شق أول خيوط الفجر طريقه وسط الغيوم السوداء؛ معلناً انتهاء ليلة كاملة من الأمطار التي لولا العناية الإلهية لأذابت البيوت، وحين أمسكت السماء ماءها اندفعت الخيران الصغيرة مفصّدةً الطرقات بهدير مسموع، جارفة معها أوساخاً، وخُرق قديمة، وأوراق أشجار، وأكياس، التمعت جميعها بفعل ضوء مصباح الزيت الذي كان يحمله الرجل الملتف من أذنيه وحتى منتصف جسده بقماش كان قبل ذلك بقليل غطاءاً لسريره، ومن أسفل نعله تزايدت طبقات الطين المتراكمة بعد كل خطوة حتى تضاعف طول الرجل. لم يُغنه حذره بالبحث عن موطئ قدم أكثر جفافاً من الانزلاق مرتين مشارفاً السقوط، قبل أن يصل في النهاية إلى بيت القابلة في طرف القرية، وبعد ساعتين على ذلك، حين كان قد أنتهى لتوه من ترديد الآذان على مسامع مولودته الحديثة، كادت قدمه أن تكسر، وهو يتقدم القابلة عابراً الزقاق الصغير الذي يفصل بيته عن بيت أخيه.
أقيمت الوليمة المشتركة لاختيار الأسماء صبيحة الخميس التالي في بيت الجد. وعندما كان الأبوين الحديثين يغسلان أيديهما بمعونة أحد الأطفال، صرّح أحمد لأخيه الأصغر محمود بأن الصغيرين المولودين في اليوم نفسه، الحاملين لأسماء جديهما، عليهما التعجيل بتزويجهما فور بلوغهما سن الرشد. محمود – الذي ساعده الحظ بأن عمه لا يمتلك أبنة غير التي تزوجها أخيه، ثم ساعده ثراء أبيه، بالإضافة لما يشاع عن تديّنه، بالزواج من أجمل فتيات القرية – تظاهر بالسعال ليخفي رغبته المفاجئة في التقيؤ.
بعد وقت طويل على ذلك، حين ذهبت الصغيرة برفقة أبيها إلى مشفى المدينة، لإعطائها لقاحاً ضد شلل الأطفال، تأملها الطبيب برهة، ثم خطّ – وهو يحاول إخفاء ارتباكه – أرقاماً لم يتمكن موظف مكتب الإحصاء من قراءتها جيداً، فدوّن بمحاذاة أسم فاطمة محمود حسن تاريخاً يقل بثلاثة سنوات على الأقل عن ذلك الخميس الماطر. لكن أياً يكن التاريخ فإن فاطمة لم تضطر لاستخدام شهادة ميلادها أبداً، ولم تحظى بزيارة أخرى للمدينة لما تبقى من حياتها.
كان تكرار أسماء الآباء عادة قاربت مرتبة الواجب، وبذلك امتلكت فاطمة ابنة عم تحمل الاسم نفسه، وتصغرها بعام واحد. كانت الصغيرتان تترافقان لحضور دروس التحفيظ عند شيخ القرية مع عشرة فتيات أخريات من أعمار متقاربة، فأطلقت رفيقات الدرس لقب فاطمة السمحة على فاطمة محمود لتمييزها عن ابنة عمها، لكن الاسم الجديد ألتصق بها حتى بعد أن أصبحت لا تحتاج إلى تمييز عن أحد. ولأن جمال الصغيرة كان سيجلب لها السحر – بحسب رأي والدها – فقد أُلبست خماراً يكاد يصل ركبتيها، بعد أن ألتف حول وجهها تاركاً العينين فقط، إضافة للتمائم التي علقتها الأم على رقبتها منذ الولادة.
