل اليوم. وربما لا أستطيع أن أتخلص من الطريقة التقليدية للرسم. لكن إن سألتني، كيف أرسم الآن، ووفق أية طريقة؟ فأنا نفسي لا أعرف ذلك بالضبط. هناك قطعة بيضاء تستهويني وتقف بمواجهتي، أنظر إليها وأشعر بأنها يجب أن تتحول الى شيء آخر، ابدأ بالرسم وبعدها لا أقتنع بالنتائج، والأصح أشعر بخوف غريب ينتابني وأنا أبتعد عنها، لأعود مرة أخرى الى قماشتي وأشعر بعدم الرضا من جديد، لأن الطبيعة بكل عظمتها لا يمكن احتوائها بلوحة صغيرة، لكني مع ذلك أشعر بأن نغماً معيناً يربطني بهذه الطبيعة، هناك شيئاً ما تخبرني به الطبيعة، إنها تقول لي شيئاً وعليًّ أن أدون ذلك الشيء بسرعة على سطح اللوحة، لكن كيف أدون نداء الطبيعة هذا، بدون نشاز، بلا أخطاء او نقصان؟ فالحلول أو اللغة التي أبحث عنها في الرسم لا تنبع بشكل تلقائي من شكل الغابة أو الأشخاص أو البحر وحتى الساحل، وهي ليست لغة معتادة او مألوفة، لأنها لا تأتي من الطبيعة التي نعرفها، بل من نظام معين يحكم الألوان والأشكال، من إنسجامات مختلفة لا نعرفها وربما لا تعرفها الطبيعة ذاتها.
أرسم لك هنا موتيفاً آخر حول الهضاب، حيث الشجيرات الصغيرة التي تبدو بيضاء من جانب وخضراء داكنة من الجانب الآخر، تبدو متلألئة وهي تتمايل باستمرار على خلفية من الخشب داكن اللون. كما ترى، ها أنا أمنح كل طاقتي للرسم وأنغمس مع اللون، وسأظل هكذا ولن اشعر بالندم على ما أقوم به، لأني اعرف بأن عليَّ أن أوفر كل قوتي وما أملك من طاقة للرسم وحده، لكن حين أستمر بالرسم على الكانفاس أو البورد، فسأحتاج لنقود إضافية. فهذه المواد غالية جداً، والألوان كذلك مرتفعة الثمن، وفوق هذا هي تنفد بسرعة. وهذا الأمر يعاني منه كل الرسامين طبعاً وليس أنا وحدي. ولكن أتمنى أن نجد بعض الحلول لذلك.
لديَّ احساس حقيقي باللون وأنا متأكد بأني سأنجح، لأن الرسم يشغل كل كياني، من رأسي حتى أصابع قدمي، عندها ستحب وتتمتع بما أرسم، وأعيد لك المال الذي تساعدني به اضعافاً. أنا أفكر بك كثيراً وفي كل مرة أتمنى أن يلتفت أحداً لأعمالي كي أعيد لك مساعداتك العظيمة لي بطريقة لائقة، لكن مع الأسف لازلت لا أعرف الطريق لهـؤلاء الذين يحبون لوحاتي. أود أن ألفت انتباهك الى شيء، ولا أعرف إن كان هذا ملائماً، وهو إن كان بامكاننا أن نشتري مواد الألوان والكانفاس وباقي أدوات الرسم بثمن الجملة؟ حاول أن ترتب ذلك من خلال علاقتك ببايلارد أو أي شخص مناسب. إن كان هذا ممكناً، فالالوان المهمة بالنسبة لي الآن هي الأبيض والاوكر والبني، بهذه الحالة سيكون الثمن منخفضاً ونوفر بعض النقود. أرجو أن تفكر بالموضوع. لأجل لوحة جيدة ربما لا تحتاج دائماً الى كمية كبيرة من الألوان، لكن في بعض الحالات حين تريد أن تعكس لون الارض على لوحتك او حتى لون الفضاء فـإنبوب واحد لا يكفي لتغطية ذلك. موف لا يسرف بالألوان مقارنة بباقي الفنانين، لكن حين تدخل مرسمه سترى كيف تتكدس في إحدى الزوايا أنابيب الألوان الفارغة مع علب السيجار وكأنها بقايا الطعام وقناني النبيذ الفارغة في الحفلات التي كتب عنها أميل زولا.
والآن إن كان بإمكانك زيادة المساعدة هذا الشهر فسيكون هذا رائعاً، وإن كان ذلك غير ممكن فلا داعي أن تحمّل نفسك أكثر من اللازم. ومن جهتي سأفعل ما بوسعي بالتأكيد. سألتني عن صحتي، وهنا أسألك يا أخي، وماذا عن صحتك أنت؟ أرجو إنك بخير، يبدو أن علاجنا واحد، وهو التعلق أكثر وأكثر بالفن. بعيداً عن الرسم، أوضاعي جيدة، والرسم يعينني دائماً. أتمنى لك السعادة وكل ما يساعدك على تحقيق ماتريد. أشد على يدك من بعيد، وإبقَ على ثقتك بي.
أخوك فنسنت
- هوامش المترجم:
* بول جافارني: رسام فرنسي (١٨٠٤-١٨٦٦) اختص بالرسوم التوضيحية للكتب والمجلات، وقد نفَّذَ الكثير من رسوماته بالطباعة الحجرية. رسم طبقات المجتمع الفرنسي، وقد ارفق رسوماته ببعض التعليقات التي كانت مثار اعجاب الشباب الفرنسي. وضع مجموعة من الرسومات لروايات بلزاك. صدرت عن حياته ورسوماته الكثير من الكتب، منها سيرة حياته التي كتبها تشارلس يارات، والتي لاقت نجاحاً كبيراً.
********
* الرسالة الرابعة عشرة
لاهاي ٢٢ اكتوبر ١٨٨٢
تَيّو العزيز
لقد وصلتني رسالتك والنقود التي معها، وقد اسعدني ذلك كثيراً. انت تعرف ما يعنيه لي تواصلك معي بهذه الطريقة، فما تقوم به يعينني بشدة ويجعلني أقف على قدمَيَّ بثقة وقوة. المناخ هنا في لاهاي خريفي بمعنى الكلمة. المطر متواصل والبرد يلفح كل شيء،
ومع ذلك فالضوء مذهل، وهو ينعكس على ملامح الناس والشارع المبتل بالمطر، انه حميمي، بل أخّاذ مثل لوحات موف. في مناخ مشابه لهذا، رسمت مجموعة من الناس وهم يتجتمعون قرب مكتب اليانصيب، كذلك رسمت مائية لساحل البحر. اتفق معك حول ما قلته حول الطبيعة، وأفهم ما تعنيه. أنا ايضاً، حين اعجز عن الامساك بالطبيعة اذهب لرسم الناس، وحين يعجز الناس عن قول شيء لي اعود لرسم الطبيعة وهكذا. أحياناً لا يمكنك فعل شيء آخر، تظل تتأرجح وتنتظر حتـى يزول هذا الشعور الذي ينتابك، ويعود لك إنسجامك وتشعر بقرب الطبيعة وتأثيرها عليك. لكن هل تعرف، مهما كانت عظمة وقوة الطبيعة، فأنك ستقترب اكثر من اشكال الناس كلما طال بك الوقت مع الرسم. أقول ذلك رغم شعوري العارم والمنسجم مع الطبيعة في الايام الماضية. كم كنت شغوفاً ومولعاً برسم الضوء وتونات اللون وعمق الأشكال اكثر من رسم الاشخاص. لا أخفي بأني كنت احمل تقديراً كبيراً لأشكال الناس وايماءاتهم وما يقومون به، لكنى كنت غارقاً في الطبيعة ومنتمياً لها بشكل كلي.
لا يمكنني ان انسى كيف كانت اشكال دومييه* تسحرني، مثل تخطيطه الذي يظهر فيه رجل مسن تحت شجرة الكستناء في شارع الشانزليزيه، والذي كان مطبوعاً مع احد كتب بلزاك. التخطيط بشكله الخارجي لم يكن مهماً بالنسبة لي، لكنه كان يحمل تأثيراً من نوع غريب. في ذلك التخطيط، عرفتُ كيف يفكر دومييه وهو يرسم، وكيف يحرف الناس بجرأة، ويجعلهم بأصابعه المتمرسة يشبهون لون الطبيعة وحركة الغيوم. لقد جعلني أنتبه وافكر وأشرد بمخيلتي، لأعود مرة اخرى افكر بالرسم. عموماً تبقـي أشكال الناس تبهرني وتعطيني القوة، كما في رسومات الفنانين الانجليز، التي لها تأثير مشابه لكتابات الفرنسيان بلزاك وزولا. كل ذلك يُعينُني حين اشعر بالضعف او التردد. وبالنسبة لكتابات مورغر ليس لي معرفة بها، وسأبحث عنها واتعرف عليها بالتأكيد. كتبت لك سابقاً حول رواية دوديت* (ملوك في المنفى) اعتقد انها رواية جميلة ومؤثرة، ان كتبه تعجبني كثيراً وخصوصاً ما تنطوي عليه من بوهيمية، وقت كانت الحياة اجمل واكثر سهولة من الآن. يحزنني ايضاً اننا ابتعدنا كثيراً عن زمن (جارفاني)* حيث كانت هناك حياة حقيقية وجمال في العلاقات الانسانية الدافئة، والناس ايجابيون اكثر من وقتنا الحاضر.
في هذه اللحظة انظر من شباك المرسم، يالَه من تأثير مدهش، وقد ظهر جانب من المدينة، حيث الأبراج وسقوف القرميد والدخان الذي ينبعث من المداخن. الافق يقسم المدينة التي تبدو كأنها مرسومة بالسلويت، ويظهر الضوء بشكل خط بعيد، تستقر في اعلاه غيوم داكنة محملة بالمطر. المشهد في الاسفل يبدو اكثر ظلاماً مع ظهور بعض البقع لضوء خافت، ومن خلال خط الضوء في العمق تلتمع السقوف هنا وهناك (أتخيلُ ان كنتُ سأرسمُ ذلك فسأُنَفِّذُ التماعات الضوء بلطخات سميكة من اللون). أرى كيف تنعكس بشكل شاحب قطع القرميد الاحمر فوق السقوف وهي تحاذي الأفق، ويلتمع أمامي مباشرة شارع سخنك وهو يرقد تحت زخات المطر والضوء الخافت. واشجار الحور تقف واثقة وهي تتلحف بـأوراقها الصفراء، وفي نهاية الشارع يبدو العمق بلونه الأخضر الكالح وهو يتماهى مع عتمة الليل، مع اشكال أشخاص بلون داكن. أَودُّ ان اجرب رسم ذلك، لكني منشغل برسم آخر قضيت معه كل اليوم تقريباً، في كل الاحوال، سيبقى هذا المشهد الذي أراه الآن، عالقاً في ذهني حتى يتحول الى لوحة.
اتذكرك كثيراً وافتقدك بشدة، افكر بما كتبته لي حول الاشخاص الذين تعرفهم في باريس، وحول حياتهم المليئة بالانفتاح والعلاقات، وارى ان نظرتك صحيحة سواء لمجتمع باريس أو مجتمعنا هنا. فمن الصعوبة ان تحافظ على نقاء روحك في باريس، والامر يبدو لي اكثر صعوبة مما يحدث هنا، فنمط الحياة السريعة تطوي معها مشاعر الناس ودفئهم، ويعيش الكثير من الفنانين تائهين في باريس بلا أمل أو استقرار، لأنهم ببساطة يعملون ضد التيار، وهذا بالضبط ما حصل مع تازار، وما حدث لحياته. لكن بكل الاحوال على الفنان ان يمضي قدماً دون توقف، ففي كل منعطف من هذه الحياة تواجهنا المشاكل وعلينا ان لا نستسلم ونمضي الى الامام، حتى لو لم يحالفنا الحظ في البداية. وحتى لو فقدنا الكثير، علينا ان نتمسك بقوة الامل، وعندها فقط تكون النتائج غير تجريدية ولا مموهة، بل حقيقية وملموسة. احترم في كل الاحوال هؤلاء اليائسين وافهم شعورهم، ولكن يجب ان تكون لدينا مواقف وقرارات صحيحة وقناعات ثابتة، فهذا ما يقودنا الى الطريق الصحيح. أرى أن هؤلاء الفنانين الذين كتبتَ عنهم، يتحدثون عن المواقف والقناعات، لكنهم لا يعكسونها علـى اعمالهم وحياتهم بشكل صحيح، ومع ذلك، أنا افضلهم على الاشخاص الذين يستعرضون المواقف والقناعات ويملأون الاماكن بالضجيج، لكنهم يفعلون عكس ذلك. فهؤلاء يصنعون ضجيجاً كاذباً، بينما الذين كتبتَ انت عنهم كسالى أكثر مما هم سيئون. عموماً فالأحداث الكبيرة في الفن لا تحدث عن طريق المصادفة، ولا بشكل عابر او بسيط، لكنها تأتي عن طريق الصبر والكفاح والتأني والتفكير والاخلاص.
ماهو الرسم؟ وكيف تتوصل اليه؟ كيف تدخل هذا العالم؟ الرسم، يعني ان تحفر بيديك جداراً غير مرئياً من الفولاذ، لكن كيف تتجاوزه وهو بهذه القوة؟ الطرق بيديك على هذا الجدار لا يكفي لجعلك فناناً، بل عليك ان تمسك معولك بكل بأس وتواجهه، تحطمه وتمضي من خلاله نحو الجهة الأخرى حيث ينتظرك الرسم. وهذا ليس في الفن فقط، لكن في الحياة ايضاً.
لدي فضول كبير ان كنت ترى شيئاً جيداً في رسوماتي التي ارسلها لك. غالباً ما افكر مع هذه الرسومات بطريقة البيضة والدجاجة، ومن الذي جاء أولاً، هل ارسم الاشخاص في تخطيطات منفصلة ثم ادخلهم بعدها في لوحات معينة، ام ارسم الاشخاص مباشرة وانسج التكوين الذي يناسبهم؟ بالنسبة لي ليس هناك فرقاً كبيراً، والمهم هو النتائج النهائية للعمل. اتفق معك فيما ما كتبته في نهاية رسالتك حول ميولنا وآرائنا ومبادئنا المتقاربة حول الفن، فذلك يجعلنا نرى الاشياء بشكل جيد، نقرأ ما بين السطور ونستحضر ما يحدث خلف الستائر، لتكون ردود افعالنا وتعليقاتنا متشابهة الى حد بعيد. وهذا ايضاً ما يحتاجه الفنان كي يمضي في طريقه بسهولة ويرسم بشكل جيد. أرجح ان امتلاكنا لهذه الحساسية يعود لنشأتنا معاً وانسجامنا منذ الطفولة في براباند وما كان يحيطنا هناك من طبيعة مذهلة. لكن هذا ايضاً نابع من محبتنا وتعلقنا بالفن.
لكن كيف يمكن للمرء ان يصبح رساماً؟لا اعرف ذلك على وجه التحديد. لكني أشعر بأن ذلك يحدث ان كنت تحمل الرسم في داخلك، الامر اكبر من الموهبة واعظم من الانتماء، انه انسجام روحي وتعلق وجداني مع الرسم. هو يحدث ببساطة لأنه الأحتمال الوحيد الذي لديك.
والآن يارجل، شكراً لما ارسلته لي، فبفضلك استطعت ان اشعل الموقد من جديد. آه كم اود ان تأتيني في وقت قادم لترى رسوماتي، وكذلك ما انجزته من حفر على الخشب. انتظر هذا الاسبوع ان يأتيني بعض الاولاد اليتامى ليجلسوا لي كموديلات، سأسعى جاهداً معهم الى تصحيح بعض التفاصيل التي ظهرت في اعمالي السابقة وامضي خطوات جديدة مع الرسم.
اشد على يدك، مع كل محبتي.
أخوك
فنسنت
* هوامش المترجم
* دومييه: هونوريه دومييه، رسام فرنسي(١٨٠٨-١٨٧٩) اشتهر برسوماته الساخرة التي حملت طابعاً سياسياً واجتماعياً. خطوطه قوية وذات مرونة وتعبير كبير.
* * دوديه: الفونس دوديه، كاتب فرنسي (١٨٤٠-١٨٩٧) اشتهر بكتابة الروايات والقصص القصيرة والنصوص المسرحية والشعر. من اشهر اعماله (رسائل من طاحونتي).
* * جارفاني: بول جارفاني، رسام فرنسي (١٨٠٤-١٨٦٦) اشتهر بتخطيطاته الكاركاتورية والرسوم التوضيحية، وقد عكست اعماله الحياة الاجتماعية من خلال رسمه للناس بوضعيات مختلفة.
****
* الرسالة الخامسة عشرة
لاهاي ٣ آذار ١٨٨٣
تَيّو العزيز
أرسل لك هنا تخطيطاً سريعاً لمطعم شعبي قضيت فيه بعض الوقت، هذا المكان يكتظ بالناس الذين يتناولون الحساء بسرعة ويمضون لحال سبيلهم. يحتوي المطعم على صالة كبيرة يملؤها الضوء الذي يسقط من الأعلى بعد أن يخترق باباً مرتفعاً في جهة اليمين. لقد رسمت المشهد مرة أخرى وبشكل كبير في المرسم،
حيث ألغيت النافذتين في المؤخرة، ووضعت ستارة بيضاء في الخلفية، بينما حاولت قدر الامكان أن أرسم النافذة المتبقية بالحجم الطبيعي، وأجعل الضوء الذي يقطعها يبدو تلقائياً. ومثلما ترى وضعية الأشخاص، كأنهم فعلاً في باحة مطعم للحساء. ولفعل كل ذلك حَرَّكتُ إطاراً فارغاً أمام المشهد كي أجد التكوين المناسب. بإستطاعتي الآن طبعاً أن أحرك الشخصيات بدقة وبالطريقة التي أراها مناسبة وتتلاءم مع عملي. أراهم حقيقيون هؤلاء الأشخاص ويمكنني الأمساك بهم وتطويعهم بمرونة لصالح الرسم. لديَّ رغبة كبيرة في إعادة رسم هذا الموضوع بالألوان المائية، لأني أريد الأسترسال معه للحصول على تكوين أكثر نجاحاً، واعتقد بأني سـأسلك الطريق الصحيح في رسم الأشخاص وليس كما حدث خلال الصيف حين كانت النتائج غير مشجعة، وذلك بسبب الاشخاص الذين جلسوا كموديلات، حيث لم يكن لديهم الحماس الكافي، وهذا ما جعل تفاعلي معهم يشوبه البرود، وحتى الضوء الدافيء الذي ملأ المرسم لم يشفع لتحسين النتائج.
هل تعرف ما أنا بحاجة اليه حقاً في هذا الموضوع؟ أحتاج لبعض القطع القماشية المختلفة، رمادية وبنية وبعض الألوان الاخرى، لأغطي بها الجدران الكالحة التي أصبحت مع الزمن معتمة وتمتص الضوء، أما الأرضية فهي أكثر عتمة من الجدران. سيتغير كل شيء هنا حين أغطي الأجزاء السفلية من هذه الجدران المعتمة بقطع قماش أكثر إشراقاً وحيوية. شخصياً لستُ بحاجة الى أشياء كثيرة، فلدي ملابس جيدة، واشتريت البارحة بدلة مريحة من الكتان ذي الملمس الخشن، لكني أبحث دائماً عن الأشياء والتفاصيل والمواد التي تساعدني في عملي، وأراها تتفوق بأهميتها حتى على الموديل نفسه، لكني غالباً ما أدع العثور عليها للمصادفة.
أحب مرسمي كثيراً، نعم، أعشق هذا المرسم المتهالك كما يعشق البحار سفينته، وأنا متأكد بأن الامور ستكون على مايرام لولا محفظتي الخاوية، التي لا تساعدني في السير كما أريد، عموماً كل شخص تنقصه بعض الأشياء مهما كان مكتفياً، وسأُبقي المرسم هذه الأيام كما هو، رغم أن الفرصة مواتية لتغييره نحو الأحسن، فالتفاصيل الصغيرة في هذا المكان مكلفة أكثر من الأشياء الكبيرة الواضحة، لأنها أشياء عملية وعليها ترتكز الكثير من الأمور.
أعرف أن نفقاتك الآن قد ازدادت بسبب صديقتك المريضة، وأنا سأتفهم موقفك بالتأكيد إن توقفتَ عن مساعدتي هذه الأيام. بالمقابل سوف لن أتوقف عن الرسم مهما حدث وسأمضي في طريقي، لأني أشعر بطاقة كبيرة تدفعني للرسم والوصول الى ما أفكر به. وهناك دافعاً آخراً يزيدني حماساً، وهو إن رابارد* بدأ يتعافى وقد عادت له صحته شيئاً...فشيئاً، ونحن نتراسل الآن، وننتظر أن نكون سوية في الفترة القادمة، فلقاؤنا سيعطينا قوة إضافية ونمضي معاً للوصول الى نتائج متقدمة في الرسم. لقد قضى رابارد مع الرسم فترة أطول مما قضيت، لكن رغم ذلك فنحن متقاربان في المستوى نوعاً ما. أعرف إنه يتفوق عليَّ ببعض التقنيات في الرسم الزيتي، لكني أحاول أن أتقدم عليه في التخطيط. ما أتمناه هو ان نتواصل معاً، ونحن نرسم الأهالي البسطاء، ونتطلع الى مطاعم الفقراء كي نقتنص موضوعاً، ونراقب المرضى في المستشفيات لنجد التكوينات المناسبة، وغير ذلك من التفاصيل. رابارد سيأتي هذه الأيام لزيارتي كما وعدني بذلك. عندما يحضر سأتفق معه على تنفيذ سلسلة رسومات عن المواضيع التي ذكرتها، لكن بطريقة الليثوغراف. أتوقع أن ننجح في ذلك ونمضي بعزيمة الى الأمام.
أعدك، في كل الاحوال بأني سأتقدم أكثر في الرسم، وخاصة في التخطيط، حتى في حالة عدم استطاعتك إرسال شيئاً لي. اعدك بذلك صادقاً. عليَّ ان اكون ايجابياً وانظر الى التحسينات القليلة التي حدثت في المرسم، سأستثمر كل شيئ لإكمال طريقي، رغم أني سأتوقف عن القيام ببعض الأشياء وسأتخلى ربما عن الموديل، لذلك، اخبرك ايضاً بأن جانباً كبيراً من هذه العقبات سيتبدد ان ارسلت لي قليلاً من النقود. اريد الوصول لأعمال أفضل، واقصد ان الدراسات التي عملتها لوجوه الايتام، والتي احتفظ بها عندي هنا، مازلت ارى في بعض جوانبها خصوصية وجودة، ربما تشوبها بعض الاخطاء هنا وهناك، لكنها جيدة بشكل عام، وحتى هذه الاخفاقات التي فيها، لا اجرؤ على القول بإني أريد معالجتها سريعاً للوصول الى أعمال أفضل، فقط عليَّ التفكير في معالجة الضوء والعتمة بطريقة أخرى غير التي اتبعها الآن. أعدك مرة أخرى بأن الأمور ستتحسن.
غداً سأستقبل مجموعة من الضيوف، حيث سيكون هناك أمّ صديقتي وأختها الصغيرة، كذلك سيحضر أحد صبيان الحي، وستضاف لهم صديقتي، ليجلسوا لي موديلات للعمل الذي أرسل لك تخطيطه هنا. رابارد يعمل ايضاً وبجد كبير مع الموديلات، فهذه هي الطريقة الأكيدة التي يتطور من خلالها عمل الرسام، أما إن كان لدى الرسام نوعاً من التفاهم والانسجام مع الموديل، فسيتفتح هذا الأخير مثل زهرة، وتظهر فيه تفاصيل وأشياء مدهشة ويعطيك الكثير.
أحاول أن تكون رسالتي هذه مكملة للرسالة التي بعثتها لك البارحة، لتعرف كما كتبت لك، كيف أفكر بالرسم وكيف يتداخل معي لنصبح كائناً واحداً. سأنتظر الضيوف، لكن هل سأنجح في رسمهم حقاً؟ هذا ما سيقوله الغد.
لا أعرف لمَ لا تكتمل الامور بسرعة؟ ربما أكون متعجلاً، لكن الشيء الأكيد الذي اكتسبته في الفترة الماضية، هو اكتشافي أن قيمة الضوء أكبر من اهمية اللون نفسه. ورغم كل شيء، فلديَّ شعور داخلي يؤنبني، لأنك قد ساعدتني كثيراً، مع ذلك لم أتقدم بنفس مستوى دعمك ومعونتك لي، وهذا ما يجعلني أتردد بطلب المزيد، رغم إني أنظر الى الأمر احياناً كما في علم الجبر، فضرب السالب في السالب ينتج عنهما موجب، لهذا فالفشل المتكرر سيقودني الى النجاح بالتأكيد. محبتي لك وسلامي لصديقتك المريضة... أقصد التي ستتعافى.
أخوك المحب
فنسنت
هوامش المترجم:
رابارد: انطوان فان رابارد (١٨٥٨-١٨٩٢) رسام هولندي ينتمي لمدرسة لاهاي في الرسم، وهو صديق فنسنت، وكانت بينهما الكثير من المراسلات، وكان يبدي الكثير من النصائح حول لوحات فنسنت في بداياته. أهتم برسم البورتريت والمناظر الطبيعية والاشخاص اثناء العمل.
****
* الرسالة السادسة عشرة
لاهاي ٢ تموز ١٨٨٣
تَيَّو العزيز
وصلتني رسالتك وما تحمله من نقود، وقد استقبلت ذلك بفرح غامر، على أمل وصول رسالتك الطويلة التي وعدتني بأنك ستتحدث لي فيها عن كل التفاصيل، وخاصة الروائع المائة التي شاهدتها، ياله من أمر مدهش أن يتمكن المرء من رؤية مثل هذه الأعمال العظيمة. أفكر دائماً بقسوة الناس وهم يتجاهلون هؤلاء العباقرة الذين يعيشون بيننا، فهم لا يكتفون بعدم مدِّ يد العون لهم،
بل يوغلون في تحقيرهم، وربما التخلص منهم إن اقتضى الأمر! العامة من الناس لا ترى جوهر هؤلاء ولا تبالي بفهمهم. نعم، فما أكثر الذين سَخَروا من ميليه وكورو ودوبيني وغيرهم، كانوا ينظرون لهم كما ينظر حارس حقل فظ نحو كلب متشرد وجائع يحاول الاقتراب من كوز ذرة، أو يعاملونهم كما يعاملون المنبوذين الذين ليس لديهم أوراقاً ثبوتية! وعادة ما يأتي جواب المبدعين متأخراً مع الأسف، كما حدث مع التحف المائة التي حدثتني عنها، نعم لقد ترك هؤلاء خلفهم الكثير من الأعمال العظيمة، بينما لم يخلف حراس الحقول سوى بطاقاتهم الشخصية وملابس العمل الرثة! يالها من دراما، ففي الوقت الذي يعاملُ الناس فيه كبار المبدعين بإزدراء، ينشغل هؤلاء بفتح آفاق جديدة. وحين يتم الاعتراف بهم، يكون قد فات الأوان، وغادرونا الى الأبد. وكأننا نتقصد إنتظار موتهم، كي نكيل لهم المديح والعرفان! لذلك فأنا أستاء كثيراً حين أسمع أشياءً من قبيل إعتراف الناس بهذا أو ذاك بعد فوات الأوان. لقد كانوا ناساً بسطاء ياسادة، ولم يحتاجوا منكم غير الاعتراف. لقد كتب فكتور هوغو ذات مرة عن إسخيلوس قائلاً (لقد قتلوا الرجل، ثم عادو بعدها مرددين: دعونا ننصب تمثالاً كبيراً لإسخيلوس). أفكر بذلك دائماً عند كل مرة أسمع فيها خبراً عن معرض لفنان عظيم، وأنا بالتأكيد لا أشجب ما يلاقيه ذلك من ترحاب مستحق، لكني أتذكر التمثال البرونزي بحجمه الكبير، وتدور في رأسي عبارة (لقد قتلوا الرجل). صحيح إن إسخيلوس قد تم نفيه، لكن قل لي بربك، ألم يكن ذلك النفي حكماً بموته الأكيد؟
عند زيارتك لي سوف أريك بعض الأعمال التي لن يتاح لك الاطلاع عليها مجتمعة في مكان واحد، يمكنني القول، إنها أعظم مجموعة من الحفر الحديث على الخشب، هي أعمال لفنانين غير معروفين مع الأسف لمعظم متابعي الفن. فمن يعرف بوكمان؟ ومن سمع بالأخوين غرين؟ ومن يكترث حقاً لأعمال ريغَمي*؟ قليلون هم الذين يعرفونهم كما عَرَفتُهُم وتحسست أعمالهم المهيبة. مدهش أن نراها مجتمعة معاً بما تحمله من قوة في الرسم والأسلوب الشخصي والالتقاطات الحيوية من الحياة اليومية وكل ما يصادف المرء في الأسواق والمستشفيات أو حتى ملاجئ الأيتام. حين إبتدأت بجمعها السنة الماضية، لم أكن أتوقع بأني سأحصل على هذا العدد الهائل من الأعمال الملهمة. المهم أيضاً هو أن لا تنسى إتفاقنا حول زيارتك لي، وتذكر بأنها سوف لن تكون قصيرة بكل الأحوال.
