شاحب الوجه كشحوب حياته، حينما يصحو صباحا، يخاف ان يغادر فراشه، لأنه وبعد لحظات، سيستقبل آلاما وهموما، تتكدس منذ سنين داخل احشائه، على كتفيه، بين عينيه، مخترقة مسامات جلده، بل وحتى في جيوبه.يبقى لمدة طويلة ممدا بجانب شحوبه، ينظر الى السقف الذي لم يتغير منذ زمن،
كظله الذي يكون معه اينما كان، حتى في الظلمة، ولا يختلف معه او يفارقه الا نادرا، لكن هذا السقف لا يفارقه ابدا ولا يختلف معه، كل ما في الامر انه لا يمكنهما ان يكونا ابدا جنبا الى جنب، مثل ظله تماما..
انه سقف منذ ان رآه وحتى تلك اللحظة، زرع فيه عوالما، ورسم عليه لوحات حياته.. عشقه.. يأسه وأمله.. لانه يقضي جل حياته بمواجهته.
حينما يمل من وضعه هذا، ينهض بتكاسل ليتجول في أرجاء البيت، ناثرا آلامه في كل زاوية يمر بها، وعلى كل الكائنات الاليفة منها وغير الاليفة..فتكتسي الاشياء بعد مروره عليها بحزنه ويتحول لونها رماديا او ضبابيا، او شكلا غير مكتمل المعالم والوضوح..
ينظر عبر النافذة محاولا رؤية سقوف الابنية الاخرى، التي لا تشبه سقفه النابض بالحياة والشحوب في آن واحد..
يسير شاحبا في الشارع، يمد قامته نحو الاعلى، رغم انكماشه.. يحاول ان يبدو مرتبا في مظهره رغم بعثرته الداخلية.. يتعثر بظله، فينجرح الظل وينزدمه دون توقف...
يستمع الى الضجيج الذي تركه الاصدقاء، مركونا في احدى الغرف... اصدقاؤه الذين هجروا كلماتهم وتركوه في بيته وحيدا..
يتذكر كيف ملأوا بيته بأصواتهم التي كانت كصراخ الثعالب في الليل الموحش.. اطعم افواههم المفتوحة دائما، بانتظار لقمة، او لعض يد ممدودة.. عوائهم وصراخهم مسكون في كل زاوية عاشها.. يعوون باستمرار مميت، لكنه حينما بكى وتوجع سكتوا جميعا، فكان الرحيل الاخير لهم..
بمواجهة سقفه تذكر عبارة كتبها لها:
" انا لحظة وانت قرون"... شهق بغصة.. رفع وجهه باتجاه السقف وانتحب دون توقف... فلم يعد هو لحظة، ولم تعد هي قرون، غادرهما الزمن دون رجعة..
يلبس الفرح يوميا، ليبدو مبتهجا بالحياة، يوزع الابتسامات على المارة، يحيي الكثير منهم، وهو ناسٍ ان كان يعرفهم ام لا... لكن ألمه سرعان ما ينفضح، فتختفي الابتسامة وترحل عن وجهه، تاركة ظلها واخاديد من الحزن شقت دروبها بقسوة سكين مرت عليها...
مر معها، في يوم ما، بحقل زهورلعباد الشمس، سحرها منظر الحقل بزهوره المرفوعة الى الاعلى، متجهة نحو الشمس... ظلت تحادثه كثيرا عن هذا الحقل اثناء طريق الذهاب.. صورة الحقل برمته وهو يتجه كأنه مسافرا نحو الشمس..
كانت آنذاك تمسك يده بقوة حينما تتحدث... وبعد ان مضى الزمن نحو مكانه، واثناء العودة... جلس كل منهما على جانب معاكس للاخر.. ولما مرا على الحقل كانت الزهور قد أمالت برأسها نحو الاسفل.. غابت الشمس وسحبت كل الامال والاحلام، وابقت على خيوط شاحبة لا بد لها ان تختفي وتزول... طأطأت الزهور برأسها نحو الاسفل بحثا عن بقايا اشعة منسية سقطت من الشمس هنا او هناك، أمالا برأسيهما ايضا بحثا عن خفقة نور ربما تكون قد سقطت من امل قد غاب عنهما لزمن لا يعرف مداه...
يجلسان الان منفردين بمواجهة سقف كل منهما، حيث لا حقل فيه، ولا خفقة نور، يرسم كل منهما شيء مختلف عن الاخر، لكنه يرغب ان يكونه.. جنح مقصوص او سكين يلمع، والشحوب يطوف في جو المكانين، فيفزع الهواء ويفر مذعورا منهما..
السقف يتمدد طولا وعرضا، بل يتجه نحو العمق.. باتجاهه، نحو مساماته، يتحول السقف الى قوس وسهمه، له اتجاه واحد، نحوه فقط....
