- الرسالة العشرون
نيونن*، منتصف حزيران ١٨٨٤
تَيـَّو العزيز
بعد لوحة المرأة المنشغلة بالغزل التي أرسلتها لك مع رسالتي السابقة، هاأنا أبدأ الآن برسم كبير لهيئة رجل، وأرفق هنا تخطيطاً مصغراً لذلك، ربما تعود بك الذاكرة للدراستين اللتين رسمتهما أيضاً بذات الزاوية والتكوين. قرأت بمتعة فائقة (الأساتذة السابقون) لفرومانتين*،
وهو يعالج في هذا الكتاب الكثير من المواضيع التي تشغلني، مثلما يقترب بشكل ما من الآراء التي نقلها لي بعض الأصدقاء في لاهاي عن إزراييل* حول تناغم الضوء مع الظلام، حيث يقول: عليك أن تبدأ بالدرجات الفاتحة وتصعد سلم الهارموني قليلاً قليلاً نحو التونات الداكنة. أفهم مايقصده هنا، إضافة الى إننا أثناء الرسم علينا أن نحافظ مثلاً على الأجواء الرمادية المناسبة، وهذه الطريقة في التعامل مع الرسم، تشبه ما يقوم به موف، وذلك مختلف تماماً عما قدمه رويزدال* أو دوبريه في أعمالهما، لكن ماذا عن كورو ودوبنيه*؟؟؟
وماينطبق على المنظر الطبيعي ينطبق حتماً على رسم الأشخاص أيضاً، فحين يرسم ازراييل حائطاً أبيض، يكون ذلك الحائط مختلفاً عما يرسمه رينو وفورتوني! وبهذا يظهر الشخص الذي يـُرسَمُ بجانب الجدار مختلفاً أيضاً. بالنسبة لي لا يمكنني تصور ما تقوله عن الأسماء الجديدة* في الفن، أريد أن أرى ذلك بنفسي لأعرف الفرق. وما كتبته لي حول (الانطباعية) شيء مختلف عما تصورته. هناك فكرة تلح عليَّ، وهي إن الفن الجديد يجب أن يأخذ شكلاً آخر، ويمكنني القول أن ما تسمى بالانطباعية ليست واضحة الآن بشكل كامل بالنسبة لي. وبعيداً عن ذلك سـأظل أنظر علـى سبيل المثال لأعمال ازراييل وأرى فيها الكثير من التفاصيل واللون والتقنية التي تغنيني عن الكثير، أرى في أعماله ما هو جديد ويمنحني دافعاً للأمام. يكتب فرومنتين عن رويزدال بأنه أصبح قديماً ولا تصلح تقنياته لهذا الوقت، وإن الفنانين قد تجاوزوه الآن، كذلك هناك الكثير من الرسامين الذين تجاوزوا كابات* وأعماله، ومثال ذلك لوحته التي في لكسمبورخ. ربما لأن أعمالهما فيها الكثير من البساطة، لكن من ناحية أخرى ألا نحتاج الى هذه البساطة في الفن، أليس بمقدورنا أن نوظفها بشكل صحيح ونضعها في مكانها المناسب؟ وهل بسبب ذلك أصبحت أعمالهما لا تستحق منا التقدير اللائق؟ وهذا ينطبق أيضاً وبكل تأكيد على أعمال ازراييل وديجرو لأنهم أيضاً يعملون على تبسيط المساحات والكتل. إن أعمال هؤلاء تشبه من يقول لك شيئاً بوضوح وبساطة كي يوصل لك الفكرة بدون تزويق وتزيين وزخرفة كلامية، إنهم يقدمون الحقيقة كما هي، ببساطة لكن مليئة بالعمق والتأثير.
أُرفق لك هنا آخر دراسة رسمتها للرجل المسن الذي يغزل، ويمكنك أن تلاحظ كيف يكون اللون الأبيض للخيوط مشعاً حين يكون في الضوء، ومنطفئاً حين يستقر في العتمة. حجم العمل ١٠٥في ٩٥ سم ورسم المرأة التي تغزل ١٠٠ في ٧٥سم، وقد رسمتها بتونات البُني المحروق*، فذلك يمنح الرسم بعض الدفء وكذلك يعطي أحساساً لروح المكان المعتم، سيئ التهوية. لو كان آرتز* هنا لأعتبر المكان قذراً بالتأكيد، وربما الرسم كذلك! لا أفهم يا تيّو كيف أن بعض فناني اليوم ينتقصون أو يشيحوا بوجوههم من استخدام البُني المحروق في الرسم، رغم نتائجه المدهشة. فكم أضفى على الكثير من اللوحات نعومة وغنى وهيبة. ففي هذا اللون ودرجاته خصوصية وتأثير مذهل، رغم ما يتطلبه من عناء ومشقة في تطويع تناغماته. فهو ببساطة يحتاج لمعالجات مختلفة عن بقية الألوان المتعارف عليها. هناك الكثير من الفنانين يترددون، بل يخشون الدخول في غمار تجارب جديدة، وذلك لأنها لا تحقق النجاح في يومها الأول، وتحتاج الى الصبر وإعادة التجربة. لقد مرَّ على استخدامي لهذا اللون (المادة) سنة واحدة، وقد استخدمته في الرسومات الداخلية في الغالب، ولازلتُ أتذكر كيف جعلني محبطاً في البداية، لكني صرت أنظر مع الوقت لنتائجه الممتعة وتأثيره الجميل.
لديك الآن فرصة كبيرة لتتابع كتب الفن وما يستجد بهذا الخصوص، إن صادفتك كتب جيدة ككتاب فرومنتان مثلاً عن الرسامين الهولنديين أو كتب ومطبوعات أخرى عن الفن وتقنياته، فلا تتردد أرجوك في شرائها وإرسالها لي، وبإمكانك أن تخصم ثمنها مما ترسله لي من نقود. أود حقاً أن اتعلم أكثر فأكثر عن الفن وتقنياته وما يتعلق به من نظريات ومداخلات، فذلك سيسهل عليَّ السير في هذا الطريق، فالفن يحتاج الى أسئلة كثيرة كي يتغير، وحين نكسر اليقين عندها سنصل في الغالب الى الحقيقة والخلاص. ودائماً مانجد ضالتنا هذه في الكتب، لهذا اي كتاب سيكون مهماً، حتى لو اعطاك فكرة أو لمحة سريعة وعابرة عن شيء ما، لكن مع الأسف، فالناس لا تنتبه دائماً للكثير من الاشياء التي تمضي من أمامهم وتبتعد، ففي زمن توريه وبلانك* مثلاً كان هناك الكثير من الكتاب الذين تناولوا أشياء مهمة في كتاباتهم، لكن هذه الأشياء والتفاصيل طواها النسيان الآن.
أردت أن اسألك سؤالاً يتعلق باللون، ماهي درجة اللون السليمة ودرجة اللون المكسورة؟ يمكنك طبعاً أن ترى ذلك في لوحة ما، لكن هل بإستطاعتك أن تشرح لي هنا ماذا يُقصد ب (مكسور)؟ لابد للإنسان أن يعرف هذا الموضوع من الناحية النظرية أو العلمية سواءً كان رساماً أو خبيراً بالفن والالوان. إن القوانين التي تتحكم باللون مدهشة ورائعة بشكل لا يصدق، وتأتي أهمية ذلك لأنه لا يحدث بشكل عشوائي أو بالمصادفة، فالناس لم تعد تهتم او تؤمن بالمعجزات العشوائية، مثلما لم تعد تؤمن بإله خارق يتقافز بنزق من أمر الى آخر. لذلك أرى إن الناس عليهم أو يولوا المزيد من الاحترام والتقدير لمكانة الطبيعة، لا أطالب الناس بتجاهل الثوابت، لكن عليهم أن يتفحصوا الأشياء ويدرسونها جيداً، عليهم أن يتجاوزوا الأفكار البالية بكل شيء بما في ذلك الرسم. سوف لن يتغير الناس ماداموا مواظبين علـى الإنحناء أمام ما يسمونهم بالعباقرة الذين ينتظرون الإلهام لينتجوا أعمالاً عظيمة. ان لا أنكر وجود عباقرة، لكني أرى أن الممارسة والتدريب والمحاولات المستمرة في معرفة تقنيات ونظريات الفن هي التي تؤدي الى الطريق الصحيح. وهذا ما أنشدهُ وأحاول القيام به في لَوحَتَي المرأة الصغيرة اثناء الغزل، والرجل المسن المنشغل بالخيوط البيض، ففي هاتين الدراستين كنت أقرب لنفسي وشخصيتي الفنية من أعمالي السابقة. وبخصوص اللون الأسود، فأنا لم استعمله هنا، لأني حاولت أن اجد تأثيراً أعمق من تأثير الأسود، لهذا لجأت الى درجات اللون الأزرق الغامق مع البني المصفر والأزرق البروسي مع البني المحمر، وهذا بالفعل ما منحني نتائج وتأثيرات أكثر عمقاً وقوة من الأسود الأعتيادي، لذلك حين اسمع البعض يقول إن اللون الاسود غير موجود في الطبيعة، أفكر بأنه يجب أيضاً ان لا يكون موجوداً في الرسم. لكن مع ذلك لا تظن إن المُلَوِّنين الجيدين لا يستخدمون اللون الأسود، فلا حاجة للقول بأنك ما أن تضيف القليل من الأزرق أو الأحمر او الأصفر الى الأسود فأنه يصبح رمادياً. وأظن إن ما كتبه بلانك* في كتابه (فنانو الحاضر) حول معالجات وتقنيات فيلاسكيز كان مهماً جداً ويدعو الى الفضول بهذا الخصوص، وحديثه عن الظل الذي رسمه بدرجات من الرماديات التي لا لون محدد لها، وكيف إنه يمزج الأسود مع الأبيض ليحصل على الرمادي، لكنه يخلط معهما كمية من لون آخر، فينتج لوناً رمادياً جديداً ينسجم مع بقية الوان اللوحة.
يدهشني إنك لا تُقَدِّرَ جول دوبريه* كثيراً كما تمنيت! أقول لك صادقاً بـأني لو شاهدت أعماله من جديد فستبهرني مرة أخرى، وربما أكثر من مشاهدتي الأولى لها، اعتقد أن دوبريه ملوناً أكثر من كورو وزوبيني، رغم أن هذين الأخيرين جريئان جداً في استخدام اللون. أعمال دوبريه تشبه الموسيقى، بل هي سيمفونية مصنوعة من الألوان، إنه يعرف مايريد، يتقن الرسم ويضع كل لمسة في مكانها المناسب، إنه يشبه الى حد بعيد بيتهوفن الذي ينجز موسيقاه بهذه الطريقة البارعة والمحسوبة بعناية فائقة، فهي رغم البساطة التي تغلفها، عميقة بشكل غير محدود، مثل الطبيعة تماماً... وهذا ما اعتقده عنه أيضاً... اقصد عن دوبريه.
أحييك كثيراً وأشد على يدك.
أكتب لي ان كان هناك ما تود قوله.
أخوك المحب فنسنت.
= هوامش المترجم:
* نيونن: وهي القرية التي ولد فيها فنسنت وعاش معظم سنوات حياته، وتقع في مقاطعة نورد براباند جنوب هولندا، قرب الحدود البلجيكية، ويتوسطها تمثال برونزي جميل لفنسنت فان غوخ.
* فرومنتان: كاتب ورسام فرنسي (١٨٢٠-١٨٧٦) إهتم برسم الطبيعة، وكان من إوائل الفنانين الذي سافروا الى الجزائر ليصور أجوائها وأهلها في أعماله. تتميز لوحاته بتكوينات مميزة ومهارة كبيرة في إستخدام اللون. كتب حول رحلاته الى الجزائر، ولديه أيضاً مؤلفات حول أساتذة الرسم الهولندي.
* * يوسف ازراييل: رسام هولندي (١٨٢٤-١٩١١) أحد مؤسسي مدرسة لاهاي، تتميز أعماله بمسحة رومانسية، وقد إهتم برسم الاشخاص المنعزلين.
* * ياكوب رويزدال: رسام هولندي (١٦٢٨-١٦٨٢) يعتبر واحداً من أعظم رسامي القرن السابع عشر، ويوضع بمصاف ريمبرانت وفرانس هالس وفيرمير، وقد إهتم برسم المناظر الطبيعية والبحرية.
* * تشارلز دوبنيه: (١٨١٧-١٨٧٨) رسام فرنسي أثر كثيراً على الانطباعيين، حيث كان يرسم أعماله على ضفاف نهر السين. وقد قضى وقتاً طويلاً صحبة الرسام كورو في قارب واحد، وهما يرسمان الطبيعة والتناغمات بين الأشجار والماء.
* * الأسماء الجديدة: يقصد بذلك الانطباعيين أمثال مونية ورينوار وبيسارو وباقي مجموعة الرسامين الذين كانوا وقتها في بداية تحولهم نحو المعالجات الانطباعية وحرية حركة الفرشاة والرقشات السريعة.
* * لويس كابات: رسام فرنسي (١٨١٢-١٨٩٣) سافر الى ايطاليا وتأثر بأجواء الرسم هناك، وعاد الى فرنسا لينتج اعمالاً ألهمت الكثيرين. ورغم المسحة الدينية التي تعلو بعض اعماله إلا انه يعتبر حلقة وصل بين الفن التقليدي والفن الجديد.
* * البُني المحروق: لون بني معتم يقترب من الأسود، مصنوع من مادة القار وبعض المواد الكيميائية العازلة التي تُغطى بها سطوح المنازل.
* * تشارلز بلانك: (١٨١٣-١٨٨٢) أحد نقاد ومنظري ومؤرخي الفن في فرنسا، وقد شغل عدة مناصب رفيعة المستوى، منها مديراً للبوزار ورئيس تحرير الجريدة الرسمية للفنون وأستاذاً لمدرسة العمارة في باريس.
* * أدولف آرتز: رسام هولندي إرتبط بمدرسة لاهاي، رسم حياة صيادي السمك على الساحل الغربي لهولندا، وكانت رسوماته مشرقة ووسط أجواء مشمسة. إهتم بالتفاصيل بما في ذلك حركة الشخصيات والملابس. وقد إقتنى تَيّو شقيق فنسنت بعض أعماله. تلاقي لوحاته إقبالاً وشعبية خاصة في مزادات أمريكا.
* * جوليس دوبريه: رسام فرنسي (١٨١١-١٨٨٩) واحد من أعضاء مدرسة الباربيزون الشهيرة التي اهتمت برسم الريف المفتوح حول قرية باربيزون جنوب باريس، والتي جاء منها إسم المجموعة. إبتدأ بعمله كرسام على البورسلين، ثم تحول الى الرسم الزيتي. تتميز اعماله بالغنائية، ولوحته (الخريف) معروضة الآن في متحف فان غوخ ذاته.
***
- الرسالة الحادية والعشرون
نيونن، ٩ نيسان ١٨٨٥
تَيَّو العزيز
يدهشني عدم وصول أي شيء منك! لا كلمة ولا رسالة أو أخبار! ستقول بأنك مزدحم، وأنا أتفهم ذلك بالتـأكيد. لذا رغم تأخر الوقت الآن، وددتُ أن أكتب هذه الرسالة لأخبرك بأني أتأمل وأرجو أن نستمر بالتواصل، وبشكل أكثر جدية، لا تنسى ذلك.
أرسل لك دراستين رسمتهما مؤخراً وهي تمثل مجموعة من الفلاحين يجتمعون حول طاولة يتوسطها صحن كبير مليء بالبطاطا، كنت مع هؤلاء الفلاحين، وقد عدتُ تواً الى البيت لأكمل العمل على هذه اللوحة* تحت ضوء المصباح، بعد أن بدأتُ بها أثناء النهار. ارسم لك هنا تخطيطاً صغيراً للعمل لتعرف الموضوع وتتخيل التكوين. لقد نفذتها على قطعة قماش كبيرة نسبياً، وأرى إنها مليئة بالحياة. ورغم إعتقادي بأن مناخها يعكس المشاعر الحقيقية للناس، لكني متأكد بما لا يقبل الشك لو أن العم كور* موجوداً بجانبي الآن، لقال إنه عمل سيئ، وربما يظن بأني قد رسمتها بحذر وبطء فوق الحاجة. أعرف أن الاساتذة الكبار وخاصة عندما يمتلكون الخبرة، بإستطاعتهم إنهاء العمل بطريقة سريعة فيها بعض الاختصارات التي تقود الى نتائج جيدة، وذلك بسبب المران والخبرة الطويلة التي اكتسبوها. أما بالنسبة لي، فأنا أحتاج الى وقت طويل للإمساك بذلك، وحتى لو استطعت الوصول اليه، فهل يحمل هذا جدوى تقودني الى ما أريده من الرسم. أجرب الآن أن أتوصل للتعبير والمناخ المناسب للوحة، وهذا مهم بالنسبة لي وهو ماابحث عنه. أحاول أن أنقل الانفعال الذي اشعر به من خلال اللون والمعالجة. لا أريد أن أرسم هذه الأشكال والتفاصيل بشكل حرفي، ويمكنني القول بأني سأتخلى تماماً عن هذه الحرفية في الرسم، كي أستطيع أن أعكس مشاعري وعاطفتي على سطوح اللوحات.