لقد عملت بعض الدراسات حول زارعي البطاطس، إثنتين متشابهتين بعض الشيء لفلاح مسنٍ، ودراسة أخرى لفلاح يزرع البطاطس في حقل واسع، وكانت النتيجة مشجعة أكثر من الرسمين السابقين، لقد عملت ست دراسات لنفس المزارع، لأتمكن أخيراً من وضعه في المكان المناسب للتكوين العام للعمل. كذلك رسمت دراسة لفلاح شاب يحرق الأعشاب الضارة والأغصان التي خَلَّفَها تقليم أشجار المزرعة، كذلك دراسة لفلاح يحمل على كتفه كيساً من البطاطس، وآخر يدفع بيديه عربة الحقل الصغيرة.
لو وضعنا الآن كل الاحتمالات على الطاولة وفكرنا بشكل حيادي وقررنا بأني كنت علـى خطأ، وعليَّ تَقَبُّل رأي ترستيخ* برسم أعمالي بالألوان المائية، عندها ينبثق سؤال من بين تقنيات وحساسية مواد الرسم نفسها: كيف يمكن الأمساك بهذه الشخصيات الحيوية وما تحمله من فاعلية؟ كيف للألوان المائية أن تتلقف قوة الشاب الذي يحرق الأعشاب؟ وكيف لها ان تعبر عن المزارع العجوز؟ ومن اين لها الطاقة في القبض على تعبير الفلاح المنغمس في زراعة البطاطس أو تلتقط المعالجة المناسبة لحركة عربة اليد؟ الألوان المائية ليست لها هذه القوة والمتانة في بلوغ سطوة الشخصيات، وأرى هنا أن النتائج ستكون مفتعلة والتعبير لا يناسب ملامح وحضور وعمق هؤلاء الاشخاص الذين أراهم أمامي. سيكون الأمر مختلفاً إن أردنا دراسة اللون وتدرجاته، عندها فالمائية ستمنحنا تلك النعومة والتناغم، لكن رسم هؤلاء الفلاحين شيئاً مختلفاً، يحتاج الى وسيلة تعبير أخرى. مع علمي أن هناك أعمالاً مائية تجاوزت التناغمات لتصل الى قوة الشخصيات وخطوطها الخارجية، مثل أعمال ريغَمي وبينويل وواكر وهيركومر، كذلك أعمال البلجيكي مونيَي. مع ذلك، حتى لو رَسَمْتُ أعمالاً بهذا الاتجاه، فلن يرضى ترستيخ عني ولا عن أعمالي، وسيجدد مقولته الشهيرة (إنها ليست قابلة للبيع). وكأن امكانية البيع فوق كل اعتبار وهي الهدف الأسمى الذي يبغيه ويتطلع اليه الفنان. أرى ملامحه كيف تتغير حين لا أنفذ ما يريده بالضبط، وأتحسسُ إيماءات وجهه وهي تقول لي بكل وضوح (أنت شخص دَعيّ ومبتذل وصغير لأنك تخرج عن طاعتي، تبدو غثاً وأنت تبحث عن أشياء موجودة في ذهنك فقط. بإختصار أنت غير صالح للرسم)، سنتان وهو يعاملني بهذه الطريقة، وسيظل كذلك، ترستيخ سيبقى هكذا الى الأبد، بالنسبة لي هو الوجه الآخر للأبدية! ليس أنا وحدي من يشعر بذلك، فكل الفنانين الذين يحاولون البحث عن حلول وتقنيات جديدة لأعمالهم الفنية يظهر لهم (ترستيخ) خاص بهم يحاول كسر ادواتهم وتحطيم عزيمتهم. ياله من أمر مثير للكآبة والأسى، حين تشعر بأنك محبط ومكسور. وهكذا تصبح الحياة كئيبة والمستقبل مظلم. ومهما صرفنا من المال والطاقة ومهما حاولنا المضي في الطريق الذي إخترناه، نجد أنفسنا في النهاية نغوص في وحل عدم التقدير واللامبالاة، وبدلاً من أن يساعدنا عملنا الدؤوب في المضي الى الأمام، نواجَهُ بالانتهاك وعدم التقدير.
في الأيام الأخيرة فكرت جاداً بالانتقال الى الريف أو قرب البحر، أريد أن أكون وسط الناس الذين يعملون في الأرض او قرب الماء، فالأمر هناك غير مكلف مادياً، وفوق هذا فربما تساعدني البساطة في هذه الأماكن على أسترجاع شيء من السكينة والهدوء. بقائي هنا سيكلفني الكثير مادياً، خاصة وانا انفق كل ما املكه على اعمالي ولا يلتفت اليها أحد. خطر في ذهني أيضاً الذهاب الى انجلترا، فقد تم تأسيس مجلة رائعة في لندن (ذا بيكتوريال نيوز) وهي تشبه في مستواها أل. نيوز وجغرافيك، ربما استطيع الحصول على عمل هناك، لكني اعتقد بأن مثل هذه الفرصة غير أكيدة. وربما ليس هناك شيء أكيد سوى شوقي للقائك من جديد، فقد مضى عام كامل لم نلتقِ فيه، رغم إننا نفكر ببعضنا طوال الوقت، إنها فترة طويلة حقاً.
ربما لم أسألك في الفترة الماضية عن علاقتك بصديقتك، وذلك لأني متأكد بأن كل شيء بخير، وإنكما منسجمان بشكل رائع مع بعضكما. صغيرنا*بلغ عمره عاماً كاملاً، وهو في قمة الجمال والروعة، لا يمكنك أن تتخيل كم هو مبتهج وحيوي. لقد كان تـأثيره كبيراً على أمه، حيث تحسنت صحتها ونفسيتها بوجوده، وهي منشغلة به أغلب الوقت. إن سنحت لي فرصة الذهاب الى الريف فعلاً، فستكون هي معي، اريد ان ابعدها عن عائلتها التي تؤثر عليها تأثيراً سلبياً وتعيق علاقتنا معاً، فعائلتها تدفعها دائماً كي تكون بوجهين. ولكونها ساذجة فهي تتأثر بكلامهم. إنها ببساطة ابنة ظروفها الصعبة التي عاشتها، وأنا أفكر بالزواج منها قبل الانتقال الى الريف أو الى لندن.
أكتب لي عن وقت مجيئك حين تقرر ذلك، وأنا سأنتظر بشغفٍ حتى يحين هذا اللقاء. لقد قرأت هذه الأيام دراسات لبوتون* عن هولندا صاحبتها رسومات له ولآبي، وكانت تحتوي على أشياء مدهشة، منها وصفاً لجزيرة ماركن* جعلني اتشوق لزيارتها، وربما البقاء فيها بعض الوقت رغم أن الصيادين هناك لا يشغلهم أمر اللوحات ولا يهتمون كثيراً بعالم الرسم.
إكتب لي بالتفصيل عن الأعمال المائة العظيمة التي شاهدتها، وإن حصل تقدم في عملك فقليل من النقود الاضافية ستساعدني بالتأكيد. أحب الريف كثيراً رغم ارتباطي الكبير بالمدينة، فهي توفر لي المجلات الفنية وكذلك الحصول على الأعمال المطبوعة. ليس مهماً أن أتأخر في رؤية القطارات* والاطلاع عليها، لكني لا أستطيع أن أقضي يوماً واحداً دون رؤية المطابع اليدوية. لقد قرأت (خصومي)* لزولا، فيه تفاصيل مؤثرة، لكني أراه مخطىء بجانب كبير من الكتاب، ولم أفهم لماذا لم يتطرق الى ميليه في أفكاره التي كتبها. لكني أراه محقاً بقوله (أن النجاح السهل فيه الكثير من السطحية، وهو غالباً ما يعجب العامة. وهذا ما نراه وما يحدث كل يوم مع الاسف، حتى تعودت الناس على الترهات والتلفيقات).
أشد على يدك، مع كل محبتي
اخوك المخلص
فنسنت
* هوامش المترجم:
- ريغَمي: هناك ثلاثة أخوة يحملون هذا الاسم، وجميعهم رسامون، وهم فيليكس وفريدريك وغيوم، وفنسنت يقصد هنا غيوم ريغَمي (١٨٣٧-١٨٧٥) الذي اشتهر برسمه للكثير الاشخاص من الخلف، وكذلك عُرِفَ بتخطيطاته عن الخيول، والتي يعرض معظمها الآن في متحف اللوفر. حصل على شهرة واسعة بعد ان أقيم له معرضاً استعادياً كبيراً في البوزار سنة ١٨٧٦ تقديراً لمكانته الفنية.
ترستيخ: تاجر أعمال فنية يرتبط بعلاقة صداقة مع عائلة فنسنت، لكنه كان قاسياً معه، ودائم الانتقاد له ولاعماله.
- صغيرنا: الصبي الذي ولدته صديقة فنسنت الغانية التي أحبها، والتي تخلى عنها والد الطفل وهي حامل، ليهتم بها فنسنت مع طفلها ويرعاهما معاً كي لا تنحرف من جديد.
بوتون: جروج هنري بوتون، وهو رسام وكاتب بريطاني امريكي، انجز الكثير من الرسومات المصاحبة للكتب. نشر في مجلة هاربر سلسلة دراسات وانطباعات أثناء زيارته لهولندا أسماها (جولات فنان في هولندا) وطبعها فيما بعد في كتاب صاحبه مجموعة من رسومه التوضيحية.
ماركن: وهي شبه جزيرة هولندية تقع في مقاطعة شمالي هولندا. كانت في السابق جزيرة، لكن ارتبطت سنة ١٩٥٧ بسدة او رابط مع المقاطعة، للتحول الى شبه جزيرة. وهي معروفة بكثرة صيادي الاسماك، وكذلك الازياء الهولندية التقليدية التي مازالت نسائها ترتديها.
القطارات: في الربع الأخير من القرن الثامن عشر كانت القطارات حدثاً جديداً وانعطافة مذهلة كواسطة نقل، لهذا كان جميع الناس شغوفين بهذا الحصان الحديدي المدهش، ماعدا فنسنت الذي كان منشغلاً بمطابع الليثوغراف والاعمال الفنية.
- خصومي: وهو كتاب نقدي عن الفن كتبه الفرنسي وصديق الانطباعيين أميل زولا سنة ١٨٦٦وتطرق فيه للكثير من الفنانين، واحتوى ايضاً على الكثير من الآراء الجريئة التي تتعلق بالفن.
*****
* الرسالة السابعة عشرة
لاهاي ٧ آب ١٨٨٣
تَيّو العزيز
شوقي كبير اليك، وأنتظر قدومك على أحر من الجمر، فلا تمر لحظة دون أن أفكر بك، وأشغل الساعات أمني نفسي بلقائك من جديد. حاولتُ هذه الأيام أن أقوم بعملي على أفضل وجه، فقد نَفَّذتُ مجموعة من الدراسات، ستراها بالتأكيد وتطلع علـى تقنيتها حين تكون معي. أجاهد هنا لأشغل وقتي بتطوير عملي وإكتشاف بعض التقنيات الجديدة،
ربما لم أقدم أعمالاً مثل أعمال فايسنبروخ*، لكني سأحاول قدر الامكان الأقتراب من مستوى اعماله، لذا سأقضي فترة من الوقت مع الفلاحين، على أمل إكتشاف الالوان بشكل أفضل، كما حدث مع لوحتي الأخيرة، والتي تحسستُ فيها اللون بشكل مختلف، حيث يبدو اكثر ثباتاً وينسجم مع ماتريد ان تقوله الطبيعة. كذلك هناك دراستين نفذتهما في الأيام الأخيرة، يظهر فيهما رجل تحت المطر وهو يسير على طريق موحل وغير معبد، ورغم أن التفاصيل هنا غير واضحة وتظهر علـى شكل بقع من الألوان، لكني أعتقد بـأني قد عكست التعبير بشكل مناسب، وسنتحدث عن هذا أيضاً حين تأتي لزيارتي قريباً. أغلب الدراسات التي رسمتها في الفترة الماضية هي للطبيعة. لا أدعي بأنها جيدة للحد الذي تقترب قيمتها مما ترسله لي من صور لبعض الأعمال، فأنا مازلتُ أعاني من بعض الصعوبات على صعيد التقنية، لكن مع ذلك أرى أن مستواي ليس سيئاً أبداً، وأشعر أن أعمالي تسحب خطواتها شيئاً...فشيئاً لتظفر بالنجاح، ومثال ذلك، اللوحة التي رسمت فيها جانب من المدينة مساءً عند مغيب الشمس، بشكل سلويت، حيث تتماهى الطواحين بشكل شاحب في نهاية الطريق.
أريد أن أكون وسط عملي دائماً، منشغلاً باللوحات، وإلا سيبتعد الرسم عني كثيراً وربما يضيع الى الأبد. أشعر الآن باللون أكثر، واعرفه أشد مما تعرفت عليه سابقاً، لكن رغم ذلك أحتاج الـى استثمار كل طاقتي للأحساس بمزيد من تأثير اللون وقوته. يجب أن أبعد اليأس عني، وأطرد اللاجدوى التي تنتابني أحياناً بسبب التحولات التي تحدث بداخلي تجاه الرسم، فهناك تقلبات كثيرة حيال اللون والشكل والطبيعة، وما وراء كل ذلك من ضوء وظلال وبقع تتوزع هنا وهناك. لقد انشغلت كثيراً بذلك، وفكرت طويلاً بهذا الشأن، كذلك جربتُ أن أرسم أعمالي بألوان أقل كثافة بحثاً عن التأثير المناسب. كيف أمسك بالأشكال وكيف أقبض على اللون والكتل؟ أتعمد أحياناً أن أرخي بصري قليلاً وأنظر من خلال أهداب عيني، فتبدو الأشياء عبارة عن لطخات من اللون وبقع صباغة موزعة هنا وهناك، أمضي بغلق عيني أكثر، فتختفي التفاصيل وترتبط الاشياء اكثر ببعضها وتتداخل، لتنتج مجموعة علاقات بالشكل واللون. وهنا أتسائل، كيف يمكن أن تسير الأمور الى الأمام وكيف تحدث الأنتقالات في الرسم؟ أتساءل لِمَ أبدو ليس مُلَوِّناً بما فيه الكفاية؟ كنت أظن أن الاندفاع الذي ينتابني سيكون كفيلاً بتحقيق ذلك، لكن يبدو أن أمراً كهذا لا يتحقق بتلك السهولة.
مرة أخرى يتملكني احساس بالفضول حول الدراسات الاخيرة التي رسمتها، أقصد تلك التي معك الآن، والتي رسمتُ في إحداها جذوع بعض الاشجار، انها مختلفة، وهذا واضح. أردت القول إنها ليست سيئة لكنك أيضاً لا تستطيع القول بأني كنت ملوناً جيداً أثناء رسمها. الحق، إن كل الالوان في هذه اللوحة قد وضعت في مكانها المناسب، وربما هنا تكمن المشكلة! فالالوان المحسوبة بعناية لا تنجح دائماً في إعطاء التعبير الجيد، وهنا عليَّ أن أفكر كيف تكون علاقات الألوان مع بعضها، وماذا يحدث حين تكون معاً، كيف تنسجم وكيف تتداخل وتزحف على بعضها مثل غيوم ودودة، أو مثل أوراق عشب يانعة تنبثق من الارض. في الأيام الماضية، شغلتني كثيراً فكرة عدم إستطاعتي الغوص أكثر لمعرفة سر الألوان، لكن مع ذلك، لدي أمل الآن بأن يتحقق شيئاً، وسنرى كيف ستمضي الامور معنا أنا واللون. يمكنك أن تأمل بأنني بعد جهد طويل سأسير على الطريق الصحيح، رغم اني لا اجروء -حين يتعلق الأمر بأعمالي- على إمتلاك الثقة بشكل كامل.
في الأيام الماضية قرأت في مجلة انكليزية حكاية تتعلق بتاريخ الفن، وهي عن رسام محبط ويعيش في ظروف قاسية، لم يجد ما يعينه أو ينتبه لأعماله، فَيَشُدَّ الرحال نحو حقول الخُث* الكئيبة، وهناك في هذا المكان القذر والمنعزل، وجد ظالته في رسم لوحات رائعة في وسطه الجديد، هناك، وسط قبح وتعاسة كل ما يحيط به إكتشف الجمال، انبثقت روحه المتوهجة التي تعتمر بالحساسية، لتضيء ظلمة المكان. وسط عمال الخث استنبط الموضوعات التي تتلاءم مع موهبته ورسم أعمالاً مدهشة. لقد كُتِبَتْ هذه الحكاية بطريقة رائعة ومؤثرة، ولاشك أن كاتبها كان ملماً بالرسم بشكل جيد. لقد خطرت هذه القصة كثيراً على بالي في الايام الاخيرة. حين أراك سنتحدث عن ذلك بالتأكيد، ومن جانبك حاول أن تتواصل بالكتابة لي قبل لقائنا، فهذا أقل ما يمكننا فعله الآن.
فكرتُ أن أتوقف هنا عن الكتابة، لكن بدون سبب واضح أردت أن أضيف بعض الأفكار التي تدور في رأسي الآن، أنت تعرف بأني قد بدأت الرسم متأخراً بعض الشيء، وهذا ليس هو الشيء الوحيد الذي يكدرني، بل يضاف الى ذلك شعوري بأني سوف لن أعيش طويلاً، والسنوات المتبقية لي في هذه الحياة معدودة، وحتى لو فكرت في الموضوع بإسترخاء وبرودة أعصاب، فأنا أعرف بأن جسدي سوف لن يتحمل الكثير ياتيّو. فأنا حين أقارن نفسي بالناس الآخرين الذين أراهم امامي، أشعر بأن ماتبقى لي هو ربما ست أو عشر سنوات، أي سوف لن أتجاوز الاربعين وأنا على هذه الحال، وخاصة أنا لا أجيد الاعتناء بنفسي صحياً، وأن اكتسبت الكثير من القوة والتماسك وربما الحظ، فلعلني سأمضي بحياتي الى ما بين الأربعين والخمسين. عموماً أحاول جاهداً أن أبعد هذه الافكار عن رأسي، وأن أضع خططاً لسنواتي القادمة. عليَّ أن أحدد أهدافي الواضحة للسنوات الخمس أو العشر المقبلة، سوف لن أضيّع الوقت وأحاول أن ابتعد عن ما يعكر صفو نفسي واتجاوز الصعوبات التي تحيطني، والحقيقة ليس مهماً كم من السنوات سأعيش، لكن الثابت بالنسبة لي هو أن أترك شيئاً خلفي قبل أن أموت، عليَّ أن أنجز شيئاً خاصاً بي خلال بضع سنوات، وبالمقابل لا داعي للعجلة التي تؤدي الى التخبط، بل العمل بهدوء وجدية، أريد أن أترك شيئاً نافعاً خلفي، شيئاً أشكرُ من خلاله الحياة التي منحتني ثلاثين سنة عشتها فوق هذه الارض، أريد ان اعيد لها هديتها على شكل لوحات من صنع يدي، ان أُبقي مجموعة من التذكارات وراء ظهري وأنا أغادر، ليس إرضاءً لأحد أو طلباً لإعتراف جهة معينة، لكنها بمثابة تركة من شخص محب ومخلص. نعم هذا هو هدفي الآن، ربما سأسير ببطيء، لكني رغم ذلك لن اتوقف، وسـأتحصن بكل ما لدي من طموح.
لم يكن غيوم ريغَمي معروفاً على نطاق واسع (لا أقصد هنا أف ريجمي صاحب الرسومات اليابانية. بل شقيقه)، هذا الرسام أحمل له الكثير من الأحترام والتقدير. لقد توفي في سن الثامنة والثلاثين، والفترة التي قضاها مع الرسم لم تتعدى ست أو سبع سنوات، لكن رغم قصر تلك الفترة، فقد أنجز أعمالاً مهمة ورائعة، وتعكس إسلوباً شخصياً نادراً، كان يجاهد في التغلب على مرضه لإنجاز أعماله الجميلة، وفوق كل هذا كان انساناً طيباً، محباً ودمث الاخلاق. لا أذكره هنا لأدعي التشابه معه، فلوحاتي لم تصل بعد لما قدمه من أعمال مؤثرة، لكني أذكره فقط ليكون ملهماً ولأعطيك مثلاً حول قوة الارادة والتواصل مع الرسم رغم كل الصعاب. أنظرُ الى نفسي الآن بطريقة مماثلة، كي أنتج في سنواتي القادمة اعمالاً ذات قيمة، انت تفهني بالتأكيد ياصديقي القديم، وربما ان ما ارسله لك من رسومات يفصح عن القليل مما أردت قوله.
أشد على يدك، مع كل محبتي
أخوك فنسنت
- هوامش المترجم:
* يان هندريك فايسنبروخ: فنان هولندي (١٨٢٤-١٩٠٣) واحد من اهم اعمدة مدرسة لاهاي. اشتهر بأعمال الليثوغراف والمناظر البحرية والطبيعية المذهلة التي يشع منها الضوء، ومرصعة بغيوم شفافة وفضاء مفتوح.
* * الخُث: طبقة من النباتات والاعشاب والطحالب الجافة والمتفحمة بسبب بعض الظروف البيئية. يقوم الفلاحون بإزالة وحفر هذه الطبقة بطرق شاقة ويقطعونها قطع صغيرة تشبة طابوق البناء لتستعمل كوقود للطبخ والتدفئة في المزارع وبيوت الفلاحين، وهي تستخدم في هولندا منذ قرون طويلة.
* * غيوم ريغَمي: (١٨٣٧-١٨٧٥) الذي إشتهر برسمه للأشخاص بوضعيات مختلفة، وكذلك عُرِفَ بتخطيطاته عن الخيول، والتي يعرض معظمها الآن في متحف اللوفر. حصل على شهرة واسعة بعد ان أقيم له معرضاً استعادياً كبيراً في البوزار سنة ١٨٧٦ تقديراً لمكانته الفنية.
*****
* الرسالة الثامنة عشرة
هوخفين ١٤ تشرين الأول ١٨٨٣
تَيّو العزيز
وصلتُ منذ بضعة أيام الـى هوخفين*، وقد تجولت كثيراً وبإتجاهات مختلفة لإستطلاع المنطقة، لذا يمكنني تقاسم الكثير من التفاصيل معك حول هذا الجانب البعيد في مقاطعة درينته. أرسل لك هنا أول تخطيط رسمته لأحد الأكواخ القديمة الذي يقبع وسط الطبيعة. لقد شاهدت حتى هذه اللحظة ستة أكواخ من هذا النوع،
وتفحصتها من الداخل والخارج، إنها مبنية من القش والقصب وسيقان بعض الأشجار، تبدو وكأنها تغوص في الأرض لأن حافات سقوفها تنحدر لتلامس العشب مثل رداء كاهن كنيستنا القديمة. سأرسم بعض منها في أعمال قادمة بكل تأكيد. عندما أتأملها عند مغيب الشمس من الخارج تعيدني بطريقة لا تقبل الشك لأعمال جوليس دوبريه* التي شاهدتها ضمن مجموعة مسداخ*، لا يمكنني أن اخطـئ ذلك أبداً، وخاصة لوحته التي يظهر فيها كوخان غارقان في التدرجات الرمادية للخلفية، وغائبان وسط نعاس القرية الكسولة، لا يتبين منهما سوى الطحالب التي تسلقت السقوف بحذر. ألقيتُ نظرة على داخل دواخل الأكواخ، فبدت مظلمة مثل الكهوف، ياله من ظلام جميل وعميق، لقد أعادتني هذه العتمة الـى رسام بريطاني ايرلندي، وكأن المشهد الذي أمامي هو نسخة من اعماله، وأقصد هنا الفنان البرت نيوهاوس*، لكن رغم ذلك أرى أن أعماله فيها شاعرية أكثر، وتتفوق بذلك على الطبيعة.
شاهدتُ بضعة أشخاص في الخارج، إنهم ودودون رغم ما يظهر عليهم من عوز وفاقة. ونساء بصدور بارزة يتقدمن في سيرهن بعناد وترفع، ألتفتُ الى العجائز، فأرى كيف أن الفتوّة ذبلت وإختفى بريقها، لكن رغم ذلك فـأن هولاء العجائز مازال لديهن الكثير من التأثير وَينلنَ قسطاً وافراً من الاحترام والتقدير هنا، وهذه التفاصيل تعديني أيضاً الى تفاصيل ومناخات ميليه. الرجال هنا يرتدون -لحسن الحظ- بناطيل قصيرة، وذلك يمنحني القدرة علـى رؤية حركة السيقان والعظلات وأتجاهات الخطوط التي تكون هيئة الأرجل.
من التفاصيل التي أثارت أعجابي وحركت مشاعري هنا، هي كيف يقوم الناس بسحب المراكب من على ضفاف القنوات والأنهر الصغيرة، حيث يشترك الرجال والنساء والأطفال في ذلك، وتساعدهم في هذه المهمة خيول سوداء أو بيضاء. يجرّون المراكب المحملة بالخث، كما يفعل الهولنديون* في رايسفايك. أرى أيضاً قطعان الخراف وهي تلتف وتتجمع بحنو حول بعضها، فتبدو أكثر تأثيراً وغنى وجاذبية من التي عندنا في براباند*. أما الأفران، فتظهر موزعة وهي تستظل بجانب أشجار التفاح أو بين نباتات الكرفس والكرنب. بينما أخذت خلايا انتاج العسل أماكنها علـى حافات الحقول. رغم ذلك أنظر الـى الاشخاص الذين يصادفونني هنا وهناك فأراهم يفتقدون الـى الوضع الصحي الجيد، وذلك بسبب قسوة الحياة هنا والظروف المعيشية، وكذلك مياه الشرب الملوثة. تصادفني أحياناً فتيات بعمر السابعة عشرة أو أصغر قليلاً، كلهن حيوية ونضارة وجاذبية، لكنهن -حسب مارأيت عند الأخريات- يكبرن بسرعة وتظهر عليهن بصمات الزمن. أرى السنوات تمشي على الوجوه التي ذبلت مثل زهور مهملة.
في القرية أربع أو خمس قنوات مائية. واحدة تذهب الى ميبل وأخرى الى ديدمسفارت، والثالثة نحو كوفوردن والرابعة بإتجاه هولاندسفيلد. حين شققتُ طريقي وسط القنوات، لاحت لي على الضفاف بضع طواحين قديمة جداً مثل شيوخ معمرين، ومزارع إحتلت مساحات واسعة، وكذلك مراسي للقوارب ونواصي لتحميل الخث، وسدود صغيرة لحجز مياه القنوات. وبين كل ذلك تتحرك المراكب المحملة بالخث طول الوقت، مراكب تكاد حركتها لا تتوقف، وهي تعطي حياة لكل شيء هنا، نعم... الحياة هنا عبارة عن مراكب للخث.
أثناء إنغماسي بالرسم هذه الظهيرة، جاء خروفان وعنزة وبدأوا بإلتهام الاعشاب التي نمت على سطح الكوخ. صرت أرسم تارة وانظر الى هذه الحفلة الجماعية تارة اخرى، بعد قليل صعدت العنزة الى أعلى نقطة في السطح، وَمَدَّتْ رأسها في المدخنة وهي تتفحص ما بداخل الكوخ، وهنا هرعت صاحبة المزرعة العجوز مسرعة وهي تحمل مكنستها بإتجاه الحيوانات الشقية، لتقفز العنزة من الأعلى مثل ظبي الجبال، ويفر الثلاثة بعيداً عن متناول المرأة الغاضبة.
هذه الضيعة التي قضيت فيها بعض الوقت يطلقون عليها اسم ستوفسانت وبجانبها ضيعة أخرى زرتها أيضاً إسمها الخروف الاسود. وقد زرت مناطق أخرى على الأطراف، أماكن لم يطلها التغيير منذ أوقات بعيدة، إنها أكثر بدائية من هوخفين التي تحتوي على وسائل المعيشة والحياة رغم كل الظروف.
