وتأتي رسالة روما بعد رسالة أثينا، وهي رسالة عملية يقل فيها نصيب الدراسات الفلسفية، ومع استثناء القوانين المسطورة لم يبق من تراث روما في فلسفة الحكم غير كتابين لخطيبها الأكبر شيشرون (١٠٦–٤٣ق.م)، وهما كتاب الجمهورية De Republica وكتاب القوانين De Lagibus. عرفت روما ضروب الحكم جميعًا مع تَعدُّد أنواع الحكام وتَعدُّد أنواع المحكومين: عرفت الملك والجمهورية والقنصلية وحكم الدكتاتور العادل والدكتاتور الظالم ورقابة الشيوخ الأعيان ورقابة الوكلاء الشعبيين، وعرفت الحكم الذي يقوم على حقوق العلية، والحكم الذي يقوم على حقوق العلية والعامة، والحكم الذي يُستثنى منه الأرقاء، والحكم الذي يَقبلون فيه بعض القبول، وتركت بتجاربها العملية رسالة عامرة بالنماذج والتعديلات لا يستغني عنها باحث من الدارسين لنظم الحكومة في جميع الأوضاع وبين جميع الأقوام.
أما رسالتها الفلسفية فهي كما تَقدم محصورة في كتابَي الخطيب الأكبر، وجانب الاقتباس فيها من المدرسة الأثينية أكبر من جانب الاستقلال بالرأي والابتكار، ولعل إيمان شيشرون بالنظريات هو الذي جنى عليه فجعله يصر في أثناء ولايته للحكومة على توخي الغايات التي لا تدرك، وسوَّم الشيوخ والأعيان ما لا طاقة لهم به من النزاهة والاعتدال، فكان الموت جزاءه على هذه النزعة المثالية التي لا تقبل التطبيق.
نقل شيشرون عن الفيلسوف اليوناني زينوقراط Xenocrates أنه سئل: ماذا استفاد منك تلاميذك؟ فقال: إنهم استفادوا أنهم بمحض اختيارهم يعملون ما توجبه القوانين على الآخرين.
يقول شيشرون: «إنه من رأي أعقل الحكماء أن القانون لا يَرجع في أصوله إلى فكر إنساني ولا إلى عمل أمة من الأمم، ولكنه شيء خالد يحكم الكون كله بما يوحيه من أوامره ونواهيه»، وإن أفضل المجتمعات هو المجتمع الذي يوافق إلهام الطبيعة، ولا يعطِّل هذا الإلهام بزيغان المطامع والشهوات.
وينكر شيشرون قول أفلاطون إن ذوي الاستعداد لفهم الشريعة جد قليلين بين البشر، ففي اعتقاده على عكس ذلك أنه ما من إنسان إلا وهو قادر على فهم الشريعة كما توحيها الطبيعة، وإن القانون الطبيعي يقضي بالمساواة بين البشر في هذا الاعتبار، وإنه عند عصيان هذا القانون الطبيعي يقع من الناس الاجتراء على نصوص الشرائع المسطورة.
ويقول على لسان سيبيو وهو يلخِّص حجج الديمقراطية: «إنهم يقررون أنه ليس من الإنصاف أن تدان الديمقراطية على عمومها؛ لأن الجمهرة الجامحة من سواد الناس لها عيوبها، وإن الناس ما داموا متناسقين يُخضِعون كل شيء لسلامتهم وحريتهم فلا حكومة أنأى عن خطر الثورة وأمكن استقرارًا من حكومتهم، أي من الحكومة الديمقراطية.»
ويمضي سيبيو قائلًا: «وعلى الجملة لا يَعتبر أنصار الديمقراطية أن الحكومات الأخرى جديرة باسم الحكومة، فما لي مثلًا أطلق اسم المالك الذي هو أليق الأسماء برب الأرباب على مخلوق بشري متلهف على السيادة والاستئثار بالغلبة كأنه في سوقه للرعية يَدفع أمامه قطيعًا من العبيد؟ أليس الأحرى بي أن أطلق عليه اسم الطاغية؟!»