إسمع يا تيو، نصيحتي اليك، أو بالأحرى أمنيتي أو رجائي، دعني أرسم ما أستطيع رسمه من الرسومات التحضيرية دون توقف، وإحفظها كلها عندك، فأنا لا أريد أن تُعرض تخطيطاتي للبيع في الوقت الحاضر، فربما أستطيع في يوم قادم أن اصنع لنفسي إسماً بين الفنانين، وعندها يكون من الصعوبة إسترجاع هذه الأعمال ثانية بعد أن نبيعها الآن. دع الناس يطلعون عليها فيما بعد، وقتها ستكون قيمتها أعلى وأهميتها أكبر، وربما يطلع عليها من خلالك رسامون شباب، فتمنحهم محفزاً لعمل دراسات مماثلة لأعمالهم قبل الشروع برسمها على الكانفاس.
أسعى الآن على المواظبة للخروج في الصباحات الباكرة لرسم دراسات للناس في أماكن العمل، في البيوت والحقول والأماكن التي تملؤها الحركة، لقد بدأتُ بذلك في الأيام الأخيرة وإستهواني الأمر كثيراً.
أعرف إنك تبحثُ عن أفكار جديدة في تجارة اللوحات، لكني أرى أن الطريقة التي تتعامل بها الآن لا يمكن بأي حال أن تكون قديمة وعفا عليها الزمن، لأنك ببساطة تتعامل مع الآخرين بضمانات جيدة. ربما بإمكانك أن تضيف شيئاٍ آخر، وهو أن تجعل مثلاً كل عشرة تخطيطات مجتمعة بنفس الثمن الذي تطلبه مقابل لوحة مكتملة؟ وبهذا تمنح مقتني اللوحات بعض الحلول الجديدة. هل تعرف ياتَيّو؟ ربما عليك أيضاً أن تبحث عن رسامين صغار السن وغير معروفين في الوقت الحاضر، شرط أن يكون لديهم بعض النبوغ في الرسم، وتكلفهم بعمل دراسات أولية للوحاتهم بالأسود أو الأحمر الداكن على ورق بريستول*. قد ترى عدم وجود ضمانات كثيرة لهذه الدراسات الآن، لكن قيمتها ستظهر في أيام قادمة لأنها ستصبح نادرة، فليس كل الرسامين يهيئون هذا النوع من التخطيطات قبل الشروع برسم لوحاتهم بالألوان، إضافة الى ذلك ( أرى هذا في نفسي على كل حال) هناك رابطة خاصة وعاطفية بين الرسام وهذا النوع من التخطيطات، إنها قريبة جداً من روح الفنان، أكثر مما يتصوره البعض.
تَعْلَم أن هناك بعض رعاة الفن الذين يقفون بجانب الفنان ويمدون له يد العون في سبيل إنجاز أعماله، لكن هذه العملية ليست بهذه السهولة دائماً، فحين يمضي الوقت ولا يبيع الفنان شيئاً يصبح التواصل بين الطرفين صعباً ويكتنفه التردد، حتى تأتي مرحلة يشعر فيها راعي الفن بأن نقوده يرميها في البحر، لأنه يمنحها -حسب إعتقاده- دون فائدة. الفنان ياتَيّو يحتاج الى المزيد من الثقة، ويتأمل الكثير من الصبر والانتظار، لكن تحصل القطيعة في الغالب بسبب السهولة التي ينظر بها (راعي الفن) نحو عملية انجاز الفن ذاتها. أرجو يا تَيّو أن هذه الحالة لم ولن تحدث بيننا، كذلك أتمنى أن رسوماتي مع مرور الوقت ستعطيك أملاً وثقة أكبر.
نحن لم نعش في زمن جيغو* لكن أعماله وأفكاره التي إطلعتُ عليها في كتابه الذي استعرته منك، أعطاني ثقة تجاه أعمالي، أعرف ان من الصعب إستدعاء عزيمة الماضي الآن، لكن ذلك يبعث على الطمأنينة والأمل. وبكل الأحوال علينا بشيئين، هما العمل المستمر والجرأة، إنهما مفتاح أيامنا القادمة.
دعنا نرسم الكثير من الأعمال ونمضي مع الرسم الى ابعد الحدود، شرط أن نجاهد على ان لا نتغير للأسوء حتى حين تسيء الأمور معنا. قلت (نرسم) لأن النقود التي ترسلها لي وتتحمل الكثير من المصاعب في حياتك بسببها، تعطيك الحق الكامل بإمتلاك نصف أعمالي واعتبارها أعمالك*، فأنت قد رسمت كل اللوحات معي، لما تقدمه لي من دعم غير محدود.
حاول أن تتحدث مع أحد من جماعة القط الأسود* وتسأله إن كانوا بحاجة الى تخطيطات سريعة لآكلي البطاطا، وإن كان جوابهم نعم، فأي الحجوم تناسبهم لذلك؟
أشد على يدك مع كل محبتي
أخوك المحب فننسنت
هوامش المترجم:
* آكلوا البطاطا: تعتبر هذه اللوحة أول أعمال فنسنت العظيمة وبداية نبوغه الفني. وقد تأثر فيها بأحد أعمال الفنان الهولندي يوسف إزراييل، والتي تمثل ايضاً مجموعة من الفلاحين يجتمعون حول طاولة الطعام. وقد رسم فنسنت تخطيطات ودراسات كثيرة لهذه اللوحة قبل أن يرسمها بالالوان الزيتية، وما يميزها هو تكوينها المؤثر، وتعبيريتها العالية التي ألهمت الرسامين بعد عشرين سنة من رسمها لإبتكار المدرسة التعبييرية وكذلك الوحشية. وهي موجودة في متحف فان غوخ بأمستردام، كذلك يوجد نسخة أخرى تبدو غير مكتملة رسمها فنسنت في ذات الوقت، وهي موجودة في متحف كرولر مولر بمدينة أوترلو، شرق هولندا، كذلك توجد نسخة لذات العمل نفذها فنسنت بالليثوغراف في مطبعة خيستل بمدينة أيندهوفن جنوبي هولندا، وهي موجودة ايضاً بمتحفه في امستردام. وقد زرتُ المتحفين وإطلعتُ هناك على الأعمال الأصلية الثلاثة.
* العم كور: هو كورنيلس مارينس فان غوخ، عم فنسنت وتيو، وكان يعمل في تجارة اللوحات الفنية والكتب بشارع كايسر خراخت في مدينة أمستردام.
* ورق بريستول: ورق إنجليزي مصنوع من القطن، يعتبر من أفضل وأقدم انواع ورق الرسم، وتعود صناعته الى بداية صناعة الورق في أوروبا، ويتميز بأنواعه العديدة وجودته العالية. وهو يسعمل في كل تقنيات الرسم، مع الأحبار والقلم الرصاص والباستيل والايربرش والطباعة والفحم، وتعتمد كل تقنية على سمك الورق وملمسه، ويوجد اليوم خمسمئة درجة او نوع من هذا الورق وتتناسب مع كل المعالجات.
* جيغو: جان فرانسوا جيغو (١٨٠٦-١٨٩٤) رسام فرنسي ومصمم كتب ومنفذ للرسوم التوضيحية والطباعية، وكان واحد من ألمع شخصيات عصره. إهتمت به أرملة الكاتب بلزاك وعاش معها فترة طويلة بعد ان إحتضنته في صالونها. ساهم بشكل فعال في تطوير فن الطباعة الحجرية. وعند وفاته دفن في مقبرة الأبطال في مدينة بيسانكون.
* وقد حدث ذلك بالفعل بعد خمس سنوات من كتابة هذه الرسالة، حين انتحر فنسنت وبقيت كل اعماله عند شقيقه تَيّو الذي توفي بدوره بعد بضعة شهور من هذه الحادثة بسبب مرضه وحزنه على أخيه الخالد، لتبقى كل اللوحات التي لم يُبع منها شيئاً أثناء حياتهما عند العائلة. وحتى بعد الممات بقيا بجانب بعضهما الى الأبد، فقد دفنا في قبرين متجاورين بقرية أوفير سور واس في فرنسا.
* القط الأسود: كابريه شهير في باريس، تأسس سنة ١٨٨١، وكان مكاناً للقاء الرسامين والكتاب والموسيقيين. وجاءت التسمية من خلال قط اسود صغير عثر عليه مؤسس الكابريه رودولف ساليس في ذات المكان أثناء التحضير للبناء. وكان طباعي الاعلانات والافيشات يرتادون المكان دائماً لأن صاحب الكابريه يكلفهم بعمل اعلانات فنية تخص العروض. وقد تأسست مجلة تحمل نفس الاسم، استمرت ١٤ سنة، وكان من كتابها موباسان وأميل زولا، كذلك نشر فيها تولوز لوتريك الكثير من الرسومات.
***
- الرسالة الثانية والعشرون
أنتفيربن، ٢٨ تشرين الثاني ١٨٨٥
تَيـّو العزيز
أردتُ أن اكتب لك إنطباعاتي عن معالم وأجواء مدينة أنتفيربن* حيث بدأتُ بترتيب أوضاعي هنا. في هذا الصباح قمتُ بجولة كاملة في المدينة للتعرف على تفاصيلها ومحاولة الانسجام معها. كذلك مرّرت على مكتب الجمارك لإستلام حاجياتي التي شحنتها قبل مجيئي. مرّرتُ بالكثير من المخازن والمستودعات التي إصطفت بجانب بعضها على هيئة خط طويل، أسير وأتأمل ذلك على مهل،
فيبدو كل شيء يثير الفضول. تجولتُ بإتجاهات متعددة وأنا أتنفس رائحة المكان وأتحسس ألوانه وتفاصيل موجوداته، أتوقفُ هنا عند حوض تصليح السفن، وأتكئ هناك على حافات الأرصفة التي إبتلَّت بماء البحر. ياله من تباين غريب تشعر به هنا وأنت تتجول وسط كل هذا، وخاصة لشخص مثلي قضى فترته الأخيرة بين خضرة الريف وهدوء الفلاحين وسكينة الحقول التي تغفو بوجه السماء المفتوحة. ومع هذا التباين أشعر بالحيرة والتشويش أزاء الامكنة واختلافاتها. هناك كلمة شهيرة يرددها دي جونكورت* (أشياء يابانية الى الأبد)، نعم هذه المراسي ايضاً تشبه قطع يابانية الـى أبعد درجة، انها غريبة وفريدة ومؤثرة. كم أود أن تتجول معي هنا لترى بنفسك شكل المدينة وتفاصيلها، الناس هنا أكثر تنوعاً مما ظننته، أما الماء والسفن التي تتداخل أشرعتها الضخمة فهي الشيء الأساس هنا والكل يدور حولها، يغطي ذلك سماء رمادية خفيفة وناعمة. لكن يبقى توصيف (الاشياء اليابانية) يشغلني هنا، وأقصد هذه الأشكال التي تتحرك في كل الاتجاهات، وتنعكس عليها تباينات عديدة غير متوقعة ومن تلقاء نفسها، ففجأة يظهر لك وأنت تتجول، حصان أبيض يقف هادئاً على تربة رطبة بمحاذاة جدران أحالها سخام السفن الى لون أسود، وفي الزاوية المقابلة رُصَّتْ مجموعة من صناديق البضائع الداكنة، وقد غُطي قسم منها بمشمع لامع. في هذه الإنعطافة لا ترى سوى تأثير الأسود والأبيض وما بينهما من تدرجات رمادية.
في نهاية الشارع إستقريتُ بعض الوقت في مشرب انجليزي قديم بهيئته التقليدية الأنيقة، وعبر النافذة رأيت سفينة ترسو وهي محملة بسلع تبدو نادرة، من ضمنها جلود مختلفة وقرون جواميس برية، يقوم بتفريغها عتالي الميناء ذوي القامات الضخمة، يساعدهم الكثير من البحارة الأجانب. وبينما أنا منهمك بالنظر الى هذه التفاصيل، لمحتُ أمام زجاج النافذة فتاة إنجليزية شقراء في غاية الرقة والأناقة، كأنها تبحث عن شيء أو شخص ما، وقد انسجمت هيئتها في الخارج وتناغمت مع تصميم وأثاث البار، وبين كل هذا لمحتُ إنعكاس السماء الفضية اللامعة فوق قرون الجواميس المعتمة. وكي تعرف التضاد الذي حدثتك عنه، فمقابل هذه الفتاة الناعمة يقفُ مجموعة من البحارة الفلامنكيون* بوجوههم الحمراء الداكنة التي لوحتها الشمس، وسواعدهم المفتولة ومناكبهم العريضة (أنتفيربيون حد النخاع) يتمايلون وهم يأكلون المحار ويشربون البيرة، ويصدرون جلبة وضجيجاً يملأ المكان، وفجأة تخطر إمرأة ضئيلة الحجم، بشعرها الأسود ويديها الناعمتين الملتصقتين على جسدها ووجهها البيضوي الصغير بلونه الأسمر المصفر، تنسل بهدوء ورويّة بين الجدران الكالحة، وعند وصولها الى مكان الجلبة، ترفع طرف عينيها الفاحمتين بخفة وتسترق النظر بطريقة مائلة نحو هؤلاء العمالقة الأفظاظ، إنها فتاة صينية صغيرة وغامضة، يالها من مسكينة هذه الفأرة الصغيرة وسط هؤلاء الفلامنكيين الوحوش آكلي المحار. هنا تبدو أشكال الناس أصغر حجماً وهم يمرون عبر شوارع ضيقة محاطة ببنايات شاهقة، فضلاً عن المستودعات والمتاجر الكبيرة، وترى من خلال الشارع كيف إصطفت مشارب البيرة بكل تنوعها وتباين مصادرها واختلاف اصناف الناس فيها. والمكان لا يخلو طبعاً من المطاعم التي انتشرت على طاولاتها الأكلات البحرية، ومن خلال هذه التفاصيل تلوح ملابس البحارة وهي ترفرف على واجهات بعض المحال بـألوانها الصاخبة وكأنها ترحب بالزبائن.
الشارع الرئيس هنا طويل ومليء بالتفاصيل والأحداث الأصيلة، فبين لحظة وأخرى يتناهى الى السمع بعض العويل، لتعرف ان هناك شجاراً بين البحارة، أحاول ان أمضي في طريقي قدماً فيزداد صراخ مشجعي العراك وبطرق تتناغم وتتقاطع مع بعضها. أتجاوز هذه الجلبة قليلاً، ليداهمني كتف بحار صغير السن دفعته إمرأة تواً وهي تطرده من باب المبغى، ليلحق به رجل بدين غاضب يحاول إستعادة بعض النقود منه، الرجل البدين يسير مترنحاً وهو يتلفت يميناً ويساراً، وقد إلتحق خلفه طابور من الفتيات يحاولن معرفة مجريات الامور، بينما حاول البحار الشاب التخلص منهم، فتعثَّرَ بكومة من أكياس البضائع قبل ان يقفز من خلال نافذة أحد المتاجر ويختفي.
وبعد أن أصبحت هذه الضوضاء خلف ظهري، بانت لي المراسي من جديد، حيث ترسوا سفن الهارفيتش والهافر، ليصبح مركز المدينة ورائي تماماً، وتظهر لي مراعٍ مفتوحة ومترامية الأطراف، كانت كئيبة ويعلو الماء مساحات واسعة منها، وهناك ظهر زورق صغير وحيد، تحتضنه المياه الرمادية وتغطيه السماء الضبابية الباردة، المكان صامتٌ وفيه الكثير من الغياب مثل الصحراء. في الميناء عادة ما يجد المرء تفاصيل وألوان وحركة أكثر من أي مكان آخر، وهناك تفاصيل تفوق في تأثيرها جمال أسيجة الريف التي يصنعها الفلاحون من الشجيرات الصغيرة. هنا لا يكف المرء عن النظر ولا يجد الراحة ولا التوقف من متابعة التفاصيل. في كل الأحوال أرى لكل مكان خصوصيته، فحتى الأماكن الخالية بإمكانها أن تمنحنا الكثير من الخيال والحكمة والتفكير بالتفاصيل كما فعل ذلك مولز* على سبيل المثال. التنوع مهم، وهو الذي يرينا التضاد بين الأشياء والناس ومن خلال ذلك تمنحنا التفاصيل تأثيرها، فحين ترى فتاة جميلة وجذابة وموفورة الصحة تنعكس لديك صورة للبراءة والإخلاص، بينما حين تظهر لك هيئة مخيفة وتبدو خبيثة مثل ضبع، فإن هذا سيعكس لك صورة غير مريحة ومن الصعب التوافق معها، ومثال ذلك أيضاً الوجوه التي رأيتها وقد غزاها الجدري وأصبح لونها كلون (الجمبري) المسلوق، عيون رمادية شاحبة وحواجب لم يتبق منها شيء وشعر زيتي يتساقط بلونه الباهت الذي يشبه إصفرار شعر الخنازير في اسكندنافيا.