هنا في هذا المكان البعيد المنعزل، فكرت كثيراً بصديقتي القديمة وطفلها. هل كانت مذنبة في ما حدث؟ وما يمر به الطفل، هل كان بسببها؟ لا أظن ذلك، فهي تعيسة اكثر منها مذنبة. وقد أحسستُ بشخصيتها غريبة الأطوار منذ البداية، ومع ذلك كنت أأمل أن تسير الأمور على ما يرام. والآن لا أرغب في رؤيتها مرة أخرى، لقد افترقنا بعد أن ساءت الأمور كثيراً. ما يؤلمني هو أنني لم يكن في وسعي تغييرها نحو الأفضل، ولم أملك الطاقة لذلك.
تيو، حين أتذكرها والطفل بين يديها أو أثناء إنشغالها برضاعته، تدمع عيني، أراها هنا في كل لحظة، واتخيلها بين هؤلاء الناس المتعبين، مازلتُ أشعر بضعفها وعدم حيلتها وفوضويتها. أعرف أن جوانب كثيرة سيئة تحملها، وما قُمتُ به كان خياراً صحيحاً. نعم لقد تركتها، وكان هذا هو الخيار الأفضل. فمن المحال جلبها الى هنا، رغم أن قلبي الضعيف لا يتحمل رؤية انسان بائس وشقي. وهنا سيكون الخيار الأفضل لي هو العمل والانغماس بالرسم، عسـى أن لا يقف سوء الحظ كالعادة في طريقي.
إبق على ثقتك بي،
أنتظر كتابتك بشغف.
إخوك المحب
فنسنت
- هوامش المترجم:
* هوخفين: مدينة هولندية صغيرة تقع في مقاطعة درينتة قرب الحدود الألمانية. وقد عشتُ في هذه المدينة قرابة عشر سنوات، وفيها درست اللغة الهولندية، في درينته كولج. وفي طريقي الى مدرسة اللغة كنت أمرُّ كل يوم بمحاذاة البيت الذي عاش فيه فنسنت فان غوخ، وأُحيي تمثاله قائلاً (صباح الخير فنسنت). وفي سنة ٢٠٠٦ أقمت معرضاً شخصياً في ذات البيت، وكان عنوان المعرض (تحية الـي فنسنت).
* جوليس دوبريه: ١٨١١-١٨٨٩ فنان طبيعة فرنسي ينتمي الى مدرسة الباربيزون. تبدو في أعماله مسحة درامية عالية، حيث رسم العديد من اللوحات التي تظهر فيها العواصف وحركة الأشجار المتأرجحة بفعل الرياح.
* مسداخ: ١٨٣١-١٩١٥ رسام هولندي إشتهر برسم المناظر البحرية. أشهر أعماله (بانوراما مسداخ) التي تعتبر أكبر لوحة في تاريخ هولندا ولها متحف خاص بذات الاسم في مدينة لاهاي. كان مسداخ يهتم أيضاً بجمع الاعمال الفنية.
* البرت نيوهاوس: رسام هولندي، بدأ حياته بـأعمال الطباعة، ثم تحول الى الرسم، تأثر بمدرسة لاهاي وألوانها القاتمة. وقد اهتم برسم الطبيعة وكذلك الاشخاص في غرف كئيبة.
* الهولنديون: يذكر فنسنت هذا التعبير رغم كونه في هولندا أيضاً، وذلك لأن تعبير هولندا أو الهولنديون يشمل رسمياً الجزء الغربي من البلد، والذي يقع بين امستردام وروتردام مروراً بلاهاي، حيث تقع مقاطعتين هما شمال هولندا وجنوب هولندا. أما البلد بشكل عام والمتعارف على تسميته في العالم (هولندا) فأسمه الصحيح هو نيدرلاند أو نيذرلاند.
* براباند: مقاطعة هولندية في الجنوب حيث ولد ونشأ فنسنت فان غوخ.
*****
* الرسالة التاسعة عشرة
نيو أمستردام ٢ نوفمبر ١٨٨٣
تَيَّو العزيز
أود أن أخبرك بأني قد قضيت بعض الوقت في زيللو، وهي ذات القرية التي مَكَثَ فيها ليبرمان* بعض الوقت ورسم الدراسات التحضيرية للوحته (الغسالات) والتي عُرضت في الصالون الأخير. مثلما قَضى هنا بعض الوقت الرسامان ترمرلن وباكهاوزن. أتمنى ان تتخيل صورة ما يحدث معي هنا وما أراه وأصادفه من تفاصيل مذهلة، لقد ذهبت مع الرجل الذي أسكن في بيته الى السوق الكبير في مدينة آسين.
انطلقنا في عربة مفتوحة عند الساعة الثالثة فجراً وقطعنا طريقاً غير معبداً، رُصِفَتْ فوقه طبقات من التراب ليكون مرتفعاً ومناسباً لسير العربات. في كل الأحوال، كان الطريق ممتعاً اكثر من السفر عبر النهر.
بزغ الصباح عند وصولنا أعتاب القرية، حيث تناهى الـى أسماعنا صياح الديكة وسط الأكواخ التي توزعت بين السهوب والمزارع، وإجتزنا بيتين تسيجهما بشكل دائري أشجار الحور التي كدتُ أسمع اوراقها الصفر وهي تتساقط متأرجحة، وعلى الجانب ظهر برج الكنيسة المكتنز، منتصباً بهامته المحدبة، محاطاً بحاجز طيني، يقابله سياج من الشجيرات القصيرة، ومساحة من الأعشاب المجزوزة، وحقلاً واسعاً من القمح، حتى ليبدو المشهد وكأنه واحداً من أجمل أعمال كورو، سكينة وغموض وطمأنينة، لا أحد يستطيع أن يرسم ما أراه هنا مثل كورو، هو وحده من يقدر على ذلك من خلال الرسم. الساعة السادسة صباحاً، والقرية مازالت تستلقي وسط العتمة مثل إمرأة قروية تغط في نومها بعد يوم عمل متعب. أَتَلَفَّتُ حولي وأنا استعيد كورو الذي بدا يتوضح لي إكثر في كل التفاصيل. كانت الرحلة أخّاذة حقاً، وقد بدأتُ أتطلع الى القرية التي أخذت تفاصيلها تنكشف شيئاً فشيـئاً، حيث سقوف القش التي غطتها الطحالب، وحظائر الأغنام والمواشي، والأكواخ الواسعة التي تستقر بين أشجار البلوط التي حَوَّلَها لمعان الصباح الى لون برونزي. بينما تنتشر الطحالب وتتمدد، وقد إكتسب لونها مسحة صفراء. وتحول لون الأرض الى درجات من الأحمر والأزرق والأصفر، مع بنفسجي بمسحة رمادية. أما حقول القمح التي وقفت شاخصة فهي تعطي قوة للمكان وتشير بلونها الأخضر اليانع الى حياة القرية. بينما تقف جذوع الاشجار منتصبة بلونها الداكن الرطب، وقد تسلل البلل بين ثناياها، ومن بين هذه الجذوع تراءت أوراق الخريف المتساقطة وهي تتأرجح بلون الذهب، وكأن هناك من ينفخ عليها بشكل غامض، في حين بقيت بعض الأوراق متشبثة بالأشجار وهي تتدلى بإنتظار الإنغمار في الضوء الساطع الذي بان وسط أشجار الحور والبتولا والتفاح.
بدأ فضاء القرية ينفتح مثل باب عليِّة، لتشع السماء بلون أبيض فيه مسحة من البنفسجي الغامض، وقد تخلل ذلك بقع من الأحمر والأزرق والأصفر، هذه الالوان تنعكس فوقنا وقد تشبع بها بخار الماء والضباب الذي بدأ يتصاعد بِلَذَّةٍ وكسل، ليغطي كل شيء بيده الرمادية الشاحبة.
لم أعثر على أي رسام هنا رغم جمال المكان، وحين سألت عن سبب ذلك، أخبرني أحد الفلاحين بأن الفنانين لن يأتوا الى هنا أبداً خلال فصل الشتاء، وهو الوقت الذي خصصته للمجيء الى هنا. لذا قررت العودة مشياً* دون أن أنتظر عودة صاحب البيت، وقد قمت برسم العديد من التخطيطات أثناء الطريق. والتخطيط الأول الذي نفذته كان لبستان التفاح الذي رسمه ليبرمان في لوحته الكبيرة، لأكمل خطواتي بعدها على نفس الطريق الذي أتينا منه.
في هذه الأيام تمتليء أرض زويللو بحقول القمح اليانع النضر، لم أرَ مثل هذه الخصوبة أبداً، يضاف الى ذلك صفاء السماء بلونها الليلكي الناعم. لاأعتقد بـأن ما رأيته قابلاً للرسم، لكن مع ذلك، فدرجات اللون هذه تمنحني إحساساً خاصاً وعاطفة تقربني من جمال الطبيعة وتعرفني أكثر بالرسم. أرض سوداء، قاتمة وخصبة ومنبسطة، ينبثق منها قمح يانع وطري، ويعلو ذلك سماء بيضاء كإنها تراقب المشهد بجلال وهيبة. هذه هي ارض درينته الخصبة، سوداء معتمة كالفحم، وهي أكثر سواداً من الأراضي الأخرى التي شاهدتها. حقول القمح مترامية الأطراف ويلفها الضباب بوشاحه حتى لتبدو بالضبط مثل لوحة برايون (آخر أيام الخلق)، هنا في هذا المكان عرفت مغزى هذه اللوحة.
لا وجود للون التربة المعتم الليلكي هنا، بل يغوص السواد عميقاً ليمتزج بظلمة غور الأرض، وذلك بسبب الطحالب المتخثرة وطبقات الخث المتحجرة التي حوَّلَت التربة الى هذا اللون الحالك. تمتد على طول الطريق طبقات الخث، وبشكل يبدو غير نهائي، وتتوزع أكواخ الطين، وبيوت ريفية بسيطة إستسلمت سطوحها للون الطحالب، وحظائر أغنام بأسيجة واطئة جداً، تحيط بها أشجار البلوط الضخمة. أجوب المنطقة ساعات، ولا يريد هذا المشهد أن ينتهي، حقول القمح تمتد الى ما لا نهاية والسماء تنتصب فوق ذلك، حتى بدا الناس وحتى الخيول وكل من يعيش هنا وكأنهم حشرات صغيرة في مكان واسع مترامي الأطراف بين السماء والأرض. مع ذلك فـأن جوانب من هذا المكان تذكرني ايضاً بأعمال ميليه،مثل الكنيسة الصغيرة التي مررتُ بها والتي تشبه تماماً كنيسة غريفيل في لوحة ميلية الموجودة في لكسمبورغ، والاختلاف الوحيد هو وجود رجل مع مجرفة في اللوحة، بينما يظهر هنا الرجل صحبة قطيع صغير من الخراف بمحاذات سياج المزرعة.
رغم بعد درينته عن البحر، لكن هذه الحقول الفتية تمتد وتتماهى مع الافق وكأنها بحر بعيد، وتتمايل رؤوس السنابل وتتحول الى أمواج صفراء لامعة. صادفت في الطريق فلاحين يحرثون الأرض، وبعض راصفي الطرق وهم يجرون عربات محملة بالرمل، ومجموعة من الرعاة، وعدد من العربات التي تنقل الأسمدة. توقفت قليلاً عند نزل قديم، لأرسم إمرأة مسنة مع نول غزل، رسمتها على شكل سلويت وكـأنها قد خرجت تواً من حكاية خرافية، وقد إستقرت قبالة ضوء النافذة، حيث يسقط عليها ضوء النهار الساطع. وبدت في الجانب جادة تعلوها أعشاب خضراء طرية، تمركزت فوقها بضع وزات منشغلة بإلتهام العشب الطري.
وبعدها حين بدأ الظلام بالهبوط مجدداً، تمنيتُ أن تتخيل معي السكينة التي عَمَّتْ المكان. أسير فوق جادة ضيقة تحيط بها أشجار الحور بأوراقها الخريفية الصفراء، لأصل الى طريق طيني واسع، قاتم اللون، تحيطه من الجانبين اعشاب وشجيرات تحجب الرؤية، لكني رغم ذلك رأيت في البعيد بضعة أكواخ بأشكالها المثلثة التي بدت مثل طيف، وقد انبثق من نوافذها ضوء احمر، نتيجة نيران الفلاحين المشتعلة. والتمعت فوهة تصريف المياه وبانت مياهها الصفراء المتلألأة التي إستقرت في قاعها جذور أشجار متعفنة.
كلما أطبق الظلام أكثر، كلما وضح التضاد أكثر بين لون التربة الداكن ولون السماء الفاتح الذي يغطيها مثل خيمة بيضاء، وكأنك ترى الاشياء بالأسود والابيض فقط، تخيل معي كيف أن بياض السماء يحاور سواد التربة. ووسط ذلك يظهر شخص بعيد يرعى أغناماً إمتزج صوفها بالطين وهي تتزاحم وتتماحك مع بعضها، حتى لتبدو مثل تماثيل طينية متحركة، لتسير بعدها بصعوبة أمام الراعي، محاولة الوصول الى الحضيرة التي يغمرها الظلام، بعد ان إنفتح بابها على مصراعيه وكأنه فتحة كهف مظلم، وفي ذات الوقت بانَ ضوء خفيف خلف المشهد، ليلتمع ظهر الخراف التي أخذت بالمسير خلف بعضها مثل عربات قطار، لتنتهي داخل الحضيرة وتتبعها أمرأة تترنح في مشيتها بطريقة تتلائم مع حركة الفانوس الذي يتدلى من يدها.
وفي عودة هذه الخراف الى حضيرتها، تنتهي سمفونية الجمال التي شاهدتها اليوم. كان يوماً مليئاً بالأصالة والفتنة، بل حلماً مصحوب بنغمات الحكمة والسحر، حتى نسيتُ كل شيء، بما في ذلك تناول الطعام. لم يخطر الأكل على بالي ألبتة. وآخر وجبة تناولتها، كانت عند العجوز صاحبة النول، والتي قدمت لي قطعة خبز ريفي وقدح قهوة. مضى اليوم كله وأنا أتنقل من شروق الشمس الى غروبها، وسط سمفونية من الجمال البكر.
وصلت البيت، وبعد أن أخذت مكاني قرب الموقد، شعرت فجأة بالجوع، بل بجوع شديد جداً. نعم، لقد نسيتُ ان افكر بأي شيء آخر وأنا وسط الجمال الذي اخذ مني كل اليوم. وكأنني وسط معرض يحتوي على مئة لوحة من الروائع. ورغم أني لم أخرج بغير بضعة رسومات، لكن ماشاهدته من سحر قد منحني قوة ودافعاً كبيراً للرسم.
حاول أن تكتب لي بسرعة. اليوم هو الجمعة ورسالتك لم تصلني بعد، وأنا متلهف لقراءة شيء منك. افهم التأخير، وأعزي ذلك لذهاب رسالتك الى هوخفين أولاً، لِتُحَوَّل بعدها الى عنواني هنا. ربما من الافضل ان ترسل لي النقود مرة كل شهر. في كل الأحوال، اكتب لي سريعاً فأنا متشوق لذلك.
أشد على يدك بقوة.
أخوك المحب فنسنت.
- هوامش المترجم:
* ماكس ليبرمان: رسام ألماني (١٨٤٧-١٩٣٥) تمثل أعماله إنتقالة من الواقعية الى الإنطباعية. إرتبط بصداقات عديدة مع الرسامين الهولنديين، حيث قضى سنوات عديدة في هولندا. لديه جملة شهيرة قالها حين سألته إمرأة (سيد ليبرمان، اريدك ان ترسم لي بورتريتاً جميلاً ويشبهني) فأجابها ( لا يمكن ذلك ياسيدتي. فـأما أن يكون البورتريت جميلاً أو أن يشبهك) وقد كرمته ألمانيا بوضع واحدة من لوحاته على عملتها.
* * المسافة بين آسين وزويللو (٢٨) كيلومتر، ويمكن قطع الطريق الريفي بينهما الآن خلال نصف ساعة بالسيارة. وقد قطع فنسنت هذه المسافة مشياً خلال ست ساعات.
****
- المصدر:
www.tatoopaper.com
لاهاي، كانون الثاني ١٨٧٣
تَيّو العزيز
لا تعرف مدى سعادتي بوصول اخبارك عن طريق العائلة، مدهش أن تسير أمورك بشكل جيد في بروكسل. حافظ على إنطباعك الاول عن المدينة، حينها ستشعر بأن كل شيء سيمضي على مايرام. أعرفُ واقدر جيداً كيف تكون البدايات غريبة وصعبة في أغلب الأحيان،
لكني اعرف أيضاً بأنَّكَ ذكي وماهر، لذلك ستمضي بكل ثبات نحو هدفك. أرجو حسب، أن تكتب لي كي اطمئن عليك واعرف كيف تسدد أجرة السكن.
بعد بدايتك الطيبة هذه، أتمنى أن تسير الامور الباقية بدون صعوبات. لقد كتب أبي يقول لي، بأن صداقتك قد توثقت مع سميت. انا ايضاً اعتقد بانه شخص رائع وسيساعدك كثيرا في خطواتك القادمةأيام الكريسمس كانت جميلة هنا، وقد قضينا وقتاً ممتعاً. لكن رغم ذلك، وفي غمرة سعادتي بكل ما يحيطني من دفء، كنت أفكر بك أيضاً، وأحاول أن أتَخَيَّلُ ما ستَطَّلِعُ عليه، وما سَيَمُرُّ أمام ناظريك في بروكسل، أرجو أن تكتب لي عن مشاهداتك وانطباعاتك، وبشكل خاص عن اللوحات التي تشاهدها وما تراه جميلاً منها، فهذا يهمني كثيراً كما تعرف.
مع بداية السنة انهمكت على نحو متواصل بالعمل، وهذا أعطاني شعوراً بأني سأمضي نحو الأشهر المتبقية من هذه السنة بخطوات واثقة. أودّ أن أخبرك أيضاً بأني بعد ان كنت أتقاضى خمسين فلورين في الشهر حصلت على خمسين أخرى كعلاوة، وبهذا اصبح راتبي الشهري مئة فلورين، أليس هذا أمراً مدهشاً؟ بعد هذه التطورات أستطيع القول بأني سأوفر كل ما احتاجه من متطلباتي واعيش بشكل جيد.
أنا سعيد لأنك تُمارسُ الآن في بروكسل، ذات العمل الذي أمارسه هنا. في كل لحظة أرى أن عملنا رائع وممتع. ربما يكون شاقاً في البداية، لكنك ستتعرف عليه وعلى تفاصيله مع مرور الوقت وستحبه أكثر. أرجو أن تسأل سميت إن كان ممكناً توفير كتاب رسومات الفنان كورو* الذي صَدَرَ بالليثوغراف عن مطبوعات أميل رينيه، وما هو ثمنه؟ لأن أحد زبائننا هنا في لاهاي قد طلب الحصول عليه، وأنا أعرف ان هذا الكتاب في متناول اليد عندكم.
سأبدأ يوم الأحد القادم برسم بورتريت لي وسأرسل لك تفاصيل عنه في رسالتي القادمة. بالمناسبة، أردت سؤالك، هل ذهبت الـى قصر دوكال؟ أتمنى أن تقوم بهذه الزيارة إن كان لديك بعض الوقت. ينبغي عليك أن تَطَّلِعَ على هذا المكان الجميل.
كيف أحوال العم هين؟ أتألم كثيراً بسبب حالته الصحية وأتمنى أن يتحسن وضعه في الأيام القادمة، تحيات حارة له ولعمتي أيضاً، إبلغهما بـأني أفكر بهما كثيراً. وبالنسبة للعم سنت*، هل جاءك الى بروكسل كما عرفت من الأهل أم تراه أجَّلَ سفرته؟
أودعك ياأخي الجميل وأطلب منك أن تعتني بنفسك جيداً.
كل المعارف هنا يرسلون لك تحياتهم ويتمنون لك أيام قادمة مليئة بالنجاح، لا تنسى أيضاً أن توصل تحياتي الى سميت وإدوارد، ولا تتأخر بأرسال اخبارك والكتابة لي.
اخوك المحب
فنسنت
*كورو: رسّام فرنسي (١٧٩٦-١٨٧٥) عُرِفَ بمناظره الطبيعية، وقد أثَّرَت أعماله على الانطباعيين وخاصة مونيه وبيسارو.
*العم سنت: تصغير ل (العم فنسنت) وهو عَم فنسنت وتَيّو، واسمه الكامل أيضاً (فنسنت) فان غوخ، وكان تاجراً للأعمال الفنية، وقد ساعدهما للعمل في هذا المجال.
***
* الرسالة الثانية
لاهاي ١٧ آذار ١٨٧٣
تَيّو العزيز
مرَّ وقت طويل لم يصلك فيه مني شيئاً، اعرف انك تنتظر ذلك. في الحقيقة أنا أيضاً متشوق لأَخبارَكَ وما يحدث معك، كذلك أفكر بصحة العم هين. حاول حين يسعفك الوقت ان تكتب لي عن كل التفاصيل.
أظنُّ بأنك عرفت بأني سأذهب الى لندن، نعم سأشد رحالي الى هناك قريباً جداً. أتمنى أن يترتب الوقت وتساعدنا الظروف كي نلتقي قبل أن أسافر. ربما سأذهب في أيام عيد الفصح الى هلفويرت، لكن هذا إيضاً يتعلق بما يحدث من مستجدات، لأَنِّي بانتظار إيترسون ولا أستطيع التحرك قبل مجيئه.
في لندن ستكون الحياة جديدة ومختلفة بالنسبة لي، حيث سأعيش في غرفة صغيرة، وهناك الكثير من الأشياء والصعوبات التي يجب أن أعتاد عليها، أشياء لم تشغلني كثيراً وتؤثر عليَّ هنا في لاهاي. لكن رغم ذلك، وبذات الوقت الذي يحزنني فيه ترك لاهاي، فأنا متشوق الى ابعد الحدود لرؤية لندن، لقد تقرر موضوع السفر، وسأنظر الى نصف القدح المليء وليس الى نصفه الفارغ.
أتمتع الآن بترديد بعض المفردات الانجليزية، هذه اللغة التي أفهمها جيداً عند السماع، لكن عليَّ ان أُحَسِّنُ التحدث بها ومعرفتها أكثر. أخبرتني آنّا* بأنك قد رسمت لنفسك بورتريت، ان كنت بحاجة الى ملاحظات أو إرشادات، فأنا حاضر. كيف هو العم هين؟ عرفت مع الأسف بأنه يشعر بآلام دائمة ووضعه لم يتحسن بعد. هل عمتي بجانبه؟ أنقل لهما محبتي وابلغهما بأنني أفكر بهما كثيراً.
أردت أن أسألك عن عملك. أنا متأكد بأنك منشغل كل الوقت بذلك. لدينا هنا ذات الانغماس في أعمالنا الكثيرة. وأجرة البيت؟ هل مازالت تستطيع توفيرها بسهولة؟ هذه المسألة من الاولويات طبعاً. عليك أن تكتب لي عن كل ذلك، وعن مشاهداتك أيضاً، وسأظل اطلب منك ذلك دائماً.
يوم الأحد سأذهب الى أمستردام، وقد مضى أسبوعان على زيارتي الأخيرة لها. سأُخَصصُ وقتي هناك لزيارة معرض مجموعة من فنانينا الهولنديين، والذي سَيُنْقَلُ للعرض في فيَنّا. كم أنا متحمسٌ لرؤية اللوحات، ولديَّ فضول حول نتائج المعرض وما سيعكسه فنانونا من اثر وانطباع في النمسا. كذلك أشعر بتوقٍ لرؤية أعمال الفنانين الإنجليز، لأننا هنا لا نَطَّلِعُ إلّا على القليل من لوحاتهم، فأغلب ما يرسمونه يبقى في إنجلترا ولا يصلنا.
في لندن سيتغير ويتطور عمل شركتنا (فان غوبيل) حيث ستتوقف عن بيع المنتجات الفنية الى الزبائن وستتحول الى توريد المنتجات الى المحلات، التي ستقوم بدورها ببيعها الى زبائنها. وكذلك سيتوسع عملنا في بيع الاعمال الفنية. نسيت ان اخبرك ان العم سنت سيأتي الى هنا نهاية هذا الشهر، سعيد لأني سألتقيه واستمع الى أفكاره حول العمل.
الجو الآن مدهش في لاهاي، وانا أتمتع بذلك الى أبعدِ حد. الأحد الماضي كنت مع وليم، وقد قضينا وقتاً هادئاً في مركب وسط الماء، تحدثنا كثيراً وجذَّفنا بمتعة ونحن ننسابُ بين الماء والشمس. اشعر احياناً بأن عليَّ ان ابقى هذا الصيف في لاهاي، لكني سأدع الأمور تمضي كما هو مُخَطَّطٌ لها. نسيت ان اقول لك ان العمة فَيْ تسأل عنك هي وكل عائلة هانيبيك*.
والآن أودعك بمحبة وأرجو ان تكتب لي لأطمئن عليك. أُوصِل سلامي ايضاً الى عمي وعمتي وكذلك الى سميت وإدوارد.
اخوك المحب
فنسنت
فاتني ان اخبرك بأن السيد والسيدة روس، وكذلك ادوارد هنا، يبلغونك تحياتهم.
استلمت رسالتك الآن قبل ان ارسل لك رسالتي هذه، لقد أدهشني كثيراً البورتريت الذي أرفقته بالرسالة، لقد نجحت بذلك ايها الولد الكبير. انا سعيد جداً بذلك.
اسمع يا تَيّو، اريد ان انصحك مرة أخرى بشأن تدخين الغليون، انه ممتع بطريقة لا تصدق. وانت تدخن الغليون، تشعر بأنك تُحَلِّقُ في عالم آخر، انك تطير، كما اشعر في هذه اللحظة.
* آنّا: أخت فنسنت وهي تصغره بسنتين (١٨٥٥- ١٩٣٠) وكانت تراسله ايضاً.
* عائلة هانيبيك: عائلة تربطهم صلة قرابة من بعيد بعائلة فنسنت الذي كان يحب ابنتهم كارولين، بينما كان تَيّو يحب اختها آنيت التي توفيت وهي صبية سنة ١٨٧٥ وحزن عليها حزناً كبيراً.
********
باريس، ١٥ تموز ١٨٧٥
تَيّو العزيز
أكتب لك لأخبرك بأن عمي فنسنت كان هنا مرة أخرى، وقد قضيتُ معه بعض الوقت، حيث تحدثنا حول الكثير من الأشياء، ومنها تفاصيل العمل. وقد سألته عن إمكانية إنتقالك الى باريس،
عسى أن يكون ذلك متاحاً له هذه الايام. لكنه لم يكن متحمساً لسماع هذه الفكرة الآن، ويفضل بقائك حالياً في لاهاي. لكني مع ذلك، سأبقى أحاول معه بكل تأكيد، وسأظل أمهد لخطواتك بإتجاه باريس. على كل حال، أرجو ان تطمئن ولا تهتم كثيراً. هو سيفكر بذلك بالتأكيد، مادمتُ قد وضعت الموضوع في رأسه. وأنا متأكد بأن العم سيحدثكَ حول ذلك عند عودته الى لاهاي. أطلب منك فقط حينها، ان تدعه يقول ما يريد، ولا تخبره بأني قد حدَّثتُكَ عن الموضوع، حاول قدر الامكان ان لا تتحدثَ عني إن رأيتَ ذلك يبدو مقحماً. ربما تعرف ان عمي شخص ذكي جداً. نعم، انه لمّاح وبارع في صياغة الكلام ومعرفة المقاصد. أتذكرُ انه قال لي في الشتاء الماضي حين كان هنا (اسمع يافنسنت، ربما ان معرفتي تبدو وكأنها لا تتعدى الأشياء العامة والتقليدية، لكني أُوكد لك بأني لست عارفاً بكل الاشياء التقليدية فقط، بل أفهم ماهيتها وتفاصيلها وكل تقلباتها). لا اتذكر الآن بالضبط ان كان قد استخدم نفس هذه المفردات، ام انه قال كلمات مقاربة لها. هل تعلم ان الشاعر دي موسيه* كان قد كتب ذات مرة (في داخل كلٍ منّا شاعر نائم، لكنه يمكن ان يستيقظ في كل لحظة). وبالنسبة للعم فنسنت، فأنا أرى ذلك فيه دائماً وبوضوح. أقول لك ذلك كي تعرف انك تتعامل معَ مَنْ، وعليك ان تحترس بعض الشيء بإختيار كلماتك. وان كان عليَّ ان اوضح لك شخصيته اكثر، فهو معجب بشكل لا مثيل له بلوحة (الأوهام المفقودة) للرسام غلير*، وهذا ايضاً يقول الكثير حول شخصيته. فأن قررت أَن تسأله حول انتقالك من لاهاي، فحاول ان تطلب ذلك بهدوء، وتُبَيِّن له رغبتك بالانتقال الى هنا او الى لندن.
