لآن فقط تذكرت كارمن كل تلك الأحداث التي مرت بها قبل عامين، لم تكن قبل الآن تتذكر شيئا مما حدث. الآن فقط تعرف ما حدث.
قالت لها المرأة المسنة:
– اخلعي ثيابك و ارتدي البلوزة الزرقاء الخفيفة المعلقة أمامك، اخلعي رجاءً كل الثياب دون أن تبقي على شيء، و حرري أيضا شعرك من مقبضه، و الأساور أيضا يجب أن تزيليها إنها ستكون في أمان معي حتى عودتك.
هكذا أنهت المرأة التي تبدو عليها ملامح الخبرة و النضج والثبات، أنهت كلامها وتركتني أتجرد من كل شيء وما استبقيت على شيء، تجردت حتى كدت أتجرد من نفسي، لكني تذكرت شيئا لا أعرفه، صرت الآن عارية بالكامل، لم يتبق سوى أن أتمدد فوق السرير أمامي الذي يشبه سرير “بروست”. فعلت ذلك بدم بارد، تمددت وشعرت ببرودة الغطاء فوق السرير، دخلت امرأة اخرى غير تلك التي استقبلتني، ألقت التحية بأدب مبالغ فيه، و تحركت نحو مقبض السرير من فوق رأسي و صارت تدفعه ببطء وهي مازالت تبعث لي من فوق رأسي ابتسامتها الجميلة التي تشبه ابتسامة الفتيات الأوربيات، دفعت السرير نحو المصعد وهو يحدث صوته بفعل احتكاك قطعة حديد بالأرض. قالت لي:
– نحن نتجه الآن الى غرفة العمليات.
نظرت إليها و صرت أتجول بعيني في سماء المصعد، مرت حياتي أمامي كشريط وثائقي حزين. ترقرقت دمعة فوق خدي الأيسر وتابعت المرأة بردائها الأبيض كالملائكة دفع السرير نحو غرفة العمليات، تساءلت حينها في جوفي لماذا نتصور الملائكة دائما بلونها الأبيض النوراني وملابسها الناصعة البياض؟ هل هي فعلا بيضاء؟ أليس فيها الأبيض والأسود والأحمر والأسمر كالبشر؟ أليس فيها الخير والشرير؟.
في تلك اللحظة فتحت الممرضة التي تشبه الملاك باب الغرفة والتفت نحوي مبتسمة وقالت:
– ها نحن قد وصلنا.
لم أعرف حينها الى أين وصلنا ولكني بادلتها الابتسامة، والخوف من المجهول يعتصرني، هذا المجهول الذي تقودني اليه عبر هذا السرير.
دخلنا الغرفة، كانت شبه مظلمة الا من ضوء خافت قادم من ركن هناك، تقدمت بي وأنزلتني من السرير الى سرير آخر لا يختلف عنه سوى في لون الأغطية، تقدم نحوي رجل ضخم يرتدي بلوزة خضراء و قال لي: اجلسي رجاء وضعي ظهرك في وضع مستقيم سأحقنه الآن ببضع حقن التخذير، فعلت ما أمرني به وأنا صامتة، غرز في ظهري ست حقنات.. نعم ست حقنات كنت أعدّها من عدد مرات غرزها في وسط ظهري، بعدها أمرني بالتمدد فوق السرير، فعلت ذلك بمساعدة الممرضة.
لم اعد أشعر بنصفي الأسفل يتحرك، انه الثقل يجثم على نصفي، أحاول أن أرفع أو أحرك رجلي لكنها ثقيلة جدا.. ثقيلة جدا.
لم اشعر بشيء بعد ذلك، فقط الدخان أمامي يتصاعد و بعض الوجوه المألوفة تحلق فوق رأسي تتبع الدخان، كادت عيناي تخرجان من وجهي لتتبعاها، لكن شيئا ما كان يحبسهما في مكانهما، شيئا ما أكبر مني ومنهما.
دخل طبيب آخر ذو سحنة فرنسية رغم أنه يتكلم العربية، ألقى التحية على الفريق الطبي الذي يحيط بي، تقدم نحوي وألقى التحية فرددتها بابتسامة متعبة، كنت حينها في سحابة بين اليقظة والنوم.