سيكون رائعاً أن أعمل هنا، لكن كيف، وفي أي مكان بالضبط؟ فالمرء ربما يواجه الكثير من المشاكل وسط هذا الزحام. عموماً لقد تجولت في أغلب الشوارع والأزقة والممرات دون أية صعوبة تذكر، وفوق هذا جالستُ بسهولة بعض الفتيات وتحدثتُ معهن، حتى خلنَني بحاراً، لذا ليس من الصعب العثور هنا على موديلات للرسم، سواء هذه الفتيات أو غيرهن. إستلمتُ اليوم أغراضي وأدوات الرسم التي إنتظرتها بشغف كبير، وبهذا أصبح المرسم جاهزاً، فقط احتاج الى موديلات غير مكلفة مادياً لأبدأ العمل. ولن أتردد بجعل الأمور الباقية تسير على مايرام. ربما هناك حسنة واحدة لعدم توفر نقود كافية، وهي أن أُجبر نفسي للبحث عن حلول مناسبة بدلاً من دفع ثمن الموديل. الأمر هنا يختلف عن الريف، والمبالغ التي تدفع للموديل في هذه المدينة ووسط هذه المناخات ينتج عنها أعمالاً جيدة، أي إنها لا تذهب هكذا دون قيمة. والشيء الأكيد والواضح هنا هو أن أنتفيربن مكان مذهل ومثالي لأي رسام. مرسمي الصغير هنا صار بمرور الساعات أكثر أُلفة، وخاصة بعد أن ثبَّتُ على الجدران مجموعة من المطبوعات اليابانية، إنها ممتعة فعلاً، هل تتذكرها؟ تلك النساء الناعمات الجميلات، لقد حدثتك سابقاً عنهن وعن الحدائق وضفاف الانهار والزهور والأغصان الشوكية المتعرجة*.
أحاول الاسترخاء هنا والانسجام مع فكرة السفر، وارجو أن أجد ما يمكن أن أقوم به هذا الشتاء، وما يطمئنني أكثر هو حصولي على هذه الزاوية، أنا الذي أستطيع التلاؤم والعيش حتى مع أسـوأ الظروف، وسـأحسب حسابي الى أن الترف لن يفتح لي ذراعيه في القريب العاجل. حاول أن ترسل رسالتك في بداية الشهر، لأن الخبز الذي بحوزتي سيكفيني لذلك الوقت. والآن بعد أن استلمتُ رسوماتي الثلاثة، فسأحملها وأذهب الى تجار اللوحات الذي عرفتُ بأنهم يقومون بذلك في بيوتهم وليس من خلال متاجر فنية تطل واجهاتها على الشوارع. حسناً ياتيو، لم امر بصعوبات حتى هذه اللحظة، أنا ومكان سكني بخير بعد أن حصلتُ على مدفئة قديمة ومصباح مقابل بضعة فرنكات، سأجد ما يناسبني ولن أضجر بسهولة، تأكد من ذلك. لقد عثرت على عدد اكتوبر من مجلة ليرميت وفيها لوحة لنساء في حقل البطاطس مساءً، يالها من مدهشة. لم احصل بعد على عدد نوفمبر، لقد إطلعتُ ايضاً على مجلة فيغارو، وفيها تخطيطاً رائعاً لروفائيلي. يبدو غريباً أن أرى رسوماتي الملونة أكثر عتمة هنا مما هي عليه في الريف، ربما جاء هذا بسبب ضوء المدينة غير النقي، عموماً أرى الأختلاف واضحاً وقد ادهشني هذا الامر! ومن هذا إستنتجت أن الرسومات التي لديك ربما تظهر لك أكثر قتامة مما بدت لي حين رسمتها في الريف، عموماً سأتفحص الرسومات الباقية التي تمثل الطاحونة وأشجار الشارع في الخريف والحياة الصامتة وبعض الدراسات الأخرى. تعرف أن عنواني هو: ١٩٤ شارع ديس إيماج، أرسل رسائلك عليه، كذلك لا تنسى الجزء الثاني من كتاب دي جونكورد عندما تنتهي من قراءته.
أشد على يدك مع كل محبتي
أخوك المحب
فنسنت
هوامش المترجم:
* أنتفيربن: مدينة بلجيكية قريبة من جنوب هولندا، عاش فيها فنسنت بعض الوقت قبل إكمال طريقه الى باريس. وتعتبر أنتفيربن إحدى المدن الثقافية المهمة، وهي ثاني أهم مدينة في بلجيكا بعد العاصمة بروكسل، ويتحدث سكانها اللغة الهولندية.
* * دي جونكورت: أدموند دي جونكورت (١٨٢٢-١٨٩٦) كاتب وناقد فرنسي، وهو مؤسس أكاديمية جونكورت، وهناك جائزة أدبية مرموقة بإسمه منحت لشخصيات عديدة منها مارسيل بروست وسيمون دي بوفوار وغيرهما. سيرة حياته هو وشقيقه جول جونكورت تكشف الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية في باريس القرن التاسع عشر.
* *الفلامنكيون: هم سكان النصف الشمالي من بلجيكا والمحاذي لهولندا، ولغتهم الرسمية هي الهولندية ويسمى هذا الجزء من بلجيكا احياناً بلجيكا الهولندية، في حين يتحدث الجزء الجنوبي المحاذي لفرنسا اللغة الفرنسية (بلجيكا ليس لديها لغة بلجيكية).
* * روبرت مولز: رسام بلجيكي ولد في انتفيربن (١٨٤٨-١٩٠٣) ساهم برسم بانوراما كبيرة هناك، واهتم برسم المناظر البحرية وبشاعرية كبيرة، وقد حصل على الكثير من التقدير والجوائز لما قدمه من فن رفيع المستوى.
* * المطبوعات اليابانية تعتبر من أكثر مصادر إلهام فنسنت، لقد أحبها وتعلق بها كثيراً، وظهر تأثيرها في كل أعماله تقريباً.
***
- الرسالة الثالثة والعشرون
أنتفيربن، ٦ شباط ١٨٨٦
تَيّو العزيز
شكراً لرسالتك التي إستلمتها مع ال ٢٥ فرنكاً، أسعدني ذلك كثيراً مثلما منحني رأيك حول فكرة مجيئي الى باريس نوعاً من الطمأنينة،
أنا متأكد بأن ذلك سيدفعني خطوات كبيرة للأمام وسيتطور عملي كثيراً، مجيئي الى باريس سينتشلني من الدوامة التي أعيش فيها هنا، فأنا أريد أن أطور عملي في باريس وليس الدوران حول نفس أخطائي هنا. يمكننا أن نجعل جانباً من بيتك مرسماً، وأعتقد إن هذا سوف لن يؤثر عليك، وفي ذات الوقت سيمنحنا قوة وثباتاً لأننا سنكون معاً، وسيجعل تفاهمنا وانسجامناً أكثر مما يحدث من خلال الرسائل فقط.
والآن... ماذا عساي أن أخبرك عن أوضاعي الصحية؟ عموماً مازلت أتشبث بأمل أن لا أترنح ساقطاً بسبب المرض، لكني بحاجة لمزيد من الوقت كي أستعيد عافيتي وقوتي، لديَّ سنّان يجب حشوهما ليعود فكي السفلي الـى سابق عهده، وهذا يكلف عشرة فرنكات للحشو، إضافة الى أربعين فرنكاً إخرى لباقي تفاصيل العلاج. لقد قضيت السنوات العشر الأخيرة وكأنني في السجن، وسيختفي أثرها السلبي حين أهتم بصحتي وأعالج أسناني بشكل مناسب، فالأسنان المتضررة تعطي إنطباعاً بتقدم السن والمرض، رغم سهولة علاج ذلك في أيامنا هذه. أتأمل أن يكون بإمكاني مضغ الطعام جيداً في الأيام القادمة، وسينعكس ذلك على معدتي وتتحسن صحتي بالتأكيد. لم أرسم منذ بضعة أيام، ونمت مبكراً، عكس الايام السابقة التي قضيتها مع المجموعة في درس الرسم، حينها كنت أنام في الواحدة أو الثانية صباحاً، أنا الآن أكثر هدوءً بسبب النوم الجيد.
كَتَبَتتْ لي أمي تقول بأنهم سيحزمون أشيائي ومتعلقاتي في الشهر القادم، وربما يمكنني أن أعود إليهم في نيونن لبعض الوقت، ولا أعرف إن كان في ذلك مضيعة للوقت، لكني بكل الأحوال أحتاج الى بضعة أشياء من بيتنا القديم، لآخذها معي الـي باريس. مدرس الرسم هنا وإسمه سيبرت يبحث عن أية حجة ليقلل من شأني أمام الباقين، لقد إشتبك معي وحاول أن يهددني بشكل مبطن كي أترك المكان، لذلك قلت له في المرة الأخيرة وباللغة الفرنسية التي يتحدث بها بأني لا أبغي المشاكل ولا أبحث عن الشجار مع أحد ولا أحاول أن أكون نداً لأي شخص، وكل ما يهمني هو الرسم بهدوء ولن ألتفت لأي شيء آخر، عندها كَفَّ عن مضايقتي، لكني متأكد بـأنه سيجد حجة جديدة كي يعيد مواجهتي ويزعجني كي أغادر المكان. والشباب الذي يدرسون الرسم معي، رغم مستواهم التقليدي فأنا أراهم وأسمعهم كل مرة يتحدثون مع بعضهم ويتهامسون بكلمات حول لوحاتي، وبما أني لا أريد إثارة الاستاذ أكثر، لذلك واجهت هؤلاء الشباب بعيداً عنه أثناء الاستراحة في الخارح وقلت لهم بأن أعمالهم سيئة ومعالجاتهم خاطئة، وهذه هي حقيقة أعمالهم التي يتفاخرون بها. أعتقد بأني حين أذهب الى أتيليه كورمون* ربما ستتغير الأمور، وإن حدثت بعض العوائق والتفاصيل التي تحول دون التقدم في الرسم، عندها يكون الحل بذهابي بإنتظام الى متحف اللوفر لأرسم وأتعلم تقنيات الأساتذة الكبار. عليك أن تعرف بأني سأستمر وسيتطور عملي مع هؤلاء المدرسين أو بدونهم. عموماً لقد رسمتُ في أيامي الماضية الكثير عن التماثيل الجصية بدلاً عن الموديلات، إنها مناسبة وغير مكلفة، وكنت أفكر بكلماتك وأنا أرسم، حين نبهتني كي أبدأ الرسم من الجوانب بينما ابدأ في العادة من الوسط بإتجاه الأطراف. اتمنى في هذه اللحظة ان نتجول معاً في اللوفر لنتحدث عن هذه كل التفاصيل.
أرسلتُ لك هذا الصباح كتاب (حبيبي)* لأجل أن ترى كيف كُتِبَتْ المقدمة، يالها من مذهلة، الكتاب سيعجبك كثيراً أنا متأكد من ذلك. كم أُمَنِّيَ نفسي ياتَيّو بأن نكبر معاً لنتذكر بعد سنوات ما قمنا به، فكلما كان التحدي أكبر والظروف أصعب فسيكون لذلك قيمة كبيرة حين نستعيده في المستقبل. أريد أن أقول لك أيضاً بأن حياتنا سيكون لها قيمة سواء انجزنا الأعمال الخاصة بنا كما أفعل أنا، أو أن نجمع أعمال الآخرين لنكسبها قيمة حقيقية كما تفعل أنت، والأمر يتعلق بكيفية إدارة مواهبنا وإيصالها الى الهدف. وأرجو إنك تفهم تطلعاتي حين تحدثتُ عن تربيتنا المتزمتة وما صاحبها من تفاصيل كنت أمتعض منها، ولا علينا الآن سوى المصالحة والالتئام لنمضي في طريق الحياة والفن دون صعوبات. ومهما تحدثنا عن تفاصيل حياتنا فعلينا ان لا نتجاهل وضعنا الصحي، فالموهبة تذبل حين تشاطرها في الجسد صحة عليلة، والمبدع يحتاج ربما الى ٢٥ او ٣٠ سنة كي يؤسس طريقاً جديداً، أو ليلتقط إشراقة الشمس أو لون الخريف بشكل أكثر شعرية من السائد، وهذا ما قام به ديلاكروا، كورو، ميليه، دوبريه، ترويونس، بريتون، روسو، دوبني، الذين قدموا لنا أعمالاً ساحرة، ليهبط بعدهم الفن خطوات مع الأسف، لكنه سينهض على أيدي سحرة جدد ومواهب حديثة تكمل الطريق.
كم أشتاق لزيارة اللوفر ولوكسمبورغ، أشعر بخسارة كبيرة بسبب عدم إطلاعي على (الاساتذة المائة)*، ولم أزر معرضي ديلاكروا وميزوني، لكن ما يخفف عني ذلك هو ان الامر مازال متاحاً في الايام القادمة. لقد حاولت جاهداً التقدم في عملي، لكن صحتي كانت هي العائق، وإن كان أي شخص آخر في مكاني لتخلى عن الرسم، لكني لا أستطيع أن أترك ما تعلق به قلبي وسكنته جوارحي. لا تهتم بشأن نوعية المكان يا أخي، فأنا أستطيع أن أتدبر حالي في أقل الأماكن جودة، وهناك مسألة مهمة أخرى ربما علينا أن نعتاد عليها وهي ابتعادنا عن بعضنا وعدم عيشنا سوية في السنوات العشر الاخيرة، لكني متأكد بأننا سنألف بعضنا من جديد لأن ذلك مزروع فينا أصلاً. أتوق لما تخبئه لي الأيام القادمة وسأعمل جاهداً لتحقيق ما أطمح اليه، وربما سأترك متعلقاتي نهائياً في نيونن وأمضي هكذا نحو باريس لأجد لنفسي مكاناً هناك بين الرسامين. سأذهب الآن الى درس الرسم تملؤني الرغبة والحماس بالوصول قريباً اليك...الى باريس.
أشد على يدك بشوق
أخوك المحب
فنسنت
هوامش المترجم:
* أوجين كورمون: رسام فرنسي (١٨٤٥-١٩٢٤) كان يعطي دروساً في الرسم بمرسمه الباريسي، وقد ترك أثره على الكثير من الرسامين. قضى فنسنت أكثر من ثلاثة أشهر هناك، ليغادر المرسم كما فعل في مدينة أنتفيربن البلجيكية، لأنه لم ير أي تطور في عمله هناك. وقد تعرف في مرسم كورمون على اثنين من شباب باريس، وقد أصبحا بعد ذلك من أعظم اصدقائه، وهما تولوز لوتريك وأميل برنارد.
* * حبيبي: هو أحد كتب الروائي والناقد الفرنسي أدموند دي جونكورت (١٨٢٢-١٨٩٦) وقد صدر سنة ١٨٨٤، وهو أيضاً مؤسس أكاديمية جونكورت، وهناك جائزة أدبية مرموقة بإسمه منحت لشخصيات عديدة منها مارسيل بروست وسيمون دي بوفوار وغيرهما. سيرة حياته هو وشقيقه جول جونكورت تكشف الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية في باريس القرن التاسع عشر.
* * الأساتذة المائة: وهي سلسلة من المطبوعات الفنية التي ضمت أعمال كوروه وميليه ومايسونيه وغيرهم، وقد صدر منها ١٢ عدداً سنة ١٨٨٣ تحت إشراف الناشر ألبرت وولف، وقد لاقت نجاحاً كبيراً، وكان فنسنت تواقاً للإطلاع عليها لأنها تضم أعمال أحب الفنانين الى نفسه.
***
- الرسالة الرابعة والعشرون
باريس، ٢٨ شباط ١٨٨٦
تَيّو العزيز
أرجو أن لا تنزعج ولا تؤاخذني على مجيئي المفاجيء الى باريس. لقد قمت بذلك دون إبلاغك، لكني فكرت طويلاً بالأمر، ورأيت إننا بهذه الخطوة سنكسب الكثير من الوقت الذي علينا أن لا نضيعه في الانتظار. سأكون في متحف اللوفر عند الساعة الثانية عشرة ظهراً أو قبلها بقليل. مازال عندي بعض النقود،
وأريد التحدث معك بأسرع وقت. أرجوك حدد لي وقت مجيئك كي أنتظرك في قاعة كاريه*، بعدها سنستطيع ترتيب كل شيء وسترى ذلك بنفسك. فقط حاول إن تسرع بالمجيء.
أشد على يدك.
أخوك المحب
فنسنت
هوامش المترجم:
* قاعة كاريه: إحدى قاعات متحف اللوفر الرئيسية، تقع في الطابق الأول ورقمها (٧٠٨) وتعرض فيها أعمال الفنانين الايطاليين بين القرن الثاني عشر والخامس عشر، وكلمة كاريه في الفرنسية تعني المربعة
***
- الرسالة الخامسة والعشرون
آرل ١١ نيسان ١٨٨٨
تـَيّو العزيز
لا تعرف مدى سعادتي بوصول طلبية الألوان التي أوصيتك عليها، يالك من رائع وأنت تقوم بكل هذا من أجلي، أن الصندوق معي الآن لكني لم أُعاين محتوياته بعد، وفضلتُ أن أكتب لك أولاً،
شكراً لأنك منحتني السعادة وأنت ترسل لي الألوان التي أحتاجها. بالمناسبة، هذا اليوم كان جميلاً بكل تفاصيله، ففي الصباح رسمت لوحة تظهر فيها شجرة خوخ مزهرة وهي تتحرك وسط الريح، وهذا المشهد لم أَرَ له مثيلاً سوى في هذا المكان، كنتُ مليئاً بالحماس وأنا أغمس فرشاتي بالألوان وأراقب أشعة الشمس وهي تتخلل زهور الخوخ البيضاء المتفتحة، لتبدو هذه الزهور مثل الجواهر المتلألئة، ياللجمال البكر الذي أراه هنا! وعند وصول صديقي الدنماركي الذي جاء لزيارتي، كنت ما أزال منهمكاً بالرسم تحت تأثير الريح الشديدة، وقد وقف ينظر إليَّ وأنا أحاول السيطرة على أدوات الرسم التي بعثرتها الريح علـى الأرض، لكني مع ذلك بقيت متمسكاً بلوحتي وأجاهد كي أكمل رسم المشهد الذي صار يميل الـى الأبيض الممزوج بالأزرق والأصفر والبنفسجي، ليستقر بعدها لون الفضاء ويصبح أبيضاً مائلاً الى الأزرق. عموماً عليك ان تدفع فاتورة غالية الثمن حين ترسم في الهواء الطلق وفي مثل هذه الظروف.