استمر ذهابها للدروس شهراً واحداً لم تحفظ فيه فاطمة أكثر من عشرِ سور من القرآن، فقد كان الشيخ يأمرها بتسميع ما حفظت مراراً وتكراراً، ولا يتوانى عن ضربها بالعصى إن تأخرت في المجيء، ثم استبقاها ذات يوم دوناً عن البقيه حتى مغيب الشمس لتقوم بترديد سورة حتى تحفظها، وحين عادت وجدت أبويها فزعين يبحثان في كل مكان؛ لأن فاطمة الأخرى قالت بأنها لا تعرف أين ذهبت رفيقتها، منذ ذلك اليوم توقفت عن الذهاب، وعن مرافقة ابنة عمها أيضاً.
بعد ذلك بعام بدأت تزورها إحدى فتيات القرية، يصنعان الدمى ويلعبان بها سوية، وحين تكررت زيارات الفتاة أرادت فاطمة أن ترد بالمثل، لكنها تفاجأت بجموع الفتيان الذين يتبعونها، فرجعت من منتصف الطريق، وكان ذلك آخر عهد لها بشوارع القرية.
لم يكن جمال فاطمة صامتاً كلوحة متقنه يتأملها المرء مذهولاً ثم ينشغل عنها بشيء آخر أو ينساها، لم تكن كاملة لتحبها أو تكرهها، بل كانت جميلة جداً لكن مع وجود خطأ ما، نقصاً صغيراً، كأنها تركته لتبرهن على بشريتها: خصلة من شعرها الأسود انحسر عنها الخمار، بقايا طين أحاط بقدميها، بقعة من الطحين على شكل قبضة اليد مرتسمة على ثوبها، شعر حاجبين تبعثر على غير هدى. هذا الانحراف الضئيل عن الكمال هو بالذات ما يجعل الناظر غير قادر على تحويل بصره عنها، وغير قادر في الوقت نفسه على تعديله.
كرهت فاطمة جسدها الذي كان بمثابة مرآة تفضح الآخرين أمامها؛ فقد كان الناظر إليها ينسلخ عن تهذيبه الآدمي، مقترباً أكثر من غرائزه الحيوانية، فيفقد الشيوخ وقارهم، وينشغل الرضع عن أثداء أمهاتهم، تسرح النساء، ويبدأ المراهقون بالبكاء إن تحدثت معهم، بينما يتحدث الجميع أمامها بجمل مبتورة، أو هذيانات لا معنى لها، ولم تسأل أحداً عن شيء وحصلت منه على إجابة مفهومة قط. حسدت سراً كل فتيات القرية، الدميمات منهن على وجه الخصوص، فقد كان في مقدورهن أن يحظين بأصدقاء وأعداء، كان أكثر ما يغضب فاطمة: أن أحداً لم يجرؤ على معاداتها، أو لومها وتعنيفها إن أخطأت – وكانت دائماً تتعمد ذلك – عدا ابن عمها حسن، الذي بدا وكأنه الناجي الوحيد من دوامة الذهول التي تصيب كل من يراها، بل دائماً ما يثير خلافات معها، وإن لم يفعل ذلك يعاملها كشبح غير مرئي، لكنها لم تر في ذلك كرهاً، بل حباً بطريقة متطرفة، لذلك تجنبته.
كانت السمحة قد وصلت سن البلوغ منذ أشهر، وبدأ الحديث عن أوان تزويجها بابن عمها. والدها الذي ظل محتفظاً برفضه رغبة منه في توريث الجمال لأحفاده، أطمأن حين أستشعر نفوراً بين الشابين سيجنبه العصيان المباشر لأخية الأكبر، لكن الجميع في تلك الأيام انشغلوا عن قضية تزويج فاطمة لأن شيئاً بدأ في القرية أكثر تأثيراً، وسيغير كل قرى المنطقة إلى الأبد.