شكراً لرسالتك التي إستلمتها هذا الصباح، وممتن لإرسالك كتاب روكيرت*. هل لديك قصائد اخرى له؟ أود فعلاً التعرف أكثر على شعره. في اقرب فرصة سأرسل لك الكتاب المقدس باللغة الفرنسية وكذلك كتاب تقليد المسيح، وهذا الاخير يظهر في اللوحة التي رسمها فيليب دي شامباين، والمعروضة في اللوفر، حيث رسم امرأة بهيئة راهبة. ويظهر الكتاب موضوعاً على الكرسي الذي بجانبها. أوصيك أن تنتبه لما يحدث حولك وتهتم بنفسك جيداً ايها الفتى الرائع. لقد كتب لي أبي ذات مرة قائلاً (كن طيباً مثل حمامة، وحذراً مثل أفعى)، أنت ايضاً عليك أن تضع هذه الكلمات نصب عينيك، وأنت تسير في دروب هذه الحياة المتقلبة. هل لديك في المحل صور للوحات ميسونيه*؟ تأملها جيداً، وخاصة لوحتيه (رجل يدخن قرب النافذة) و (شباب يتناولون الغداء) عندها ستعرف قصدي جيداً، وستستلهم منها الكثير.
أخوك المحب
فنسنت
* هوامش المترجم:
- الفريد دي موسيه: شاعر رومانسي فرنسي (١٨١٠-١٨٥٧)
- تشارلس غلير: رسام سويسري (١٨٠٦-١٨٧٤) عاش في باريس، وكان استاذاً لكل من مونيه ورينوار وسيسلي، الذين اعطاهم دروساً في مرسمه قبل ان يبتكروا المدرسة الأنطباعية ويحدثون ثورة في الرسم. ولوحته الأهام المفقودة أخذَت اسمها بتأثير من رواية بلزاك التي تحمل نفس الاسم، ويسميها البعض(الغروب)، وهذه اللوحة التي تحمل الكثير من الشعرية والرمزية والغموض، رسمها غلير سنة ١٨٤٣ حيث يظهر فيها مركباً على ضفاف النيل وقت الغروب، مليئاً بنساء يمارسن بعض الطقوس والاحتفالات.
- فردريك روكيرت: شاعر ومترجم وعالم لغة ألماني (١٧٨٨-١٨٦٦) وقد ألَّفَ الكثير من الموسيقيون موسيقى عظيمة حول قصائده، مثل شوبرت وبرامز وآخرين.
- أرنست موسينيه: رسام فرنسي كلاسيكي (١٨١٥-١٨٩١) اهتم برسم المحاربين والفرسان والمواضيع التاريخية.
*****
باريس ١١ تشرين الاول ١٨٧٥
تَيّو العزيز
شكراً لرسالتك التي وصلتني هذا الصباح. هذه المرة، قررت أن أرد عليك بسرعة، وليس مثل المرات السابقة التي أتأخر فيها بالكتابة اليك. سأكتب لك اليوم عن حياتي وكيف تسير الامور معي هنا. أسكنُ الآن كما تعلم في حي مونمارتر*، وأوِّدُ أن أحدثك عن شاب آخر يعيش معي في نفس البيت. أنه انجليزي، يعمل معنا في المتجر وعمره ثمانية عشر عاماً. أبوه تاجر أعمال فنية في لندن، ويحاول أن يمهد له الطريق كي يحل محله فيما بعد. لكن قبل الشروع بذلك، عليه أن يتعلم الكثير. فقبل مجيئه الى باريس، لم تكن لديه تجارب خارج حدود بيتهم في لندن. وفي الاسابيع الأولى له هنا، كان يفعل أشياء غير مألوفة بالنسبة لي، فهو مثلاً يقوم مع كل وجبة طعام، بإلتهام خمس أو ست قطع من الخبز مع الأكل (الخبز هنا رخيص جداً) بعدها يكمل وجبته بكمية كبيرة من التفاح والكمثري، يفعل ذلك بشراهة بادية على ملامح وحركات وجهه، لكنه رغم كل ذلك نحيف كلوحِ خشب. لديه صَفَّي اسنان قوية وبارزة، وشفتين حمراوين، ممتلئتين ونضرتين، وعينين صافيتين مثل خرزتي قلادة، بينما تبرز على جانبي وجهه إذنان كبيرتان حمراوان، تبدوان وكأنهما مُقحمَتَين أو وُضِعَتا بشكلٍ اعتباطي، ويزيد من هذا الانطباع، رأسه الحليق الذي كشفَ عن ظهور شعر أسود في بدايةِ نموهِ. ليس هناك حاجة لأثبت لك بأنّه لا يشبه النساء الجميلات اللواتي يرسمهن فيليب دي شامباين.
لا أخفيك بأنه كان في البداية مصدر تهكم بالنسبة لي، لأني كنت أراه غريباً وربما مثيراً للسخرية بعض الشيء، لكن مع مرور بعض الوقت، نال محبتي واهتمامي. أما الآن، فبإستطاعتي أن أؤكد لك سعادتي الكبيرة وأنا أقضي المساء بصحبته في البيت. إنه شاب بسيط، لكنه نقي السريرة وطيب القلب، وهو فوق هذا كله يعمل بنشاطٍ كبير وهِمَّة عالية. نعودُ من العمل سوية كل يوم، وهو يُفَضِّل أن يتناول طعام العشاء معي في غرفتي، وبعد قليلٍ من الاسترخاء، أقرأ شيئاً من الكتاب المقدس. في أحيان كثيرة يستمع اليًّ وأنا اقرأ، بوجهه الشارد وأذنيه اللتان تبدوان اكثر احمراراً وشفافية بفعل الضوء المنبعث من خلفهِ عبر باب الغرفة. صديقي هذا ينهض باكراً من سريره كل يوم، وبعفويته التي اعرفها يدخل غرفتي بين الساعة الخامسة والسادسة صباحاً وهو يتحسس الحيطان، ليوقظني من نومي العميق، قبل أن نتناول الافطار في غرفتي ايضاً. ونقوم بعدها بترتيب بعض التفاصيل في البيت. لننطلق معاً قبل الساعة الثامنة نحو مكان العمل.
في الايام الاخيرة صار معتدلاً في الاكل، وبدأ بجمع الصور والمطبوعات التي تضم لوحات وأعمال فنية، وقد ساعدته كثيراً بهذا الامر. ذهبنا البارحة معاً الى لكسمبورغ، وهناك أريتَهُ مجموعة من اللوحات التي أحبها، وتحدثت له عن الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالفن. لقد ملأه الفرح وهو يشاركني هذه التجربة. لكن أقول لك الحق، ان هذا الشاب البسيط فاجئني بِحِسِّهِ المميز في اكتشاف مكامن الجمال في اللوحات، إنه بصراحة يعرف أكثر من العديد من المتخصصين بالفن.
لقد توقفنا كثيراً أمام لوحة يوليس بريتون (عودة غلانيوس) ولوحة برينير (شتاء الحقول) ولوحة كابان (بُرْكة في مساء خريفي) ولوحة بريون (حجاج سانت أوديل) ولوحة دوفرغيه (فلّاح بصحبة اولاده) ولوحة ميليه (كنيسة غريفيل) ولوحة غلير (الملاريا)، وهناك لوحة رائعة لا يحضرني اسم رسامها الآن، يظهر فيها مجموعة من الرهبان عند إستقبالهم شخصاً غريباً في الدير، وقد اكتشفوا ان هذا الغريب ما هو سوى السيد المسيح، حيث كُتِبَ على جدار الدير (الرجل الذي يقوده الله) ثم تتبعها جملة (مَنْ يستقبلك، يستقبلهُ الله).
أما بخصوص عملي هنا، فأنا أمارسه بأفضل وجه، والعمل لا ينتهي كما تعرف، وهو يمضي طالما تمضي بِنَا الحياة وتستمر. هل فعلتَ ما طلبته منك بشأن كتب ميشيليه* ورينان*؟ هل تخلصتَ منها كما نصحتك؟ أعتقد بأنك ستشعر بطمأنينة بعد ذلك. أعرف بأنك سوف لن تنسى بسهولة ما كتبه ميشيليه حول النساء اللواتي رسمهن شامباين، كذلك ليس من السهولة ان تضع كتابات رينان خلف ظهرك وتمضي! لكن مع ذلك تخلص من كتبهما، فذلك سيجلب لك راحة البال. فإن وَجَدتَ عسلاً فهذا لا يعني بأنك سوف تترك كل شيءٍ، لتبقى تأكل منه الى الأبد، ودافعك الوحيد هو عدم استطاعتك مقاومة طعمه اللذيذ ورغبتك في الأكل.
ربما الأفضل لك الآن، هو ان تشغل نفسك بقراءة كتب أركمان- شاتريان* فعسى ان تكون مفيدة لك في هذا الوقت. إهتَمَّ بطعامك جيداً، وإلتَمِس لي العذر على ما أطلبه منك أحياناً (فلسنا بحاجة الى ان نُبقي قوسنا مُهَيئاً دائماً للرماية)*. أنت تعرف اننا نتعلم الكثير، حتى من الاشياء السيئة. وبكل الاحوال، أنت تستطيع ان تميز دائماً بين الجمال والقبح، وبين النور والظلام. فإمضي في طريقك المستقيم، وسيشملك الرب من السماء بعنايته وعطفه. فنحن بحاجة الى ذلك يا أخي، كي تمضي حياتنا بسكينة. والرب هو من يقودنا في النهاية.
أكتب لي بسرعة وخاصة عن الاشياء المهمة التي تحصل معك. سلامي الى العائلة وتحياتي للسيد ترستيخ وكل المعارف. اعتني بنفسك قدر ماتستطيع، وإبقني جدير بثقتك.
اخوك المحب
فنسنت
- هوامش المترجم:
* مونمارتر: حي من أشهر احياء مدينة باريس، يقع على مرتفع خارج مركز المدينة، وقد عاش فيه اعظم فناني باريس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. اصبح الآن مكاناً سياحياً، حيث يتمركز في وسطه رساموا البورتريهات السريعة التي تستهوي السائحين.
* جول ميشيليه: مؤرخ فرنسي (١٧٩٨-١٨٧٤)، عُرِفَ بإسلوبه البارع ومناهضته للكتاب المقدس. وهو اول من استخدم وعرَّفَ كلمة النهضة. وقد استخدم فنسنت فيما بعد كلماته (كيف لنا ان نسمح بوجود امرأة وحيدة ومهجورة على هذه الارض) حيث كتبها على حاشية رسمه التخطيطي (الحزن).
* أرنست رينان: كاتب وفيلسوف فرنسي (١٨٢٣-١٨٩٢) اشتهر بآراءه التي تُعِدُّ المسيح انساناً عادياً مثل بقية الناس، وأن الكتاب المقدس يجب أن يخضع للبحث والتقصي مثل أيَّة وثيقة تاريخية.
* اميل اركمان - الكسندر شاتريان: هما كاتبان فرنسيان من القرن التاسع عشر، قاما بكتابة الكثير من المؤلفات معاً، وقد تخصصا بكتابة القصص ذات الاجواء العسكرية، وقصص الاشباح، والحكايات المشوقة التي تثير الفزع، وكانا من اكثر الكتّاب شعبية.
* قول هولندي شائع، يُقْصَدُ به، التصرف بعفوية وعدم تحميل الامور اكثر من طاقتها.
****
باريس، ١٥ تموز ١٨٧٥
تَيّو العزيز
أكتب لك لأخبرك بأن عمي فنسنت كان هنا مرة أخرى، وقد قضيتُ معه بعض الوقت، حيث تحدثنا حول الكثير من الأشياء، ومنها تفاصيل العمل. وقد سألته عن إمكانية إنتقالك الى باريس،
عسى أن يكون ذلك متاحاً له هذه الايام. لكنه لم يكن متحمساً لسماع هذه الفكرة الآن، ويفضل بقائك حالياً في لاهاي. لكني مع ذلك، سأبقى أحاول معه بكل تأكيد، وسأظل أمهد لخطواتك بإتجاه باريس. على كل حال، أرجو ان تطمئن ولا تهتم كثيراً. هو سيفكر بذلك بالتأكيد، مادمتُ قد وضعت الموضوع في رأسه. وأنا متأكد بأن العم سيحدثكَ حول ذلك عند عودته الى لاهاي. أطلب منك فقط حينها، ان تدعه يقول ما يريد، ولا تخبره بأني قد حدَّثتُكَ عن الموضوع، حاول قدر الامكان ان لا تتحدثَ عني إن رأيتَ ذلك يبدو مقحماً. ربما تعرف ان عمي شخص ذكي جداً. نعم، انه لمّاح وبارع في صياغة الكلام ومعرفة المقاصد. أتذكرُ انه قال لي في الشتاء الماضي حين كان هنا (اسمع يافنسنت، ربما ان معرفتي تبدو وكأنها لا تتعدى الأشياء العامة والتقليدية، لكني أُوكد لك بأني لست عارفاً بكل الاشياء التقليدية فقط، بل أفهم ماهيتها وتفاصيلها وكل تقلباتها). لا اتذكر الآن بالضبط ان كان قد استخدم نفس هذه المفردات، ام انه قال كلمات مقاربة لها. هل تعلم ان الشاعر دي موسيه* كان قد كتب ذات مرة (في داخل كلٍ منّا شاعر نائم، لكنه يمكن ان يستيقظ في كل لحظة). وبالنسبة للعم فنسنت، فأنا أرى ذلك فيه دائماً وبوضوح. أقول لك ذلك كي تعرف انك تتعامل معَ مَنْ، وعليك ان تحترس بعض الشيء بإختيار كلماتك. وان كان عليَّ ان اوضح لك شخصيته اكثر، فهو معجب بشكل لا مثيل له بلوحة (الأوهام المفقودة) للرسام غلير*، وهذا ايضاً يقول الكثير حول شخصيته. فأن قررت أَن تسأله حول انتقالك من لاهاي، فحاول ان تطلب ذلك بهدوء، وتُبَيِّن له رغبتك بالانتقال الى هنا او الى لندن.
شكراً لرسالتك التي إستلمتها هذا الصباح، وممتن لإرسالك كتاب روكيرت*. هل لديك قصائد اخرى له؟ أود فعلاً التعرف أكثر على شعره. في اقرب فرصة سأرسل لك الكتاب المقدس باللغة الفرنسية وكذلك كتاب تقليد المسيح، وهذا الاخير يظهر في اللوحة التي رسمها فيليب دي شامباين، والمعروضة في اللوفر، حيث رسم امرأة بهيئة راهبة. ويظهر الكتاب موضوعاً على الكرسي الذي بجانبها. أوصيك أن تنتبه لما يحدث حولك وتهتم بنفسك جيداً ايها الفتى الرائع. لقد كتب لي أبي ذات مرة قائلاً (كن طيباً مثل حمامة، وحذراً مثل أفعى)، أنت ايضاً عليك أن تضع هذه الكلمات نصب عينيك، وأنت تسير في دروب هذه الحياة المتقلبة. هل لديك في المحل صور للوحات ميسونيه*؟ تأملها جيداً، وخاصة لوحتيه (رجل يدخن قرب النافذة) و (شباب يتناولون الغداء) عندها ستعرف قصدي جيداً، وستستلهم منها الكثير.
أخوك المحب
فنسنت
- هوامش المترجم:
* الفريد دي موسيه: شاعر رومانسي فرنسي (١٨١٠-١٨٥٧)
* تشارلس غلير: رسام سويسري (١٨٠٦-١٨٧٤) عاش في باريس، وكان استاذاً لكل من مونيه ورينوار وسيسلي، الذين اعطاهم دروساً في مرسمه قبل ان يبتكروا المدرسة الأنطباعية ويحدثون ثورة في الرسم. ولوحته الأهام المفقودة أخذَت اسمها بتأثير من رواية بلزاك التي تحمل نفس الاسم، ويسميها البعض(الغروب)، وهذه اللوحة التي تحمل الكثير من الشعرية والرمزية والغموض، رسمها غلير سنة ١٨٤٣ حيث يظهر فيها مركباً على ضفاف النيل وقت الغروب، مليئاً بنساء يمارسن بعض الطقوس والاحتفالات.
* فردريك روكيرت: شاعر ومترجم وعالم لغة ألماني (١٧٨٨-١٨٦٦) وقد ألَّفَ الكثير من الموسيقيون موسيقى عظيمة حول قصائده، مثل شوبرت وبرامز وآخرين.
* أرنست موسينيه: رسام فرنسي كلاسيكي (١٨١٥-١٨٩١) اهتم برسم المحاربين والفرسان والمواضيع التاريخية.
****
باريس ١١ تشرين الاول ١٨٧٥
تَيّو العزيز
شكراً لرسالتك التي وصلتني هذا الصباح. هذه المرة، قررت أن أرد عليك بسرعة، وليس مثل المرات السابقة التي أتأخر فيها بالكتابة اليك. سأكتب لك اليوم عن حياتي وكيف تسير الامور معي هنا. أسكنُ الآن كما تعلم في حي مونمارتر*، وأوِّدُ أن أحدثك عن شاب آخر يعيش معي في نفس البيت. أنه انجليزي، يعمل معنا في المتجر وعمره ثمانية عشر عاماً. أبوه تاجر أعمال فنية في لندن، ويحاول أن يمهد له الطريق كي يحل محله فيما بعد. لكن قبل الشروع بذلك، عليه أن يتعلم الكثير. فقبل مجيئه الى باريس، لم تكن لديه تجارب خارج حدود بيتهم في لندن. وفي الاسابيع الأولى له هنا، كان يفعل أشياء غير مألوفة بالنسبة لي، فهو مثلاً يقوم مع كل وجبة طعام، بإلتهام خمس أو ست قطع من الخبز مع الأكل (الخبز هنا رخيص جداً) بعدها يكمل وجبته بكمية كبيرة من التفاح والكمثري، يفعل ذلك بشراهة بادية على ملامح وحركات وجهه، لكنه رغم كل ذلك نحيف كلوحِ خشب. لديه صَفَّي اسنان قوية وبارزة، وشفتين حمراوين، ممتلئتين ونضرتين، وعينين صافيتين مثل خرزتي قلادة، بينما تبرز على جانبي وجهه إذنان كبيرتان حمراوان، تبدوان وكأنهما مُقحمَتَين أو وُضِعَتا بشكلٍ اعتباطي، ويزيد من هذا الانطباع، رأسه الحليق الذي كشفَ عن ظهور شعر أسود في بدايةِ نموهِ. ليس هناك حاجة لأثبت لك بأنّه لا يشبه النساء الجميلات اللواتي يرسمهن فيليب دي شامباين.
لا أخفيك بأنه كان في البداية مصدر تهكم بالنسبة لي، لأني كنت أراه غريباً وربما مثيراً للسخرية بعض الشيء، لكن مع مرور بعض الوقت، نال محبتي واهتمامي. أما الآن، فبإستطاعتي أن أؤكد لك سعادتي الكبيرة وأنا أقضي المساء بصحبته في البيت. إنه شاب بسيط، لكنه نقي السريرة وطيب القلب، وهو فوق هذا كله يعمل بنشاطٍ كبير وهِمَّة عالية. نعودُ من العمل سوية كل يوم، وهو يُفَضِّل أن يتناول طعام العشاء معي في غرفتي، وبعد قليلٍ من الاسترخاء، أقرأ شيئاً من الكتاب المقدس. في أحيان كثيرة يستمع اليًّ وأنا اقرأ، بوجهه الشارد وأذنيه اللتان تبدوان اكثر احمراراً وشفافية بفعل الضوء المنبعث من خلفهِ عبر باب الغرفة. صديقي هذا ينهض باكراً من سريره كل يوم، وبعفويته التي اعرفها يدخل غرفتي بين الساعة الخامسة والسادسة صباحاً وهو يتحسس الحيطان، ليوقظني من نومي العميق، قبل أن نتناول الافطار في غرفتي ايضاً. ونقوم بعدها بترتيب بعض التفاصيل في البيت. لننطلق معاً قبل الساعة الثامنة نحو مكان العمل.
في الايام الاخيرة صار معتدلاً في الاكل، وبدأ بجمع الصور والمطبوعات التي تضم لوحات وأعمال فنية، وقد ساعدته كثيراً بهذا الامر. ذهبنا البارحة معاً الى لكسمبورغ، وهناك أريتَهُ مجموعة من اللوحات التي أحبها، وتحدثت له عن الكثير من التفاصيل التي تتعلق بالفن. لقد ملأه الفرح وهو يشاركني هذه التجربة. لكن أقول لك الحق، ان هذا الشاب البسيط فاجئني بِحِسِّهِ المميز في اكتشاف مكامن الجمال في اللوحات، إنه بصراحة يعرف أكثر من العديد من المتخصصين بالفن.
لقد توقفنا كثيراً أمام لوحة يوليس بريتون (عودة غلانيوس) ولوحة برينير (شتاء الحقول) ولوحة كابان (بُرْكة في مساء خريفي) ولوحة بريون (حجاج سانت أوديل) ولوحة دوفرغيه (فلّاح بصحبة اولاده) ولوحة ميليه (كنيسة غريفيل) ولوحة غلير (الملاريا)، وهناك لوحة رائعة لا يحضرني اسم رسامها الآن، يظهر فيها مجموعة من الرهبان عند إستقبالهم شخصاً غريباً في الدير، وقد اكتشفوا ان هذا الغريب ما هو سوى السيد المسيح، حيث كُتِبَ على جدار الدير (الرجل الذي يقوده الله) ثم تتبعها جملة (مَنْ يستقبلك، يستقبلهُ الله).
أما بخصوص عملي هنا، فأنا أمارسه بأفضل وجه، والعمل لا ينتهي كما تعرف، وهو يمضي طالما تمضي بِنَا الحياة وتستمر. هل فعلتَ ما طلبته منك بشأن كتب ميشيليه* ورينان*؟ هل تخلصتَ منها كما نصحتك؟ أعتقد بأنك ستشعر بطمأنينة بعد ذلك. أعرف بأنك سوف لن تنسى بسهولة ما كتبه ميشيليه حول النساء اللواتي رسمهن شامباين، كذلك ليس من السهولة ان تضع كتابات رينان خلف ظهرك وتمضي! لكن مع ذلك تخلص من كتبهما، فذلك سيجلب لك راحة البال. فإن وَجَدتَ عسلاً فهذا لا يعني بأنك سوف تترك كل شيءٍ، لتبقى تأكل منه الى الأبد، ودافعك الوحيد هو عدم استطاعتك مقاومة طعمه اللذيذ ورغبتك في الأكل.
ربما الأفضل لك الآن، هو ان تشغل نفسك بقراءة كتب أركمان- شاتريان* فعسى ان تكون مفيدة لك في هذا الوقت. إهتَمَّ بطعامك جيداً، وإلتَمِس لي العذر على ما أطلبه منك أحياناً (فلسنا بحاجة الى ان نُبقي قوسنا مُهَيئاً دائماً للرماية)*. أنت تعرف اننا نتعلم الكثير، حتى من الاشياء السيئة. وبكل الاحوال، أنت تستطيع ان تميز دائماً بين الجمال والقبح، وبين النور والظلام. فإمضي في طريقك المستقيم، وسيشملك الرب من السماء بعنايته وعطفه. فنحن بحاجة الى ذلك يا أخي، كي تمضي حياتنا بسكينة. والرب هو من يقودنا في النهاية.
أكتب لي بسرعة وخاصة عن الاشياء المهمة التي تحصل معك. سلامي الى العائلة وتحياتي للسيد ترستيخ وكل المعارف. اعتني بنفسك قدر ماتستطيع، وإبقني جدير بثقتك.
اخوك المحب
فنسنت
- هوامش المترجم:
* مونمارتر: حي من أشهر احياء مدينة باريس، يقع على مرتفع خارج مركز المدينة، وقد عاش فيه اعظم فناني باريس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. اصبح الآن مكاناً سياحياً، حيث يتمركز في وسطه رساموا البورتريهات السريعة التي تستهوي السائحين.
*جول ميشيليه: مؤرخ فرنسي (١٧٩٨-١٨٧٤)، عُرِفَ بإسلوبه البارع ومناهضته للكتاب المقدس. وهو اول من استخدم وعرَّفَ كلمة النهضة. وقد استخدم فنسنت فيما بعد كلماته (كيف لنا ان نسمح بوجود امرأة وحيدة ومهجورة على هذه الارض) حيث كتبها على حاشية رسمه التخطيطي (الحزن).
* أرنست رينان: كاتب وفيلسوف فرنسي (١٨٢٣-١٨٩٢) اشتهر بآراءه التي تُعِدُّ المسيح انساناً عادياً مثل بقية الناس، وأن الكتاب المقدس يجب أن يخضع للبحث والتقصي مثل أيَّة وثيقة تاريخية.
* اميل اركمان - الكسندر شاتريان: هما كاتبان فرنسيان من القرن التاسع عشر، قاما بكتابة الكثير من المؤلفات معاً، وقد تخصصا بكتابة القصص ذات الاجواء العسكرية، وقصص الاشباح، والحكايات المشوقة التي تثير الفزع، وكانا من اكثر الكتّاب شعبية.
* قول هولندي شائع، يُقْصَدُ به، التصرف بعفوية وعدم تحميل الامور اكثر من طاقتها.
****
أمستردام ٢٧ تموز ١٨٧٧
تيّو العزيز
شكراً على رسالتك الأخيرة. سمعتُ من الأهل بأنك قد زرتَ مَوف في مرسمه. أظنهُ كان يوماً مميزاً بالنسبة لك، أرجو أن أسمع منك عن تفاصيل هذا اللقاء في أقرب فرصة. ستجد مع هذه الرسالة ثلاثة أعمال ليثوغرافية صغيرة، مساهمة مني _وأرجو أن تكون جيدة_ لمجموعتك من الأعمال الطباعية.
العمل الأول للفنان بوسبوم* والأثنان الآخران للفنان فيسمبروخ*، وجدتها مطبوعة ضمن كتاب اشتريته هذا الصباح. أظن أن بوسبوم قد رسم هنا الكنيسة التي في منطقة سخيفيننغن، هل ترى هذا ايضاً؟ العمل الآخر هو للكنيسة الكبيرة في بريدا، أما الثالث، فقد أعاد فيسمبروخ فيه رسم لوحته التي عُرِضَتْ في معرض باريس. وبالنسبة لأعمال فيسمبروخ، فهي تثير إهتمامي دائماً بسبب رهافتها، إنها تَمِسُّ مشاعري كلما أتطلع اليها. لا أعرف إن كنتَ تراها أيضاً بالطريقة ذاتها. في كل الأحوال، إمض في طريقك لإحتضان كل عمل غرافيكي يتاح لك، سواء كان مطبوعاً بشكل منفصل أو تجده ضمن كتاب.
بالنسبة لي فقد أعطيت إهتمامي في الفترة الأخيرة للمواضيع اللاتينية والاغريقية، كذلك أُرَكِّزُ كثيراً على المواضيع الأخرى التي تتعلق بالتاريخ. وهذه الأيام بالتحديد إنشغلت بتفاصيل حول الاصلاح الديني، وهذا سيأخذ مني بعض الوقت. وقد تعرفت الآن على شابٍ نجح قبل بضعة أيام في امتحان القبول بجامعة لايدن، وهذا ليس سهلاً كما تعرف، وقد تحدث معي بنفسه عن نوع الاسئلة والامتحان الذي تجاوزه بتفوق. أنا متأكد بأني سأوفق أيضاً بهذا الامتحان، وأرجو أن يستجيب الله لدعائي. وقد تحدثتُ مع الاستاذ مندس، وكان متفائلاً بهذا الخصوص، وأكَّدَ أن بإمكاني الظفر بذلك بعد ثلاثة أشهر من متابعة دروسه. لا أعرف إن كنت سأستجيب لذلك أم لا، لأني أرى أن دروسه الاغريقية التي يعطيها أقرب للعامة وتغلب عليها شعبية حارات امستردام وبالذات لكنة أهالي يوردان* وهم يتجولون في ظهيرة صيف قائظ وسط العاصمة. لا تشغل بالك، فهناك الكثير من الاساتذة البارعين والمُجَرَبينَ الذين يمكنهم المساعدة في ذلك. والمسألة في كل الأحوال تحتاج الى مثابرة، إنها جديّة ولا تشبه التجوال على الساحل أو التنزه بين حقول القمح في براباند. قصدتُ من ذلك هو إننا يجب أن لا نتوقف، نمضي الى الأمام مادمنا على قيد الحياة ونبقى طموحين كما يقول العم يان.