بعد العشاء أعدت مرة أخرى رسم لوحة جسر لانغلوا* التي أرسلتها في الأيام الماضية الى تريستيخ، وستكون النسخة الجديدة من نصيبك، وسأرسم لوحة ثالثة لذات الموضوع وإرسلها الى يَتْ موف*، بكل الإحوال علينا أن نحصل علـى بعض النقود والفائدة من خلال هذه اللوحة. ندمت لاحقاً لأني لم أشترِ الألوان من متجر بيير تانغي*، ليس لأنه الأفضل أو الأرخص، بل كونه رجل رائع ولا يمكن نسيانه، وأنا أستعيد صورته الطيبة دائماً، لا تنس أن توصل له تحياتي الحارة، وإسأله إن كان يود من جديد وضع واحدة من لوحاتي في واجهة المتجر، سأكون سعيداً بإرسال لوحة له، وسيحصل بالتأكيد على واحدة من أجمل أعمالي التي رسمتها مؤخراً.
أشعر بأن الناس هم أساس وجذر كل شيء، وعلينا أن نصنع صداقات جديدة في هولندا، أو على الأقل نحيي صداقاتنا القديمة ونديمها، يجب أن نقوم بأفضل ما يمكن كي نتقدم ونمضي بشكل جيد ولا نخشى الخسارة، فقط علينا التروي للوصول الى الأشياء الجيدة في العمل، وهي في الغالب تكون قريبة من القلب والعاطفة، هذه الفكرة تجعلني بحاجة الى رؤية عمل مورات الذي حدثتني عنه سابقاً، حيث يمكن ان أسميه الحب الأخلاقي، فرغم الحزن الذي يسببه لك حب إمرأة ما، يبقى ذلك الحب مستقراً في قلبك، بكل الأحوال ذلك ليس أكثر بهجة مما كتبه موباسان في رواية منزل تيلير. أخبرني، هل إنتهى لوتريك* من رسم لوحته التي تظهر فيها إمرأة تّتكئ بذراعيها على طاولة المقهى وأمامها الشراب؟ متشوق لرؤية العمل بهيئته النهائية.
إن مضت الأمور على مايرام وحَوَّلت بعض التخطيطات التي رسمتها في الهواء الطلق الى لوحات، فستكون هناك فرصة كبيرة لبيع هذه الأعمال، اتمنى أني أستطبع المضي من خلال هذه الطريقة خطوات الـى الأمام، لذا افكر أيضاً برسم لوحتين من كل موضوع، واحدة أرسلها الى هولندا والأخرى تبقى بكل الأحوال معك في باريس، وبذلك لا نجازف بخسارة شيء.
كنتَ على حق حول ما طلبته من تأسيت* بشأن إضافة ورنيش الغيرانيوم لقائمة الشراء، وقد وصلني مع الطلبيه التي فتحتها الآن وأنا في غمرة الكتابة، حيث أرى هنا ثلاث تونات من الأصفر الليموني والبرتقالي والاصفر، الأزرق البروسي والأخضر، وكذلك الأخضر الفيروني، والرمادي البرتقالي الدافئ. لا تجد هذه الألوان في باليت الرسامين الهولنديين مثل ماريس وموف وإزراييل، إنهم لا يستعملون هذه الألوان أبداً، لكنك تجدها عند ديلاكروا الذي يستعمل ألواناً لا يهتم بها أحد ولا ينشغل بها الرسامون كثيراً، مثل الليموني والأزرق البروسي، لينتج بها الروائع.
أشد على يدك. ولا تنس تحياتي الى كوننغ، مع محبة وإمتنان مرة أخرى على أرسالك الألوان.
أخوك فنسنت
هوامش المترجم:
* جسر لانغلو: هو الجسر الذي رسمه فنسنت في أعمال شهيرة، حيث رسمه في أربع لوحات زيتية، ومائية واحدة، وأربعة تخطيطات سنة ١٨٨٨، وهو يقع على قناة آرل جنوب فرنسا، وَسُميَ الجسر بهذا الأسم نسبة للحارس (لانغلو) الذي كان يقوم بفتح الجسر وإغلاقه، والجسر تم بناءه في القرن التاسع عشر، والآن يُعرف الجسر بإسم (جسر فان غوخ).
* يَتْ موف: هي قريبة فنسنت وزوجة أستاذه أنطون موف الذي ينتمي الى مدرسة لاهاي في الرسم.
* بيير تانغي: أو العم تانغي كما كان يحلو لفنست تسميته أحياناً، وهو صاحب متجر صغير للألوان، وقد إهتم كثيراً بفنسنت ووفر له إحتياجاته من الالوان في الايام التي قضاها في باريس، وكان يحرص على وضع بعض لوحات فنسنت وقتها في الواجهة الزجاجية للمتجر حتى قبل أن تجف ألوانها، في واحدة من محاولاته لمساعدة فنسنت في بيع لوحاته. وقد رسم له فنسنت مايمكن اعتباره أعظم بورتريت رسمه في كل حياته.
* هنري دي تولوز لوتريك: رسام فرنسي (١٨٦٤-١٩٠١) يعتبر من أقرب أصدقاء فنسنت، ويظهر في اللوحة التي ذكرها هنا، تأثر الرسامَين ببعضهما، فان غوخ ولوتريك عَبَرا بالانطباعية نحو حدود جديدة واسسوا ما يعرف ب (مابعد الانطباعية) التي ادت بدورها الى التعبيرية والوحشية وبعض الاتجاهات الأخرى في الرسم .
* تاسيت: والاسم الكامل هو (تاسيت إت لوت) وهو واحد من أشهر متاجر باريس لبيع الألوان والكانفاس وباقي أدوات الرسم، وكان فنست سعيداً وهو يحصل على نوعيات جيدة من الالوان التي تعود لهذا المتجر الذي كان يتبضع منه الرسامين سينياك وسيسلي وديغا. والمتجر مازال موجوداً في باريس، وقد شاهدته قبل فترة قصيرة في التلفزيون الهولندي بعد ان زاره فريق عمل برنامج يصور الاماكن المهمة في حياة فنسنت فان غوخ.
***
- الرسالة السادسة والعشرون
آرل ٢٨-٢٩ آيار ١٨٨٨
تَيَّو العزيز
لقد فكرتُ طويلاً بغوغان* وما يتعلق بحياته والتواصل معه، أرجو أن يوافق على المجيء الى آرل، وذلك يتطلب أن نسدد أجرة سفره، كذلك نحتاج الى سريرين لنا معاً، أو ربما مجرد مرتبتين للنوم، بعدها ستقل المصاريف أو تكاليف حياتنا معاً نوعاً ما،
وبما أن غوغان بحاراً فبإمكاننا أن نطهو الطعام في البيت، فهو قد تعود على القيام بذلك، وبهذا يمكننا العيش معاً بذات المبلغ الذي ترسله لي كي أنفقه بمفردي. من التعاسة أن يعيش الفنانين وحيدين، أرى أن العزلة تطفئ الكثير في روح الفنان. عموماً، خطرت هذه الأفكار في خاطري، وهي نوع من الإجابة حول سؤالك أو أمنيتك بمساعدته، فأنت لا تستطيع أن ترسل الى بريتاني* كل ما يحتاجه غوغان وفي ذات الوقت ترسل لي أيضاً ما أسدد به متطلبات حياتي هنا في بروفانس*، لذا أرى انه من الملائم أن أتقاسم معه المصاريف في مكان واحد. فلترسل لنا مثلاً مائتين وخمسين فرنكاً شهرياً، ونرسل لك مقابل ذلك بعض اللوحات، ألا ترى في حالة عدم تجاوز مصاريفنا لهذا المبلغ أن هناك فائدة من وجودنا معاً؟ ألا تلاحظ بأننا حين نتوحد مع الآخرين نكون أكثر تأثير وقوة؟ بناءً على ذلك ستجد ضمن رسالتي هذه رسالة أولية كتبتها الى غوغان، وأن وافقت عليها طبعاً بعد بعض التعديلات اللغوية وشيء من التفاصيل، وأرجو أن تفكر في الأمر كونه بكل بساطة تعاقد عمل من نوع ما، وتنظر لذلك بإعتباره مثمراً لكل الأطراف، وأنا بدوري سأحاول تدبير سير الأمور هنا رفقة غوغان، بينما تتفرغ أنت أيضاً لتجارتك في بيع اللوحات. أعرف بأنك تريد مساعدته، وأنا كذلك فكرت به طويلاً وشغلتني ظروفه الصعبة في بريتاني، هذه الظروف التي لا يمكن أن تتحسن في وقت قريب على ما يبدو، لذا فأن عرضاً من هذا النوع سيكون إنقاذاً له، ومثل هذه الفرصة لا يمكن أن يمنحها له الآخرون الآن.
بالنسبة لي، لا أريد الانفاق على نفسي وحيداً، ومن الحلول التي يمكن أن تسعفني هي أما أن أجد زوجة ثرية، أو أنغمس بصداقة بعض الرسامين والعمل سوية في مكان واحد. بالنسبة للزوجة، فأنا لا أراها متاحة في هذه الظروف، بينما أرى صورة صديقي تترائى لي في الأفق، لذلك أود أن أتقاسم معه الرسم والمعيشة، وإن كان عرضنا ملائماً له، فلا داعي لجعله ينتظر أكثر. أرى أن ما سنفعله سيكون مثل نواة لتجمع قادم، لأن برنارد* يطمح أيضاً أن يكون في الجنوب، وحين تسير الأمور على ما يرام، فهو سيلتحق بنا في وقت قادم بالتأكيد. وهنا تتضح الصورة التي حدثتك عنها سابقاً، وهي أن أراك على رأس اتحاد للفنانين الأنطباعيين في فرنسا. سأفعل ما أستطيعه كي أجعل الامور تمضي بشكل جيد، ولنبدأ بجلب غوغان ثم نرى كيف تمضي الأيام معنا. أنا لستُ ماهراً في الطبخ لكننا سنحل هذاالأمر سوية، لأن غوغان وحتى برنارد قد تعلمو ا الكثير من أمور الحياة أثناء خدمتهم العسكرية. تحياتي الى كوننغ، لقد أسعدني كثيراً انك جلبته الى بيتك للاهتمام بصحته. وماذا بشأن تريستيخ، هل وصل باريس؟ رائع أن مؤسسة جوبيل قد وافقوا على القاعة التي عرضتها عليهم. عليك أن تفكر بحرص شديد قبل سفرك، وبكل الأحوال أرى أنك ستبقى في باريس وستزدهر أعمالك فيها.
أشد على يدك بقوة مع سلامي ومحبتي
أخوك فنسنت
وهذا هو نص رسالتي التي أقترح أن أرسلها الى غوغان:
صديقي العزيز غوغان
لقد فكرت بك كثيراً وتذكرتك طوال الفترة الماضية. قد أكون قد تأخرت بالتواصل معك وذلك بسبب عدم الوصول الى أهداف وحلول كافية، وها أنا أكتب اليك بعد أن استجدت بعض التفاصيل. أخبرك أولاً ان الإتفاق مع روسل لم يتم، لكنه بكل الأحوال قد إشترى مجموعة من اللوحات الانطباعية، كذلك فأن غوليامين وبرنارد ينتظران الفرصة المناسبة للتواصل، مع ذلك لا استطيع الإلحاح أكثر في هذا الموضوع بعد أن ترددا مرتين في المجيء مع وعود لتحقيق ذلك في المستقبل. أود أن أخبرك بأني قد إستأجرت هنا في آرل بيتاً بأربع غرف، وفكرت أن يشاركني ويتقاسم معي البيت رسام آخر، رسام منغمس في عمله مثلي ويحب الجنوب، رسام يتعبد في مرسمه طوال الوقت مثل كاهن لكن مع ذلك يمكنه الذهاب الى المواخير مرة كل اسبوعين. نعم ياصديقي، أود أن أتقاسم المكان مع رسام يمنح وقته للرسم، عندها سيمضي كل شيء بشكل رائع.
بالنسبة لي، أنا وحيد هنا وأشعر بالعزلة، لذلك فكرت أن أحدثك بهذا الأمر، وأنت تعرف ياصديقي بأنني وكذلك أخي تَيَّو نحب لوحاتك ونقدر كثيراً طريقتك في الرسم، ويسعدنا بالتأكيد أن تنجح خطواتك في هذا الطريق الصعب. وبما أن أخي ليس بمقدوره أن يرسل إليك المال في بريتاني، وفي ذات الوقت يرسل لي النقود التي أتدبر بها حياتي هنا في البروفانس، لذلك أقترح عليك أن تشاركني في هذا البيت هنا في الجنوب. وبعملنا معاً، أنا متـأكد بأننا سنكون أكثر قوة للمضي بالرسم خطوات كبيرة الى أمام. بالنسبة لي، بعد أن وضعتُ أقدامي في الجنوب فلا أريد بعدها ان اترك هذا المكان الدافيء، لقد جئتُ مريضاً وها هي صحتي تتحسن، لقد أحببتُ المكان حقاً حيث يمكنني الرسم طوال الوقت في الهواءالطلق. صحيح ان متطلبات الحياة هنا تبدو غالية بعض الشيء، لكن فرصتنا هنا كبيرة أيضاً في الحصول على لوحات جيدة. لو أرسل لنا تَيَّو مائتين وخمسين فرنكاً شهرياً فهل ستأتي لتشاركني المكان؟ لكن عليك ان تعرف بأننا سنتناول طعامنا غالباً في البيت، وربما بإمكاننا الحصول على خادمة تساعدنا لبضعة ساعات أثناء النهار، وبذلك نوفر ما يمكن ان نصرفه في المطاعم الغالية. ومقابل ذلك عليك فقط ان تعطي لأخي لوحة واحدة كل شهر، وبقية اللوحات التي ترسمها ستكون لك وانت تقرر ماتفعله بها، وبذلك يمكننا ان نعرض لوحاتنا المتبقية معاً في مرسيليا، لنفتح الطريق لأنطباعيين آخرين مثلما نفعله لأنفسنا. علينا أيضاً توفير نفقات سفرك وكذلك ثمن سرير مناسب لك، وهذا ربما يمكنك ان تتفق بشأنه مع تيو، ليكون مقابله لوحات مثلاً. أرجو ان تعرف ياصديقي بأن هذه هي الطريقة العملية الوحيدة التي يمكننا بها مساعدتك، وأرجو ان تكون مناسبة لك. لقد فكرنا بهذا الموضوع من كل الجوانب، ورأينا ان الدفء والهدوء والطمأنينة التي هنا هو ما تحتاجه بالفعل. بالنسبة لي، حتى هذه اللحظة اشعر بتحسن وسط هذا المناخ. عموماً هناك الكثير من التفاصيل التي أود ان اخبرك بها، لكن العمل والرسم هو المهم الآن، وأرجو أن نسمع أنا وتيو رأيك بموضوع مجيئك.
صديقك المحب
فنسنت
هوامش المترجم:
* بول غوغان: رسام فرنسي (١٨٤٨-١٩٠٣) ينتمي الى ما بعد الانطباعية، وقد مهد مع آخرين للمدرسة الرمزية في الرسم، وقد ربطته بفنسنت فان غوخ صداقة مليئة بالتوتر والإضطرابات، حيث عاشا ورسما الكثير من اللوحات معاً.
* * بريتاني: وهي مقاطعة فرنسية، تكوِّن شبه جزيرة في الشمال الغربي للبلاد، وكانت في السابق تتمتع بحكم ذاتي، عاش فيها الكثير من الفنانين والشعراء لما تحمله من ثقافة وطبيعة خاصة، وقد رسم فيها غوغان العديد من أعماله الشهيرة منها (يعقوب يصارع الملاك، ونساء بريتاني وغيرها.
* * بروفانس: مقاطعة فرنسية تقع في الجنوب الشرقي للبلاد بمحاذاة إيطاليا والبحر المتوسط، وهناك توجد مدينة آرل حيث عاش فنسنت بعض الوقت. كذلك هناك مدينة أفنيون التي إستوحى منها بيكاسو فيما بعد لوحته (آنسات أفنيون).
* * إيميل برنارد: رسام فرنسي (١٨٦٨-١٩٤١) من مؤسسي المدرسة الرمزية في الرسم، ويعتبر من أوائل الاصدقاء الذين تعرف عليهم فنسنت في باريس، كان في العشرين من عمره حين لفت اليه الانظار بين فناني باريس، حتى ان غوغان الذي يكبره بعشرين عاماً قد تأثر ببعض اعماله.