ذات مساء صيفي حار حل على القرية ضيفاً، نزل في بيت العمدة، وطلب من جميع الرجال التجمع عنده ظهر الغد لاطلاعهم على نبأ مهم. لم يُغمض جفن تلك الليلة، كثرت التنبؤات حين وصف بعض الصغار ملابس الضيف وهيئته، ولأن الخروج من القرية كان أمراً نادر الحدوث فإن أحداً لم يتمكن من التعرف على الضيف، أو معرفة سبب قدومه. في اليوم التالي أوضح الغريب في اجتماعه بأن مشروعاً زراعياً قد وصل لحدود القرية، سيتم لأجله حفر قناة كبيرة للماء، وستوزع البذور على المزارعين، وتُشترى منهم المحاصيل دون الحوجة لنقلها للمدينة، شرح الغريب مطولاً عن فوائد المشروع وأرباحه، ثم قال بأن المزيد من الغرباء سيأتون لإكمال الحفر وبقية الأعمال، وسيقيمون مؤقتاً في خيام سيتم نصبها في طرف القرية، بينما أقام هو في أحد البيوت، وتناوب الأهالي على جلب ما لذ وطاب من الطعام له.
اطمأن الناس لوجود الغريب بينهم، رغم أنهم احتفظوا باللقب عند الإشارة إليه، فقد زار بيوت القرية وشارك في مناسباتها وأكل من طعامها، وخلع عنه الرداء القصير والقبعة غريبة الشكل، وأرتدى الجلباب والعمامة مثلهم، لكن بعد أسبوعين من وصوله أخبر أحد المزارعين بأن الحكومة ستأخذ أرضه لأن قناة المياه ستمر بها، وستبني غرف لموظف الحكومة الذي سيشرف على المشروع فيما تبقى من الأرض، ثار الرجل وأحتد الجدال حتى تحول لاشتباك بالأيادي مع الغريب، فتدخل بعض الحاضرين لفض النزاع، وفي صبيحة اليوم التالي دخل القرية أربعة جنود يحملون البنادق على أكتافهم، وأعلنوا أنهم سيقيمون في القرية لحراسة تقدم العمل، ثم توالى بعد ذلك انتزاع الغريب للأراضي، وتصاعد عداء الناس له.
بعد بضعة أسابيع حل زواج ابنة العمدة، فأعدت العدة ليكون زواجاً مهيباً، حضر الضيوف من قرى ومدن بعيدة، فذبحت الخراف والنياق، وأمر العمدة جميع نساء القرية بأن لا يوقدن في مطابخهن ناراً، وأن يأكل الجميع من بيت العمدة أسبوعاً كاملاً، وفي صبيحة يوم العرس استأذنت فاطمة أمها للذهاب، فوافقت الأم بشرط أن ترتدي أوسع ثيابها وتغطي وجهها، كما نصح الأب بأن تتخذ طريقاً ملتوياً ومتشابكاً تجنباً للمرور بمدخل البيت الذي خصص لضيافة الرجال، وبالتأكيد أن ترافقها ابنة عمها، ويحرصا على العودة قبل حلول الظلام.
الصدفة هي ما جعلت الغريب يقف في الطريق أمام بيت العرس، وهي أيضاً ما جعلت الفتاتين في تلك اللحظة بالذات تمران من أمامه، لكن الصدفة ليست هي التي أسقطت غطاء فاطمة عن وجهها، بل ابنة عمها هي التي فعلت ذلك، حين شهقت بصوت مسموع ليرفع الرجل رأسه، ثم في اللحظة ذاتها سحبت الغطاء عن مرافقتها، وحين ألتفتت فاطمه مستفسرة أدعت أنها وضعت قدمها خطأ فالتوت وكانت تحاول التشبث بأقرب شيء إليها.
