الى الحاج محمد الخشالي
زجاج نافذة مقهى قديم، يفصل بين عالمين احدهما ينتمي للحياة والاخر للموت بابشع صوره، موت تجسدت فيه قوة السلطة العمياء، سلطة الشر..
نافذة تطل على ذلك الشارع الذي شهد الكثير من الاحداث السياسية، مظاهرات، ندوات ثقافية وامسيات شعرية، تناثرت جمل قصائدها لتستقر كقوارب عاشقة في ظلمة الليل على نهر دجلة..
شارع يغص بناسه في النهار، بحثا عن كتاب مفقود كاتبه وقارئه ايضا، وبينهما ضاع الاهداء، وفي الليل تغلفه الوحشة، وتسكنه اشباح تتنقل من مكان لاخر، اشباح كان لها بيتها في زوايا هذا الشارع، واخرى جاءت لتزرع بذور الموت هنا وهناك..
في نهاية هذا الشارع يقف المتنبي، الذي لا يمل من قراءة اشعاره ليلا ونهارا، فتسمعه بغداد المزدحمة نهارا، والساكنة، كأنها الموت ليلا. لا يتوقف صوته عن القراءة، حتى وان تغير رواد هذا الشارع، فهو يعرف جيدا ان شارعه لا يعرف الا الحرف والكلمة..
سكن المتنبي روح العراق، وسكن العراقي بين حروفه، وتغذى عليها..
عل بوابة مقهى الشابندر، الشاهد الاهم في هذا الشارع بعد تمثال المتنبي، بهذا المكان، وُجد التاريخ بحاضره وغائبه، سُجل جزء مهم من تاريخ البلد السياسي، والثقافي، وبعد ان فاحت من جدرانه رائحة الدم والموت، سجل تاريخه المأساوي.
خلف زجاج هذا المقهى، ومنذ زمن بعيد، ترعرع ابناء لحاج محمد الشابندر، كما شاعت تسميته، يعمل اغلبهم بين حبر اجهزة الطباعة وآلاتها، وبين المقهى الذي تنتشر في جوه روائح الزمن الجميل، ورائحة القهوة والشاي بانواعه الحلو والحامض والمر..
الحاج محمد يزهو دائما بابنائه واحفاده. يعود لبيته يوميا مع خمسة ابناء ليستقبله احفاده الخمسة عشر، لا يريد من ربه الا ديمومة بقاء الجميع حوله، (حتى يأخذ الله امانته) كما يردد دائما...
كتب التاريخ انه بذلك اليوم استقبل صباحه كما هي عادته دائما، اعدت له زوجته فطوره، ورغم انه لا يأكل كثيرا، لكنه يعشق رائحة الخبر، حتى وان كان متخما.. تلك الرائحة التي تثير الشهية في كل الاوقات..
انهى فطوره ذلك اليوم، كباقي ايامه الاخرى، ووقف امام شباك النافذة ينتظر ابنائه الخمسة الذين توزعوا مع زوجاتهم وجيش الاحفاد، في غرف وملحقات حول بيته، مساحة جغرافية واسعة روحيا وانسانيا، وليس كمساحة مكانية..
انتظرهم، وكما هو معتاد لم يطل انتظاره، فقد تجمعوا ليستقلوا سيارتين تقفان امام بوابة الدار.
خرج موكب الحاج محمد واولاده بذلك اليوم اللافح بحرارته وقهره.. ذهبوا جميعا الى المكان الذي تتكدس فيه الكتب، فيه الاكل للعقل ، وفيه الرزق الذي يوفر لقمة العيش لاحفاد الحاج محمد.
لم يخطر ببال أي احد منهم ان المتنبي سيكتب مرثيته الكبرى بهذا اليوم.
رائحة القهوة والشاي مازالت بفم البعض منهم، بل حتى رائحة الخبر ظلت عالقة بثنايا ملابسهم.. وفوق كل هذا زهو وفخر الحاج محمد بعالمه الذي يضم عوائل ابنائه الخمسة وسادسهم المقهى..
يجلس الحاج محمد قرب بوابة المقهى، الذي لا يبعد كثيرا عن آلات طباعة القصص والقصائد التي تتحدث عن دجلة، حينما تطفو على مياهها قصص العشاق، أو عن سوق السراي، حيث تباع الاقلام التي كتبت عن حياتنا وقصص حبنا، وعن تاريخ سياسي، ضم الكثير من الانقلابات الدموية، ورؤوس علقت على اعواد المشانق، لاسباب تنتقل من اقصى اليمين الى اقصى اليسار السياسي.