نيونن*، منتصف حزيران ١٨٨٤
تَيـَّو العزيز
بعد لوحة المرأة المنشغلة بالغزل التي أرسلتها لك مع رسالتي السابقة، هاأنا أبدأ الآن برسم كبير لهيئة رجل، وأرفق هنا تخطيطاً مصغراً لذلك، ربما تعود بك الذاكرة للدراستين اللتين رسمتهما أيضاً بذات الزاوية والتكوين. قرأت بمتعة فائقة (الأساتذة السابقون) لفرومانتين*،
وهو يعالج في هذا الكتاب الكثير من المواضيع التي تشغلني، مثلما يقترب بشكل ما من الآراء التي نقلها لي بعض الأصدقاء في لاهاي عن إزراييل* حول تناغم الضوء مع الظلام، حيث يقول: عليك أن تبدأ بالدرجات الفاتحة وتصعد سلم الهارموني قليلاً قليلاً نحو التونات الداكنة. أفهم مايقصده هنا، إضافة الى إننا أثناء الرسم علينا أن نحافظ مثلاً على الأجواء الرمادية المناسبة، وهذه الطريقة في التعامل مع الرسم، تشبه ما يقوم به موف، وذلك مختلف تماماً عما قدمه رويزدال* أو دوبريه في أعمالهما، لكن ماذا عن كورو ودوبنيه*؟؟؟
وماينطبق على المنظر الطبيعي ينطبق حتماً على رسم الأشخاص أيضاً، فحين يرسم ازراييل حائطاً أبيض، يكون ذلك الحائط مختلفاً عما يرسمه رينو وفورتوني! وبهذا يظهر الشخص الذي يـُرسَمُ بجانب الجدار مختلفاً أيضاً. بالنسبة لي لا يمكنني تصور ما تقوله عن الأسماء الجديدة* في الفن، أريد أن أرى ذلك بنفسي لأعرف الفرق. وما كتبته لي حول (الانطباعية) شيء مختلف عما تصورته. هناك فكرة تلح عليَّ، وهي إن الفن الجديد يجب أن يأخذ شكلاً آخر، ويمكنني القول أن ما تسمى بالانطباعية ليست واضحة الآن بشكل كامل بالنسبة لي. وبعيداً عن ذلك سـأظل أنظر علـى سبيل المثال لأعمال ازراييل وأرى فيها الكثير من التفاصيل واللون والتقنية التي تغنيني عن الكثير، أرى في أعماله ما هو جديد ويمنحني دافعاً للأمام. يكتب فرومنتين عن رويزدال بأنه أصبح قديماً ولا تصلح تقنياته لهذا الوقت، وإن الفنانين قد تجاوزوه الآن، كذلك هناك الكثير من الرسامين الذين تجاوزوا كابات* وأعماله، ومثال ذلك لوحته التي في لكسمبورخ. ربما لأن أعمالهما فيها الكثير من البساطة، لكن من ناحية أخرى ألا نحتاج الى هذه البساطة في الفن، أليس بمقدورنا أن نوظفها بشكل صحيح ونضعها في مكانها المناسب؟ وهل بسبب ذلك أصبحت أعمالهما لا تستحق منا التقدير اللائق؟ وهذا ينطبق أيضاً وبكل تأكيد على أعمال ازراييل وديجرو لأنهم أيضاً يعملون على تبسيط المساحات والكتل. إن أعمال هؤلاء تشبه من يقول لك شيئاً بوضوح وبساطة كي يوصل لك الفكرة بدون تزويق وتزيين وزخرفة كلامية، إنهم يقدمون الحقيقة كما هي، ببساطة لكن مليئة بالعمق والتأثير.
أُرفق لك هنا آخر دراسة رسمتها للرجل المسن الذي يغزل، ويمكنك أن تلاحظ كيف يكون اللون الأبيض للخيوط مشعاً حين يكون في الضوء، ومنطفئاً حين يستقر في العتمة. حجم العمل ١٠٥في ٩٥ سم ورسم المرأة التي تغزل ١٠٠ في ٧٥سم، وقد رسمتها بتونات البُني المحروق*، فذلك يمنح الرسم بعض الدفء وكذلك يعطي أحساساً لروح المكان المعتم، سيئ التهوية. لو كان آرتز* هنا لأعتبر المكان قذراً بالتأكيد، وربما الرسم كذلك! لا أفهم يا تيّو كيف أن بعض فناني اليوم ينتقصون أو يشيحوا بوجوههم من استخدام البُني المحروق في الرسم، رغم نتائجه المدهشة. فكم أضفى على الكثير من اللوحات نعومة وغنى وهيبة. ففي هذا اللون ودرجاته خصوصية وتأثير مذهل، رغم ما يتطلبه من عناء ومشقة في تطويع تناغماته. فهو ببساطة يحتاج لمعالجات مختلفة عن بقية الألوان المتعارف عليها. هناك الكثير من الفنانين يترددون، بل يخشون الدخول في غمار تجارب جديدة، وذلك لأنها لا تحقق النجاح في يومها الأول، وتحتاج الى الصبر وإعادة التجربة. لقد مرَّ على استخدامي لهذا اللون (المادة) سنة واحدة، وقد استخدمته في الرسومات الداخلية في الغالب، ولازلتُ أتذكر كيف جعلني محبطاً في البداية، لكني صرت أنظر مع الوقت لنتائجه الممتعة وتأثيره الجميل.
لديك الآن فرصة كبيرة لتتابع كتب الفن وما يستجد بهذا الخصوص، إن صادفتك كتب جيدة ككتاب فرومنتان مثلاً عن الرسامين الهولنديين أو كتب ومطبوعات أخرى عن الفن وتقنياته، فلا تتردد أرجوك في شرائها وإرسالها لي، وبإمكانك أن تخصم ثمنها مما ترسله لي من نقود. أود حقاً أن اتعلم أكثر فأكثر عن الفن وتقنياته وما يتعلق به من نظريات ومداخلات، فذلك سيسهل عليَّ السير في هذا الطريق، فالفن يحتاج الى أسئلة كثيرة كي يتغير، وحين نكسر اليقين عندها سنصل في الغالب الى الحقيقة والخلاص. ودائماً مانجد ضالتنا هذه في الكتب، لهذا اي كتاب سيكون مهماً، حتى لو اعطاك فكرة أو لمحة سريعة وعابرة عن شيء ما، لكن مع الأسف، فالناس لا تنتبه دائماً للكثير من الاشياء التي تمضي من أمامهم وتبتعد، ففي زمن توريه وبلانك* مثلاً كان هناك الكثير من الكتاب الذين تناولوا أشياء مهمة في كتاباتهم، لكن هذه الأشياء والتفاصيل طواها النسيان الآن.
أردت أن اسألك سؤالاً يتعلق باللون، ماهي درجة اللون السليمة ودرجة اللون المكسورة؟ يمكنك طبعاً أن ترى ذلك في لوحة ما، لكن هل بإستطاعتك أن تشرح لي هنا ماذا يُقصد ب (مكسور)؟ لابد للإنسان أن يعرف هذا الموضوع من الناحية النظرية أو العلمية سواءً كان رساماً أو خبيراً بالفن والالوان. إن القوانين التي تتحكم باللون مدهشة ورائعة بشكل لا يصدق، وتأتي أهمية ذلك لأنه لا يحدث بشكل عشوائي أو بالمصادفة، فالناس لم تعد تهتم او تؤمن بالمعجزات العشوائية، مثلما لم تعد تؤمن بإله خارق يتقافز بنزق من أمر الى آخر. لذلك أرى إن الناس عليهم أو يولوا المزيد من الاحترام والتقدير لمكانة الطبيعة، لا أطالب الناس بتجاهل الثوابت، لكن عليهم أن يتفحصوا الأشياء ويدرسونها جيداً، عليهم أن يتجاوزوا الأفكار البالية بكل شيء بما في ذلك الرسم. سوف لن يتغير الناس ماداموا مواظبين علـى الإنحناء أمام ما يسمونهم بالعباقرة الذين ينتظرون الإلهام لينتجوا أعمالاً عظيمة. ان لا أنكر وجود عباقرة، لكني أرى أن الممارسة والتدريب والمحاولات المستمرة في معرفة تقنيات ونظريات الفن هي التي تؤدي الى الطريق الصحيح. وهذا ما أنشدهُ وأحاول القيام به في لَوحَتَي المرأة الصغيرة اثناء الغزل، والرجل المسن المنشغل بالخيوط البيض، ففي هاتين الدراستين كنت أقرب لنفسي وشخصيتي الفنية من أعمالي السابقة. وبخصوص اللون الأسود، فأنا لم استعمله هنا، لأني حاولت أن اجد تأثيراً أعمق من تأثير الأسود، لهذا لجأت الى درجات اللون الأزرق الغامق مع البني المصفر والأزرق البروسي مع البني المحمر، وهذا بالفعل ما منحني نتائج وتأثيرات أكثر عمقاً وقوة من الأسود الأعتيادي، لذلك حين اسمع البعض يقول إن اللون الاسود غير موجود في الطبيعة، أفكر بأنه يجب أيضاً ان لا يكون موجوداً في الرسم. لكن مع ذلك لا تظن إن المُلَوِّنين الجيدين لا يستخدمون اللون الأسود، فلا حاجة للقول بأنك ما أن تضيف القليل من الأزرق أو الأحمر او الأصفر الى الأسود فأنه يصبح رمادياً. وأظن إن ما كتبه بلانك* في كتابه (فنانو الحاضر) حول معالجات وتقنيات فيلاسكيز كان مهماً جداً ويدعو الى الفضول بهذا الخصوص، وحديثه عن الظل الذي رسمه بدرجات من الرماديات التي لا لون محدد لها، وكيف إنه يمزج الأسود مع الأبيض ليحصل على الرمادي، لكنه يخلط معهما كمية من لون آخر، فينتج لوناً رمادياً جديداً ينسجم مع بقية الوان اللوحة.
يدهشني إنك لا تُقَدِّرَ جول دوبريه* كثيراً كما تمنيت! أقول لك صادقاً بـأني لو شاهدت أعماله من جديد فستبهرني مرة أخرى، وربما أكثر من مشاهدتي الأولى لها، اعتقد أن دوبريه ملوناً أكثر من كورو وزوبيني، رغم أن هذين الأخيرين جريئان جداً في استخدام اللون. أعمال دوبريه تشبه الموسيقى، بل هي سيمفونية مصنوعة من الألوان، إنه يعرف مايريد، يتقن الرسم ويضع كل لمسة في مكانها المناسب، إنه يشبه الى حد بعيد بيتهوفن الذي ينجز موسيقاه بهذه الطريقة البارعة والمحسوبة بعناية فائقة، فهي رغم البساطة التي تغلفها، عميقة بشكل غير محدود، مثل الطبيعة تماماً... وهذا ما اعتقده عنه أيضاً... اقصد عن دوبريه.
أحييك كثيراً وأشد على يدك.
أكتب لي ان كان هناك ما تود قوله.
أخوك المحب فنسنت.
= هوامش المترجم:
* نيونن: وهي القرية التي ولد فيها فنسنت وعاش معظم سنوات حياته، وتقع في مقاطعة نورد براباند جنوب هولندا، قرب الحدود البلجيكية، ويتوسطها تمثال برونزي جميل لفنسنت فان غوخ.
* فرومنتان: كاتب ورسام فرنسي (١٨٢٠-١٨٧٦) إهتم برسم الطبيعة، وكان من إوائل الفنانين الذي سافروا الى الجزائر ليصور أجوائها وأهلها في أعماله. تتميز لوحاته بتكوينات مميزة ومهارة كبيرة في إستخدام اللون. كتب حول رحلاته الى الجزائر، ولديه أيضاً مؤلفات حول أساتذة الرسم الهولندي.
* * يوسف ازراييل: رسام هولندي (١٨٢٤-١٩١١) أحد مؤسسي مدرسة لاهاي، تتميز أعماله بمسحة رومانسية، وقد إهتم برسم الاشخاص المنعزلين.
* * ياكوب رويزدال: رسام هولندي (١٦٢٨-١٦٨٢) يعتبر واحداً من أعظم رسامي القرن السابع عشر، ويوضع بمصاف ريمبرانت وفرانس هالس وفيرمير، وقد إهتم برسم المناظر الطبيعية والبحرية.
* * تشارلز دوبنيه: (١٨١٧-١٨٧٨) رسام فرنسي أثر كثيراً على الانطباعيين، حيث كان يرسم أعماله على ضفاف نهر السين. وقد قضى وقتاً طويلاً صحبة الرسام كورو في قارب واحد، وهما يرسمان الطبيعة والتناغمات بين الأشجار والماء.
* * الأسماء الجديدة: يقصد بذلك الانطباعيين أمثال مونية ورينوار وبيسارو وباقي مجموعة الرسامين الذين كانوا وقتها في بداية تحولهم نحو المعالجات الانطباعية وحرية حركة الفرشاة والرقشات السريعة.
* * لويس كابات: رسام فرنسي (١٨١٢-١٨٩٣) سافر الى ايطاليا وتأثر بأجواء الرسم هناك، وعاد الى فرنسا لينتج اعمالاً ألهمت الكثيرين. ورغم المسحة الدينية التي تعلو بعض اعماله إلا انه يعتبر حلقة وصل بين الفن التقليدي والفن الجديد.
* * البُني المحروق: لون بني معتم يقترب من الأسود، مصنوع من مادة القار وبعض المواد الكيميائية العازلة التي تُغطى بها سطوح المنازل.
* * تشارلز بلانك: (١٨١٣-١٨٨٢) أحد نقاد ومنظري ومؤرخي الفن في فرنسا، وقد شغل عدة مناصب رفيعة المستوى، منها مديراً للبوزار ورئيس تحرير الجريدة الرسمية للفنون وأستاذاً لمدرسة العمارة في باريس.
* * أدولف آرتز: رسام هولندي إرتبط بمدرسة لاهاي، رسم حياة صيادي السمك على الساحل الغربي لهولندا، وكانت رسوماته مشرقة ووسط أجواء مشمسة. إهتم بالتفاصيل بما في ذلك حركة الشخصيات والملابس. وقد إقتنى تَيّو شقيق فنسنت بعض أعماله. تلاقي لوحاته إقبالاً وشعبية خاصة في مزادات أمريكا.
* * جوليس دوبريه: رسام فرنسي (١٨١١-١٨٨٩) واحد من أعضاء مدرسة الباربيزون الشهيرة التي اهتمت برسم الريف المفتوح حول قرية باربيزون جنوب باريس، والتي جاء منها إسم المجموعة. إبتدأ بعمله كرسام على البورسلين، ثم تحول الى الرسم الزيتي. تتميز اعماله بالغنائية، ولوحته (الخريف) معروضة الآن في متحف فان غوخ ذاته.
***
- الرسالة الحادية والعشرون
نيونن، ٩ نيسان ١٨٨٥
تَيَّو العزيز
يدهشني عدم وصول أي شيء منك! لا كلمة ولا رسالة أو أخبار! ستقول بأنك مزدحم، وأنا أتفهم ذلك بالتـأكيد. لذا رغم تأخر الوقت الآن، وددتُ أن أكتب هذه الرسالة لأخبرك بأني أتأمل وأرجو أن نستمر بالتواصل، وبشكل أكثر جدية، لا تنسى ذلك.
أرسل لك دراستين رسمتهما مؤخراً وهي تمثل مجموعة من الفلاحين يجتمعون حول طاولة يتوسطها صحن كبير مليء بالبطاطا، كنت مع هؤلاء الفلاحين، وقد عدتُ تواً الى البيت لأكمل العمل على هذه اللوحة* تحت ضوء المصباح، بعد أن بدأتُ بها أثناء النهار. ارسم لك هنا تخطيطاً صغيراً للعمل لتعرف الموضوع وتتخيل التكوين. لقد نفذتها على قطعة قماش كبيرة نسبياً، وأرى إنها مليئة بالحياة. ورغم إعتقادي بأن مناخها يعكس المشاعر الحقيقية للناس، لكني متأكد بما لا يقبل الشك لو أن العم كور* موجوداً بجانبي الآن، لقال إنه عمل سيئ، وربما يظن بأني قد رسمتها بحذر وبطء فوق الحاجة. أعرف أن الاساتذة الكبار وخاصة عندما يمتلكون الخبرة، بإستطاعتهم إنهاء العمل بطريقة سريعة فيها بعض الاختصارات التي تقود الى نتائج جيدة، وذلك بسبب المران والخبرة الطويلة التي اكتسبوها. أما بالنسبة لي، فأنا أحتاج الى وقت طويل للإمساك بذلك، وحتى لو استطعت الوصول اليه، فهل يحمل هذا جدوى تقودني الى ما أريده من الرسم. أجرب الآن أن أتوصل للتعبير والمناخ المناسب للوحة، وهذا مهم بالنسبة لي وهو ماابحث عنه. أحاول أن أنقل الانفعال الذي اشعر به من خلال اللون والمعالجة. لا أريد أن أرسم هذه الأشكال والتفاصيل بشكل حرفي، ويمكنني القول بأني سأتخلى تماماً عن هذه الحرفية في الرسم، كي أستطيع أن أعكس مشاعري وعاطفتي على سطوح اللوحات.