بعد يومين على ذلك، حين كان محمود يحرث حقله، أرسلت زوجته في طلبه لأن ضيوفاً ينتظرونه في البيت، أخبره الصبى الذي أوصل الرسالة أن الضيوف هم الغريب والعمدة، فاغتمّ محمود وتمنى أن يطول الطريق إلى بيته بلانهاية، فزيارتهم كانت تعني ضياع مصدر رزقه الوحيد، وإن لم تمر القناة بأرضه سيبتكر الغريب حجة ما كالسكة الحديدة، أو مكتباً للموظفين، أو أي ذريعة سيضطر لقبولها صاغراً، لكن محمود لم يكن يعلم برؤية الغريب لابنته. إثر تلك الزيارة تحدد الزواج يوم الجمعة المقبل، فاشتعلت القرية بخبر زواج أجمل نساءها من الغريب سارق الأرض، وتقبله كل فرد وكأنه خبر وفاة عزيز لديه.
استيقظت القرية يوم الأربعاء على نباح الكلاب وأصوات العساكر الذين جابوا الشوارع، قيل أن الغريب وجد ميتاً في حفرة القناة الجافة، وأنه سقط ليلاً وأصطدم – صدفة – بصخرة كبيرة كانت قد أوقفت عمليات الحفر منذ اليوم السابق، تهامس الجميع بأن حسن قام بدفعه ليوقف الزواج، وكعادتهم دائماً ابتكروا له أسماً فلُقب بحسن الشاطر، لكن أحداً لم ينطق بشيء للضباط الذين اتخذوا من أحد الخيام بطرف القرية مقراً لهم وبدأوا باستجواب الجميع.
حين جاء دور استجواب العروس، اقتادها العسكري ملتفة بالأقمشة – كعادتها – إلى خيمة الاستجواب، وبعد أن انتهت من سرد حكايتها عن الغريب الذي لم تر وجهه يوماً، عادت بأكثر طرق القرية طولاً، مرت بالرجال العائدين من حقولهم، الباعة في متاجرهم، العساكر الذين يجوبون الطرقات راكضين خلف كلابهم، الصبية اللاعبين في الرمال، وبالرجال المتجمعين رافعين أياديهم بالفاتحة والدعاء لروح الغريب، بعد أن نزعت خمار رأسها ومزقت ثوبها إلى نصفين، وقطعت القرية من أقصاها لأدناها دون أن يستر جسدها شيء. حين وصلت إلى بيتها لم ترها الأم التي كانت منشغلة مع بعض النسوة المعزيات، فذهبت فاطمة من فورها إلى موقد النار، أفرغت عبوة من الزيت على جسدها العاري، ثم عادت إلى الشارع حيث كانت الجموع التي تبعتها قد وصلت قرب الباب، فوقفت أمام أعينهم الذاهلة ثم أشعلت النار.
أقيمت الوليمة المشتركة لاختيار الأسماء صبيحة الخميس التالي في بيت الجد. وعندما كان الأبوين الحديثين يغسلان أيديهما بمعونة أحد الأطفال، صرّح أحمد لأخيه الأصغر محمود بأن الصغيرين المولودين في اليوم نفسه، الحاملين لأسماء جديهما، عليهما التعجيل بتزويجهما فور بلوغهما سن الرشد. محمود – الذي ساعده الحظ بأن عمه لا يمتلك أبنة غير التي تزوجها أخيه، ثم ساعده ثراء أبيه، بالإضافة لما يشاع عن تديّنه، بالزواج من أجمل فتيات القرية – تظاهر بالسعال ليخفي رغبته المفاجئة في التقيؤ.
بعد وقت طويل على ذلك، حين ذهبت الصغيرة برفقة أبيها إلى مشفى المدينة، لإعطائها لقاحاً ضد شلل الأطفال، تأملها الطبيب برهة، ثم خطّ – وهو يحاول إخفاء ارتباكه – أرقاماً لم يتمكن موظف مكتب الإحصاء من قراءتها جيداً، فدوّن بمحاذاة أسم فاطمة محمود حسن تاريخاً يقل بثلاثة سنوات على الأقل عن ذلك الخميس الماطر. لكن أياً يكن التاريخ فإن فاطمة لم تضطر لاستخدام شهادة ميلادها أبداً، ولم تحظى بزيارة أخرى للمدينة لما تبقى من حياتها.