المتنبي الشارع والشاعر لا يعرفا وطنا غير هذا الذي نريده، ولا يريدان الا الكرامة التي تطعمنا وتشبع اولادنا واحفادنا..
بدأ زوار المقهى يتوافدون الواحد تلو الاخر، و(صواني) الشاي تتحرك يمينا ويسارا، بين صفوف الكراسي التي بدأت تزداد وتزدحم يوميا..
ارتشف الحاج محمد قهوته المرة، وبدأ ككل يوم يراقب زواره، الذين يعرف الكثير منهم، ويراقب من هو جديد بحذر شديد، لان زمن هذه الايام يحمل الكثير من النوايا التي من الصعب معرفة كنهها..
تنتشر رائحة الحب والقهوة والشاي في ارجاء المكان، لكن رائحة التراب هي الاقوى اينما ذهبت في هذا البلد، وفي الكثير من الاحيان تمتزج برائحة الدم!!
الحاج محمد لا يشم الا رائحة الشارع والقهوة، ورائحة عرق اولاده، الممزوج بحبر المطبعة حيث حروف قصائد الحب وقصص امس مضى، ويوم حاضر، وغدا سيكون، ونحن بين كل ذلك نتيه في مجهول لا يعرفه احد.
ظهرت يومها وجوه غريبة، والشارع اعتاد على الغرباء، لانه مَعّلَم من معالم العاصمة بغداد، لكن وجوه الغرباء تختلف عن بعضها، فاللهفة والشوق على وجه هذا الغريب، الذي عاد الى الشارع بعد غربته القسرية، باحثا عن كتاب نساه هنا، حينما غادر سرا، او عن اهداء سقط من كتاب اشتراه، هذا الوجه يختلف عن الغريب الذي كل ما فيه لا ينتمي الى المكان.. طافت، بذلك اليوم، في المكان وجوه غرباء مغطاة بتراب العالم السفلي..
انتشروا بين القصائد والحكايات، بين حروف الغزل والنور، تركوا امتعتهم المليئة بالموت بين كتب تروي قصص حضارة وادي الرافدين، او تعوم على صفحة ماء دجلة الذي تحولت فيه القصائد والقصص الى مراكب شراعية يركبها العشاق..
وضعوا حمولة الموت ورحلوا بسرعة...
وسط ضجيج الشارع وصوت ام كلثوم وهي تطرب رواد المقهى.. اقداح الشاي تتلون مع تلون اشعة الشمس التي زحفت بلمعانها داخل المقهى، مصحوبا بعزف الملاعق وهي ترن كأجراس العيد..
الكل جالس يفكر بما سينجزه في هذا اليوم، مشاريع كلها تتجه نحو الامل والمسقبل.. الكل ساكن وهادىء وكل الاحتمالات موجودة بهذا المكان، قصيدة ستكتب، كتاب سيطبع، معرض سيقام.. رواية لم تكتمل، وكاتبها يشرب الشاي ويفكر كيف سينهي مصير بطله.. كل الامال موجودة في هذا الشارع، وكل الافكار واردة، الا فكرة الموت.. لقد شبع الناس موتا في وطن لم ينجز لسنوات طوال الا المراثي على شباب راحوا في حروب او داخل سجون او قتلوا غدرا..
سكون الشارع ممزوج بضجيجه. وكأن حياة العاصمة لا تبدأ الا من هنا... للحظة تجمعت كل كلمات الشعر، وفصول الروايات، رائحة الحبر وصوت آلات الطباعة، الكتب التي تكسدت على رصيف الشارع هربت من رصيفها مذعورة، وتكدست في زاوية ما، سكتت ملاعق الشاي، وسحبت الشمس لمعان اشعتها.. توقفت ام كلثوم عن الغناء، توقفت الحياة وساد صمت قاتل، وسيارة وقفت عن بعد تصور مشهد موت قريب لشارع سقطت فيه الحياة وارتفع الموت عاليا ساحبا معه اكداس من الحروف والكلمات، آمال الذين طمروا تحت انقاض هذا الاهتزاز.. احلام تكسرت، واقداح شاي تتطاير هنا وهناك.. وقطرات من الشاي تسقط على الكلمات فتبللها بالشاي والدم الذي سال من اجساد ابناء الحاج احمد الخمسة... تكسرت كل احلامهم وامال والدهم... دفنت احلامهم تحت الانقاض.. وكاميرة الغريب القادم من العالم السفلي، تصور المشهد مع ابتسامة، لان مشهد الموت بدأ يتسع، فلم تقتل الكتب والكلمات، وانما دفنوا احلام بشر كانت لهم اماني قبل اقل من دقائق والان اصبحوا رمادا لا حلم ولا امل له..