قبل يومين تعثر طفل أثناء لعبه على جسر كاتنبروخ وسقط في الماء، وقتها شاهد العم يان ذلك، وفي لمح البصر أخذ قارباً من مرفأ تصليح القوارب وانتَشَلَهُ بصعوبة من الماء، قمتُ بعدها مع شابين من طبابة المرفأ بتجفيف الصبي وتدفئته، لكن دون فائدة مع الأسف، فقد مات الصبي ولم نستطع فعل أي شيء حيال ذلك. وقد حضر والده الذي يعمل مُشَغِّلاً لمحركات السفن ولَفَّهُ ببطانية صوفية قديمة ومضى به الى البيت. بعد ساعة ونصف إنشغل الناس هنا ايضاً بإنتشال طفلة صغيرة زلت قدمها وسقطت في ذات النهر، لكن لحسن الحظ، انهم استطاعوا انقاذها في اللحظة المناسبة.
في المساء ذهبتُ الى عائلة الطفل الذي غرق. كان بيتهم مظلماً، بينما جثمان الطفل يتمدد برفق على سرير صغير في غرفة جانبية، وكم بدا لي ودوداً رغم شحوبه. ما أثار ألمي وقتها، هو أن هذا الصبي الذي كان يضيء البيت ببهجته، قد إنطفأ نوره وبريقه، وغدا أهله في حالة ذهول وتوسل وانكسار. هنا رأيت كيف تُطيحُ خشونة الحياة بالكرامة وتُهينُ عزة النفس. لقد تأثرتُ حقاً بمنظر الأم المُطرِقَة والمفجوعة وسط ظلام البيت. بعدها تجولتُ كثيراً، نحو منتصف الليل، لأخفف من وطأة العتمة التي ملأت نفسي. وللتقليل من هذه المشقة، إستعدتُ صورة العم يان وهو يحاول إنقاذ الطفل، وقد التمعت عيناه وظهرت العزيمة على ملامح وجهه الذي لفحته الشمس. لحظتها رأيت عمي على حقيقته وبانَ لي معدنه الطيب. صورته تلك المليئة بالإيثار، أعادت لي ثقتي بالناس، وإستعدتُ معها رباطة جأشي.
في صباح يوم الاحد قمت بجولة طويلة، بدأتها من كنيسة الشمال الى جزيرة بيكرس، بعدها عبرتُ السد لأصل الى آي*، لأكمل طريقي بعدها نحو كنيسة آيلاند، حيث إلتقيت بالعم ستريكر. عدنا سوية بعد ذلك، وقد مضى الوقت سريعاً، وقررنا أن نكرر الجولة في الاسبوع القادم.
اكتب لي وحدثني عنك وعن احوالك يارجل، أغلب الوقت كنتُ مشغولاً بك. أدعو الله أن يساعدنا ويجعلنا في أفضل حال. مدهش إنك صرت أكثر تعلقاً بالفن والفنانين. أنا أيضاً كما تعرف ملتصق ومتمسك بعالم الفن وما يصنعه الفنانون. في النهاية فإن الأشياء الجميلة هي التي تنتصر وتدوم، سواء كانت هنا أو في أي مكان آخر. علينا فقط أن نسعى، والله يساعدنا في النهاية.
الآن اقترب وقت ذهابي الى العمل، لكني في كل الاحوال، سأملأ هذه الورقة بالكتابة. آنّا ذهبت كما تعرف الى لايدن، وستأتي هذه الأيام الى امستردام بصحبة الشاب الذي أحبته، صهرنا المستقبلي. كم أنا متشوق للقاء هذا الشاب الذي أحبته أختنا. لقد كتب لي أبي بحماسة وشغف حول علاقتها بهذا الشاب، وهو يرى إن كل شيء سيكون رائعاً، وما علينا جميعاً سوى أن نبارك لأختنا ونجعلها سعيدة. فهذا مهم جداً لترابطنا.
في الاسبوع القادم سيأتي العم والعمة بومبه لزيارتي والمبيت عندي، وسيأتي معهم فَنِي وبَتْ. لقد مرَّ وقت طويل لم التقيهم فيه. وبالنسبة لتفاصيل حياتي الباقية، مازلت انهض مبكراً من النوم، لأراقب الشمس وهي تشرق بهدوء رويداً رويداً وتنسكب فوق حوض تصليح السفن، ليعلن النهار خطواته الصفراء الفتية التي تتعثر برؤوس العمال. ياله من مشهد جليل، هذا الذي أراه من خلال النافذة. تمنيت أن تكون بجانبي لترى ذلك معي، انه شيء مقدس، هنا رأيت الله في نور الشمس ياتيّو.
إن كان تحت يديك طابع بريد، وتوفر عندك بعض الورق، فإكتب لي بسرعة.
لقد شاهدت في متجر العم كور كتاباً فيه تخطيطات حول الكتاب المقدس للفنان بيدا*، ياللجمال، ويالها من لذة حقيقية شعرت بها وأنا أتابع الخطوط التي نَفَّذَ بها هذه الرسومات. كيف لي أن أصف لك ذلك؟ يكفي أن هذه الرسوم جعلتني أفكر سريعاً بريمبرانت.
والآن أشد على يدك وأتمنى لك كل ماهو جميل.
تحيات العم يان لك.
ابق على ثقتك بي.
أخوك المحب فنسنت
هوامش المترجم:
يوهانس بوسبوم: فنان هولندي (١٨١٧-١٨٩١) ينتمي الى مدرسة لاهاي في الرسم. اشتهر بمائياته التي تعكس ضوء المناخ الهولندي، وعُرِفَ ايضاَ بأعماله الليثوغرافية الرائعة.
يان هندريك فيسنبروخ: فنان هولندي (١٨٢٤-١٩٠٣) واحد من أهم أعمدة مدرسة لاهاي. اشتهر بأعمال الليثوغراف ومناظره الطبيعية مذهلة ويشع منها الضوء، ومرصعة بغيوم شفافة وفضاء مفتوح.
يوردان: أشهر حي في امستردام، ويُعرَفُ سكانه بلكنتهم الهولندية الخاصة وتصرفاتهم التي تقترب من تصرفات الشارع ذات الوقاحةالمحببة.
جزيرة بيكرس: جزيرة صغيرة جداً، وهي واحدة من ثلاث جزر تابعة لمدينة امستردام.
آي: نهر صغير شمال امستردام
بيدا: فنان رومانتيكي فرنسي (١٨١٣-١٨٩٥)، تتلمذ على يد الفنان ديلاكروا. يعتبر من الفنانين المستشرقين، ويُعَدُ من أعظم المخططين في تاريخ الرسم
*****
رامسغيت ١٧ نيسان ١٨٧٦
أبي وأمي العزيزين
محبتي لكما ولباقي العائلة، وأرجو أن التلغراف الذي أرسلته قد وصلكما. تساءلت مع نفسي وأنا أغادر، والحزن يملأ قلبي، ترى هل يمكننا إختيار سعادة البقاء معاً، أم إننا مرغمون على الفراق الذي يثير الحزن والكآبة؟ لقد كُتِبَ علينا أن نفترق عن بعضنا مراراً. لكن،
لا أعرف لماذا شعرتُ هذه المرة بحزن أكبر مما كنت أحسُّهُ في المرات السابقة، وهذا ما لاحظته على وجهيكما أيضاً. لكن حسبنا أن نتحلى بالصبر ونَتَكَيَّفُ مع الضرورات التي لا مناص منها.
في محطة القطار، بدت لي الطبيعة غريبة وليست كما عرفتها، كان الجو رمادياً تتخلله موجات من البرد القارس. بيد أنَّه تَحَسَّنَ قليلاً مع مرور الوقت، وأنا كذلك صرتُ أفضل حالاً. مرَّ القطار على بعض المراعي التي ظهرت وهي تتمددُ مسترخية بصمت وسكينة. وبينما الهدوء يَعِمَّ كل شيء، إختفى جزء كبير من الشمس خلف سحابة رمادية، وقد إختَرَقَ شعاعها الذهبي حافة السحابة، ليلتمع بعدها فوق الحقول مثل قطع نقود ذهبية تنثرها السماء. مع هذا أحسست بحنين كبير يسحبني بقوة الى البيت. فكرت بكما وبتيّو وآنّا وبباقي العائلة، وفي غمرة إنشغالي بكم، اقترب القطار من التلال السبعة*، فغطى الحنين ملامح وجهي من جديد، حيث أعادني هذا المشهد، لذلك اليوم الذي أوصلتماني فيه الى المكان ذاته، حيث المدرسة الداخلية عند السيد بروفيلي، أتَذَكَرُ حينها كيف وَقَفتُ مع حقيبتي على الرصيف المحاذي لباب المدرسة، وأنا أراقب العربة التي بدأت تختفي شيئاً.. فشيئاً وهي تنطلق بكما على الشارع المبتل بالمطر. تذكرتُ ايضاً ذلك المساء الذي زارني فيه أبي لأول مرة في المدرسة، ليأخذني بعدها معه الى البيت لقضاء الكريسمس.
إنطلقت بنا السفينة نحو بريطانيا، لحظتها تذكرت اختي آنّا وإستَعَدتُ رحلاتنا الممتعة معاً. أصبح الجو صافياً بعد ان تجاوزنا نهر الماس*، حيث لَمِحْتُ رمال الشاطئ التي إلتمعت وَبَدَتْ شقراء بفعل الشمس، عندها مَدَّ لنا البحرُ يدهُ الزرقاءَ ليقودنا بعيداً، فتغيبُ هولندا خلفي ولم يظهر منها سوى فنار بعيد شاحب. بقيت على سطح السفينة الى المساء، ثم نزلت الى المقصورة بعد أن بدأ البرد يتسلل الى جسدي. في الصباح التالي، خلال الطريق من هارويش الى لندن، إمتدت حقول داكنة اللون، ومراعٍ خضر
كبيرة، مليئة بالأغنام والحملان الصغيرة. تظهر بينها بعض النباتات الشوكية، كذلك تناثرت هنا.. وهناك أعدادٌ من أشجار البلوط التي بَدَتْ أغصانها معتمة، بينما تسلقت سيقانها بعض الطحالب الخضراء الرطبة. السماء صارت زرقاء مظلمة قليلاً، مع بضعة نجيمات بعيدة، وغيمة رمادية وحيدة وكبيرة سَدَّت الأفق. وبينما كانت الشمس تَهِمُّ بالشروق تناهى الى سمعي صفير قُبَّرَة، خِلتُهُ تلويحة بعيدة من الوطن.
محطة واحدة تفصلنا عن لندن. بدأ الصباح وغدا المناخ مختلفاً. ذَهَبَتْ السُحُب الرمادية ولاحت الشمس بسيطة دافئة، كانت مريحة مثل فتاة غير متكلفة، وكبيرة وواسعة بالقدر الذي تسمحُ به الطبيعة. كانت شمساً تليق بعيد الفصح. وأنا أنظر الى العشب الطري الناصع بفعل الندى، تذكرتكم وتمنيت أن أستبدل كل هذا الجمال بمناخٍ كئيبٍ مظلمٍ شريطة أن تكونوا معي. قضيت وقت الظهيرة على سطح السفينة، حتى مغيب الشمس، كان لون البحر أزرقَ داكناً، تَتَخَلَّلُهُ أمواج عالية ذات حافات بيض مسننة. الشاطيء بعيد عن متناول البصر، والسماء زرقاء شاحبة، ولا أثر لأية غيمة. الشمس هيَّأت نفسها للمغيب من جديد، ورَمَتْ شريطاً لامعاً ومتحركاً فوق سطح الماء، أحال المكان الى مشهدٍ جليلٍ وبسيطٍ وصامت. إن هذه التفاصيل تجعلني أقشَعِرُّ بشكل لا إرادي من فرط جمالها، وبكل الاحوال هي تحملُ عمقاً ومودةً أكثر من مقصورتي التي قضيتُ فيها الليل بين المسافرين السكارى والمدخنين الذين يملأون المكان بغنائهم الصاخب.
في لندن، تأخر وصول القطار ساعتين، بعدها كان علينا أن نقضي أربع ساعات ونصف، لنصل الى رامسغيت. الطريق كانت ممتعةً وتحيطها بعض المرتفعات الصغيرة التي ذَكَّرَتني بالمرتفعات هناك. بانَتْ الأعشاب الجافة وهي تفترش أماكن واسعة على مَدِّ البصر، ومن بينها إنبثقت أشجار البلوط الضخمة. وبمحاذاة التلال رقدت قرية صغيرة، يتسلق اللبلاب على واجهات بيوتها، وتتوسطها كنيسة رمادية، بينما إلتمعت أشجار الفاكهة المزهرة، وبَدَتْ رائقة بفضل الخلفية التي كَوَّنَتها السماء بلونها الأزرق الشاحب، وبضعة غيمات بيض ورمادية. مررنا على كانتربوري، وبيوتها التي تعود الى القرون الوسطى، وقد أحاطت بهذه البيوت القديمة الثابتة، مجموعة من أشجار الدردار التي جعلت المشهد بهيجاً، حتى بَدَتْ وكأنها مجموعة فتيات في عرس من اعراس القرية. أنا متأكد بأني قد شاهدتُ بعض اللوحات التي تمثل جانباً من هذه القرية الجميلة. أتأمل هذه التفاصيل من نافذة القطار الصغيرة، وفي الوقت ذات ينشغل بالي بما ستكون عليه ايامي القادمة في رامسغيت. قبيل الساعة الواحدة ظهراً ذهبت الى المدرسة، لكن السيد ستوك* لم يكن موجوداً، فعدتُ مرة أخرى في المساء، وإستقبلني ابنه ذو الثلاثة وعشرين عاماً، والذي يعمل معلماً في لندن. ظهيرة اليوم التالي كان السيد ستوك يأخذ مكانه على طاولة كبيرة بصحبة أربعة وعشرين تلميذاً تتراوح اعمارهم بين ١٢ و١٤ سنة. كان شيئاً نادراً بالنسبة لي أن أرى أربعة وعشرين صبياً يأكلون على طاولة واحدة. المدرسة ليست كبيرة، لكن نوافذها تطل على البحر. بعد أن تناولنا الطعام، تجولنا قليلاً على الساحل الذي كان مريحاً ومنعشاً، والبيوت التي تطل عليه، كانت بسيطة وتم بناؤها بالحجر الأصفر على الطريقة الغوطية. والحدائق هنا مليئة بأشجار الأرز، ونباتات عشبية صغيرة دائمة الخضرة. مع ميناء مليء بالمراكب، يفصله عن اليابسة رصيف حجري طويل يستخدمه الأهالي للتجوال.
البارحة ذهبنا بصحبة الأولاد الى الكنيسة التي لاحظتُ على أحد جدرانها كتابة تقول (أنا نصيرك في هذه الدنيا) فشعرت براحة وطمأنينة. في الساعة الثامنة مساءً ذهب الأولاد الى النوم، ليستيقظوا اليوم باكرين عند الساعة السادسة صباحاً.
بالإضافة لي يوجد هنا ثلاثة معلمين شبان، ونحن ننام سوية في بيت منفصل بمحاذاة المدرسة، وهنا خُصِّصَتْ لي غرفة صغيرة عُلِّقَتْ على جدرانها الكثير من الأعمال الطباعية. سأتوقف الآن عن الكتابة، لكن قبل هذا أقول لكما بأني قد قضيت وقتاً جيداً بما فيه الكفاية. شكراً على كل ما قمتما به من أجلي.
تحياتي الى لِيز وألبرتينا وكل اخوتي واخواتي
أشد على أيديكما بحرارة، مع كل محبتي
خالص محبتي
فنسنت
- هوامش المترجم:
* التلال السبعة: مدينة في جنوب هولندا. التحق فنسنت بمدرسة داخلية فيها أيام صباه.
* *نهر الماس: نهر ينبع من فرنسا ويمر ببلجيكا ثم جنوب هولندا، ليصب في بحر الشمال.
* *السيد ستوك: صاحب المدرسة الداخلية في مدينة رامسغيت ببريطانيا، والتي عمل فيها فنسنت مدرساً مقابل مبلغ بسيط جداً إضافة الى طعامه وشرابه ومكان إقامته.
******
رامسغيت ٣١ حزيران ١٨٧٦
تَيّو العزيز
وصلني خبر ذهابك الى أتن*. لحسن الحظ، لم يبق البيت خالياً، حيث بقي الاربعة الآخرون هناك، لقد كتبَ لي أبي وأخبرني كيف ذهبتما في ذلك اليوم معاً، وحدثني عن كل التفاصيل. فَرِحتُ بذلك كثيراً وشعرتُ بأني قربكما وأضعُ يديَّ بيديكما. أشكرك أيضاً على رسالتك الأخيرة، وأود أن أحدثكَ عن شيء هائل حدث هنا مؤخراً.
لقد مرَّت بنا عاصفة رهيبة جداً. آه لو تعرف كيف قَضينا تلك الليلة الصاخبة، لقد تحوَّلَ البحر الى قطعة صفراء، وخاصة في الجزء القريب من الساحل، ولاحَ في الأفق خط بعيد لضوءٍ خافتٍ، جثمتْ فوقهُ سحابة رمادية كبيرة تثير الرهبة. بينما أخذ وابل المطر المائل يهتَز وهو ينحدر من السماء مثل السلاسل. والريح تعصف بالغبار والاحجار الصغيرة في الممر الأبيض الضيق، وتبعثرها على صخور الساحل. كانت أشجار الزعرور تخفق بعنفٍ وتتمايل حتى تقترب أغصانها من الزهور التي نبتت على حافة السياج الصخري، بينما يرتجف على يمين المدرسة حقل القمح اليانع بلونه الأخضر الطري ويتلوى تحتَ أقدام الريح الضاربة. أمّا الأبراج والطواحين وسقوف البيوت الغوطية، وكذلك الميناء الذي يقع بين حاجزين كبيرين من الحجر، فكلها بدت تحت العاصغة كالأشباح، بعد أن اكتسبت مظهر المدن التي رسمها البرت ديورر*.
إنتهت العاصفة بشكلٍ تدريجي، لكني كنتُ أُتابعُ أذيالها الباقية وهي تمتزج مع مياه البحر وتتغلغل في ثناياه، لتحيلهُ الى مسطحٍ رمادي كئيب. بعد مرور بعض الوقت لاحَ ضوء الأفق من جديد، ليأتي الصباح هادئاً وفي فمه ملعقة من ذهب. كان الوقتُ مبكراً جداً، ومع ذلك تناهى الى سمعي تغريد بعض العنادل وصفير عدد من القبرات في الحديقة المطلة على البحر، ليبرق بعدها ضوء الفنارات ثانية مهيئاً نفسه لمراقبة السفن القادمة.
في الليلة التي تلت ذلك، قضيت وقتاً طويلاً أنظر من خلال النافذة الصغيرة التي في غرفتي نحو البيوت التي أحاطِتْ بأشجار الدردار التي بَدَتْ هاماتها كالحة كالليل، بينما أَطَلَّتْ من بينَ سطوح القرميد نجمة كبيرة حانية، منحتني إحساساً بالطمأنينة والدفء. وقتها فكرتُ بأيامي التي مضت سريعاً، وتذكرتُ بيتنا ونحن مجتمعين معاً، وإجتاحت مشاعري هذه الكلمات، وأخذتُ أرددها (إحمني من الذنوب، وامنحني نعمتك، لا لكوني أستحقُ ذلك، بل لأجل أمي الطيبة. أنت من يمنح المحبة، ولا يستقيم أمرنا دون بركاتك). ستجد مع الرسالة، تخطيط صغير رسمته للمكان الذي تطل عليه نافذتي، كي تتخيل المشهد، وكذلك لترى الساحة التي يتجمَّعُ فيهاالصبيان مع أهلهم بعد انتهاء الوقت المخصص للزيارة، لينطلق الأهل بعدها نحو محطة القطار. لا يمكن لأحدٍ هنا ان ينسى هذا المشهد ابداً.
هذا الاسبوع استمر المطر بالهطول، وكنت اتمنى ان تشاهد منظر الساحة، خاصة عند إشعال أعمدة النور، حيث يغتسلُ الضوء الخافت بحبات المطر وينعكسُ متأرجحاً على الأرضية المبللة. في الأيام الأخيرة لم يكن مزاج السيد ستوكس جيداً، لذا فهو يقوم بحرمان الأولاد من الخبز والشاي مساءً إذا خرجوا عن طوعهِ قليلاً. عليك أن تقف هنا، خلف هذه النافذة لترى المشهد بنفسك، في هذا المكان يمكنك أن تعرف وتتحسس كيف تكون العيون مترقبة وكئيبة. تَخَيَّل، هؤلاء الأولاد المساكين ليس لديهم ما ينتظرونه سوى الأكل والشرب، ومع ذلك يُحرَمونَ من هذه (النعمة) بسبب مزاج هذا السيد! ألا يكفيهم عبء عبور السُّلَم المظلم والممر الضيق الذي يوصلهم بمشقَّة الى طاولة الطعام، ليجدونها في نهاية الأمر خالية؟
شيء آخر أثار إستغرابي هنا، وهو الحَمّام ذو الأرضية العفنة، حيث تنتصب ستة أحواض بالية لغرض الأستحمام، تغمرها رائحة نتنة، ولا يخفف من وطأة ذلك حتى الضوء الخافت الذي تبعثه الشمس ليربت بأصابعه الدافئة على المغاسل، بعد أن يتسللُ بلطفٍ من خلال النافذة ذات القضبان المتآكلة. أنت تعرف بأن هذه التفاصيل تجعلني اشعر بعدم الراحة والحزن. على كل حال، فالمرءُ بحاجة الى شتاءٍ واحدٍ هنا ليعرف نوع الكآبة التي تملأ هذا المكان.
بعض الأولاد تسببوا بسقوط بقعة زيت صغيرة على التخطيط الذي أرسلهُ لك مع هذه الرسالة. سامحتهم على ذلك، وأرجو أن تلتمس لهم العذر أيضاً.
والآن أقول لك من هنا، طاب مسائك ياأخي، أوصل تحياتي لكل من يسأل عني، وإن ذهبتَ الى بورخرس فبلغه سلامي، كذلك محبتي لويليم وفالكيس وكل عائلة روس. ستظل على بالي دائماً.
أشد على يدك بقوة.
أخوك المحب فنسنت.
- هوامش المترجم:
* أتن: مدينة في جنوب هولندا، توحدت فيما بعد مع مدينة لور القريبة منها، لتصبحان مدينة واحدة تعرف الآن بأسم أتنلور.
* البرت ديورر: رسام كلاسيكي الماني (١٤٧١-١٥٢٨) اشتهر بتخطيطاته المذهلة واعمال الحفر على الخشب. يعتبر اعظم رسام الماني على مرِّ العصور.
****
* الرسالة الثانية عشرة
لاهاي، الأحد ٧ آيار ١٨٨٢
تَيّو العزيز
أخبرك بأنى قد إلتقيتُ موف *مؤخراً، وجرى بيننا حديث محبط وغير لائق، بل يحمل الكثير من القسوة، مما أدى إلى قطيعة واضحة بيننا. ولأنه تجاوز كل الحدود في كلامه معي، فهذا يعني بأننا إفترقنا الى الأبد. لقد تمادى وهو يطعنني بكلماته،
لدرجة لم يعد ممكناً فيها إصلاح ما حدث. كُنّا قرب الكثبان* وتحدثنا في البداية حول الرسم، بعدها إستمحتهُ بلطفٍ أن يأتي الى مرسمي لإعطاء رأيه بتخطيطاتي، فأجابني بشكل قاطع (لن أذهب معك تحت أية ذريعة، لقد إنتهى ما بيننا)، وفي النهاية قالها بشكل حازم ومليء بالقسوة (أنت شخص منحل أخلاقياً)، عندها صَمَتَ كل شيء حولي، ماعدا كلماته التي ظلَّت تدور برأسي، وأستدرتُ عائداً أدراجي وحيداً منكسراً، يملأني الحزن.
في بداية حديثنا، اعترض كوني قلت عن نفسي بأني فنان! لم افهم لماذا يتقصد اهانتي ويوغل في جرحي. تصور، إنه يعترض حتى على كلمة فنان التي نَعَتُّ نفسي بها ببساطة ودون تبجح. أعرف بأني مازلت في بداية الطريق، لكني عَنَيتُ بكلمة فنان هو إنشغالي بالبحث عن بعض الحلول الفنية، ومطاردتي للأشكال محاولاً الامساك بالرسم، كذلك قصدت من قول ذلك، هو أنني أتبع قلبي وعاطفتي وأنا في غمرة تطوير الخطوط والتفاصيل، هذا كل ما في الأمر. لديَّ أذنين يا تيّو واسمع الكلمات بشكل جيد، فحين ينعتني أحداً بالمنحل، ماذا أفعل أزاءه؟ هل لك أن تخبرني بحق الاله؟ لقد تجرأ على قول ذلك، لذا تركته يتكلم وأقفلتُ راجعاً بقلب محطم وروح مليئة بالكدر. لم أطالبه بتفسير ولن أفعل، رغم تطلعي في قرارة نفسي الى أن يتراجع عما بدر منه. فمن المعيب أن يجعل موف نفسه مثل الآخرين الذين يرونني مختلفاً ومريباً، بل وغريب الأطوار. أجل، هكذا ينظر اليَّ الكثيرون ولا أعرف السبب. نعم، يبدو أن فنسنت أيها الناس، يحمل في سريرته سراً او لغزاً أو ربما ينثر شيئاً غامضاً في الهواء المحيط به يجعلكم ترتابون منه وتخشون الاقتراب منه، شيئاً غير مرئياً لكنه يثير الالتباس والشك والحيرة!
لكن رغم كل ذلك، أشعر بأنه كان يبحث عن ذريعة للابتعاد عني، وذلك بسبب تعرفي علـى إمرأة يراها غير مناسبة ويعتقد بأنها ستقودني الى الرذيلة. وها أنا أشرح لك الأمر هنا، نعم، لقد تعرفتُ بداية هذا الشتاء على إمرأة حامل، تخلى عنها الرجل الذي تسبب في حملها، تصور ياتَيّو، إمرأة وحيدة تبحث وسط البرد الذي لا يرحم عن مأوى وطعام تسد به رمقها، وقد قادها هذا العوز الى طريق لا حاجة لتسميته! طلبت منها أن تجلس لي موديلاً لرسمها طوال الشتاء، وبما أنني لا أستطيع أن أسدد لها اجرة كاملة كموديل، لذا، تقاسمت معها طعامي وسكني، لقد إهتممت بها بالفعل لأنها كانت مريضة وفي حالة عوز. ووفرت لها بعض الدواء حسب استطاعتي، بعدها لاحظتُ كيف تحسنت حالتها يوماً بعد آخر، حتى أني صحبتها الى مستشفى الولادة في لايدن، حيث اتضح هناك أن مرضها كان متوقعاً، لأن الجنين مقلوب في بطنها وتحتاج الـى عملية، ولكن مع ذلك، هناك امل كبير بتحسن حالتها، ومن المنتظر أن تضع طفلها في الـشهر القادم.
إن كان موف يلومني على علاقتي بها، فـأنا أرى أن اي رجل، حتـى وإن كان لا يساوي قيمة جلد حذائه، لو كان في مكاني، لفعل مافعلت وقام بما قمت به. من هو الرجل النبيل برأيكم ياسادة، أهوَ الرجل الذي يكسر المرأة ويرميها في الشارع، ام هو الرجل الذي ينقذ المرأة من الشارع ويوفر لها الطعام والدفء كي لا تنحرف نحو الرذيلة؟ أردت من فعل ذلك، الحفاظ على انسانيتي قبل حفاظي على جسدها المتعب. رغم العوز الذي أمرُّ به، رأيت من الضروري الوقوف الى جانبها ومساعدتها، كي لا تعود الى الطريق الذي جائت منه.