كان تكرار أسماء الآباء عادة قاربت مرتبة الواجب، وبذلك امتلكت فاطمة ابنة عم تحمل الاسم نفسه، وتصغرها بعام واحد. كانت الصغيرتان تترافقان لحضور دروس التحفيظ عند شيخ القرية مع عشرة فتيات أخريات من أعمار متقاربة، فأطلقت رفيقات الدرس لقب فاطمة السمحة على فاطمة محمود لتمييزها عن ابنة عمها، لكن الاسم الجديد ألتصق بها حتى بعد أن أصبحت لا تحتاج إلى تمييز عن أحد. ولأن جمال الصغيرة كان سيجلب لها السحر – بحسب رأي والدها – فقد أُلبست خماراً يكاد يصل ركبتيها، بعد أن ألتف حول وجهها تاركاً العينين فقط، إضافة للتمائم التي علقتها الأم على رقبتها منذ الولادة.
استمر ذهابها للدروس شهراً واحداً لم تحفظ فيه فاطمة أكثر من عشرِ سور من القرآن، فقد كان الشيخ يأمرها بتسميع ما حفظت مراراً وتكراراً، ولا يتوانى عن ضربها بالعصى إن تأخرت في المجيء، ثم استبقاها ذات يوم دوناً عن البقيه حتى مغيب الشمس لتقوم بترديد سورة حتى تحفظها، وحين عادت وجدت أبويها فزعين يبحثان في كل مكان؛ لأن فاطمة الأخرى قالت بأنها لا تعرف أين ذهبت رفيقتها، منذ ذلك اليوم توقفت عن الذهاب، وعن مرافقة ابنة عمها أيضاً.
بعد ذلك بعام بدأت تزورها إحدى فتيات القرية، يصنعان الدمى ويلعبان بها سوية، وحين تكررت زيارات الفتاة أرادت فاطمة أن ترد بالمثل، لكنها تفاجأت بجموع الفتيان الذين يتبعونها، فرجعت من منتصف الطريق، وكان ذلك آخر عهد لها بشوارع القرية.
لم يكن جمال فاطمة صامتاً كلوحة متقنه يتأملها المرء مذهولاً ثم ينشغل عنها بشيء آخر أو ينساها، لم تكن كاملة لتحبها أو تكرهها، بل كانت جميلة جداً لكن مع وجود خطأ ما، نقصاً صغيراً، كأنها تركته لتبرهن على بشريتها: خصلة من شعرها الأسود انحسر عنها الخمار، بقايا طين أحاط بقدميها، بقعة من الطحين على شكل قبضة اليد مرتسمة على ثوبها، شعر حاجبين تبعثر على غير هدى. هذا الانحراف الضئيل عن الكمال هو بالذات ما يجعل الناظر غير قادر على تحويل بصره عنها، وغير قادر في الوقت نفسه على تعديله.
كرهت فاطمة جسدها الذي كان بمثابة مرآة تفضح الآخرين أمامها؛ فقد كان الناظر إليها ينسلخ عن تهذيبه الآدمي، مقترباً أكثر من غرائزه الحيوانية، فيفقد الشيوخ وقارهم، وينشغل الرضع عن أثداء أمهاتهم، تسرح النساء، ويبدأ المراهقون بالبكاء إن تحدثت معهم، بينما يتحدث الجميع أمامها بجمل مبتورة، أو هذيانات لا معنى لها، ولم تسأل أحداً عن شيء وحصلت منه على إجابة مفهومة قط. حسدت سراً كل فتيات القرية، الدميمات منهن على وجه الخصوص، فقد كان في مقدورهن أن يحظين بأصدقاء وأعداء، كان أكثر ما يغضب فاطمة: أن أحداً لم يجرؤ على معاداتها، أو لومها وتعنيفها إن أخطأت – وكانت دائماً تتعمد ذلك – عدا ابن عمها حسن، الذي بدا وكأنه الناجي الوحيد من دوامة الذهول التي تصيب كل من يراها، بل دائماً ما يثير خلافات معها، وإن لم يفعل ذلك يعاملها كشبح غير مرئي، لكنها لم تر في ذلك كرهاً، بل حباً بطريقة متطرفة، لذلك تجنبته.