ركض الحاج محمد يبحث عن عالمه، عن ابنائه الخمسة، جبل من الانقاض ضم لحم بشر وكتب، لعب اطفال وحلي نسائية.. حقائب ومسابح... جبل تكدس فيه شارع، كان قبل لحظات يمتد طويلا حتى يصل الى جرف نهر دجلة.. لكن النهر حينما اهتزت مياهه من الانفجار، ركض فزعا صاعدا جرفه ليرى ما حصل للشارع، هاله ما رأى، وقف من بعيد وبكى حتى فاضت مياهه..
جلس الحاج على انقاض الشارع يبحث عن اولاده، عله يجد من بقي منهم.. بحث عن امنياتهم فلم يجد غير حروف كلمات مطابعهم وقد تكسرت الى حروفها، خط من الدم سال من اجسادهم الشابة.
سيل من الدم انساب من بين الانقاض عابرا الشارع، متجها الى المقهى، خط من الدم وصل الى باب المقهى منتظرا الحاج محمد ليرافقه الى بيته، كي لا يعود وحيدا، سيل من الدم كتب كلمات حكاية محمد الخشالي الجد لخمسة عشر يتيما مات ابائهم بيوم واحد.
انتشر الظلام في المدينة، بعد استشهاد شارع الثقافة، بذلك اليوم عرفنا ان الكلمة يكرهها كل من عاش في الظلمة، يوم صرنا نتقن كتابة المراثي، لان وطننا منتجا للموت
---------------------
بغداد 2009
* كتبت هذه القصة بعد لقاء تلفزيوني اجريته مع الحاج محمد الخشالي، لكني اضعت النص بين فوضى الحياة وعثرت عليه الان، الحدث رغم انه حصل في 2007، لكن تأثيره قائم الى اليوم ولا يمكن ان ينسى لذلك نشرت القصة.
( الكاتبة)
* عن جريدة تاتوو
زجاج نافذة مقهى قديم، يفصل بين عالمين احدهما ينتمي للحياة والاخر للموت بابشع صوره، موت تجسدت فيه قوة السلطة العمياء، سلطة الشر..
نافذة تطل على ذلك الشارع الذي شهد الكثير من الاحداث السياسية، مظاهرات، ندوات ثقافية وامسيات شعرية، تناثرت جمل قصائدها لتستقر كقوارب عاشقة في ظلمة الليل على نهر دجلة..
شارع يغص بناسه في النهار، بحثا عن كتاب مفقود كاتبه وقارئه ايضا، وبينهما ضاع الاهداء، وفي الليل تغلفه الوحشة، وتسكنه اشباح تتنقل من مكان لاخر، اشباح كان لها بيتها في زوايا هذا الشارع، واخرى جاءت لتزرع بذور الموت هنا وهناك..
في نهاية هذا الشارع يقف المتنبي، الذي لا يمل من قراءة اشعاره ليلا ونهارا، فتسمعه بغداد المزدحمة نهارا، والساكنة، كأنها الموت ليلا. لا يتوقف صوته عن القراءة، حتى وان تغير رواد هذا الشارع، فهو يعرف جيدا ان شارعه لا يعرف الا الحرف والكلمة..
سكن المتنبي روح العراق، وسكن العراقي بين حروفه، وتغذى عليها..
عل بوابة مقهى الشابندر، الشاهد الاهم في هذا الشارع بعد تمثال المتنبي، بهذا المكان، وُجد التاريخ بحاضره وغائبه، سُجل جزء مهم من تاريخ البلد السياسي، والثقافي، وبعد ان فاحت من جدرانه رائحة الدم والموت، سجل تاريخه المأساوي.
خلف زجاج هذا المقهى، ومنذ زمن بعيد، ترعرع ابناء لحاج محمد الشابندر، كما شاعت تسميته، يعمل اغلبهم بين حبر اجهزة الطباعة وآلاتها، وبين المقهى الذي تنتشر في جوه روائح الزمن الجميل، ورائحة القهوة والشاي بانواعه الحلو والحامض والمر..