يتحول هو الى سيف وغمده، له اتجاه واحد نحو السقف..
يتحول المكان الى ساحة معركة بطلاها، هو والسقف، فيسقط احدهما مقتولا....
لندن 1995
* عن جريدة تاتوو
كظله الذي يكون معه اينما كان، حتى في الظلمة، ولا يختلف معه او يفارقه الا نادرا، لكن هذا السقف لا يفارقه ابدا ولا يختلف معه، كل ما في الامر انه لا يمكنهما ان يكونا ابدا جنبا الى جنب، مثل ظله تماما..
انه سقف منذ ان رآه وحتى تلك اللحظة، زرع فيه عوالما، ورسم عليه لوحات حياته.. عشقه.. يأسه وأمله.. لانه يقضي جل حياته بمواجهته.
حينما يمل من وضعه هذا، ينهض بتكاسل ليتجول في أرجاء البيت، ناثرا آلامه في كل زاوية يمر بها، وعلى كل الكائنات الاليفة منها وغير الاليفة..فتكتسي الاشياء بعد مروره عليها بحزنه ويتحول لونها رماديا او ضبابيا، او شكلا غير مكتمل المعالم والوضوح..
ينظر عبر النافذة محاولا رؤية سقوف الابنية الاخرى، التي لا تشبه سقفه النابض بالحياة والشحوب في آن واحد..
يسير شاحبا في الشارع، يمد قامته نحو الاعلى، رغم انكماشه.. يحاول ان يبدو مرتبا في مظهره رغم بعثرته الداخلية.. يتعثر بظله، فينجرح الظل وينزدمه دون توقف...
يستمع الى الضجيج الذي تركه الاصدقاء، مركونا في احدى الغرف... اصدقاؤه الذين هجروا كلماتهم وتركوه في بيته وحيدا..
يتذكر كيف ملأوا بيته بأصواتهم التي كانت كصراخ الثعالب في الليل الموحش.. اطعم افواههم المفتوحة دائما، بانتظار لقمة، او لعض يد ممدودة.. عوائهم وصراخهم مسكون في كل زاوية عاشها.. يعوون باستمرار مميت، لكنه حينما بكى وتوجع سكتوا جميعا، فكان الرحيل الاخير لهم..
بمواجهة سقفه تذكر عبارة كتبها لها:
" انا لحظة وانت قرون"... شهق بغصة.. رفع وجهه باتجاه السقف وانتحب دون توقف... فلم يعد هو لحظة، ولم تعد هي قرون، غادرهما الزمن دون رجعة..
يلبس الفرح يوميا، ليبدو مبتهجا بالحياة، يوزع الابتسامات على المارة، يحيي الكثير منهم، وهو ناسٍ ان كان يعرفهم ام لا... لكن ألمه سرعان ما ينفضح، فتختفي الابتسامة وترحل عن وجهه، تاركة ظلها واخاديد من الحزن شقت دروبها بقسوة سكين مرت عليها...
مر معها، في يوم ما، بحقل زهورلعباد الشمس، سحرها منظر الحقل بزهوره المرفوعة الى الاعلى، متجهة نحو الشمس... ظلت تحادثه كثيرا عن هذا الحقل اثناء طريق الذهاب.. صورة الحقل برمته وهو يتجه كأنه مسافرا نحو الشمس..
كانت آنذاك تمسك يده بقوة حينما تتحدث... وبعد ان مضى الزمن نحو مكانه، واثناء العودة... جلس كل منهما على جانب معاكس للاخر.. ولما مرا على الحقل كانت الزهور قد أمالت برأسها نحو الاسفل.. غابت الشمس وسحبت كل الامال والاحلام، وابقت على خيوط شاحبة لا بد لها ان تختفي وتزول... طأطأت الزهور برأسها نحو الاسفل بحثا عن بقايا اشعة منسية سقطت من الشمس هنا او هناك، أمالا برأسيهما ايضا بحثا عن خفقة نور ربما تكون قد سقطت من امل قد غاب عنهما لزمن لا يعرف مداه...
يجلسان الان منفردين بمواجهة سقف كل منهما، حيث لا حقل فيه، ولا خفقة نور، يرسم كل منهما شيء مختلف عن الاخر، لكنه يرغب ان يكونه.. جنح مقصوص او سكين يلمع، والشحوب يطوف في جو المكانين، فيفزع الهواء ويفر مذعورا منهما..
السقف يتمدد طولا وعرضا، بل يتجه نحو العمق.. باتجاهه، نحو مساماته، يتحول السقف الى قوس وسهمه، له اتجاه واحد، نحوه فقط....
يتحول هو الى سيف وغمده، له اتجاه واحد نحو السقف..
يتحول المكان الى ساحة معركة بطلاها، هو والسقف، فيسقط احدهما مقتولا....
لندن 1995
* عن جريدة تاتوو