في البداية كانت تجد صعوبة في الجلوس كموديل، لكنها تعودت على ذلك مع مرور الوقت، حتى شخصيتها تغيرت وأصبحت مثل حمامة هادئة. لقد نَفَّذتُ العديد من التخطيطات والدراسات في الأيام الماضية، لكني لم أرسم بالالوان الزيتية أو المائية منذ أن تخلى عني موف، أشعر برغبة جامحة للرسم بالالوان لكن منظر الفرشاة الآن يصيبني بالقلق والتوتر. أرجو ان تخبرني عن موقف موف أزاء الموضوع، وربما تساعدك رسالتي هذه بتسليط الضوء اكثر على التفاصيل التي تحيط بالمسألة بشكل عام، فأنت شقيقي، ومن الطبيعي أن أحدثك عن أموري الخاصة، ومهما حدث بيني وبين الآخرين، وحتى حين لا يفهمني الجميع، فأنا لا أتوقع منك كلمة قاسية مثلهم. أنا ببساطة ياتَيّو أحاول أن أعمل، وأن أكون نافعاً دون حاجتي لشرح ذلك لباقي الناس. أنت تعرف بأني أُهيمُ بإمرأة أخرى بعيدة، امرأة يخفق قلبي لها، لكنها نائية، بعيدة المنال، وفوق ذلك لا تود رؤيتي والتواصل معي، أما هذه التي معي الآن فهي مريضة وحامل وجائعة... وسط شتاء لا يرحم، فلا يمكنني إختيار غير البقاء الى جانبها.
فياموف وتَيّو وتيرستيخ* إنَّ لقمة عيشي بين أيديكم، فهل سترخون قبضاتكم عن رغيف خبزي، أم ستضيقون عليه؟ هل ستمدون لي يد العون،أم تشيحون بوجوهكم وتتخلون عني في هذه الظروف؟ ها انا أخاطبكم بكل هذا الوضوح وهذه الصراحة، وانتظر جوابكم.
ستجد مع الرسالة بعض الدراسات التي قمت بها في الايام الماضية، لتطلع على عملي، وترى كيف تساعدني هي أيضاً، كيف نتوحد أنا وهي كرسام وموديل، بالمناسبة، المرأة التي تعتمر الطاقية البيضاء هي أمها. على كل حال، أعدك بأن عملي كرسام سيتحسن كثيراً في السنة القادمة. لقد إهتممتُ كثيراً بهذه التخطيطات ونفذتها بعناية كبيرة كما ترى، لذا أرجو منك أن تعيدها لي بعد الإطلاع عليها، لأنها بعد إضافة بعض التفاصيل، سأدخلها في لوحات قادمة أفكر برسمها، سيكون تكوينها وموضوعها حول مشاهد داخلية للبيت أو غرفة إنتظار. أُطلعكَ عليها لأضعك وسط تفاصيل عملي. ربما ترى ان التخطيطات حذرة نوعاً ما، وهذا بسبب نوعية الورق، وستتغير التقنية بالتأكيد مع الورق السميك الذي أفضلّهُ، لكنه ليس تحت يدي الآن مع الأسف، ولا أستطيع الحصول عليه هنا.اعتقد ان اسمه (دبل إنغر) وهو بلون كتاني خافت، ارجو انك تستطيع أن ترسل لي كمية من هذا الورق. إذا نظرت الى التخطيطات جيداً سترى كيف ان الورق الخفيف لا يحتمل ضغطات القلم الحادة، حتى اني أردتُ أن أضيف شخصية صغيرة بكنزة سوداء، لكن مع هذا الورق الذي تراه، لا يمكن ذلك، وإلا سيبدو الامر مقحماً. الكرسي الذي قرب الشخصية الرئيسية لم يكتمل بعد، فهو سيكون في النهاية من خشب البلوط.
إخوك المحب
فنسنت
لك كل الحرية في إخبار موف بتفاصيل هذه الرسالة، إن رأيت ذلك مناسباً.
- هوامش المترجم:
* موف: أنطون موف (١٨٣٨-١٨٨٨) واحد من أهم رسامي مدرسة لاهاي، تربطه علاقة عائلية بفنست، وهو أول من فتح له مرسمه واعطاه دروس في الرسم. ورغم ان فنسنت كان متعلقاً به ويحبه بشدة، فقد حصلت قطيعة بينهما بسبب علاقة فنسنت بالمرأة الحامل. حين توفي موف بعد ست سنوات من كتابة هذه الرسالة، تألم فنسنت كثيراً، حيث كان في باريس، فرسم مباشرة لوحة (شجرة الخوخ المزهرة) إهداءً لذكراه، وقد كتب بفرشاته تحت الشجرة (لذكرى موف).
* الكثبان: منطقة في مدينة لاهاي، فيها تلال رملية وتقع بين منتجع سخيفيننغن وكيك داون، قريباً من بحر الشمال. وتسمى الآن ويست داون بارك.
* تيرستيخ: هيرمان تيرستيخ (١٨٤٥-١٩٢٧) رسام وتاجر أعمال فنية، ربطته علاقة بفنسنت وتيّو، وكان يعمل في متاجر عمهم (العم سنت)، وقد إقتنى مجموعة من تخطيطات فنسنت في بداياته، ولكن ايضاً كانت لديه ملاحظات دائمة حول فنسنت وطريقة حياته.
****
* الرسالة الثالثة عشرة
لاهاي ٣ أيلول ١٨٨٢
تَيّو العزيز
وصلتني تواً، رسالتك الجميلة التي أسعدتني كثيراً. وبما أن يومي الآن هادئ، وليس لديَّ الكثير مما أقوم به، لذا أكتب إليك مباشرة. أردت أن أحدثك بشكل خاص عن بعض التفاصيل التي ذكرتها في رسالتك. كم هو ممتع ما كتبته حول عمّال مونمارتر،
أكاد أن أرى المشهد بكل ألوانه، ياله من شعور منعش، لقد جعلتني أتحسس المكان وأرى الألوان من خلال كلماتك. جميل كونك قرأت الكتاب الذي يتحدث عن جافارني*، إنه كتاب مشوق حقاً، حين قرأته في وقت سابق، إزدادت محبتي كثيراً لجافارني. أعرف أن باريس ممتعة وجميلة لكن على أية حال، فالأمر هنا في لاهاي ليس سيئاً أبداً.
لقد رسمت مجموعة الرسومات هذا الاسبوع، بعضها انطباعات عن ساحل سخيفيننغن، تماماً عن المكان الذي كنا نتجول فيه دائماً. رسمت دراسة كبيرة الحجم يظهر فيها البحر ورمال الشاطئ والأفق المفتوح. وواحدة أخرى لفضاء واسع، بلون رمادي ناعم، وأبيض دافئ، مع بقع خافتة بالأزرق، وقت غروب الشمس، حيث بدت الرمال تكتسب بعض الشقرة التي امتزجت مع بقايا ملامح ناس بعيدين في العمق، وقارب وحيد، يبدو ثابتاً تحت خط الأفق، وهو ينتشل مرساته المستقرة في أعماق البحر ويسحبها الى الأعلى، بينما الخيول التي تظهر على الجانب، تتأهب لسحب القارب نحو المياه العميقة. أرسم لك هنا موتيفاً سريعاً لذلك، كي تكون لديك فكرة عن الموضوع. لقد فكرت أن أرسم كل ذلك على”كانفاس”أو”بورد"، لكن ذلك يتطلب ألواناً كثيرة، كي أتوصل لتعبير يناسب عمق التفاصيل وحقيقة اللون.
كم هو مثير للاهتمام ياتيّو أن نفكر بذات المشاعر والاحساس أزاء بعض التفاصيل، لا أستطيع أن أكتم فرحي وأنا أرى إن الأشياء التي تشرق في ذهنك، هي ذاتها التي تضيء مخيلتي ووجداني. فعلى سبيل المثال، حين عدت مساء أمس مع بعض الأعمال التي رسمتها في الغابة، وأنا أفكر بطبيعة اللون وعمقه وتأثيره، كنتُ وقتها بحاجة لأن أشاركك ذلك الإحساس العارم الذي إنتابني، أن أتقاسم معك هذا الدافع الخفي الذي يجعلني أنتبه الى اللون بشكل مختلف، وها أنت تحدثني في رسالتك التي وصلتني هذا الصباح عن اللون وتأثيره وتدرجاته، عن مونمارتر وما يؤثر على بصرك هناك، لا أجزم إن كان الشعور الذي يجمعنا أزاء اللون هو ذاته، لكني متأكد بأننا نسير في طريق واحد.
أرسل لك هنا أيضاً موتيفاً صغيراً لما رسمته في الغابة، لتتحسس مشاعري أكثر وأنا أكتب لك عن المكان، الغابة في هذا الوقت الخريفي تمنح تأثيراً لونياً لا مثيل له، فأنا لم أرَ في الفن الهولندي أبداً مثل هذه الألوان والانسجامات والتأثير. أرضية الغابة هنا يشع منها الضوء والعتمة بذات الوقت، بدرجات متعددة من اللون البني المائل للحمرة. يتجلى ذلك في ظل الأشجار الموشى بشرائط تشرق وسط العتمة، وتطوق مساحات خافتة هنا، وحادة هناك، ونصف ممحوة في منطقة أخرى. عاطفتي بدأت تتسع في المكان وأنا أرى كيف يتدرجُ اللون بقوة وثبات في عمق الغابة، هنا شعرتُ لأول مرة كيف تعددت درجات الضوء حتى في الأماكن المعتمة، وكيف تفضحُ أشعة الشمس المائلة، الألوان المختبئة في الأعماق، أشعة تخترق جذوع الأشجار والأغصان المتداخلة، لتتحول بعد ذلك الى لون برونزي وهي تستقر في خلفية المشهد. لا يمكن لأية سجادة، مهما كانت باهرة الصنع أن تعكس هذا الانطباع الذي رأيته في هذا المساء الخريفي النادر. ياللجمال الذي يكمن في أشجار الزان الصغيرة الطرية، وهي تنبثق من الأرض، وتندفع الى الأعلى كي تتلمسُ الضوء، فتتحول نهاياتها الى لون أخضر مشعٍ ومليءٍ بالحياة، وهي محاطة بظلال خضراء داكنة! ومن خلال كل ذلك تلوحُ في العمق البرونزي البعيد، مساحة صغيرة من السماء الزرقاء، هي ليست زرقاء تماماً، بل تعلوها مسحة رمادية خفيفة تُلَطِّفُ المشهد. وفي الجهة المقابلة تُشرِقُ حافة خضراء مرقطة بلون أصفر. وسط كل ذلك بانَ في البعيد، جامعو الحطب، مظللين وغير واضحي المعالم، ويضيفون للمشهد بعض الغموض. من بينهم إمرأة بطاقية بيضاء منشغلة بجمع الأغصان المتساقطة هنا وهناك، يظهر نصفها العلوي وهي منغمسة بعملها، بينما ينعكس عليها الضوء ويحيلها الى جزء مكمل للخلفية التي ينبثق منها خيطُ دخان رفيع، يخترق المكان ويتصاعد نحو السماء. الأشخاص هنا يبدون أكبر حجماً وأكثر شاعرية، بسبب ما يحيطهم من درجات اللون العديدة.
أحاول أن أرسم لك ذلك بالكلمات، ولا أعرف الى أي مدى يمكنني المضي بهذا على سطوح اللوحات، لكني أشعر بذلك حقاً وخاصة حين تتناغم وتتداخل درجات الأخضر والأحمر والأسود والأصفر والأزرق والبني والرمادي. هنا في هذا المكان، حاولت تمالك نفسي، وأنا أقف ساهماً، منسجماً مع المشهد الخريفي الذي يغمره الغموض والسحر والسطوة. لكن عليَّ أن أرسم بسرعة لأقبض على التأثير المطلوب وأسيطر علـى حركة الشخصيات الذين وضعتهم بلطخات حادة على القماشة، ولرسم جذوع الأشجار وأغصانها المتفرعة، عمدتُ لوضع الألوان من الأنبوب مباشرة على سطح اللوحة ثم حركت فوقها الفرشاة بما يمنحني التأثير المناسب. أرى أن هذا يعطي للرسم قوة أكثر.
لحسن حظي، لم أتعلم الرسم بمعناه الحرفي من البداية، وإلّا لم يكن بأستطاعتي أن أرى تأثير الألوان كما أفعل اليوم. وربما لا أستطيع أن أتخلص من الطريقة التقليدية للرسم. لكن إن سألتني، كيف أرسم الآن، ووفق أية طريقة؟ فأنا نفسي لا أعرف ذلك بالضبط. هناك قطعة بيضاء تستهويني وتقف بمواجهتي، أنظر إليها وأشعر بأنها يجب أن تتحول الى شيء آخر، ابدأ بالرسم وبعدها لا أقتنع بالنتائج، والأصح أشعر بخوف غريب ينتابني وأنا أبتعد عنها، لأعود مرة أخرى الى قماشتي وأشعر بعدم الرضا من جديد، لأن الطبيعة بكل عظمتها لا يمكن احتوائها بلوحة صغيرة، لكني مع ذلك أشعر بأن نغماً معيناً يربطني بهذه الطبيعة، هناك شيئاً ما تخبرني به الطبيعة، إنها تقول لي شيئاً وعليًّ أن أدون ذلك الشيء بسرعة على سطح اللوحة، لكن كيف أدون نداء الطبيعة هذا، بدون نشاز، بلا أخطاء او نقصان؟ فالحلول أو اللغة التي أبحث عنها في الرسم لا تنبع بشكل تلقائي من شكل الغابة أو الأشخاص أو البحر وحتى الساحل، وهي ليست لغة معتادة او مألوفة، لأنها لا تأتي من الطبيعة التي نعرفها، بل من نظام معين يحكم الألوان والأشكال، من إنسجامات مختلفة لا نعرفها وربما لا تعرفها الطبيعة ذاتها.
أرسم لك هنا موتيفاً آخر حول الهضاب، حيث الشجيرات الصغيرة التي تبدو بيضاء من جانب وخضراء داكنة من الجانب الآخر، تبدو متلألئة وهي تتمايل باستمرار على خلفية من الخشب داكن اللون. كما ترى، ها أنا أمنح كل طاقتي للرسم وأنغمس مع اللون، وسأظل هكذا ولن اشعر بالندم على ما أقوم به، لأني اعرف بأن عليَّ أن أوفر كل قوتي وما أملك من طاقة للرسم وحده، لكن حين أستمر بالرسم على الكانفاس أو البورد، فسأحتاج لنقود إضافية. فهذه المواد غالية جداً، والألوان كذلك مرتفعة الثمن، وفوق هذا هي تنفد بسرعة. وهذا الأمر يعاني منه كل الرسامين طبعاً وليس أنا وحدي. ولكن أتمنى أن نجد بعض الحلول لذلك.
لديَّ احساس حقيقي باللون وأنا متأكد بأني سأنجح، لأن الرسم يشغل كل كياني، من رأسي حتى أصابع قدمي، عندها ستحب وتتمتع بما أرسم، وأعيد لك المال الذي تساعدني به اضعافاً. أنا أفكر بك كثيراً وفي كل مرة أتمنى أن يلتفت أحداً لأعمالي كي أعيد لك مساعداتك العظيمة لي بطريقة لائقة، لكن مع الأسف لازلت لا أعرف الطريق لهـؤلاء الذين يحبون لوحاتي. أود أن ألفت انتباهك الى شيء، ولا أعرف إن كان هذا ملائماً، وهو إن كان بامكاننا أن نشتري مواد الألوان والكانفاس وباقي أدوات الرسم بثمن الجملة؟ حاول أن ترتب ذلك من خلال علاقتك ببايلارد أو أي شخص مناسب. إن كان هذا ممكناً، فالالوان المهمة بالنسبة لي الآن هي الأبيض والاوكر والبني، بهذه الحالة سيكون الثمن منخفضاً ونوفر بعض النقود. أرجو أن تفكر بالموضوع. لأجل لوحة جيدة ربما لا تحتاج دائماً الى كمية كبيرة من الألوان، لكن في بعض الحالات حين تريد أن تعكس لون الارض على لوحتك او حتى لون الفضاء فـإنبوب واحد لا يكفي لتغطية ذلك. موف لا يسرف بالألوان مقارنة بباقي الفنانين، لكن حين تدخل مرسمه سترى كيف تتكدس في إحدى الزوايا أنابيب الألوان الفارغة مع علب السيجار وكأنها بقايا الطعام وقناني النبيذ الفارغة في الحفلات التي كتب عنها أميل زولا.
والآن إن كان بإمكانك زيادة المساعدة هذا الشهر فسيكون هذا رائعاً، وإن كان ذلك غير ممكن فلا داعي أن تحمّل نفسك أكثر من اللازم. ومن جهتي سأفعل ما بوسعي بالتأكيد. سألتني عن صحتي، وهنا أسألك يا أخي، وماذا عن صحتك أنت؟ أرجو إنك بخير، يبدو أن علاجنا واحد، وهو التعلق أكثر وأكثر بالفن. بعيداً عن الرسم، أوضاعي جيدة، والرسم يعينني دائماً. أتمنى لك السعادة وكل ما يساعدك على تحقيق ماتريد. أشد على يدك من بعيد، وإبقَ على ثقتك بي.
أخوك فنسنت
- هوامش المترجم:
* بول جافارني: رسام فرنسي (١٨٠٤-١٨٦٦) اختص بالرسوم التوضيحية للكتب والمجلات، وقد نفَّذَ الكثير من رسوماته بالطباعة الحجرية. رسم طبقات المجتمع الفرنسي، وقد ارفق رسوماته ببعض التعليقات التي كانت مثار اعجاب الشباب الفرنسي. وضع مجموعة من الرسومات لروايات بلزاك. صدرت عن حياته ورسوماته الكثير من الكتب، منها سيرة حياته التي كتبها تشارلس يارات، والتي لاقت نجاحاً كبيراً.
********
* الرسالة الرابعة عشرة
لاهاي ٢٢ اكتوبر ١٨٨٢
تَيّو العزيز
لقد وصلتني رسالتك والنقود التي معها، وقد اسعدني ذلك كثيراً. انت تعرف ما يعنيه لي تواصلك معي بهذه الطريقة، فما تقوم به يعينني بشدة ويجعلني أقف على قدمَيَّ بثقة وقوة. المناخ هنا في لاهاي خريفي بمعنى الكلمة. المطر متواصل والبرد يلفح كل شيء،
ومع ذلك فالضوء مذهل، وهو ينعكس على ملامح الناس والشارع المبتل بالمطر، انه حميمي، بل أخّاذ مثل لوحات موف. في مناخ مشابه لهذا، رسمت مجموعة من الناس وهم يتجتمعون قرب مكتب اليانصيب، كذلك رسمت مائية لساحل البحر. اتفق معك حول ما قلته حول الطبيعة، وأفهم ما تعنيه. أنا ايضاً، حين اعجز عن الامساك بالطبيعة اذهب لرسم الناس، وحين يعجز الناس عن قول شيء لي اعود لرسم الطبيعة وهكذا. أحياناً لا يمكنك فعل شيء آخر، تظل تتأرجح وتنتظر حتـى يزول هذا الشعور الذي ينتابك، ويعود لك إنسجامك وتشعر بقرب الطبيعة وتأثيرها عليك. لكن هل تعرف، مهما كانت عظمة وقوة الطبيعة، فأنك ستقترب اكثر من اشكال الناس كلما طال بك الوقت مع الرسم. أقول ذلك رغم شعوري العارم والمنسجم مع الطبيعة في الايام الماضية. كم كنت شغوفاً ومولعاً برسم الضوء وتونات اللون وعمق الأشكال اكثر من رسم الاشخاص. لا أخفي بأني كنت احمل تقديراً كبيراً لأشكال الناس وايماءاتهم وما يقومون به، لكنى كنت غارقاً في الطبيعة ومنتمياً لها بشكل كلي.
لا يمكنني ان انسى كيف كانت اشكال دومييه* تسحرني، مثل تخطيطه الذي يظهر فيه رجل مسن تحت شجرة الكستناء في شارع الشانزليزيه، والذي كان مطبوعاً مع احد كتب بلزاك. التخطيط بشكله الخارجي لم يكن مهماً بالنسبة لي، لكنه كان يحمل تأثيراً من نوع غريب. في ذلك التخطيط، عرفتُ كيف يفكر دومييه وهو يرسم، وكيف يحرف الناس بجرأة، ويجعلهم بأصابعه المتمرسة يشبهون لون الطبيعة وحركة الغيوم. لقد جعلني أنتبه وافكر وأشرد بمخيلتي، لأعود مرة اخرى افكر بالرسم. عموماً تبقـي أشكال الناس تبهرني وتعطيني القوة، كما في رسومات الفنانين الانجليز، التي لها تأثير مشابه لكتابات الفرنسيان بلزاك وزولا. كل ذلك يُعينُني حين اشعر بالضعف او التردد. وبالنسبة لكتابات مورغر ليس لي معرفة بها، وسأبحث عنها واتعرف عليها بالتأكيد. كتبت لك سابقاً حول رواية دوديت* (ملوك في المنفى) اعتقد انها رواية جميلة ومؤثرة، ان كتبه تعجبني كثيراً وخصوصاً ما تنطوي عليه من بوهيمية، وقت كانت الحياة اجمل واكثر سهولة من الآن. يحزنني ايضاً اننا ابتعدنا كثيراً عن زمن (جارفاني)* حيث كانت هناك حياة حقيقية وجمال في العلاقات الانسانية الدافئة، والناس ايجابيون اكثر من وقتنا الحاضر.
في هذه اللحظة انظر من شباك المرسم، يالَه من تأثير مدهش، وقد ظهر جانب من المدينة، حيث الأبراج وسقوف القرميد والدخان الذي ينبعث من المداخن. الافق يقسم المدينة التي تبدو كأنها مرسومة بالسلويت، ويظهر الضوء بشكل خط بعيد، تستقر في اعلاه غيوم داكنة محملة بالمطر. المشهد في الاسفل يبدو اكثر ظلاماً مع ظهور بعض البقع لضوء خافت، ومن خلال خط الضوء في العمق تلتمع السقوف هنا وهناك (أتخيلُ ان كنتُ سأرسمُ ذلك فسأُنَفِّذُ التماعات الضوء بلطخات سميكة من اللون). أرى كيف تنعكس بشكل شاحب قطع القرميد الاحمر فوق السقوف وهي تحاذي الأفق، ويلتمع أمامي مباشرة شارع سخنك وهو يرقد تحت زخات المطر والضوء الخافت. واشجار الحور تقف واثقة وهي تتلحف بـأوراقها الصفراء، وفي نهاية الشارع يبدو العمق بلونه الأخضر الكالح وهو يتماهى مع عتمة الليل، مع اشكال أشخاص بلون داكن. أَودُّ ان اجرب رسم ذلك، لكني منشغل برسم آخر قضيت معه كل اليوم تقريباً، في كل الاحوال، سيبقى هذا المشهد الذي أراه الآن، عالقاً في ذهني حتى يتحول الى لوحة.
اتذكرك كثيراً وافتقدك بشدة، افكر بما كتبته لي حول الاشخاص الذين تعرفهم في باريس، وحول حياتهم المليئة بالانفتاح والعلاقات، وارى ان نظرتك صحيحة سواء لمجتمع باريس أو مجتمعنا هنا. فمن الصعوبة ان تحافظ على نقاء روحك في باريس، والامر يبدو لي اكثر صعوبة مما يحدث هنا، فنمط الحياة السريعة تطوي معها مشاعر الناس ودفئهم، ويعيش الكثير من الفنانين تائهين في باريس بلا أمل أو استقرار، لأنهم ببساطة يعملون ضد التيار، وهذا بالضبط ما حصل مع تازار، وما حدث لحياته. لكن بكل الاحوال على الفنان ان يمضي قدماً دون توقف، ففي كل منعطف من هذه الحياة تواجهنا المشاكل وعلينا ان لا نستسلم ونمضي الى الامام، حتى لو لم يحالفنا الحظ في البداية. وحتى لو فقدنا الكثير، علينا ان نتمسك بقوة الامل، وعندها فقط تكون النتائج غير تجريدية ولا مموهة، بل حقيقية وملموسة. احترم في كل الاحوال هؤلاء اليائسين وافهم شعورهم، ولكن يجب ان تكون لدينا مواقف وقرارات صحيحة وقناعات ثابتة، فهذا ما يقودنا الى الطريق الصحيح. أرى أن هؤلاء الفنانين الذين كتبتَ عنهم، يتحدثون عن المواقف والقناعات، لكنهم لا يعكسونها علـى اعمالهم وحياتهم بشكل صحيح، ومع ذلك، أنا افضلهم على الاشخاص الذين يستعرضون المواقف والقناعات ويملأون الاماكن بالضجيج، لكنهم يفعلون عكس ذلك. فهؤلاء يصنعون ضجيجاً كاذباً، بينما الذين كتبتَ انت عنهم كسالى أكثر مما هم سيئون. عموماً فالأحداث الكبيرة في الفن لا تحدث عن طريق المصادفة، ولا بشكل عابر او بسيط، لكنها تأتي عن طريق الصبر والكفاح والتأني والتفكير والاخلاص.
ماهو الرسم؟ وكيف تتوصل اليه؟ كيف تدخل هذا العالم؟ الرسم، يعني ان تحفر بيديك جداراً غير مرئياً من الفولاذ، لكن كيف تتجاوزه وهو بهذه القوة؟ الطرق بيديك على هذا الجدار لا يكفي لجعلك فناناً، بل عليك ان تمسك معولك بكل بأس وتواجهه، تحطمه وتمضي من خلاله نحو الجهة الأخرى حيث ينتظرك الرسم. وهذا ليس في الفن فقط، لكن في الحياة ايضاً.
لدي فضول كبير ان كنت ترى شيئاً جيداً في رسوماتي التي ارسلها لك. غالباً ما افكر مع هذه الرسومات بطريقة البيضة والدجاجة، ومن الذي جاء أولاً، هل ارسم الاشخاص في تخطيطات منفصلة ثم ادخلهم بعدها في لوحات معينة، ام ارسم الاشخاص مباشرة وانسج التكوين الذي يناسبهم؟ بالنسبة لي ليس هناك فرقاً كبيراً، والمهم هو النتائج النهائية للعمل. اتفق معك فيما ما كتبته في نهاية رسالتك حول ميولنا وآرائنا ومبادئنا المتقاربة حول الفن، فذلك يجعلنا نرى الاشياء بشكل جيد، نقرأ ما بين السطور ونستحضر ما يحدث خلف الستائر، لتكون ردود افعالنا وتعليقاتنا متشابهة الى حد بعيد. وهذا ايضاً ما يحتاجه الفنان كي يمضي في طريقه بسهولة ويرسم بشكل جيد. أرجح ان امتلاكنا لهذه الحساسية يعود لنشأتنا معاً وانسجامنا منذ الطفولة في براباند وما كان يحيطنا هناك من طبيعة مذهلة. لكن هذا ايضاً نابع من محبتنا وتعلقنا بالفن.
لكن كيف يمكن للمرء ان يصبح رساماً؟لا اعرف ذلك على وجه التحديد. لكني أشعر بأن ذلك يحدث ان كنت تحمل الرسم في داخلك، الامر اكبر من الموهبة واعظم من الانتماء، انه انسجام روحي وتعلق وجداني مع الرسم. هو يحدث ببساطة لأنه الأحتمال الوحيد الذي لديك.
والآن يارجل، شكراً لما ارسلته لي، فبفضلك استطعت ان اشعل الموقد من جديد. آه كم اود ان تأتيني في وقت قادم لترى رسوماتي، وكذلك ما انجزته من حفر على الخشب. انتظر هذا الاسبوع ان يأتيني بعض الاولاد اليتامى ليجلسوا لي كموديلات، سأسعى جاهداً معهم الى تصحيح بعض التفاصيل التي ظهرت في اعمالي السابقة وامضي خطوات جديدة مع الرسم.
اشد على يدك، مع كل محبتي.
أخوك
فنسنت
* هوامش المترجم
* دومييه: هونوريه دومييه، رسام فرنسي(١٨٠٨-١٨٧٩) اشتهر برسوماته الساخرة التي حملت طابعاً سياسياً واجتماعياً. خطوطه قوية وذات مرونة وتعبير كبير.
* * دوديه: الفونس دوديه، كاتب فرنسي (١٨٤٠-١٨٩٧) اشتهر بكتابة الروايات والقصص القصيرة والنصوص المسرحية والشعر. من اشهر اعماله (رسائل من طاحونتي).