الحاج محمد يزهو دائما بابنائه واحفاده. يعود لبيته يوميا مع خمسة ابناء ليستقبله احفاده الخمسة عشر، لا يريد من ربه الا ديمومة بقاء الجميع حوله، (حتى يأخذ الله امانته) كما يردد دائما...
كتب التاريخ انه بذلك اليوم استقبل صباحه كما هي عادته دائما، اعدت له زوجته فطوره، ورغم انه لا يأكل كثيرا، لكنه يعشق رائحة الخبر، حتى وان كان متخما.. تلك الرائحة التي تثير الشهية في كل الاوقات..
انهى فطوره ذلك اليوم، كباقي ايامه الاخرى، ووقف امام شباك النافذة ينتظر ابنائه الخمسة الذين توزعوا مع زوجاتهم وجيش الاحفاد، في غرف وملحقات حول بيته، مساحة جغرافية واسعة روحيا وانسانيا، وليس كمساحة مكانية..
انتظرهم، وكما هو معتاد لم يطل انتظاره، فقد تجمعوا ليستقلوا سيارتين تقفان امام بوابة الدار.
خرج موكب الحاج محمد واولاده بذلك اليوم اللافح بحرارته وقهره.. ذهبوا جميعا الى المكان الذي تتكدس فيه الكتب، فيه الاكل للعقل ، وفيه الرزق الذي يوفر لقمة العيش لاحفاد الحاج محمد.
لم يخطر ببال أي احد منهم ان المتنبي سيكتب مرثيته الكبرى بهذا اليوم.
رائحة القهوة والشاي مازالت بفم البعض منهم، بل حتى رائحة الخبر ظلت عالقة بثنايا ملابسهم.. وفوق كل هذا زهو وفخر الحاج محمد بعالمه الذي يضم عوائل ابنائه الخمسة وسادسهم المقهى..
يجلس الحاج محمد قرب بوابة المقهى، الذي لا يبعد كثيرا عن آلات طباعة القصص والقصائد التي تتحدث عن دجلة، حينما تطفو على مياهها قصص العشاق، أو عن سوق السراي، حيث تباع الاقلام التي كتبت عن حياتنا وقصص حبنا، وعن تاريخ سياسي، ضم الكثير من الانقلابات الدموية، ورؤوس علقت على اعواد المشانق، لاسباب تنتقل من اقصى اليمين الى اقصى اليسار السياسي.
المتنبي الشارع والشاعر لا يعرفا وطنا غير هذا الذي نريده، ولا يريدان الا الكرامة التي تطعمنا وتشبع اولادنا واحفادنا..
بدأ زوار المقهى يتوافدون الواحد تلو الاخر، و(صواني) الشاي تتحرك يمينا ويسارا، بين صفوف الكراسي التي بدأت تزداد وتزدحم يوميا..
ارتشف الحاج محمد قهوته المرة، وبدأ ككل يوم يراقب زواره، الذين يعرف الكثير منهم، ويراقب من هو جديد بحذر شديد، لان زمن هذه الايام يحمل الكثير من النوايا التي من الصعب معرفة كنهها..
تنتشر رائحة الحب والقهوة والشاي في ارجاء المكان، لكن رائحة التراب هي الاقوى اينما ذهبت في هذا البلد، وفي الكثير من الاحيان تمتزج برائحة الدم!!
الحاج محمد لا يشم الا رائحة الشارع والقهوة، ورائحة عرق اولاده، الممزوج بحبر المطبعة حيث حروف قصائد الحب وقصص امس مضى، ويوم حاضر، وغدا سيكون، ونحن بين كل ذلك نتيه في مجهول لا يعرفه احد.
ظهرت يومها وجوه غريبة، والشارع اعتاد على الغرباء، لانه مَعّلَم من معالم العاصمة بغداد، لكن وجوه الغرباء تختلف عن بعضها، فاللهفة والشوق على وجه هذا الغريب، الذي عاد الى الشارع بعد غربته القسرية، باحثا عن كتاب نساه هنا، حينما غادر سرا، او عن اهداء سقط من كتاب اشتراه، هذا الوجه يختلف عن الغريب الذي كل ما فيه لا ينتمي الى المكان.. طافت، بذلك اليوم، في المكان وجوه غرباء مغطاة بتراب العالم السفلي..
انتشروا بين القصائد والحكايات، بين حروف الغزل والنور، تركوا امتعتهم المليئة بالموت بين كتب تروي قصص حضارة وادي الرافدين، او تعوم على صفحة ماء دجلة الذي تحولت فيه القصائد والقصص الى مراكب شراعية يركبها العشاق..