إسمع يا تيو، نصيحتي اليك، أو بالأحرى أمنيتي أو رجائي، دعني أرسم ما أستطيع رسمه من الرسومات التحضيرية دون توقف، وإحفظها كلها عندك، فأنا لا أريد أن تُعرض تخطيطاتي للبيع في الوقت الحاضر، فربما أستطيع في يوم قادم أن اصنع لنفسي إسماً بين الفنانين، وعندها يكون من الصعوبة إسترجاع هذه الأعمال ثانية بعد أن نبيعها الآن. دع الناس يطلعون عليها فيما بعد، وقتها ستكون قيمتها أعلى وأهميتها أكبر، وربما يطلع عليها من خلالك رسامون شباب، فتمنحهم محفزاً لعمل دراسات مماثلة لأعمالهم قبل الشروع برسمها على الكانفاس.
أسعى الآن على المواظبة للخروج في الصباحات الباكرة لرسم دراسات للناس في أماكن العمل، في البيوت والحقول والأماكن التي تملؤها الحركة، لقد بدأتُ بذلك في الأيام الأخيرة وإستهواني الأمر كثيراً.
أعرف إنك تبحثُ عن أفكار جديدة في تجارة اللوحات، لكني أرى أن الطريقة التي تتعامل بها الآن لا يمكن بأي حال أن تكون قديمة وعفا عليها الزمن، لأنك ببساطة تتعامل مع الآخرين بضمانات جيدة. ربما بإمكانك أن تضيف شيئاٍ آخر، وهو أن تجعل مثلاً كل عشرة تخطيطات مجتمعة بنفس الثمن الذي تطلبه مقابل لوحة مكتملة؟ وبهذا تمنح مقتني اللوحات بعض الحلول الجديدة. هل تعرف ياتَيّو؟ ربما عليك أيضاً أن تبحث عن رسامين صغار السن وغير معروفين في الوقت الحاضر، شرط أن يكون لديهم بعض النبوغ في الرسم، وتكلفهم بعمل دراسات أولية للوحاتهم بالأسود أو الأحمر الداكن على ورق بريستول*. قد ترى عدم وجود ضمانات كثيرة لهذه الدراسات الآن، لكن قيمتها ستظهر في أيام قادمة لأنها ستصبح نادرة، فليس كل الرسامين يهيئون هذا النوع من التخطيطات قبل الشروع برسم لوحاتهم بالألوان، إضافة الى ذلك ( أرى هذا في نفسي على كل حال) هناك رابطة خاصة وعاطفية بين الرسام وهذا النوع من التخطيطات، إنها قريبة جداً من روح الفنان، أكثر مما يتصوره البعض.
تَعْلَم أن هناك بعض رعاة الفن الذين يقفون بجانب الفنان ويمدون له يد العون في سبيل إنجاز أعماله، لكن هذه العملية ليست بهذه السهولة دائماً، فحين يمضي الوقت ولا يبيع الفنان شيئاً يصبح التواصل بين الطرفين صعباً ويكتنفه التردد، حتى تأتي مرحلة يشعر فيها راعي الفن بأن نقوده يرميها في البحر، لأنه يمنحها -حسب إعتقاده- دون فائدة. الفنان ياتَيّو يحتاج الى المزيد من الثقة، ويتأمل الكثير من الصبر والانتظار، لكن تحصل القطيعة في الغالب بسبب السهولة التي ينظر بها (راعي الفن) نحو عملية انجاز الفن ذاتها. أرجو يا تَيّو أن هذه الحالة لم ولن تحدث بيننا، كذلك أتمنى أن رسوماتي مع مرور الوقت ستعطيك أملاً وثقة أكبر.
نحن لم نعش في زمن جيغو* لكن أعماله وأفكاره التي إطلعتُ عليها في كتابه الذي استعرته منك، أعطاني ثقة تجاه أعمالي، أعرف ان من الصعب إستدعاء عزيمة الماضي الآن، لكن ذلك يبعث على الطمأنينة والأمل. وبكل الأحوال علينا بشيئين، هما العمل المستمر والجرأة، إنهما مفتاح أيامنا القادمة.
دعنا نرسم الكثير من الأعمال ونمضي مع الرسم الى ابعد الحدود، شرط أن نجاهد على ان لا نتغير للأسوء حتى حين تسيء الأمور معنا. قلت (نرسم) لأن النقود التي ترسلها لي وتتحمل الكثير من المصاعب في حياتك بسببها، تعطيك الحق الكامل بإمتلاك نصف أعمالي واعتبارها أعمالك*، فأنت قد رسمت كل اللوحات معي، لما تقدمه لي من دعم غير محدود.
حاول أن تتحدث مع أحد من جماعة القط الأسود* وتسأله إن كانوا بحاجة الى تخطيطات سريعة لآكلي البطاطا، وإن كان جوابهم نعم، فأي الحجوم تناسبهم لذلك؟
أشد على يدك مع كل محبتي
أخوك المحب فننسنت
هوامش المترجم:
* آكلوا البطاطا: تعتبر هذه اللوحة أول أعمال فنسنت العظيمة وبداية نبوغه الفني. وقد تأثر فيها بأحد أعمال الفنان الهولندي يوسف إزراييل، والتي تمثل ايضاً مجموعة من الفلاحين يجتمعون حول طاولة الطعام. وقد رسم فنسنت تخطيطات ودراسات كثيرة لهذه اللوحة قبل أن يرسمها بالالوان الزيتية، وما يميزها هو تكوينها المؤثر، وتعبيريتها العالية التي ألهمت الرسامين بعد عشرين سنة من رسمها لإبتكار المدرسة التعبييرية وكذلك الوحشية. وهي موجودة في متحف فان غوخ بأمستردام، كذلك يوجد نسخة أخرى تبدو غير مكتملة رسمها فنسنت في ذات الوقت، وهي موجودة في متحف كرولر مولر بمدينة أوترلو، شرق هولندا، كذلك توجد نسخة لذات العمل نفذها فنسنت بالليثوغراف في مطبعة خيستل بمدينة أيندهوفن جنوبي هولندا، وهي موجودة ايضاً بمتحفه في امستردام. وقد زرتُ المتحفين وإطلعتُ هناك على الأعمال الأصلية الثلاثة.
* العم كور: هو كورنيلس مارينس فان غوخ، عم فنسنت وتيو، وكان يعمل في تجارة اللوحات الفنية والكتب بشارع كايسر خراخت في مدينة أمستردام.
* ورق بريستول: ورق إنجليزي مصنوع من القطن، يعتبر من أفضل وأقدم انواع ورق الرسم، وتعود صناعته الى بداية صناعة الورق في أوروبا، ويتميز بأنواعه العديدة وجودته العالية. وهو يسعمل في كل تقنيات الرسم، مع الأحبار والقلم الرصاص والباستيل والايربرش والطباعة والفحم، وتعتمد كل تقنية على سمك الورق وملمسه، ويوجد اليوم خمسمئة درجة او نوع من هذا الورق وتتناسب مع كل المعالجات.
* جيغو: جان فرانسوا جيغو (١٨٠٦-١٨٩٤) رسام فرنسي ومصمم كتب ومنفذ للرسوم التوضيحية والطباعية، وكان واحد من ألمع شخصيات عصره. إهتمت به أرملة الكاتب بلزاك وعاش معها فترة طويلة بعد ان إحتضنته في صالونها. ساهم بشكل فعال في تطوير فن الطباعة الحجرية. وعند وفاته دفن في مقبرة الأبطال في مدينة بيسانكون.
* وقد حدث ذلك بالفعل بعد خمس سنوات من كتابة هذه الرسالة، حين انتحر فنسنت وبقيت كل اعماله عند شقيقه تَيّو الذي توفي بدوره بعد بضعة شهور من هذه الحادثة بسبب مرضه وحزنه على أخيه الخالد، لتبقى كل اللوحات التي لم يُبع منها شيئاً أثناء حياتهما عند العائلة. وحتى بعد الممات بقيا بجانب بعضهما الى الأبد، فقد دفنا في قبرين متجاورين بقرية أوفير سور واس في فرنسا.
* القط الأسود: كابريه شهير في باريس، تأسس سنة ١٨٨١، وكان مكاناً للقاء الرسامين والكتاب والموسيقيين. وجاءت التسمية من خلال قط اسود صغير عثر عليه مؤسس الكابريه رودولف ساليس في ذات المكان أثناء التحضير للبناء. وكان طباعي الاعلانات والافيشات يرتادون المكان دائماً لأن صاحب الكابريه يكلفهم بعمل اعلانات فنية تخص العروض. وقد تأسست مجلة تحمل نفس الاسم، استمرت ١٤ سنة، وكان من كتابها موباسان وأميل زولا، كذلك نشر فيها تولوز لوتريك الكثير من الرسومات.
***
- الرسالة الثانية والعشرون
أنتفيربن، ٢٨ تشرين الثاني ١٨٨٥
تَيـّو العزيز
أردتُ أن اكتب لك إنطباعاتي عن معالم وأجواء مدينة أنتفيربن* حيث بدأتُ بترتيب أوضاعي هنا. في هذا الصباح قمتُ بجولة كاملة في المدينة للتعرف على تفاصيلها ومحاولة الانسجام معها. كذلك مرّرت على مكتب الجمارك لإستلام حاجياتي التي شحنتها قبل مجيئي. مرّرتُ بالكثير من المخازن والمستودعات التي إصطفت بجانب بعضها على هيئة خط طويل، أسير وأتأمل ذلك على مهل،
فيبدو كل شيء يثير الفضول. تجولتُ بإتجاهات متعددة وأنا أتنفس رائحة المكان وأتحسس ألوانه وتفاصيل موجوداته، أتوقفُ هنا عند حوض تصليح السفن، وأتكئ هناك على حافات الأرصفة التي إبتلَّت بماء البحر. ياله من تباين غريب تشعر به هنا وأنت تتجول وسط كل هذا، وخاصة لشخص مثلي قضى فترته الأخيرة بين خضرة الريف وهدوء الفلاحين وسكينة الحقول التي تغفو بوجه السماء المفتوحة. ومع هذا التباين أشعر بالحيرة والتشويش أزاء الامكنة واختلافاتها. هناك كلمة شهيرة يرددها دي جونكورت* (أشياء يابانية الى الأبد)، نعم هذه المراسي ايضاً تشبه قطع يابانية الـى أبعد درجة، انها غريبة وفريدة ومؤثرة. كم أود أن تتجول معي هنا لترى بنفسك شكل المدينة وتفاصيلها، الناس هنا أكثر تنوعاً مما ظننته، أما الماء والسفن التي تتداخل أشرعتها الضخمة فهي الشيء الأساس هنا والكل يدور حولها، يغطي ذلك سماء رمادية خفيفة وناعمة. لكن يبقى توصيف (الاشياء اليابانية) يشغلني هنا، وأقصد هذه الأشكال التي تتحرك في كل الاتجاهات، وتنعكس عليها تباينات عديدة غير متوقعة ومن تلقاء نفسها، ففجأة يظهر لك وأنت تتجول، حصان أبيض يقف هادئاً على تربة رطبة بمحاذاة جدران أحالها سخام السفن الى لون أسود، وفي الزاوية المقابلة رُصَّتْ مجموعة من صناديق البضائع الداكنة، وقد غُطي قسم منها بمشمع لامع. في هذه الإنعطافة لا ترى سوى تأثير الأسود والأبيض وما بينهما من تدرجات رمادية.
في نهاية الشارع إستقريتُ بعض الوقت في مشرب انجليزي قديم بهيئته التقليدية الأنيقة، وعبر النافذة رأيت سفينة ترسو وهي محملة بسلع تبدو نادرة، من ضمنها جلود مختلفة وقرون جواميس برية، يقوم بتفريغها عتالي الميناء ذوي القامات الضخمة، يساعدهم الكثير من البحارة الأجانب. وبينما أنا منهمك بالنظر الى هذه التفاصيل، لمحتُ أمام زجاج النافذة فتاة إنجليزية شقراء في غاية الرقة والأناقة، كأنها تبحث عن شيء أو شخص ما، وقد انسجمت هيئتها في الخارج وتناغمت مع تصميم وأثاث البار، وبين كل هذا لمحتُ إنعكاس السماء الفضية اللامعة فوق قرون الجواميس المعتمة. وكي تعرف التضاد الذي حدثتك عنه، فمقابل هذه الفتاة الناعمة يقفُ مجموعة من البحارة الفلامنكيون* بوجوههم الحمراء الداكنة التي لوحتها الشمس، وسواعدهم المفتولة ومناكبهم العريضة (أنتفيربيون حد النخاع) يتمايلون وهم يأكلون المحار ويشربون البيرة، ويصدرون جلبة وضجيجاً يملأ المكان، وفجأة تخطر إمرأة ضئيلة الحجم، بشعرها الأسود ويديها الناعمتين الملتصقتين على جسدها ووجهها البيضوي الصغير بلونه الأسمر المصفر، تنسل بهدوء ورويّة بين الجدران الكالحة، وعند وصولها الى مكان الجلبة، ترفع طرف عينيها الفاحمتين بخفة وتسترق النظر بطريقة مائلة نحو هؤلاء العمالقة الأفظاظ، إنها فتاة صينية صغيرة وغامضة، يالها من مسكينة هذه الفأرة الصغيرة وسط هؤلاء الفلامنكيين الوحوش آكلي المحار. هنا تبدو أشكال الناس أصغر حجماً وهم يمرون عبر شوارع ضيقة محاطة ببنايات شاهقة، فضلاً عن المستودعات والمتاجر الكبيرة، وترى من خلال الشارع كيف إصطفت مشارب البيرة بكل تنوعها وتباين مصادرها واختلاف اصناف الناس فيها. والمكان لا يخلو طبعاً من المطاعم التي انتشرت على طاولاتها الأكلات البحرية، ومن خلال هذه التفاصيل تلوح ملابس البحارة وهي ترفرف على واجهات بعض المحال بـألوانها الصاخبة وكأنها ترحب بالزبائن.
الشارع الرئيس هنا طويل ومليء بالتفاصيل والأحداث الأصيلة، فبين لحظة وأخرى يتناهى الى السمع بعض العويل، لتعرف ان هناك شجاراً بين البحارة، أحاول ان أمضي في طريقي قدماً فيزداد صراخ مشجعي العراك وبطرق تتناغم وتتقاطع مع بعضها. أتجاوز هذه الجلبة قليلاً، ليداهمني كتف بحار صغير السن دفعته إمرأة تواً وهي تطرده من باب المبغى، ليلحق به رجل بدين غاضب يحاول إستعادة بعض النقود منه، الرجل البدين يسير مترنحاً وهو يتلفت يميناً ويساراً، وقد إلتحق خلفه طابور من الفتيات يحاولن معرفة مجريات الامور، بينما حاول البحار الشاب التخلص منهم، فتعثَّرَ بكومة من أكياس البضائع قبل ان يقفز من خلال نافذة أحد المتاجر ويختفي.
وبعد أن أصبحت هذه الضوضاء خلف ظهري، بانت لي المراسي من جديد، حيث ترسوا سفن الهارفيتش والهافر، ليصبح مركز المدينة ورائي تماماً، وتظهر لي مراعٍ مفتوحة ومترامية الأطراف، كانت كئيبة ويعلو الماء مساحات واسعة منها، وهناك ظهر زورق صغير وحيد، تحتضنه المياه الرمادية وتغطيه السماء الضبابية الباردة، المكان صامتٌ وفيه الكثير من الغياب مثل الصحراء. في الميناء عادة ما يجد المرء تفاصيل وألوان وحركة أكثر من أي مكان آخر، وهناك تفاصيل تفوق في تأثيرها جمال أسيجة الريف التي يصنعها الفلاحون من الشجيرات الصغيرة. هنا لا يكف المرء عن النظر ولا يجد الراحة ولا التوقف من متابعة التفاصيل. في كل الأحوال أرى لكل مكان خصوصيته، فحتى الأماكن الخالية بإمكانها أن تمنحنا الكثير من الخيال والحكمة والتفكير بالتفاصيل كما فعل ذلك مولز* على سبيل المثال. التنوع مهم، وهو الذي يرينا التضاد بين الأشياء والناس ومن خلال ذلك تمنحنا التفاصيل تأثيرها، فحين ترى فتاة جميلة وجذابة وموفورة الصحة تنعكس لديك صورة للبراءة والإخلاص، بينما حين تظهر لك هيئة مخيفة وتبدو خبيثة مثل ضبع، فإن هذا سيعكس لك صورة غير مريحة ومن الصعب التوافق معها، ومثال ذلك أيضاً الوجوه التي رأيتها وقد غزاها الجدري وأصبح لونها كلون (الجمبري) المسلوق، عيون رمادية شاحبة وحواجب لم يتبق منها شيء وشعر زيتي يتساقط بلونه الباهت الذي يشبه إصفرار شعر الخنازير في اسكندنافيا.