* * جارفاني: بول جارفاني، رسام فرنسي (١٨٠٤-١٨٦٦) اشتهر بتخطيطاته الكاركاتورية والرسوم التوضيحية، وقد عكست اعماله الحياة الاجتماعية من خلال رسمه للناس بوضعيات مختلفة.
****
* الرسالة الخامسة عشرة
لاهاي ٣ آذار ١٨٨٣
تَيّو العزيز
أرسل لك هنا تخطيطاً سريعاً لمطعم شعبي قضيت فيه بعض الوقت، هذا المكان يكتظ بالناس الذين يتناولون الحساء بسرعة ويمضون لحال سبيلهم. يحتوي المطعم على صالة كبيرة يملؤها الضوء الذي يسقط من الأعلى بعد أن يخترق باباً مرتفعاً في جهة اليمين. لقد رسمت المشهد مرة أخرى وبشكل كبير في المرسم،
حيث ألغيت النافذتين في المؤخرة، ووضعت ستارة بيضاء في الخلفية، بينما حاولت قدر الامكان أن أرسم النافذة المتبقية بالحجم الطبيعي، وأجعل الضوء الذي يقطعها يبدو تلقائياً. ومثلما ترى وضعية الأشخاص، كأنهم فعلاً في باحة مطعم للحساء. ولفعل كل ذلك حَرَّكتُ إطاراً فارغاً أمام المشهد كي أجد التكوين المناسب. بإستطاعتي الآن طبعاً أن أحرك الشخصيات بدقة وبالطريقة التي أراها مناسبة وتتلاءم مع عملي. أراهم حقيقيون هؤلاء الأشخاص ويمكنني الأمساك بهم وتطويعهم بمرونة لصالح الرسم. لديَّ رغبة كبيرة في إعادة رسم هذا الموضوع بالألوان المائية، لأني أريد الأسترسال معه للحصول على تكوين أكثر نجاحاً، واعتقد بأني سـأسلك الطريق الصحيح في رسم الأشخاص وليس كما حدث خلال الصيف حين كانت النتائج غير مشجعة، وذلك بسبب الاشخاص الذين جلسوا كموديلات، حيث لم يكن لديهم الحماس الكافي، وهذا ما جعل تفاعلي معهم يشوبه البرود، وحتى الضوء الدافيء الذي ملأ المرسم لم يشفع لتحسين النتائج.
هل تعرف ما أنا بحاجة اليه حقاً في هذا الموضوع؟ أحتاج لبعض القطع القماشية المختلفة، رمادية وبنية وبعض الألوان الاخرى، لأغطي بها الجدران الكالحة التي أصبحت مع الزمن معتمة وتمتص الضوء، أما الأرضية فهي أكثر عتمة من الجدران. سيتغير كل شيء هنا حين أغطي الأجزاء السفلية من هذه الجدران المعتمة بقطع قماش أكثر إشراقاً وحيوية. شخصياً لستُ بحاجة الى أشياء كثيرة، فلدي ملابس جيدة، واشتريت البارحة بدلة مريحة من الكتان ذي الملمس الخشن، لكني أبحث دائماً عن الأشياء والتفاصيل والمواد التي تساعدني في عملي، وأراها تتفوق بأهميتها حتى على الموديل نفسه، لكني غالباً ما أدع العثور عليها للمصادفة.
أحب مرسمي كثيراً، نعم، أعشق هذا المرسم المتهالك كما يعشق البحار سفينته، وأنا متأكد بأن الامور ستكون على مايرام لولا محفظتي الخاوية، التي لا تساعدني في السير كما أريد، عموماً كل شخص تنقصه بعض الأشياء مهما كان مكتفياً، وسأُبقي المرسم هذه الأيام كما هو، رغم أن الفرصة مواتية لتغييره نحو الأحسن، فالتفاصيل الصغيرة في هذا المكان مكلفة أكثر من الأشياء الكبيرة الواضحة، لأنها أشياء عملية وعليها ترتكز الكثير من الأمور.
أعرف أن نفقاتك الآن قد ازدادت بسبب صديقتك المريضة، وأنا سأتفهم موقفك بالتأكيد إن توقفتَ عن مساعدتي هذه الأيام. بالمقابل سوف لن أتوقف عن الرسم مهما حدث وسأمضي في طريقي، لأني أشعر بطاقة كبيرة تدفعني للرسم والوصول الى ما أفكر به. وهناك دافعاً آخراً يزيدني حماساً، وهو إن رابارد* بدأ يتعافى وقد عادت له صحته شيئاً...فشيئاً، ونحن نتراسل الآن، وننتظر أن نكون سوية في الفترة القادمة، فلقاؤنا سيعطينا قوة إضافية ونمضي معاً للوصول الى نتائج متقدمة في الرسم. لقد قضى رابارد مع الرسم فترة أطول مما قضيت، لكن رغم ذلك فنحن متقاربان في المستوى نوعاً ما. أعرف إنه يتفوق عليَّ ببعض التقنيات في الرسم الزيتي، لكني أحاول أن أتقدم عليه في التخطيط. ما أتمناه هو ان نتواصل معاً، ونحن نرسم الأهالي البسطاء، ونتطلع الى مطاعم الفقراء كي نقتنص موضوعاً، ونراقب المرضى في المستشفيات لنجد التكوينات المناسبة، وغير ذلك من التفاصيل. رابارد سيأتي هذه الأيام لزيارتي كما وعدني بذلك. عندما يحضر سأتفق معه على تنفيذ سلسلة رسومات عن المواضيع التي ذكرتها، لكن بطريقة الليثوغراف. أتوقع أن ننجح في ذلك ونمضي بعزيمة الى الأمام.
أعدك، في كل الاحوال بأني سأتقدم أكثر في الرسم، وخاصة في التخطيط، حتى في حالة عدم استطاعتك إرسال شيئاً لي. اعدك بذلك صادقاً. عليَّ ان اكون ايجابياً وانظر الى التحسينات القليلة التي حدثت في المرسم، سأستثمر كل شيئ لإكمال طريقي، رغم أني سأتوقف عن القيام ببعض الأشياء وسأتخلى ربما عن الموديل، لذلك، اخبرك ايضاً بأن جانباً كبيراً من هذه العقبات سيتبدد ان ارسلت لي قليلاً من النقود. اريد الوصول لأعمال أفضل، واقصد ان الدراسات التي عملتها لوجوه الايتام، والتي احتفظ بها عندي هنا، مازلت ارى في بعض جوانبها خصوصية وجودة، ربما تشوبها بعض الاخطاء هنا وهناك، لكنها جيدة بشكل عام، وحتى هذه الاخفاقات التي فيها، لا اجرؤ على القول بإني أريد معالجتها سريعاً للوصول الى أعمال أفضل، فقط عليَّ التفكير في معالجة الضوء والعتمة بطريقة أخرى غير التي اتبعها الآن. أعدك مرة أخرى بأن الأمور ستتحسن.
غداً سأستقبل مجموعة من الضيوف، حيث سيكون هناك أمّ صديقتي وأختها الصغيرة، كذلك سيحضر أحد صبيان الحي، وستضاف لهم صديقتي، ليجلسوا لي موديلات للعمل الذي أرسل لك تخطيطه هنا. رابارد يعمل ايضاً وبجد كبير مع الموديلات، فهذه هي الطريقة الأكيدة التي يتطور من خلالها عمل الرسام، أما إن كان لدى الرسام نوعاً من التفاهم والانسجام مع الموديل، فسيتفتح هذا الأخير مثل زهرة، وتظهر فيه تفاصيل وأشياء مدهشة ويعطيك الكثير.
أحاول أن تكون رسالتي هذه مكملة للرسالة التي بعثتها لك البارحة، لتعرف كما كتبت لك، كيف أفكر بالرسم وكيف يتداخل معي لنصبح كائناً واحداً. سأنتظر الضيوف، لكن هل سأنجح في رسمهم حقاً؟ هذا ما سيقوله الغد.
لا أعرف لمَ لا تكتمل الامور بسرعة؟ ربما أكون متعجلاً، لكن الشيء الأكيد الذي اكتسبته في الفترة الماضية، هو اكتشافي أن قيمة الضوء أكبر من اهمية اللون نفسه. ورغم كل شيء، فلديَّ شعور داخلي يؤنبني، لأنك قد ساعدتني كثيراً، مع ذلك لم أتقدم بنفس مستوى دعمك ومعونتك لي، وهذا ما يجعلني أتردد بطلب المزيد، رغم إني أنظر الى الأمر احياناً كما في علم الجبر، فضرب السالب في السالب ينتج عنهما موجب، لهذا فالفشل المتكرر سيقودني الى النجاح بالتأكيد. محبتي لك وسلامي لصديقتك المريضة... أقصد التي ستتعافى.
أخوك المحب
فنسنت
هوامش المترجم:
رابارد: انطوان فان رابارد (١٨٥٨-١٨٩٢) رسام هولندي ينتمي لمدرسة لاهاي في الرسم، وهو صديق فنسنت، وكانت بينهما الكثير من المراسلات، وكان يبدي الكثير من النصائح حول لوحات فنسنت في بداياته. أهتم برسم البورتريت والمناظر الطبيعية والاشخاص اثناء العمل.
****
* الرسالة السادسة عشرة
لاهاي ٢ تموز ١٨٨٣
تَيَّو العزيز
وصلتني رسالتك وما تحمله من نقود، وقد استقبلت ذلك بفرح غامر، على أمل وصول رسالتك الطويلة التي وعدتني بأنك ستتحدث لي فيها عن كل التفاصيل، وخاصة الروائع المائة التي شاهدتها، ياله من أمر مدهش أن يتمكن المرء من رؤية مثل هذه الأعمال العظيمة. أفكر دائماً بقسوة الناس وهم يتجاهلون هؤلاء العباقرة الذين يعيشون بيننا، فهم لا يكتفون بعدم مدِّ يد العون لهم،
بل يوغلون في تحقيرهم، وربما التخلص منهم إن اقتضى الأمر! العامة من الناس لا ترى جوهر هؤلاء ولا تبالي بفهمهم. نعم، فما أكثر الذين سَخَروا من ميليه وكورو ودوبيني وغيرهم، كانوا ينظرون لهم كما ينظر حارس حقل فظ نحو كلب متشرد وجائع يحاول الاقتراب من كوز ذرة، أو يعاملونهم كما يعاملون المنبوذين الذين ليس لديهم أوراقاً ثبوتية! وعادة ما يأتي جواب المبدعين متأخراً مع الأسف، كما حدث مع التحف المائة التي حدثتني عنها، نعم لقد ترك هؤلاء خلفهم الكثير من الأعمال العظيمة، بينما لم يخلف حراس الحقول سوى بطاقاتهم الشخصية وملابس العمل الرثة! يالها من دراما، ففي الوقت الذي يعاملُ الناس فيه كبار المبدعين بإزدراء، ينشغل هؤلاء بفتح آفاق جديدة. وحين يتم الاعتراف بهم، يكون قد فات الأوان، وغادرونا الى الأبد. وكأننا نتقصد إنتظار موتهم، كي نكيل لهم المديح والعرفان! لذلك فأنا أستاء كثيراً حين أسمع أشياءً من قبيل إعتراف الناس بهذا أو ذاك بعد فوات الأوان. لقد كانوا ناساً بسطاء ياسادة، ولم يحتاجوا منكم غير الاعتراف. لقد كتب فكتور هوغو ذات مرة عن إسخيلوس قائلاً (لقد قتلوا الرجل، ثم عادو بعدها مرددين: دعونا ننصب تمثالاً كبيراً لإسخيلوس). أفكر بذلك دائماً عند كل مرة أسمع فيها خبراً عن معرض لفنان عظيم، وأنا بالتأكيد لا أشجب ما يلاقيه ذلك من ترحاب مستحق، لكني أتذكر التمثال البرونزي بحجمه الكبير، وتدور في رأسي عبارة (لقد قتلوا الرجل). صحيح إن إسخيلوس قد تم نفيه، لكن قل لي بربك، ألم يكن ذلك النفي حكماً بموته الأكيد؟
عند زيارتك لي سوف أريك بعض الأعمال التي لن يتاح لك الاطلاع عليها مجتمعة في مكان واحد، يمكنني القول، إنها أعظم مجموعة من الحفر الحديث على الخشب، هي أعمال لفنانين غير معروفين مع الأسف لمعظم متابعي الفن. فمن يعرف بوكمان؟ ومن سمع بالأخوين غرين؟ ومن يكترث حقاً لأعمال ريغَمي*؟ قليلون هم الذين يعرفونهم كما عَرَفتُهُم وتحسست أعمالهم المهيبة. مدهش أن نراها مجتمعة معاً بما تحمله من قوة في الرسم والأسلوب الشخصي والالتقاطات الحيوية من الحياة اليومية وكل ما يصادف المرء في الأسواق والمستشفيات أو حتى ملاجئ الأيتام. حين إبتدأت بجمعها السنة الماضية، لم أكن أتوقع بأني سأحصل على هذا العدد الهائل من الأعمال الملهمة. المهم أيضاً هو أن لا تنسى إتفاقنا حول زيارتك لي، وتذكر بأنها سوف لن تكون قصيرة بكل الأحوال.
لقد عملت بعض الدراسات حول زارعي البطاطس، إثنتين متشابهتين بعض الشيء لفلاح مسنٍ، ودراسة أخرى لفلاح يزرع البطاطس في حقل واسع، وكانت النتيجة مشجعة أكثر من الرسمين السابقين، لقد عملت ست دراسات لنفس المزارع، لأتمكن أخيراً من وضعه في المكان المناسب للتكوين العام للعمل. كذلك رسمت دراسة لفلاح شاب يحرق الأعشاب الضارة والأغصان التي خَلَّفَها تقليم أشجار المزرعة، كذلك دراسة لفلاح يحمل على كتفه كيساً من البطاطس، وآخر يدفع بيديه عربة الحقل الصغيرة.
لو وضعنا الآن كل الاحتمالات على الطاولة وفكرنا بشكل حيادي وقررنا بأني كنت علـى خطأ، وعليَّ تَقَبُّل رأي ترستيخ* برسم أعمالي بالألوان المائية، عندها ينبثق سؤال من بين تقنيات وحساسية مواد الرسم نفسها: كيف يمكن الأمساك بهذه الشخصيات الحيوية وما تحمله من فاعلية؟ كيف للألوان المائية أن تتلقف قوة الشاب الذي يحرق الأعشاب؟ وكيف لها ان تعبر عن المزارع العجوز؟ ومن اين لها الطاقة في القبض على تعبير الفلاح المنغمس في زراعة البطاطس أو تلتقط المعالجة المناسبة لحركة عربة اليد؟ الألوان المائية ليست لها هذه القوة والمتانة في بلوغ سطوة الشخصيات، وأرى هنا أن النتائج ستكون مفتعلة والتعبير لا يناسب ملامح وحضور وعمق هؤلاء الاشخاص الذين أراهم أمامي. سيكون الأمر مختلفاً إن أردنا دراسة اللون وتدرجاته، عندها فالمائية ستمنحنا تلك النعومة والتناغم، لكن رسم هؤلاء الفلاحين شيئاً مختلفاً، يحتاج الى وسيلة تعبير أخرى. مع علمي أن هناك أعمالاً مائية تجاوزت التناغمات لتصل الى قوة الشخصيات وخطوطها الخارجية، مثل أعمال ريغَمي وبينويل وواكر وهيركومر، كذلك أعمال البلجيكي مونيَي. مع ذلك، حتى لو رَسَمْتُ أعمالاً بهذا الاتجاه، فلن يرضى ترستيخ عني ولا عن أعمالي، وسيجدد مقولته الشهيرة (إنها ليست قابلة للبيع). وكأن امكانية البيع فوق كل اعتبار وهي الهدف الأسمى الذي يبغيه ويتطلع اليه الفنان. أرى ملامحه كيف تتغير حين لا أنفذ ما يريده بالضبط، وأتحسسُ إيماءات وجهه وهي تقول لي بكل وضوح (أنت شخص دَعيّ ومبتذل وصغير لأنك تخرج عن طاعتي، تبدو غثاً وأنت تبحث عن أشياء موجودة في ذهنك فقط. بإختصار أنت غير صالح للرسم)، سنتان وهو يعاملني بهذه الطريقة، وسيظل كذلك، ترستيخ سيبقى هكذا الى الأبد، بالنسبة لي هو الوجه الآخر للأبدية! ليس أنا وحدي من يشعر بذلك، فكل الفنانين الذين يحاولون البحث عن حلول وتقنيات جديدة لأعمالهم الفنية يظهر لهم (ترستيخ) خاص بهم يحاول كسر ادواتهم وتحطيم عزيمتهم. ياله من أمر مثير للكآبة والأسى، حين تشعر بأنك محبط ومكسور. وهكذا تصبح الحياة كئيبة والمستقبل مظلم. ومهما صرفنا من المال والطاقة ومهما حاولنا المضي في الطريق الذي إخترناه، نجد أنفسنا في النهاية نغوص في وحل عدم التقدير واللامبالاة، وبدلاً من أن يساعدنا عملنا الدؤوب في المضي الى الأمام، نواجَهُ بالانتهاك وعدم التقدير.
في الأيام الأخيرة فكرت جاداً بالانتقال الى الريف أو قرب البحر، أريد أن أكون وسط الناس الذين يعملون في الأرض او قرب الماء، فالأمر هناك غير مكلف مادياً، وفوق هذا فربما تساعدني البساطة في هذه الأماكن على أسترجاع شيء من السكينة والهدوء. بقائي هنا سيكلفني الكثير مادياً، خاصة وانا انفق كل ما املكه على اعمالي ولا يلتفت اليها أحد. خطر في ذهني أيضاً الذهاب الى انجلترا، فقد تم تأسيس مجلة رائعة في لندن (ذا بيكتوريال نيوز) وهي تشبه في مستواها أل. نيوز وجغرافيك، ربما استطيع الحصول على عمل هناك، لكني اعتقد بأن مثل هذه الفرصة غير أكيدة. وربما ليس هناك شيء أكيد سوى شوقي للقائك من جديد، فقد مضى عام كامل لم نلتقِ فيه، رغم إننا نفكر ببعضنا طوال الوقت، إنها فترة طويلة حقاً.
ربما لم أسألك في الفترة الماضية عن علاقتك بصديقتك، وذلك لأني متأكد بأن كل شيء بخير، وإنكما منسجمان بشكل رائع مع بعضكما. صغيرنا*بلغ عمره عاماً كاملاً، وهو في قمة الجمال والروعة، لا يمكنك أن تتخيل كم هو مبتهج وحيوي. لقد كان تـأثيره كبيراً على أمه، حيث تحسنت صحتها ونفسيتها بوجوده، وهي منشغلة به أغلب الوقت. إن سنحت لي فرصة الذهاب الى الريف فعلاً، فستكون هي معي، اريد ان ابعدها عن عائلتها التي تؤثر عليها تأثيراً سلبياً وتعيق علاقتنا معاً، فعائلتها تدفعها دائماً كي تكون بوجهين. ولكونها ساذجة فهي تتأثر بكلامهم. إنها ببساطة ابنة ظروفها الصعبة التي عاشتها، وأنا أفكر بالزواج منها قبل الانتقال الى الريف أو الى لندن.
أكتب لي عن وقت مجيئك حين تقرر ذلك، وأنا سأنتظر بشغفٍ حتى يحين هذا اللقاء. لقد قرأت هذه الأيام دراسات لبوتون* عن هولندا صاحبتها رسومات له ولآبي، وكانت تحتوي على أشياء مدهشة، منها وصفاً لجزيرة ماركن* جعلني اتشوق لزيارتها، وربما البقاء فيها بعض الوقت رغم أن الصيادين هناك لا يشغلهم أمر اللوحات ولا يهتمون كثيراً بعالم الرسم.
إكتب لي بالتفصيل عن الأعمال المائة العظيمة التي شاهدتها، وإن حصل تقدم في عملك فقليل من النقود الاضافية ستساعدني بالتأكيد. أحب الريف كثيراً رغم ارتباطي الكبير بالمدينة، فهي توفر لي المجلات الفنية وكذلك الحصول على الأعمال المطبوعة. ليس مهماً أن أتأخر في رؤية القطارات* والاطلاع عليها، لكني لا أستطيع أن أقضي يوماً واحداً دون رؤية المطابع اليدوية. لقد قرأت (خصومي)* لزولا، فيه تفاصيل مؤثرة، لكني أراه مخطىء بجانب كبير من الكتاب، ولم أفهم لماذا لم يتطرق الى ميليه في أفكاره التي كتبها. لكني أراه محقاً بقوله (أن النجاح السهل فيه الكثير من السطحية، وهو غالباً ما يعجب العامة. وهذا ما نراه وما يحدث كل يوم مع الاسف، حتى تعودت الناس على الترهات والتلفيقات).
أشد على يدك، مع كل محبتي
اخوك المخلص
فنسنت
* هوامش المترجم:
- ريغَمي: هناك ثلاثة أخوة يحملون هذا الاسم، وجميعهم رسامون، وهم فيليكس وفريدريك وغيوم، وفنسنت يقصد هنا غيوم ريغَمي (١٨٣٧-١٨٧٥) الذي اشتهر برسمه للكثير الاشخاص من الخلف، وكذلك عُرِفَ بتخطيطاته عن الخيول، والتي يعرض معظمها الآن في متحف اللوفر. حصل على شهرة واسعة بعد ان أقيم له معرضاً استعادياً كبيراً في البوزار سنة ١٨٧٦ تقديراً لمكانته الفنية.
ترستيخ: تاجر أعمال فنية يرتبط بعلاقة صداقة مع عائلة فنسنت، لكنه كان قاسياً معه، ودائم الانتقاد له ولاعماله.
- صغيرنا: الصبي الذي ولدته صديقة فنسنت الغانية التي أحبها، والتي تخلى عنها والد الطفل وهي حامل، ليهتم بها فنسنت مع طفلها ويرعاهما معاً كي لا تنحرف من جديد.
بوتون: جروج هنري بوتون، وهو رسام وكاتب بريطاني امريكي، انجز الكثير من الرسومات المصاحبة للكتب. نشر في مجلة هاربر سلسلة دراسات وانطباعات أثناء زيارته لهولندا أسماها (جولات فنان في هولندا) وطبعها فيما بعد في كتاب صاحبه مجموعة من رسومه التوضيحية.
ماركن: وهي شبه جزيرة هولندية تقع في مقاطعة شمالي هولندا. كانت في السابق جزيرة، لكن ارتبطت سنة ١٩٥٧ بسدة او رابط مع المقاطعة، للتحول الى شبه جزيرة. وهي معروفة بكثرة صيادي الاسماك، وكذلك الازياء الهولندية التقليدية التي مازالت نسائها ترتديها.
القطارات: في الربع الأخير من القرن الثامن عشر كانت القطارات حدثاً جديداً وانعطافة مذهلة كواسطة نقل، لهذا كان جميع الناس شغوفين بهذا الحصان الحديدي المدهش، ماعدا فنسنت الذي كان منشغلاً بمطابع الليثوغراف والاعمال الفنية.
- خصومي: وهو كتاب نقدي عن الفن كتبه الفرنسي وصديق الانطباعيين أميل زولا سنة ١٨٦٦وتطرق فيه للكثير من الفنانين، واحتوى ايضاً على الكثير من الآراء الجريئة التي تتعلق بالفن.
*****
* الرسالة السابعة عشرة
لاهاي ٧ آب ١٨٨٣
تَيّو العزيز
شوقي كبير اليك، وأنتظر قدومك على أحر من الجمر، فلا تمر لحظة دون أن أفكر بك، وأشغل الساعات أمني نفسي بلقائك من جديد. حاولتُ هذه الأيام أن أقوم بعملي على أفضل وجه، فقد نَفَّذتُ مجموعة من الدراسات، ستراها بالتأكيد وتطلع علـى تقنيتها حين تكون معي. أجاهد هنا لأشغل وقتي بتطوير عملي وإكتشاف بعض التقنيات الجديدة،
ربما لم أقدم أعمالاً مثل أعمال فايسنبروخ*، لكني سأحاول قدر الامكان الأقتراب من مستوى اعماله، لذا سأقضي فترة من الوقت مع الفلاحين، على أمل إكتشاف الالوان بشكل أفضل، كما حدث مع لوحتي الأخيرة، والتي تحسستُ فيها اللون بشكل مختلف، حيث يبدو اكثر ثباتاً وينسجم مع ماتريد ان تقوله الطبيعة. كذلك هناك دراستين نفذتهما في الأيام الأخيرة، يظهر فيهما رجل تحت المطر وهو يسير على طريق موحل وغير معبد، ورغم أن التفاصيل هنا غير واضحة وتظهر علـى شكل بقع من الألوان، لكني أعتقد بـأني قد عكست التعبير بشكل مناسب، وسنتحدث عن هذا أيضاً حين تأتي لزيارتي قريباً. أغلب الدراسات التي رسمتها في الفترة الماضية هي للطبيعة. لا أدعي بأنها جيدة للحد الذي تقترب قيمتها مما ترسله لي من صور لبعض الأعمال، فأنا مازلتُ أعاني من بعض الصعوبات على صعيد التقنية، لكن مع ذلك أرى أن مستواي ليس سيئاً أبداً، وأشعر أن أعمالي تسحب خطواتها شيئاً...فشيئاً لتظفر بالنجاح، ومثال ذلك، اللوحة التي رسمت فيها جانب من المدينة مساءً عند مغيب الشمس، بشكل سلويت، حيث تتماهى الطواحين بشكل شاحب في نهاية الطريق.
أريد أن أكون وسط عملي دائماً، منشغلاً باللوحات، وإلا سيبتعد الرسم عني كثيراً وربما يضيع الى الأبد. أشعر الآن باللون أكثر، واعرفه أشد مما تعرفت عليه سابقاً، لكن رغم ذلك أحتاج الـى استثمار كل طاقتي للأحساس بمزيد من تأثير اللون وقوته. يجب أن أبعد اليأس عني، وأطرد اللاجدوى التي تنتابني أحياناً بسبب التحولات التي تحدث بداخلي تجاه الرسم، فهناك تقلبات كثيرة حيال اللون والشكل والطبيعة، وما وراء كل ذلك من ضوء وظلال وبقع تتوزع هنا وهناك. لقد انشغلت كثيراً بذلك، وفكرت طويلاً بهذا الشأن، كذلك جربتُ أن أرسم أعمالي بألوان أقل كثافة بحثاً عن التأثير المناسب. كيف أمسك بالأشكال وكيف أقبض على اللون والكتل؟ أتعمد أحياناً أن أرخي بصري قليلاً وأنظر من خلال أهداب عيني، فتبدو الأشياء عبارة عن لطخات من اللون وبقع صباغة موزعة هنا وهناك، أمضي بغلق عيني أكثر، فتختفي التفاصيل وترتبط الاشياء اكثر ببعضها وتتداخل، لتنتج مجموعة علاقات بالشكل واللون. وهنا أتسائل، كيف يمكن أن تسير الأمور الى الأمام وكيف تحدث الأنتقالات في الرسم؟ أتساءل لِمَ أبدو ليس مُلَوِّناً بما فيه الكفاية؟ كنت أظن أن الاندفاع الذي ينتابني سيكون كفيلاً بتحقيق ذلك، لكن يبدو أن أمراً كهذا لا يتحقق بتلك السهولة.
مرة أخرى يتملكني احساس بالفضول حول الدراسات الاخيرة التي رسمتها، أقصد تلك التي معك الآن، والتي رسمتُ في إحداها جذوع بعض الاشجار، انها مختلفة، وهذا واضح. أردت القول إنها ليست سيئة لكنك أيضاً لا تستطيع القول بأني كنت ملوناً جيداً أثناء رسمها. الحق، إن كل الالوان في هذه اللوحة قد وضعت في مكانها المناسب، وربما هنا تكمن المشكلة! فالالوان المحسوبة بعناية لا تنجح دائماً في إعطاء التعبير الجيد، وهنا عليَّ أن أفكر كيف تكون علاقات الألوان مع بعضها، وماذا يحدث حين تكون معاً، كيف تنسجم وكيف تتداخل وتزحف على بعضها مثل غيوم ودودة، أو مثل أوراق عشب يانعة تنبثق من الارض. في الأيام الماضية، شغلتني كثيراً فكرة عدم إستطاعتي الغوص أكثر لمعرفة سر الألوان، لكن مع ذلك، لدي أمل الآن بأن يتحقق شيئاً، وسنرى كيف ستمضي الامور معنا أنا واللون. يمكنك أن تأمل بأنني بعد جهد طويل سأسير على الطريق الصحيح، رغم اني لا اجروء -حين يتعلق الأمر بأعمالي- على إمتلاك الثقة بشكل كامل.