وضعوا حمولة الموت ورحلوا بسرعة...
وسط ضجيج الشارع وصوت ام كلثوم وهي تطرب رواد المقهى.. اقداح الشاي تتلون مع تلون اشعة الشمس التي زحفت بلمعانها داخل المقهى، مصحوبا بعزف الملاعق وهي ترن كأجراس العيد..
الكل جالس يفكر بما سينجزه في هذا اليوم، مشاريع كلها تتجه نحو الامل والمسقبل.. الكل ساكن وهادىء وكل الاحتمالات موجودة بهذا المكان، قصيدة ستكتب، كتاب سيطبع، معرض سيقام.. رواية لم تكتمل، وكاتبها يشرب الشاي ويفكر كيف سينهي مصير بطله.. كل الامال موجودة في هذا الشارع، وكل الافكار واردة، الا فكرة الموت.. لقد شبع الناس موتا في وطن لم ينجز لسنوات طوال الا المراثي على شباب راحوا في حروب او داخل سجون او قتلوا غدرا..
سكون الشارع ممزوج بضجيجه. وكأن حياة العاصمة لا تبدأ الا من هنا... للحظة تجمعت كل كلمات الشعر، وفصول الروايات، رائحة الحبر وصوت آلات الطباعة، الكتب التي تكسدت على رصيف الشارع هربت من رصيفها مذعورة، وتكدست في زاوية ما، سكتت ملاعق الشاي، وسحبت الشمس لمعان اشعتها.. توقفت ام كلثوم عن الغناء، توقفت الحياة وساد صمت قاتل، وسيارة وقفت عن بعد تصور مشهد موت قريب لشارع سقطت فيه الحياة وارتفع الموت عاليا ساحبا معه اكداس من الحروف والكلمات، آمال الذين طمروا تحت انقاض هذا الاهتزاز.. احلام تكسرت، واقداح شاي تتطاير هنا وهناك.. وقطرات من الشاي تسقط على الكلمات فتبللها بالشاي والدم الذي سال من اجساد ابناء الحاج احمد الخمسة... تكسرت كل احلامهم وامال والدهم... دفنت احلامهم تحت الانقاض.. وكاميرة الغريب القادم من العالم السفلي، تصور المشهد مع ابتسامة، لان مشهد الموت بدأ يتسع، فلم تقتل الكتب والكلمات، وانما دفنوا احلام بشر كانت لهم اماني قبل اقل من دقائق والان اصبحوا رمادا لا حلم ولا امل له..
ركض الحاج محمد يبحث عن عالمه، عن ابنائه الخمسة، جبل من الانقاض ضم لحم بشر وكتب، لعب اطفال وحلي نسائية.. حقائب ومسابح... جبل تكدس فيه شارع، كان قبل لحظات يمتد طويلا حتى يصل الى جرف نهر دجلة.. لكن النهر حينما اهتزت مياهه من الانفجار، ركض فزعا صاعدا جرفه ليرى ما حصل للشارع، هاله ما رأى، وقف من بعيد وبكى حتى فاضت مياهه..
جلس الحاج على انقاض الشارع يبحث عن اولاده، عله يجد من بقي منهم.. بحث عن امنياتهم فلم يجد غير حروف كلمات مطابعهم وقد تكسرت الى حروفها، خط من الدم سال من اجسادهم الشابة.
سيل من الدم انساب من بين الانقاض عابرا الشارع، متجها الى المقهى، خط من الدم وصل الى باب المقهى منتظرا الحاج محمد ليرافقه الى بيته، كي لا يعود وحيدا، سيل من الدم كتب كلمات حكاية محمد الخشالي الجد لخمسة عشر يتيما مات ابائهم بيوم واحد.
انتشر الظلام في المدينة، بعد استشهاد شارع الثقافة، بذلك اليوم عرفنا ان الكلمة يكرهها كل من عاش في الظلمة، يوم صرنا نتقن كتابة المراثي، لان وطننا منتجا للموت
---------------------
بغداد 2009
* كتبت هذه القصة بعد لقاء تلفزيوني اجريته مع الحاج محمد الخشالي، لكني اضعت النص بين فوضى الحياة وعثرت عليه الان، الحدث رغم انه حصل في 2007، لكن تأثيره قائم الى اليوم ولا يمكن ان ينسى لذلك نشرت القصة.
( الكاتبة)
* عن جريدة تاتوو