سيكون رائعاً أن أعمل هنا، لكن كيف، وفي أي مكان بالضبط؟ فالمرء ربما يواجه الكثير من المشاكل وسط هذا الزحام. عموماً لقد تجولت في أغلب الشوارع والأزقة والممرات دون أية صعوبة تذكر، وفوق هذا جالستُ بسهولة بعض الفتيات وتحدثتُ معهن، حتى خلنَني بحاراً، لذا ليس من الصعب العثور هنا على موديلات للرسم، سواء هذه الفتيات أو غيرهن. إستلمتُ اليوم أغراضي وأدوات الرسم التي إنتظرتها بشغف كبير، وبهذا أصبح المرسم جاهزاً، فقط احتاج الى موديلات غير مكلفة مادياً لأبدأ العمل. ولن أتردد بجعل الأمور الباقية تسير على مايرام. ربما هناك حسنة واحدة لعدم توفر نقود كافية، وهي أن أُجبر نفسي للبحث عن حلول مناسبة بدلاً من دفع ثمن الموديل. الأمر هنا يختلف عن الريف، والمبالغ التي تدفع للموديل في هذه المدينة ووسط هذه المناخات ينتج عنها أعمالاً جيدة، أي إنها لا تذهب هكذا دون قيمة. والشيء الأكيد والواضح هنا هو أن أنتفيربن مكان مذهل ومثالي لأي رسام. مرسمي الصغير هنا صار بمرور الساعات أكثر أُلفة، وخاصة بعد أن ثبَّتُ على الجدران مجموعة من المطبوعات اليابانية، إنها ممتعة فعلاً، هل تتذكرها؟ تلك النساء الناعمات الجميلات، لقد حدثتك سابقاً عنهن وعن الحدائق وضفاف الانهار والزهور والأغصان الشوكية المتعرجة*.
أحاول الاسترخاء هنا والانسجام مع فكرة السفر، وارجو أن أجد ما يمكن أن أقوم به هذا الشتاء، وما يطمئنني أكثر هو حصولي على هذه الزاوية، أنا الذي أستطيع التلاؤم والعيش حتى مع أسـوأ الظروف، وسـأحسب حسابي الى أن الترف لن يفتح لي ذراعيه في القريب العاجل. حاول أن ترسل رسالتك في بداية الشهر، لأن الخبز الذي بحوزتي سيكفيني لذلك الوقت. والآن بعد أن استلمتُ رسوماتي الثلاثة، فسأحملها وأذهب الى تجار اللوحات الذي عرفتُ بأنهم يقومون بذلك في بيوتهم وليس من خلال متاجر فنية تطل واجهاتها على الشوارع. حسناً ياتيو، لم امر بصعوبات حتى هذه اللحظة، أنا ومكان سكني بخير بعد أن حصلتُ على مدفئة قديمة ومصباح مقابل بضعة فرنكات، سأجد ما يناسبني ولن أضجر بسهولة، تأكد من ذلك. لقد عثرت على عدد اكتوبر من مجلة ليرميت وفيها لوحة لنساء في حقل البطاطس مساءً، يالها من مدهشة. لم احصل بعد على عدد نوفمبر، لقد إطلعتُ ايضاً على مجلة فيغارو، وفيها تخطيطاً رائعاً لروفائيلي. يبدو غريباً أن أرى رسوماتي الملونة أكثر عتمة هنا مما هي عليه في الريف، ربما جاء هذا بسبب ضوء المدينة غير النقي، عموماً أرى الأختلاف واضحاً وقد ادهشني هذا الامر! ومن هذا إستنتجت أن الرسومات التي لديك ربما تظهر لك أكثر قتامة مما بدت لي حين رسمتها في الريف، عموماً سأتفحص الرسومات الباقية التي تمثل الطاحونة وأشجار الشارع في الخريف والحياة الصامتة وبعض الدراسات الأخرى. تعرف أن عنواني هو: ١٩٤ شارع ديس إيماج، أرسل رسائلك عليه، كذلك لا تنسى الجزء الثاني من كتاب دي جونكورد عندما تنتهي من قراءته.
أشد على يدك مع كل محبتي
أخوك المحب
فنسنت
هوامش المترجم:
* أنتفيربن: مدينة بلجيكية قريبة من جنوب هولندا، عاش فيها فنسنت بعض الوقت قبل إكمال طريقه الى باريس. وتعتبر أنتفيربن إحدى المدن الثقافية المهمة، وهي ثاني أهم مدينة في بلجيكا بعد العاصمة بروكسل، ويتحدث سكانها اللغة الهولندية.
* * دي جونكورت: أدموند دي جونكورت (١٨٢٢-١٨٩٦) كاتب وناقد فرنسي، وهو مؤسس أكاديمية جونكورت، وهناك جائزة أدبية مرموقة بإسمه منحت لشخصيات عديدة منها مارسيل بروست وسيمون دي بوفوار وغيرهما. سيرة حياته هو وشقيقه جول جونكورت تكشف الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية في باريس القرن التاسع عشر.
* *الفلامنكيون: هم سكان النصف الشمالي من بلجيكا والمحاذي لهولندا، ولغتهم الرسمية هي الهولندية ويسمى هذا الجزء من بلجيكا احياناً بلجيكا الهولندية، في حين يتحدث الجزء الجنوبي المحاذي لفرنسا اللغة الفرنسية (بلجيكا ليس لديها لغة بلجيكية).
* * روبرت مولز: رسام بلجيكي ولد في انتفيربن (١٨٤٨-١٩٠٣) ساهم برسم بانوراما كبيرة هناك، واهتم برسم المناظر البحرية وبشاعرية كبيرة، وقد حصل على الكثير من التقدير والجوائز لما قدمه من فن رفيع المستوى.
* * المطبوعات اليابانية تعتبر من أكثر مصادر إلهام فنسنت، لقد أحبها وتعلق بها كثيراً، وظهر تأثيرها في كل أعماله تقريباً.
***
- الرسالة الثالثة والعشرون
أنتفيربن، ٦ شباط ١٨٨٦
تَيّو العزيز
شكراً لرسالتك التي إستلمتها مع ال ٢٥ فرنكاً، أسعدني ذلك كثيراً مثلما منحني رأيك حول فكرة مجيئي الى باريس نوعاً من الطمأنينة،
أنا متأكد بأن ذلك سيدفعني خطوات كبيرة للأمام وسيتطور عملي كثيراً، مجيئي الى باريس سينتشلني من الدوامة التي أعيش فيها هنا، فأنا أريد أن أطور عملي في باريس وليس الدوران حول نفس أخطائي هنا. يمكننا أن نجعل جانباً من بيتك مرسماً، وأعتقد إن هذا سوف لن يؤثر عليك، وفي ذات الوقت سيمنحنا قوة وثباتاً لأننا سنكون معاً، وسيجعل تفاهمنا وانسجامناً أكثر مما يحدث من خلال الرسائل فقط.
والآن... ماذا عساي أن أخبرك عن أوضاعي الصحية؟ عموماً مازلت أتشبث بأمل أن لا أترنح ساقطاً بسبب المرض، لكني بحاجة لمزيد من الوقت كي أستعيد عافيتي وقوتي، لديَّ سنّان يجب حشوهما ليعود فكي السفلي الـى سابق عهده، وهذا يكلف عشرة فرنكات للحشو، إضافة الى أربعين فرنكاً إخرى لباقي تفاصيل العلاج. لقد قضيت السنوات العشر الأخيرة وكأنني في السجن، وسيختفي أثرها السلبي حين أهتم بصحتي وأعالج أسناني بشكل مناسب، فالأسنان المتضررة تعطي إنطباعاً بتقدم السن والمرض، رغم سهولة علاج ذلك في أيامنا هذه. أتأمل أن يكون بإمكاني مضغ الطعام جيداً في الأيام القادمة، وسينعكس ذلك على معدتي وتتحسن صحتي بالتأكيد. لم أرسم منذ بضعة أيام، ونمت مبكراً، عكس الايام السابقة التي قضيتها مع المجموعة في درس الرسم، حينها كنت أنام في الواحدة أو الثانية صباحاً، أنا الآن أكثر هدوءً بسبب النوم الجيد.
كَتَبَتتْ لي أمي تقول بأنهم سيحزمون أشيائي ومتعلقاتي في الشهر القادم، وربما يمكنني أن أعود إليهم في نيونن لبعض الوقت، ولا أعرف إن كان في ذلك مضيعة للوقت، لكني بكل الأحوال أحتاج الى بضعة أشياء من بيتنا القديم، لآخذها معي الـي باريس. مدرس الرسم هنا وإسمه سيبرت يبحث عن أية حجة ليقلل من شأني أمام الباقين، لقد إشتبك معي وحاول أن يهددني بشكل مبطن كي أترك المكان، لذلك قلت له في المرة الأخيرة وباللغة الفرنسية التي يتحدث بها بأني لا أبغي المشاكل ولا أبحث عن الشجار مع أحد ولا أحاول أن أكون نداً لأي شخص، وكل ما يهمني هو الرسم بهدوء ولن ألتفت لأي شيء آخر، عندها كَفَّ عن مضايقتي، لكني متأكد بـأنه سيجد حجة جديدة كي يعيد مواجهتي ويزعجني كي أغادر المكان. والشباب الذي يدرسون الرسم معي، رغم مستواهم التقليدي فأنا أراهم وأسمعهم كل مرة يتحدثون مع بعضهم ويتهامسون بكلمات حول لوحاتي، وبما أني لا أريد إثارة الاستاذ أكثر، لذلك واجهت هؤلاء الشباب بعيداً عنه أثناء الاستراحة في الخارح وقلت لهم بأن أعمالهم سيئة ومعالجاتهم خاطئة، وهذه هي حقيقة أعمالهم التي يتفاخرون بها. أعتقد بأني حين أذهب الى أتيليه كورمون* ربما ستتغير الأمور، وإن حدثت بعض العوائق والتفاصيل التي تحول دون التقدم في الرسم، عندها يكون الحل بذهابي بإنتظام الى متحف اللوفر لأرسم وأتعلم تقنيات الأساتذة الكبار. عليك أن تعرف بأني سأستمر وسيتطور عملي مع هؤلاء المدرسين أو بدونهم. عموماً لقد رسمتُ في أيامي الماضية الكثير عن التماثيل الجصية بدلاً عن الموديلات، إنها مناسبة وغير مكلفة، وكنت أفكر بكلماتك وأنا أرسم، حين نبهتني كي أبدأ الرسم من الجوانب بينما ابدأ في العادة من الوسط بإتجاه الأطراف. اتمنى في هذه اللحظة ان نتجول معاً في اللوفر لنتحدث عن هذه كل التفاصيل.
أرسلتُ لك هذا الصباح كتاب (حبيبي)* لأجل أن ترى كيف كُتِبَتْ المقدمة، يالها من مذهلة، الكتاب سيعجبك كثيراً أنا متأكد من ذلك. كم أُمَنِّيَ نفسي ياتَيّو بأن نكبر معاً لنتذكر بعد سنوات ما قمنا به، فكلما كان التحدي أكبر والظروف أصعب فسيكون لذلك قيمة كبيرة حين نستعيده في المستقبل. أريد أن أقول لك أيضاً بأن حياتنا سيكون لها قيمة سواء انجزنا الأعمال الخاصة بنا كما أفعل أنا، أو أن نجمع أعمال الآخرين لنكسبها قيمة حقيقية كما تفعل أنت، والأمر يتعلق بكيفية إدارة مواهبنا وإيصالها الى الهدف. وأرجو إنك تفهم تطلعاتي حين تحدثتُ عن تربيتنا المتزمتة وما صاحبها من تفاصيل كنت أمتعض منها، ولا علينا الآن سوى المصالحة والالتئام لنمضي في طريق الحياة والفن دون صعوبات. ومهما تحدثنا عن تفاصيل حياتنا فعلينا ان لا نتجاهل وضعنا الصحي، فالموهبة تذبل حين تشاطرها في الجسد صحة عليلة، والمبدع يحتاج ربما الى ٢٥ او ٣٠ سنة كي يؤسس طريقاً جديداً، أو ليلتقط إشراقة الشمس أو لون الخريف بشكل أكثر شعرية من السائد، وهذا ما قام به ديلاكروا، كورو، ميليه، دوبريه، ترويونس، بريتون، روسو، دوبني، الذين قدموا لنا أعمالاً ساحرة، ليهبط بعدهم الفن خطوات مع الأسف، لكنه سينهض على أيدي سحرة جدد ومواهب حديثة تكمل الطريق.
كم أشتاق لزيارة اللوفر ولوكسمبورغ، أشعر بخسارة كبيرة بسبب عدم إطلاعي على (الاساتذة المائة)*، ولم أزر معرضي ديلاكروا وميزوني، لكن ما يخفف عني ذلك هو ان الامر مازال متاحاً في الايام القادمة. لقد حاولت جاهداً التقدم في عملي، لكن صحتي كانت هي العائق، وإن كان أي شخص آخر في مكاني لتخلى عن الرسم، لكني لا أستطيع أن أترك ما تعلق به قلبي وسكنته جوارحي. لا تهتم بشأن نوعية المكان يا أخي، فأنا أستطيع أن أتدبر حالي في أقل الأماكن جودة، وهناك مسألة مهمة أخرى ربما علينا أن نعتاد عليها وهي ابتعادنا عن بعضنا وعدم عيشنا سوية في السنوات العشر الاخيرة، لكني متأكد بأننا سنألف بعضنا من جديد لأن ذلك مزروع فينا أصلاً. أتوق لما تخبئه لي الأيام القادمة وسأعمل جاهداً لتحقيق ما أطمح اليه، وربما سأترك متعلقاتي نهائياً في نيونن وأمضي هكذا نحو باريس لأجد لنفسي مكاناً هناك بين الرسامين. سأذهب الآن الى درس الرسم تملؤني الرغبة والحماس بالوصول قريباً اليك...الى باريس.
أشد على يدك بشوق
أخوك المحب
فنسنت
هوامش المترجم:
* أوجين كورمون: رسام فرنسي (١٨٤٥-١٩٢٤) كان يعطي دروساً في الرسم بمرسمه الباريسي، وقد ترك أثره على الكثير من الرسامين. قضى فنسنت أكثر من ثلاثة أشهر هناك، ليغادر المرسم كما فعل في مدينة أنتفيربن البلجيكية، لأنه لم ير أي تطور في عمله هناك. وقد تعرف في مرسم كورمون على اثنين من شباب باريس، وقد أصبحا بعد ذلك من أعظم اصدقائه، وهما تولوز لوتريك وأميل برنارد.
* * حبيبي: هو أحد كتب الروائي والناقد الفرنسي أدموند دي جونكورت (١٨٢٢-١٨٩٦) وقد صدر سنة ١٨٨٤، وهو أيضاً مؤسس أكاديمية جونكورت، وهناك جائزة أدبية مرموقة بإسمه منحت لشخصيات عديدة منها مارسيل بروست وسيمون دي بوفوار وغيرهما. سيرة حياته هو وشقيقه جول جونكورت تكشف الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية في باريس القرن التاسع عشر.
* * الأساتذة المائة: وهي سلسلة من المطبوعات الفنية التي ضمت أعمال كوروه وميليه ومايسونيه وغيرهم، وقد صدر منها ١٢ عدداً سنة ١٨٨٣ تحت إشراف الناشر ألبرت وولف، وقد لاقت نجاحاً كبيراً، وكان فنسنت تواقاً للإطلاع عليها لأنها تضم أعمال أحب الفنانين الى نفسه.
***
- الرسالة الرابعة والعشرون
باريس، ٢٨ شباط ١٨٨٦
تَيّو العزيز
أرجو أن لا تنزعج ولا تؤاخذني على مجيئي المفاجيء الى باريس. لقد قمت بذلك دون إبلاغك، لكني فكرت طويلاً بالأمر، ورأيت إننا بهذه الخطوة سنكسب الكثير من الوقت الذي علينا أن لا نضيعه في الانتظار. سأكون في متحف اللوفر عند الساعة الثانية عشرة ظهراً أو قبلها بقليل. مازال عندي بعض النقود،
وأريد التحدث معك بأسرع وقت. أرجوك حدد لي وقت مجيئك كي أنتظرك في قاعة كاريه*، بعدها سنستطيع ترتيب كل شيء وسترى ذلك بنفسك. فقط حاول إن تسرع بالمجيء.
أشد على يدك.
أخوك المحب
فنسنت
هوامش المترجم:
* قاعة كاريه: إحدى قاعات متحف اللوفر الرئيسية، تقع في الطابق الأول ورقمها (٧٠٨) وتعرض فيها أعمال الفنانين الايطاليين بين القرن الثاني عشر والخامس عشر، وكلمة كاريه في الفرنسية تعني المربعة
***
- الرسالة الخامسة والعشرون
آرل ١١ نيسان ١٨٨٨
تـَيّو العزيز
لا تعرف مدى سعادتي بوصول طلبية الألوان التي أوصيتك عليها، يالك من رائع وأنت تقوم بكل هذا من أجلي، أن الصندوق معي الآن لكني لم أُعاين محتوياته بعد، وفضلتُ أن أكتب لك أولاً،
شكراً لأنك منحتني السعادة وأنت ترسل لي الألوان التي أحتاجها. بالمناسبة، هذا اليوم كان جميلاً بكل تفاصيله، ففي الصباح رسمت لوحة تظهر فيها شجرة خوخ مزهرة وهي تتحرك وسط الريح، وهذا المشهد لم أَرَ له مثيلاً سوى في هذا المكان، كنتُ مليئاً بالحماس وأنا أغمس فرشاتي بالألوان وأراقب أشعة الشمس وهي تتخلل زهور الخوخ البيضاء المتفتحة، لتبدو هذه الزهور مثل الجواهر المتلألئة، ياللجمال البكر الذي أراه هنا! وعند وصول صديقي الدنماركي الذي جاء لزيارتي، كنت ما أزال منهمكاً بالرسم تحت تأثير الريح الشديدة، وقد وقف ينظر إليَّ وأنا أحاول السيطرة على أدوات الرسم التي بعثرتها الريح علـى الأرض، لكني مع ذلك بقيت متمسكاً بلوحتي وأجاهد كي أكمل رسم المشهد الذي صار يميل الـى الأبيض الممزوج بالأزرق والأصفر والبنفسجي، ليستقر بعدها لون الفضاء ويصبح أبيضاً مائلاً الى الأزرق. عموماً عليك ان تدفع فاتورة غالية الثمن حين ترسم في الهواء الطلق وفي مثل هذه الظروف.