والعجب في هذه الديمقراطية الغالية وهذا القانون الطبيعي أن تتمخض عنهما الدولة الرومانية التي كانت رسالتها في العالم «صناعة» القوانين! … فقد أصاب من قال: إن شيشرون كان رائدًا للثورة الفرنسية والثورة الأمريكية قبل ألف وسبعمائة سنة، وإنه بهذه الأقوال عن القانون الطبيعي وعموم المساواة بين البشر كان زميلًا لجان جاك روسو ظهر في العصر الغابر قبل الأوان.
أما رسالتها الفلسفية فهي كما تَقدم محصورة في كتابَي الخطيب الأكبر، وجانب الاقتباس فيها من المدرسة الأثينية أكبر من جانب الاستقلال بالرأي والابتكار، ولعل إيمان شيشرون بالنظريات هو الذي جنى عليه فجعله يصر في أثناء ولايته للحكومة على توخي الغايات التي لا تدرك، وسوَّم الشيوخ والأعيان ما لا طاقة لهم به من النزاهة والاعتدال، فكان الموت جزاءه على هذه النزعة المثالية التي لا تقبل التطبيق.
نقل شيشرون عن الفيلسوف اليوناني زينوقراط Xenocrates أنه سئل: ماذا استفاد منك تلاميذك؟ فقال: إنهم استفادوا أنهم بمحض اختيارهم يعملون ما توجبه القوانين على الآخرين.
يقول شيشرون: «إنه من رأي أعقل الحكماء أن القانون لا يَرجع في أصوله إلى فكر إنساني ولا إلى عمل أمة من الأمم، ولكنه شيء خالد يحكم الكون كله بما يوحيه من أوامره ونواهيه»، وإن أفضل المجتمعات هو المجتمع الذي يوافق إلهام الطبيعة، ولا يعطِّل هذا الإلهام بزيغان المطامع والشهوات.
وينكر شيشرون قول أفلاطون إن ذوي الاستعداد لفهم الشريعة جد قليلين بين البشر، ففي اعتقاده على عكس ذلك أنه ما من إنسان إلا وهو قادر على فهم الشريعة كما توحيها الطبيعة، وإن القانون الطبيعي يقضي بالمساواة بين البشر في هذا الاعتبار، وإنه عند عصيان هذا القانون الطبيعي يقع من الناس الاجتراء على نصوص الشرائع المسطورة.
ويقول على لسان سيبيو وهو يلخِّص حجج الديمقراطية: «إنهم يقررون أنه ليس من الإنصاف أن تدان الديمقراطية على عمومها؛ لأن الجمهرة الجامحة من سواد الناس لها عيوبها، وإن الناس ما داموا متناسقين يُخضِعون كل شيء لسلامتهم وحريتهم فلا حكومة أنأى عن خطر الثورة وأمكن استقرارًا من حكومتهم، أي من الحكومة الديمقراطية.»
ويمضي سيبيو قائلًا: «وعلى الجملة لا يَعتبر أنصار الديمقراطية أن الحكومات الأخرى جديرة باسم الحكومة، فما لي مثلًا أطلق اسم المالك الذي هو أليق الأسماء برب الأرباب على مخلوق بشري متلهف على السيادة والاستئثار بالغلبة كأنه في سوقه للرعية يَدفع أمامه قطيعًا من العبيد؟ أليس الأحرى بي أن أطلق عليه اسم الطاغية؟!»
والعجب في هذه الديمقراطية الغالية وهذا القانون الطبيعي أن تتمخض عنهما الدولة الرومانية التي كانت رسالتها في العالم «صناعة» القوانين! … فقد أصاب من قال: إن شيشرون كان رائدًا للثورة الفرنسية والثورة الأمريكية قبل ألف وسبعمائة سنة، وإنه بهذه الأقوال عن القانون الطبيعي وعموم المساواة بين البشر كان زميلًا لجان جاك روسو ظهر في العصر الغابر قبل الأوان.