كانت السمحة قد وصلت سن البلوغ منذ أشهر، وبدأ الحديث عن أوان تزويجها بابن عمها. والدها الذي ظل محتفظاً برفضه رغبة منه في توريث الجمال لأحفاده، أطمأن حين أستشعر نفوراً بين الشابين سيجنبه العصيان المباشر لأخية الأكبر، لكن الجميع في تلك الأيام انشغلوا عن قضية تزويج فاطمة لأن شيئاً بدأ في القرية أكثر تأثيراً، وسيغير كل قرى المنطقة إلى الأبد.
ذات مساء صيفي حار حل على القرية ضيفاً، نزل في بيت العمدة، وطلب من جميع الرجال التجمع عنده ظهر الغد لاطلاعهم على نبأ مهم. لم يُغمض جفن تلك الليلة، كثرت التنبؤات حين وصف بعض الصغار ملابس الضيف وهيئته، ولأن الخروج من القرية كان أمراً نادر الحدوث فإن أحداً لم يتمكن من التعرف على الضيف، أو معرفة سبب قدومه. في اليوم التالي أوضح الغريب في اجتماعه بأن مشروعاً زراعياً قد وصل لحدود القرية، سيتم لأجله حفر قناة كبيرة للماء، وستوزع البذور على المزارعين، وتُشترى منهم المحاصيل دون الحوجة لنقلها للمدينة، شرح الغريب مطولاً عن فوائد المشروع وأرباحه، ثم قال بأن المزيد من الغرباء سيأتون لإكمال الحفر وبقية الأعمال، وسيقيمون مؤقتاً في خيام سيتم نصبها في طرف القرية، بينما أقام هو في أحد البيوت، وتناوب الأهالي على جلب ما لذ وطاب من الطعام له.
اطمأن الناس لوجود الغريب بينهم، رغم أنهم احتفظوا باللقب عند الإشارة إليه، فقد زار بيوت القرية وشارك في مناسباتها وأكل من طعامها، وخلع عنه الرداء القصير والقبعة غريبة الشكل، وأرتدى الجلباب والعمامة مثلهم، لكن بعد أسبوعين من وصوله أخبر أحد المزارعين بأن الحكومة ستأخذ أرضه لأن قناة المياه ستمر بها، وستبني غرف لموظف الحكومة الذي سيشرف على المشروع فيما تبقى من الأرض، ثار الرجل وأحتد الجدال حتى تحول لاشتباك بالأيادي مع الغريب، فتدخل بعض الحاضرين لفض النزاع، وفي صبيحة اليوم التالي دخل القرية أربعة جنود يحملون البنادق على أكتافهم، وأعلنوا أنهم سيقيمون في القرية لحراسة تقدم العمل، ثم توالى بعد ذلك انتزاع الغريب للأراضي، وتصاعد عداء الناس له.
بعد بضعة أسابيع حل زواج ابنة العمدة، فأعدت العدة ليكون زواجاً مهيباً، حضر الضيوف من قرى ومدن بعيدة، فذبحت الخراف والنياق، وأمر العمدة جميع نساء القرية بأن لا يوقدن في مطابخهن ناراً، وأن يأكل الجميع من بيت العمدة أسبوعاً كاملاً، وفي صبيحة يوم العرس استأذنت فاطمة أمها للذهاب، فوافقت الأم بشرط أن ترتدي أوسع ثيابها وتغطي وجهها، كما نصح الأب بأن تتخذ طريقاً ملتوياً ومتشابكاً تجنباً للمرور بمدخل البيت الذي خصص لضيافة الرجال، وبالتأكيد أن ترافقها ابنة عمها، ويحرصا على العودة قبل حلول الظلام.