بعد العشاء أعدت مرة أخرى رسم لوحة جسر لانغلوا* التي أرسلتها في الأيام الماضية الى تريستيخ، وستكون النسخة الجديدة من نصيبك، وسأرسم لوحة ثالثة لذات الموضوع وإرسلها الى يَتْ موف*، بكل الإحوال علينا أن نحصل علـى بعض النقود والفائدة من خلال هذه اللوحة. ندمت لاحقاً لأني لم أشترِ الألوان من متجر بيير تانغي*، ليس لأنه الأفضل أو الأرخص، بل كونه رجل رائع ولا يمكن نسيانه، وأنا أستعيد صورته الطيبة دائماً، لا تنس أن توصل له تحياتي الحارة، وإسأله إن كان يود من جديد وضع واحدة من لوحاتي في واجهة المتجر، سأكون سعيداً بإرسال لوحة له، وسيحصل بالتأكيد على واحدة من أجمل أعمالي التي رسمتها مؤخراً.
أشعر بأن الناس هم أساس وجذر كل شيء، وعلينا أن نصنع صداقات جديدة في هولندا، أو على الأقل نحيي صداقاتنا القديمة ونديمها، يجب أن نقوم بأفضل ما يمكن كي نتقدم ونمضي بشكل جيد ولا نخشى الخسارة، فقط علينا التروي للوصول الى الأشياء الجيدة في العمل، وهي في الغالب تكون قريبة من القلب والعاطفة، هذه الفكرة تجعلني بحاجة الى رؤية عمل مورات الذي حدثتني عنه سابقاً، حيث يمكن ان أسميه الحب الأخلاقي، فرغم الحزن الذي يسببه لك حب إمرأة ما، يبقى ذلك الحب مستقراً في قلبك، بكل الأحوال ذلك ليس أكثر بهجة مما كتبه موباسان في رواية منزل تيلير. أخبرني، هل إنتهى لوتريك* من رسم لوحته التي تظهر فيها إمرأة تّتكئ بذراعيها على طاولة المقهى وأمامها الشراب؟ متشوق لرؤية العمل بهيئته النهائية.
إن مضت الأمور على مايرام وحَوَّلت بعض التخطيطات التي رسمتها في الهواء الطلق الى لوحات، فستكون هناك فرصة كبيرة لبيع هذه الأعمال، اتمنى أني أستطبع المضي من خلال هذه الطريقة خطوات الـى الأمام، لذا افكر أيضاً برسم لوحتين من كل موضوع، واحدة أرسلها الى هولندا والأخرى تبقى بكل الأحوال معك في باريس، وبذلك لا نجازف بخسارة شيء.
كنتَ على حق حول ما طلبته من تأسيت* بشأن إضافة ورنيش الغيرانيوم لقائمة الشراء، وقد وصلني مع الطلبيه التي فتحتها الآن وأنا في غمرة الكتابة، حيث أرى هنا ثلاث تونات من الأصفر الليموني والبرتقالي والاصفر، الأزرق البروسي والأخضر، وكذلك الأخضر الفيروني، والرمادي البرتقالي الدافئ. لا تجد هذه الألوان في باليت الرسامين الهولنديين مثل ماريس وموف وإزراييل، إنهم لا يستعملون هذه الألوان أبداً، لكنك تجدها عند ديلاكروا الذي يستعمل ألواناً لا يهتم بها أحد ولا ينشغل بها الرسامون كثيراً، مثل الليموني والأزرق البروسي، لينتج بها الروائع.
أشد على يدك. ولا تنس تحياتي الى كوننغ، مع محبة وإمتنان مرة أخرى على أرسالك الألوان.
أخوك فنسنت
هوامش المترجم:
* جسر لانغلو: هو الجسر الذي رسمه فنسنت في أعمال شهيرة، حيث رسمه في أربع لوحات زيتية، ومائية واحدة، وأربعة تخطيطات سنة ١٨٨٨، وهو يقع على قناة آرل جنوب فرنسا، وَسُميَ الجسر بهذا الأسم نسبة للحارس (لانغلو) الذي كان يقوم بفتح الجسر وإغلاقه، والجسر تم بناءه في القرن التاسع عشر، والآن يُعرف الجسر بإسم (جسر فان غوخ).
* يَتْ موف: هي قريبة فنسنت وزوجة أستاذه أنطون موف الذي ينتمي الى مدرسة لاهاي في الرسم.
* بيير تانغي: أو العم تانغي كما كان يحلو لفنست تسميته أحياناً، وهو صاحب متجر صغير للألوان، وقد إهتم كثيراً بفنسنت ووفر له إحتياجاته من الالوان في الايام التي قضاها في باريس، وكان يحرص على وضع بعض لوحات فنسنت وقتها في الواجهة الزجاجية للمتجر حتى قبل أن تجف ألوانها، في واحدة من محاولاته لمساعدة فنسنت في بيع لوحاته. وقد رسم له فنسنت مايمكن اعتباره أعظم بورتريت رسمه في كل حياته.
* هنري دي تولوز لوتريك: رسام فرنسي (١٨٦٤-١٩٠١) يعتبر من أقرب أصدقاء فنسنت، ويظهر في اللوحة التي ذكرها هنا، تأثر الرسامَين ببعضهما، فان غوخ ولوتريك عَبَرا بالانطباعية نحو حدود جديدة واسسوا ما يعرف ب (مابعد الانطباعية) التي ادت بدورها الى التعبيرية والوحشية وبعض الاتجاهات الأخرى في الرسم .
* تاسيت: والاسم الكامل هو (تاسيت إت لوت) وهو واحد من أشهر متاجر باريس لبيع الألوان والكانفاس وباقي أدوات الرسم، وكان فنست سعيداً وهو يحصل على نوعيات جيدة من الالوان التي تعود لهذا المتجر الذي كان يتبضع منه الرسامين سينياك وسيسلي وديغا. والمتجر مازال موجوداً في باريس، وقد شاهدته قبل فترة قصيرة في التلفزيون الهولندي بعد ان زاره فريق عمل برنامج يصور الاماكن المهمة في حياة فنسنت فان غوخ.
***
- الرسالة السادسة والعشرون
آرل ٢٨-٢٩ آيار ١٨٨٨
تَيَّو العزيز
لقد فكرتُ طويلاً بغوغان* وما يتعلق بحياته والتواصل معه، أرجو أن يوافق على المجيء الى آرل، وذلك يتطلب أن نسدد أجرة سفره، كذلك نحتاج الى سريرين لنا معاً، أو ربما مجرد مرتبتين للنوم، بعدها ستقل المصاريف أو تكاليف حياتنا معاً نوعاً ما،
وبما أن غوغان بحاراً فبإمكاننا أن نطهو الطعام في البيت، فهو قد تعود على القيام بذلك، وبهذا يمكننا العيش معاً بذات المبلغ الذي ترسله لي كي أنفقه بمفردي. من التعاسة أن يعيش الفنانين وحيدين، أرى أن العزلة تطفئ الكثير في روح الفنان. عموماً، خطرت هذه الأفكار في خاطري، وهي نوع من الإجابة حول سؤالك أو أمنيتك بمساعدته، فأنت لا تستطيع أن ترسل الى بريتاني* كل ما يحتاجه غوغان وفي ذات الوقت ترسل لي أيضاً ما أسدد به متطلبات حياتي هنا في بروفانس*، لذا أرى انه من الملائم أن أتقاسم معه المصاريف في مكان واحد. فلترسل لنا مثلاً مائتين وخمسين فرنكاً شهرياً، ونرسل لك مقابل ذلك بعض اللوحات، ألا ترى في حالة عدم تجاوز مصاريفنا لهذا المبلغ أن هناك فائدة من وجودنا معاً؟ ألا تلاحظ بأننا حين نتوحد مع الآخرين نكون أكثر تأثير وقوة؟ بناءً على ذلك ستجد ضمن رسالتي هذه رسالة أولية كتبتها الى غوغان، وأن وافقت عليها طبعاً بعد بعض التعديلات اللغوية وشيء من التفاصيل، وأرجو أن تفكر في الأمر كونه بكل بساطة تعاقد عمل من نوع ما، وتنظر لذلك بإعتباره مثمراً لكل الأطراف، وأنا بدوري سأحاول تدبير سير الأمور هنا رفقة غوغان، بينما تتفرغ أنت أيضاً لتجارتك في بيع اللوحات. أعرف بأنك تريد مساعدته، وأنا كذلك فكرت به طويلاً وشغلتني ظروفه الصعبة في بريتاني، هذه الظروف التي لا يمكن أن تتحسن في وقت قريب على ما يبدو، لذا فأن عرضاً من هذا النوع سيكون إنقاذاً له، ومثل هذه الفرصة لا يمكن أن يمنحها له الآخرون الآن.
بالنسبة لي، لا أريد الانفاق على نفسي وحيداً، ومن الحلول التي يمكن أن تسعفني هي أما أن أجد زوجة ثرية، أو أنغمس بصداقة بعض الرسامين والعمل سوية في مكان واحد. بالنسبة للزوجة، فأنا لا أراها متاحة في هذه الظروف، بينما أرى صورة صديقي تترائى لي في الأفق، لذلك أود أن أتقاسم معه الرسم والمعيشة، وإن كان عرضنا ملائماً له، فلا داعي لجعله ينتظر أكثر. أرى أن ما سنفعله سيكون مثل نواة لتجمع قادم، لأن برنارد* يطمح أيضاً أن يكون في الجنوب، وحين تسير الأمور على ما يرام، فهو سيلتحق بنا في وقت قادم بالتأكيد. وهنا تتضح الصورة التي حدثتك عنها سابقاً، وهي أن أراك على رأس اتحاد للفنانين الأنطباعيين في فرنسا. سأفعل ما أستطيعه كي أجعل الامور تمضي بشكل جيد، ولنبدأ بجلب غوغان ثم نرى كيف تمضي الأيام معنا. أنا لستُ ماهراً في الطبخ لكننا سنحل هذاالأمر سوية، لأن غوغان وحتى برنارد قد تعلمو ا الكثير من أمور الحياة أثناء خدمتهم العسكرية. تحياتي الى كوننغ، لقد أسعدني كثيراً انك جلبته الى بيتك للاهتمام بصحته. وماذا بشأن تريستيخ، هل وصل باريس؟ رائع أن مؤسسة جوبيل قد وافقوا على القاعة التي عرضتها عليهم. عليك أن تفكر بحرص شديد قبل سفرك، وبكل الأحوال أرى أنك ستبقى في باريس وستزدهر أعمالك فيها.
أشد على يدك بقوة مع سلامي ومحبتي
أخوك فنسنت
وهذا هو نص رسالتي التي أقترح أن أرسلها الى غوغان:
صديقي العزيز غوغان
لقد فكرت بك كثيراً وتذكرتك طوال الفترة الماضية. قد أكون قد تأخرت بالتواصل معك وذلك بسبب عدم الوصول الى أهداف وحلول كافية، وها أنا أكتب اليك بعد أن استجدت بعض التفاصيل. أخبرك أولاً ان الإتفاق مع روسل لم يتم، لكنه بكل الأحوال قد إشترى مجموعة من اللوحات الانطباعية، كذلك فأن غوليامين وبرنارد ينتظران الفرصة المناسبة للتواصل، مع ذلك لا استطيع الإلحاح أكثر في هذا الموضوع بعد أن ترددا مرتين في المجيء مع وعود لتحقيق ذلك في المستقبل. أود أن أخبرك بأني قد إستأجرت هنا في آرل بيتاً بأربع غرف، وفكرت أن يشاركني ويتقاسم معي البيت رسام آخر، رسام منغمس في عمله مثلي ويحب الجنوب، رسام يتعبد في مرسمه طوال الوقت مثل كاهن لكن مع ذلك يمكنه الذهاب الى المواخير مرة كل اسبوعين. نعم ياصديقي، أود أن أتقاسم المكان مع رسام يمنح وقته للرسم، عندها سيمضي كل شيء بشكل رائع.
بالنسبة لي، أنا وحيد هنا وأشعر بالعزلة، لذلك فكرت أن أحدثك بهذا الأمر، وأنت تعرف ياصديقي بأنني وكذلك أخي تَيَّو نحب لوحاتك ونقدر كثيراً طريقتك في الرسم، ويسعدنا بالتأكيد أن تنجح خطواتك في هذا الطريق الصعب. وبما أن أخي ليس بمقدوره أن يرسل إليك المال في بريتاني، وفي ذات الوقت يرسل لي النقود التي أتدبر بها حياتي هنا في البروفانس، لذلك أقترح عليك أن تشاركني في هذا البيت هنا في الجنوب. وبعملنا معاً، أنا متـأكد بأننا سنكون أكثر قوة للمضي بالرسم خطوات كبيرة الى أمام. بالنسبة لي، بعد أن وضعتُ أقدامي في الجنوب فلا أريد بعدها ان اترك هذا المكان الدافيء، لقد جئتُ مريضاً وها هي صحتي تتحسن، لقد أحببتُ المكان حقاً حيث يمكنني الرسم طوال الوقت في الهواءالطلق. صحيح ان متطلبات الحياة هنا تبدو غالية بعض الشيء، لكن فرصتنا هنا كبيرة أيضاً في الحصول على لوحات جيدة. لو أرسل لنا تَيَّو مائتين وخمسين فرنكاً شهرياً فهل ستأتي لتشاركني المكان؟ لكن عليك ان تعرف بأننا سنتناول طعامنا غالباً في البيت، وربما بإمكاننا الحصول على خادمة تساعدنا لبضعة ساعات أثناء النهار، وبذلك نوفر ما يمكن ان نصرفه في المطاعم الغالية. ومقابل ذلك عليك فقط ان تعطي لأخي لوحة واحدة كل شهر، وبقية اللوحات التي ترسمها ستكون لك وانت تقرر ماتفعله بها، وبذلك يمكننا ان نعرض لوحاتنا المتبقية معاً في مرسيليا، لنفتح الطريق لأنطباعيين آخرين مثلما نفعله لأنفسنا. علينا أيضاً توفير نفقات سفرك وكذلك ثمن سرير مناسب لك، وهذا ربما يمكنك ان تتفق بشأنه مع تيو، ليكون مقابله لوحات مثلاً. أرجو ان تعرف ياصديقي بأن هذه هي الطريقة العملية الوحيدة التي يمكننا بها مساعدتك، وأرجو ان تكون مناسبة لك. لقد فكرنا بهذا الموضوع من كل الجوانب، ورأينا ان الدفء والهدوء والطمأنينة التي هنا هو ما تحتاجه بالفعل. بالنسبة لي، حتى هذه اللحظة اشعر بتحسن وسط هذا المناخ. عموماً هناك الكثير من التفاصيل التي أود ان اخبرك بها، لكن العمل والرسم هو المهم الآن، وأرجو أن نسمع أنا وتيو رأيك بموضوع مجيئك.
صديقك المحب
فنسنت
هوامش المترجم:
* بول غوغان: رسام فرنسي (١٨٤٨-١٩٠٣) ينتمي الى ما بعد الانطباعية، وقد مهد مع آخرين للمدرسة الرمزية في الرسم، وقد ربطته بفنسنت فان غوخ صداقة مليئة بالتوتر والإضطرابات، حيث عاشا ورسما الكثير من اللوحات معاً.
* * بريتاني: وهي مقاطعة فرنسية، تكوِّن شبه جزيرة في الشمال الغربي للبلاد، وكانت في السابق تتمتع بحكم ذاتي، عاش فيها الكثير من الفنانين والشعراء لما تحمله من ثقافة وطبيعة خاصة، وقد رسم فيها غوغان العديد من أعماله الشهيرة منها (يعقوب يصارع الملاك، ونساء بريتاني وغيرها.
* * بروفانس: مقاطعة فرنسية تقع في الجنوب الشرقي للبلاد بمحاذاة إيطاليا والبحر المتوسط، وهناك توجد مدينة آرل حيث عاش فنسنت بعض الوقت. كذلك هناك مدينة أفنيون التي إستوحى منها بيكاسو فيما بعد لوحته (آنسات أفنيون).
* * إيميل برنارد: رسام فرنسي (١٨٦٨-١٩٤١) من مؤسسي المدرسة الرمزية في الرسم، ويعتبر من أوائل الاصدقاء الذين تعرف عليهم فنسنت في باريس، كان في العشرين من عمره حين لفت اليه الانظار بين فناني باريس، حتى ان غوغان الذي يكبره بعشرين عاماً قد تأثر ببعض اعماله.