في الأيام الماضية قرأت في مجلة انكليزية حكاية تتعلق بتاريخ الفن، وهي عن رسام محبط ويعيش في ظروف قاسية، لم يجد ما يعينه أو ينتبه لأعماله، فَيَشُدَّ الرحال نحو حقول الخُث* الكئيبة، وهناك في هذا المكان القذر والمنعزل، وجد ظالته في رسم لوحات رائعة في وسطه الجديد، هناك، وسط قبح وتعاسة كل ما يحيط به إكتشف الجمال، انبثقت روحه المتوهجة التي تعتمر بالحساسية، لتضيء ظلمة المكان. وسط عمال الخث استنبط الموضوعات التي تتلاءم مع موهبته ورسم أعمالاً مدهشة. لقد كُتِبَتْ هذه الحكاية بطريقة رائعة ومؤثرة، ولاشك أن كاتبها كان ملماً بالرسم بشكل جيد. لقد خطرت هذه القصة كثيراً على بالي في الايام الاخيرة. حين أراك سنتحدث عن ذلك بالتأكيد، ومن جانبك حاول أن تتواصل بالكتابة لي قبل لقائنا، فهذا أقل ما يمكننا فعله الآن.
فكرتُ أن أتوقف هنا عن الكتابة، لكن بدون سبب واضح أردت أن أضيف بعض الأفكار التي تدور في رأسي الآن، أنت تعرف بأني قد بدأت الرسم متأخراً بعض الشيء، وهذا ليس هو الشيء الوحيد الذي يكدرني، بل يضاف الى ذلك شعوري بأني سوف لن أعيش طويلاً، والسنوات المتبقية لي في هذه الحياة معدودة، وحتى لو فكرت في الموضوع بإسترخاء وبرودة أعصاب، فأنا أعرف بأن جسدي سوف لن يتحمل الكثير ياتيّو. فأنا حين أقارن نفسي بالناس الآخرين الذين أراهم امامي، أشعر بأن ماتبقى لي هو ربما ست أو عشر سنوات، أي سوف لن أتجاوز الاربعين وأنا على هذه الحال، وخاصة أنا لا أجيد الاعتناء بنفسي صحياً، وأن اكتسبت الكثير من القوة والتماسك وربما الحظ، فلعلني سأمضي بحياتي الى ما بين الأربعين والخمسين. عموماً أحاول جاهداً أن أبعد هذه الافكار عن رأسي، وأن أضع خططاً لسنواتي القادمة. عليَّ أن أحدد أهدافي الواضحة للسنوات الخمس أو العشر المقبلة، سوف لن أضيّع الوقت وأحاول أن ابتعد عن ما يعكر صفو نفسي واتجاوز الصعوبات التي تحيطني، والحقيقة ليس مهماً كم من السنوات سأعيش، لكن الثابت بالنسبة لي هو أن أترك شيئاً خلفي قبل أن أموت، عليَّ أن أنجز شيئاً خاصاً بي خلال بضع سنوات، وبالمقابل لا داعي للعجلة التي تؤدي الى التخبط، بل العمل بهدوء وجدية، أريد أن أترك شيئاً نافعاً خلفي، شيئاً أشكرُ من خلاله الحياة التي منحتني ثلاثين سنة عشتها فوق هذه الارض، أريد ان اعيد لها هديتها على شكل لوحات من صنع يدي، ان أُبقي مجموعة من التذكارات وراء ظهري وأنا أغادر، ليس إرضاءً لأحد أو طلباً لإعتراف جهة معينة، لكنها بمثابة تركة من شخص محب ومخلص. نعم هذا هو هدفي الآن، ربما سأسير ببطيء، لكني رغم ذلك لن اتوقف، وسـأتحصن بكل ما لدي من طموح.
لم يكن غيوم ريغَمي معروفاً على نطاق واسع (لا أقصد هنا أف ريجمي صاحب الرسومات اليابانية. بل شقيقه)، هذا الرسام أحمل له الكثير من الأحترام والتقدير. لقد توفي في سن الثامنة والثلاثين، والفترة التي قضاها مع الرسم لم تتعدى ست أو سبع سنوات، لكن رغم قصر تلك الفترة، فقد أنجز أعمالاً مهمة ورائعة، وتعكس إسلوباً شخصياً نادراً، كان يجاهد في التغلب على مرضه لإنجاز أعماله الجميلة، وفوق كل هذا كان انساناً طيباً، محباً ودمث الاخلاق. لا أذكره هنا لأدعي التشابه معه، فلوحاتي لم تصل بعد لما قدمه من أعمال مؤثرة، لكني أذكره فقط ليكون ملهماً ولأعطيك مثلاً حول قوة الارادة والتواصل مع الرسم رغم كل الصعاب. أنظرُ الى نفسي الآن بطريقة مماثلة، كي أنتج في سنواتي القادمة اعمالاً ذات قيمة، انت تفهني بالتأكيد ياصديقي القديم، وربما ان ما ارسله لك من رسومات يفصح عن القليل مما أردت قوله.
أشد على يدك، مع كل محبتي
أخوك فنسنت
- هوامش المترجم:
* يان هندريك فايسنبروخ: فنان هولندي (١٨٢٤-١٩٠٣) واحد من اهم اعمدة مدرسة لاهاي. اشتهر بأعمال الليثوغراف والمناظر البحرية والطبيعية المذهلة التي يشع منها الضوء، ومرصعة بغيوم شفافة وفضاء مفتوح.
* * الخُث: طبقة من النباتات والاعشاب والطحالب الجافة والمتفحمة بسبب بعض الظروف البيئية. يقوم الفلاحون بإزالة وحفر هذه الطبقة بطرق شاقة ويقطعونها قطع صغيرة تشبة طابوق البناء لتستعمل كوقود للطبخ والتدفئة في المزارع وبيوت الفلاحين، وهي تستخدم في هولندا منذ قرون طويلة.
* * غيوم ريغَمي: (١٨٣٧-١٨٧٥) الذي إشتهر برسمه للأشخاص بوضعيات مختلفة، وكذلك عُرِفَ بتخطيطاته عن الخيول، والتي يعرض معظمها الآن في متحف اللوفر. حصل على شهرة واسعة بعد ان أقيم له معرضاً استعادياً كبيراً في البوزار سنة ١٨٧٦ تقديراً لمكانته الفنية.
*****
* الرسالة الثامنة عشرة
هوخفين ١٤ تشرين الأول ١٨٨٣
تَيّو العزيز
وصلتُ منذ بضعة أيام الـى هوخفين*، وقد تجولت كثيراً وبإتجاهات مختلفة لإستطلاع المنطقة، لذا يمكنني تقاسم الكثير من التفاصيل معك حول هذا الجانب البعيد في مقاطعة درينته. أرسل لك هنا أول تخطيط رسمته لأحد الأكواخ القديمة الذي يقبع وسط الطبيعة. لقد شاهدت حتى هذه اللحظة ستة أكواخ من هذا النوع،
وتفحصتها من الداخل والخارج، إنها مبنية من القش والقصب وسيقان بعض الأشجار، تبدو وكأنها تغوص في الأرض لأن حافات سقوفها تنحدر لتلامس العشب مثل رداء كاهن كنيستنا القديمة. سأرسم بعض منها في أعمال قادمة بكل تأكيد. عندما أتأملها عند مغيب الشمس من الخارج تعيدني بطريقة لا تقبل الشك لأعمال جوليس دوبريه* التي شاهدتها ضمن مجموعة مسداخ*، لا يمكنني أن اخطـئ ذلك أبداً، وخاصة لوحته التي يظهر فيها كوخان غارقان في التدرجات الرمادية للخلفية، وغائبان وسط نعاس القرية الكسولة، لا يتبين منهما سوى الطحالب التي تسلقت السقوف بحذر. ألقيتُ نظرة على داخل دواخل الأكواخ، فبدت مظلمة مثل الكهوف، ياله من ظلام جميل وعميق، لقد أعادتني هذه العتمة الـى رسام بريطاني ايرلندي، وكأن المشهد الذي أمامي هو نسخة من اعماله، وأقصد هنا الفنان البرت نيوهاوس*، لكن رغم ذلك أرى أن أعماله فيها شاعرية أكثر، وتتفوق بذلك على الطبيعة.
شاهدتُ بضعة أشخاص في الخارج، إنهم ودودون رغم ما يظهر عليهم من عوز وفاقة. ونساء بصدور بارزة يتقدمن في سيرهن بعناد وترفع، ألتفتُ الى العجائز، فأرى كيف أن الفتوّة ذبلت وإختفى بريقها، لكن رغم ذلك فـأن هولاء العجائز مازال لديهن الكثير من التأثير وَينلنَ قسطاً وافراً من الاحترام والتقدير هنا، وهذه التفاصيل تعديني أيضاً الى تفاصيل ومناخات ميليه. الرجال هنا يرتدون -لحسن الحظ- بناطيل قصيرة، وذلك يمنحني القدرة علـى رؤية حركة السيقان والعظلات وأتجاهات الخطوط التي تكون هيئة الأرجل.
من التفاصيل التي أثارت أعجابي وحركت مشاعري هنا، هي كيف يقوم الناس بسحب المراكب من على ضفاف القنوات والأنهر الصغيرة، حيث يشترك الرجال والنساء والأطفال في ذلك، وتساعدهم في هذه المهمة خيول سوداء أو بيضاء. يجرّون المراكب المحملة بالخث، كما يفعل الهولنديون* في رايسفايك. أرى أيضاً قطعان الخراف وهي تلتف وتتجمع بحنو حول بعضها، فتبدو أكثر تأثيراً وغنى وجاذبية من التي عندنا في براباند*. أما الأفران، فتظهر موزعة وهي تستظل بجانب أشجار التفاح أو بين نباتات الكرفس والكرنب. بينما أخذت خلايا انتاج العسل أماكنها علـى حافات الحقول. رغم ذلك أنظر الـى الاشخاص الذين يصادفونني هنا وهناك فأراهم يفتقدون الـى الوضع الصحي الجيد، وذلك بسبب قسوة الحياة هنا والظروف المعيشية، وكذلك مياه الشرب الملوثة. تصادفني أحياناً فتيات بعمر السابعة عشرة أو أصغر قليلاً، كلهن حيوية ونضارة وجاذبية، لكنهن -حسب مارأيت عند الأخريات- يكبرن بسرعة وتظهر عليهن بصمات الزمن. أرى السنوات تمشي على الوجوه التي ذبلت مثل زهور مهملة.
في القرية أربع أو خمس قنوات مائية. واحدة تذهب الى ميبل وأخرى الى ديدمسفارت، والثالثة نحو كوفوردن والرابعة بإتجاه هولاندسفيلد. حين شققتُ طريقي وسط القنوات، لاحت لي على الضفاف بضع طواحين قديمة جداً مثل شيوخ معمرين، ومزارع إحتلت مساحات واسعة، وكذلك مراسي للقوارب ونواصي لتحميل الخث، وسدود صغيرة لحجز مياه القنوات. وبين كل ذلك تتحرك المراكب المحملة بالخث طول الوقت، مراكب تكاد حركتها لا تتوقف، وهي تعطي حياة لكل شيء هنا، نعم... الحياة هنا عبارة عن مراكب للخث.
أثناء إنغماسي بالرسم هذه الظهيرة، جاء خروفان وعنزة وبدأوا بإلتهام الاعشاب التي نمت على سطح الكوخ. صرت أرسم تارة وانظر الى هذه الحفلة الجماعية تارة اخرى، بعد قليل صعدت العنزة الى أعلى نقطة في السطح، وَمَدَّتْ رأسها في المدخنة وهي تتفحص ما بداخل الكوخ، وهنا هرعت صاحبة المزرعة العجوز مسرعة وهي تحمل مكنستها بإتجاه الحيوانات الشقية، لتقفز العنزة من الأعلى مثل ظبي الجبال، ويفر الثلاثة بعيداً عن متناول المرأة الغاضبة.
هذه الضيعة التي قضيت فيها بعض الوقت يطلقون عليها اسم ستوفسانت وبجانبها ضيعة أخرى زرتها أيضاً إسمها الخروف الاسود. وقد زرت مناطق أخرى على الأطراف، أماكن لم يطلها التغيير منذ أوقات بعيدة، إنها أكثر بدائية من هوخفين التي تحتوي على وسائل المعيشة والحياة رغم كل الظروف.
هنا في هذا المكان البعيد المنعزل، فكرت كثيراً بصديقتي القديمة وطفلها. هل كانت مذنبة في ما حدث؟ وما يمر به الطفل، هل كان بسببها؟ لا أظن ذلك، فهي تعيسة اكثر منها مذنبة. وقد أحسستُ بشخصيتها غريبة الأطوار منذ البداية، ومع ذلك كنت أأمل أن تسير الأمور على ما يرام. والآن لا أرغب في رؤيتها مرة أخرى، لقد افترقنا بعد أن ساءت الأمور كثيراً. ما يؤلمني هو أنني لم يكن في وسعي تغييرها نحو الأفضل، ولم أملك الطاقة لذلك.
تيو، حين أتذكرها والطفل بين يديها أو أثناء إنشغالها برضاعته، تدمع عيني، أراها هنا في كل لحظة، واتخيلها بين هؤلاء الناس المتعبين، مازلتُ أشعر بضعفها وعدم حيلتها وفوضويتها. أعرف أن جوانب كثيرة سيئة تحملها، وما قُمتُ به كان خياراً صحيحاً. نعم لقد تركتها، وكان هذا هو الخيار الأفضل. فمن المحال جلبها الى هنا، رغم أن قلبي الضعيف لا يتحمل رؤية انسان بائس وشقي. وهنا سيكون الخيار الأفضل لي هو العمل والانغماس بالرسم، عسـى أن لا يقف سوء الحظ كالعادة في طريقي.
إبق على ثقتك بي،
أنتظر كتابتك بشغف.
إخوك المحب
فنسنت
- هوامش المترجم:
* هوخفين: مدينة هولندية صغيرة تقع في مقاطعة درينتة قرب الحدود الألمانية. وقد عشتُ في هذه المدينة قرابة عشر سنوات، وفيها درست اللغة الهولندية، في درينته كولج. وفي طريقي الى مدرسة اللغة كنت أمرُّ كل يوم بمحاذاة البيت الذي عاش فيه فنسنت فان غوخ، وأُحيي تمثاله قائلاً (صباح الخير فنسنت). وفي سنة ٢٠٠٦ أقمت معرضاً شخصياً في ذات البيت، وكان عنوان المعرض (تحية الـي فنسنت).
* جوليس دوبريه: ١٨١١-١٨٨٩ فنان طبيعة فرنسي ينتمي الى مدرسة الباربيزون. تبدو في أعماله مسحة درامية عالية، حيث رسم العديد من اللوحات التي تظهر فيها العواصف وحركة الأشجار المتأرجحة بفعل الرياح.
* مسداخ: ١٨٣١-١٩١٥ رسام هولندي إشتهر برسم المناظر البحرية. أشهر أعماله (بانوراما مسداخ) التي تعتبر أكبر لوحة في تاريخ هولندا ولها متحف خاص بذات الاسم في مدينة لاهاي. كان مسداخ يهتم أيضاً بجمع الاعمال الفنية.
* البرت نيوهاوس: رسام هولندي، بدأ حياته بـأعمال الطباعة، ثم تحول الى الرسم، تأثر بمدرسة لاهاي وألوانها القاتمة. وقد اهتم برسم الطبيعة وكذلك الاشخاص في غرف كئيبة.
* الهولنديون: يذكر فنسنت هذا التعبير رغم كونه في هولندا أيضاً، وذلك لأن تعبير هولندا أو الهولنديون يشمل رسمياً الجزء الغربي من البلد، والذي يقع بين امستردام وروتردام مروراً بلاهاي، حيث تقع مقاطعتين هما شمال هولندا وجنوب هولندا. أما البلد بشكل عام والمتعارف على تسميته في العالم (هولندا) فأسمه الصحيح هو نيدرلاند أو نيذرلاند.
* براباند: مقاطعة هولندية في الجنوب حيث ولد ونشأ فنسنت فان غوخ.
*****
* الرسالة التاسعة عشرة
نيو أمستردام ٢ نوفمبر ١٨٨٣
تَيَّو العزيز
أود أن أخبرك بأني قد قضيت بعض الوقت في زيللو، وهي ذات القرية التي مَكَثَ فيها ليبرمان* بعض الوقت ورسم الدراسات التحضيرية للوحته (الغسالات) والتي عُرضت في الصالون الأخير. مثلما قَضى هنا بعض الوقت الرسامان ترمرلن وباكهاوزن. أتمنى ان تتخيل صورة ما يحدث معي هنا وما أراه وأصادفه من تفاصيل مذهلة، لقد ذهبت مع الرجل الذي أسكن في بيته الى السوق الكبير في مدينة آسين.
انطلقنا في عربة مفتوحة عند الساعة الثالثة فجراً وقطعنا طريقاً غير معبداً، رُصِفَتْ فوقه طبقات من التراب ليكون مرتفعاً ومناسباً لسير العربات. في كل الأحوال، كان الطريق ممتعاً اكثر من السفر عبر النهر.
بزغ الصباح عند وصولنا أعتاب القرية، حيث تناهى الـى أسماعنا صياح الديكة وسط الأكواخ التي توزعت بين السهوب والمزارع، وإجتزنا بيتين تسيجهما بشكل دائري أشجار الحور التي كدتُ أسمع اوراقها الصفر وهي تتساقط متأرجحة، وعلى الجانب ظهر برج الكنيسة المكتنز، منتصباً بهامته المحدبة، محاطاً بحاجز طيني، يقابله سياج من الشجيرات القصيرة، ومساحة من الأعشاب المجزوزة، وحقلاً واسعاً من القمح، حتى ليبدو المشهد وكأنه واحداً من أجمل أعمال كورو، سكينة وغموض وطمأنينة، لا أحد يستطيع أن يرسم ما أراه هنا مثل كورو، هو وحده من يقدر على ذلك من خلال الرسم. الساعة السادسة صباحاً، والقرية مازالت تستلقي وسط العتمة مثل إمرأة قروية تغط في نومها بعد يوم عمل متعب. أَتَلَفَّتُ حولي وأنا استعيد كورو الذي بدا يتوضح لي إكثر في كل التفاصيل. كانت الرحلة أخّاذة حقاً، وقد بدأتُ أتطلع الى القرية التي أخذت تفاصيلها تنكشف شيئاً فشيـئاً، حيث سقوف القش التي غطتها الطحالب، وحظائر الأغنام والمواشي، والأكواخ الواسعة التي تستقر بين أشجار البلوط التي حَوَّلَها لمعان الصباح الى لون برونزي. بينما تنتشر الطحالب وتتمدد، وقد إكتسب لونها مسحة صفراء. وتحول لون الأرض الى درجات من الأحمر والأزرق والأصفر، مع بنفسجي بمسحة رمادية. أما حقول القمح التي وقفت شاخصة فهي تعطي قوة للمكان وتشير بلونها الأخضر اليانع الى حياة القرية. بينما تقف جذوع الاشجار منتصبة بلونها الداكن الرطب، وقد تسلل البلل بين ثناياها، ومن بين هذه الجذوع تراءت أوراق الخريف المتساقطة وهي تتأرجح بلون الذهب، وكأن هناك من ينفخ عليها بشكل غامض، في حين بقيت بعض الأوراق متشبثة بالأشجار وهي تتدلى بإنتظار الإنغمار في الضوء الساطع الذي بان وسط أشجار الحور والبتولا والتفاح.
بدأ فضاء القرية ينفتح مثل باب عليِّة، لتشع السماء بلون أبيض فيه مسحة من البنفسجي الغامض، وقد تخلل ذلك بقع من الأحمر والأزرق والأصفر، هذه الالوان تنعكس فوقنا وقد تشبع بها بخار الماء والضباب الذي بدأ يتصاعد بِلَذَّةٍ وكسل، ليغطي كل شيء بيده الرمادية الشاحبة.
لم أعثر على أي رسام هنا رغم جمال المكان، وحين سألت عن سبب ذلك، أخبرني أحد الفلاحين بأن الفنانين لن يأتوا الى هنا أبداً خلال فصل الشتاء، وهو الوقت الذي خصصته للمجيء الى هنا. لذا قررت العودة مشياً* دون أن أنتظر عودة صاحب البيت، وقد قمت برسم العديد من التخطيطات أثناء الطريق. والتخطيط الأول الذي نفذته كان لبستان التفاح الذي رسمه ليبرمان في لوحته الكبيرة، لأكمل خطواتي بعدها على نفس الطريق الذي أتينا منه.
في هذه الأيام تمتليء أرض زويللو بحقول القمح اليانع النضر، لم أرَ مثل هذه الخصوبة أبداً، يضاف الى ذلك صفاء السماء بلونها الليلكي الناعم. لاأعتقد بـأن ما رأيته قابلاً للرسم، لكن مع ذلك، فدرجات اللون هذه تمنحني إحساساً خاصاً وعاطفة تقربني من جمال الطبيعة وتعرفني أكثر بالرسم. أرض سوداء، قاتمة وخصبة ومنبسطة، ينبثق منها قمح يانع وطري، ويعلو ذلك سماء بيضاء كإنها تراقب المشهد بجلال وهيبة. هذه هي ارض درينته الخصبة، سوداء معتمة كالفحم، وهي أكثر سواداً من الأراضي الأخرى التي شاهدتها. حقول القمح مترامية الأطراف ويلفها الضباب بوشاحه حتى لتبدو بالضبط مثل لوحة برايون (آخر أيام الخلق)، هنا في هذا المكان عرفت مغزى هذه اللوحة.
لا وجود للون التربة المعتم الليلكي هنا، بل يغوص السواد عميقاً ليمتزج بظلمة غور الأرض، وذلك بسبب الطحالب المتخثرة وطبقات الخث المتحجرة التي حوَّلَت التربة الى هذا اللون الحالك. تمتد على طول الطريق طبقات الخث، وبشكل يبدو غير نهائي، وتتوزع أكواخ الطين، وبيوت ريفية بسيطة إستسلمت سطوحها للون الطحالب، وحظائر أغنام بأسيجة واطئة جداً، تحيط بها أشجار البلوط الضخمة. أجوب المنطقة ساعات، ولا يريد هذا المشهد أن ينتهي، حقول القمح تمتد الى ما لا نهاية والسماء تنتصب فوق ذلك، حتى بدا الناس وحتى الخيول وكل من يعيش هنا وكأنهم حشرات صغيرة في مكان واسع مترامي الأطراف بين السماء والأرض. مع ذلك فـأن جوانب من هذا المكان تذكرني ايضاً بأعمال ميليه،مثل الكنيسة الصغيرة التي مررتُ بها والتي تشبه تماماً كنيسة غريفيل في لوحة ميلية الموجودة في لكسمبورغ، والاختلاف الوحيد هو وجود رجل مع مجرفة في اللوحة، بينما يظهر هنا الرجل صحبة قطيع صغير من الخراف بمحاذات سياج المزرعة.
رغم بعد درينته عن البحر، لكن هذه الحقول الفتية تمتد وتتماهى مع الافق وكأنها بحر بعيد، وتتمايل رؤوس السنابل وتتحول الى أمواج صفراء لامعة. صادفت في الطريق فلاحين يحرثون الأرض، وبعض راصفي الطرق وهم يجرون عربات محملة بالرمل، ومجموعة من الرعاة، وعدد من العربات التي تنقل الأسمدة. توقفت قليلاً عند نزل قديم، لأرسم إمرأة مسنة مع نول غزل، رسمتها على شكل سلويت وكـأنها قد خرجت تواً من حكاية خرافية، وقد إستقرت قبالة ضوء النافذة، حيث يسقط عليها ضوء النهار الساطع. وبدت في الجانب جادة تعلوها أعشاب خضراء طرية، تمركزت فوقها بضع وزات منشغلة بإلتهام العشب الطري.
وبعدها حين بدأ الظلام بالهبوط مجدداً، تمنيتُ أن تتخيل معي السكينة التي عَمَّتْ المكان. أسير فوق جادة ضيقة تحيط بها أشجار الحور بأوراقها الخريفية الصفراء، لأصل الى طريق طيني واسع، قاتم اللون، تحيطه من الجانبين اعشاب وشجيرات تحجب الرؤية، لكني رغم ذلك رأيت في البعيد بضعة أكواخ بأشكالها المثلثة التي بدت مثل طيف، وقد انبثق من نوافذها ضوء احمر، نتيجة نيران الفلاحين المشتعلة. والتمعت فوهة تصريف المياه وبانت مياهها الصفراء المتلألأة التي إستقرت في قاعها جذور أشجار متعفنة.
كلما أطبق الظلام أكثر، كلما وضح التضاد أكثر بين لون التربة الداكن ولون السماء الفاتح الذي يغطيها مثل خيمة بيضاء، وكأنك ترى الاشياء بالأسود والابيض فقط، تخيل معي كيف أن بياض السماء يحاور سواد التربة. ووسط ذلك يظهر شخص بعيد يرعى أغناماً إمتزج صوفها بالطين وهي تتزاحم وتتماحك مع بعضها، حتى لتبدو مثل تماثيل طينية متحركة، لتسير بعدها بصعوبة أمام الراعي، محاولة الوصول الى الحضيرة التي يغمرها الظلام، بعد ان إنفتح بابها على مصراعيه وكأنه فتحة كهف مظلم، وفي ذات الوقت بانَ ضوء خفيف خلف المشهد، ليلتمع ظهر الخراف التي أخذت بالمسير خلف بعضها مثل عربات قطار، لتنتهي داخل الحضيرة وتتبعها أمرأة تترنح في مشيتها بطريقة تتلائم مع حركة الفانوس الذي يتدلى من يدها.
وفي عودة هذه الخراف الى حضيرتها، تنتهي سمفونية الجمال التي شاهدتها اليوم. كان يوماً مليئاً بالأصالة والفتنة، بل حلماً مصحوب بنغمات الحكمة والسحر، حتى نسيتُ كل شيء، بما في ذلك تناول الطعام. لم يخطر الأكل على بالي ألبتة. وآخر وجبة تناولتها، كانت عند العجوز صاحبة النول، والتي قدمت لي قطعة خبز ريفي وقدح قهوة. مضى اليوم كله وأنا أتنقل من شروق الشمس الى غروبها، وسط سمفونية من الجمال البكر.
وصلت البيت، وبعد أن أخذت مكاني قرب الموقد، شعرت فجأة بالجوع، بل بجوع شديد جداً. نعم، لقد نسيتُ ان افكر بأي شيء آخر وأنا وسط الجمال الذي اخذ مني كل اليوم. وكأنني وسط معرض يحتوي على مئة لوحة من الروائع. ورغم أني لم أخرج بغير بضعة رسومات، لكن ماشاهدته من سحر قد منحني قوة ودافعاً كبيراً للرسم.
حاول أن تكتب لي بسرعة. اليوم هو الجمعة ورسالتك لم تصلني بعد، وأنا متلهف لقراءة شيء منك. افهم التأخير، وأعزي ذلك لذهاب رسالتك الى هوخفين أولاً، لِتُحَوَّل بعدها الى عنواني هنا. ربما من الافضل ان ترسل لي النقود مرة كل شهر. في كل الأحوال، اكتب لي سريعاً فأنا متشوق لذلك.
أشد على يدك بقوة.
أخوك المحب فنسنت.
- هوامش المترجم:
* ماكس ليبرمان: رسام ألماني (١٨٤٧-١٩٣٥) تمثل أعماله إنتقالة من الواقعية الى الإنطباعية. إرتبط بصداقات عديدة مع الرسامين الهولنديين، حيث قضى سنوات عديدة في هولندا. لديه جملة شهيرة قالها حين سألته إمرأة (سيد ليبرمان، اريدك ان ترسم لي بورتريتاً جميلاً ويشبهني) فأجابها ( لا يمكن ذلك ياسيدتي. فـأما أن يكون البورتريت جميلاً أو أن يشبهك) وقد كرمته ألمانيا بوضع واحدة من لوحاته على عملتها.
* * المسافة بين آسين وزويللو (٢٨) كيلومتر، ويمكن قطع الطريق الريفي بينهما الآن خلال نصف ساعة بالسيارة. وقد قطع فنسنت هذه المسافة مشياً خلال ست ساعات.
****
- المصدر:
رسائل فان كوخ - جريدة تاتوو
مدهش أن تسير أمورك بشكل جيد في بروكسل. حينها ستشعر بأن كل شيء سيمضي على مايرام.