الصدفة هي ما جعلت الغريب يقف في الطريق أمام بيت العرس، وهي أيضاً ما جعلت الفتاتين في تلك اللحظة بالذات تمران من أمامه، لكن الصدفة ليست هي التي أسقطت غطاء فاطمة عن وجهها، بل ابنة عمها هي التي فعلت ذلك، حين شهقت بصوت مسموع ليرفع الرجل رأسه، ثم في اللحظة ذاتها سحبت الغطاء عن مرافقتها، وحين ألتفتت فاطمه مستفسرة أدعت أنها وضعت قدمها خطأ فالتوت وكانت تحاول التشبث بأقرب شيء إليها.
بعد يومين على ذلك، حين كان محمود يحرث حقله، أرسلت زوجته في طلبه لأن ضيوفاً ينتظرونه في البيت، أخبره الصبى الذي أوصل الرسالة أن الضيوف هم الغريب والعمدة، فاغتمّ محمود وتمنى أن يطول الطريق إلى بيته بلانهاية، فزيارتهم كانت تعني ضياع مصدر رزقه الوحيد، وإن لم تمر القناة بأرضه سيبتكر الغريب حجة ما كالسكة الحديدة، أو مكتباً للموظفين، أو أي ذريعة سيضطر لقبولها صاغراً، لكن محمود لم يكن يعلم برؤية الغريب لابنته. إثر تلك الزيارة تحدد الزواج يوم الجمعة المقبل، فاشتعلت القرية بخبر زواج أجمل نساءها من الغريب سارق الأرض، وتقبله كل فرد وكأنه خبر وفاة عزيز لديه.
استيقظت القرية يوم الأربعاء على نباح الكلاب وأصوات العساكر الذين جابوا الشوارع، قيل أن الغريب وجد ميتاً في حفرة القناة الجافة، وأنه سقط ليلاً وأصطدم – صدفة – بصخرة كبيرة كانت قد أوقفت عمليات الحفر منذ اليوم السابق، تهامس الجميع بأن حسن قام بدفعه ليوقف الزواج، وكعادتهم دائماً ابتكروا له أسماً فلُقب بحسن الشاطر، لكن أحداً لم ينطق بشيء للضباط الذين اتخذوا من أحد الخيام بطرف القرية مقراً لهم وبدأوا باستجواب الجميع.
حين جاء دور استجواب العروس، اقتادها العسكري ملتفة بالأقمشة – كعادتها – إلى خيمة الاستجواب، وبعد أن انتهت من سرد حكايتها عن الغريب الذي لم تر وجهه يوماً، عادت بأكثر طرق القرية طولاً، مرت بالرجال العائدين من حقولهم، الباعة في متاجرهم، العساكر الذين يجوبون الطرقات راكضين خلف كلابهم، الصبية اللاعبين في الرمال، وبالرجال المتجمعين رافعين أياديهم بالفاتحة والدعاء لروح الغريب، بعد أن نزعت خمار رأسها ومزقت ثوبها إلى نصفين، وقطعت القرية من أقصاها لأدناها دون أن يستر جسدها شيء. حين وصلت إلى بيتها لم ترها الأم التي كانت منشغلة مع بعض النسوة المعزيات، فذهبت فاطمة من فورها إلى موقد النار، أفرغت عبوة من الزيت على جسدها العاري، ثم عادت إلى الشارع حيث كانت الجموع التي تبعتها قد وصلت قرب الباب، فوقفت أمام أعينهم الذاهلة ثم أشعلت النار.