يبدو أنهم بدأوا عملهم الطبي في بطني هذا ما اشعر به من خلال الجسد الذي يتحرك و يهتز أمامي، انتبهت بعد لحظة اني أطفو فوق هذا الجسد، فأرى الأطباء يتعاونون عليه يقومون بتشريح جزء منه، نظرت اليهم طويلا لكني لم أفهم شيئا من عملهم، رحت أتجول بنظري في غرفة العمليات، لكني سرعان ما عدت أتأمل في هذا الجسد الراقد أمام هؤلاء الأطباء الذين يتحدثون بهمس اعتقادا منهم أني لا أسمعهم.
لكنهم لم ينتبهوا أني تحررت من جسدي وصرت أحلّق فوق رؤوسهم.
وأني أتصاعد مع الدخان مع تلك الوجوه المألوفة لدي. صرت واحدة منها…
نظرت اليهم وهم غارقون في تشريح بطني، تركتهم وخرجت متجهة نحو المقبرة القريبة من هناك. جلست فوق سورها
حينها رأيت…
رأيت فيما يرى من في مثل موقعي، رأيت الاجساد تخرج من القبور و تتنزل الارواح لتحل بها وهي فرحة بعودتها لأمكنتها،رأيتها تلبس أجسادها كقميص، رأيت أشخاصا كثيرين، منهم من لا أعرف، ومنهم من ألفته عيني، رأيت شخصا كأني أعرفه، لكنه اتضح فيما ما بعد أني التقيت به في حديقة عامة، كانت هناك طفلة صغيرة تنظر إلي و أنا فوق السور، كانت عيناها تتكلم، فالاموات لا يتكلمون من أفواههم، إنهم يظلون صامتين و لكن عيونهم تقول كل شيء، ولاني صرت في عالمهم الان فقد صرت افهم أكثر كلامهم، قبلا كانت جدتي الميتة تزورني في أحلامي و تظل واقفة عندها ولا تحدثني، لكنها تريد ان تقول شيئا، في النهاية تمضي عائدة دون ان تنبس بكلمة.
تقدمت الطفلة نحوي و أشارت لي بيدها، بادلتها السلام و قفزت من على السور نحوها، نظرت الي و قالت لي الكثير عن طفولتها التي قضتها في المقبرة، قالت الطفلة أنها تبلغ من السن الان بحسب التقدير الدنيوي تسعين عاما، بدت علي الدهشة مما سمعته،
أأنت عجوز الان بجسد طفلة
قالت: ان الميتون هكذا، لا يزداد عمرهم في قبورهم، و ابتسمت و مضت متجازة جسدي الذي يرتفع قليلا عن الارض، ودعتني و قالت: سأذهب الان لزيارة امي فهي تنتظرني كل مساء عند البحيرة.
غادر الباب الامامي للمقبرة، و انتبهت أنا الى الضجيج الذي يملأ المكان، كان الميتون يحتفلون بعرس أحدهم، كان عجوزا يجلس هناك فوق شاهدة قبرهن كان بجنبه فتاة في مقتبل العمر ترتدي ثوبا ابيضا، كانوا يصفقون فقط، لا أنخاب يتبادلونها، ولا حفل شواء بالمناسبةن فالاموات لا ياكلون ولا يشربون، لكنهم يتزوجون، ترى هل ينكحون ايضا، هل سترافق العروس عريسها الى قبره، ام سيسافران في شهر عسل، ترى إلى اين؟
قيل لي ذات مرة في صغري إن الاموات لا يخرجون من مقابرهم إلا مرة، وهذه المرة لم تحن بعد
لكنهم الان يملؤون المكان، و يحتفلون ايضا.
قاطع رجل حبل أسئلتي، و سالني عن قبرين ارتبكت حينها لاني لا اعرف اين هو، ولاني جئت من مكان آخر، ولا اعرف ان كان سيصدقني ان اخبرته. لم ينتظر جوابي ولكنه طلب ان يراقصني رقصة الاحياء، قبلت طلبه ومد يديه وعانقني من خصري، فتقدمنا بعض الخطوان فصرنا في وسط الحفل و بالقرب من شاهدة العروسين، حياهما الرجل باشارة من يده، و انطلق بي في الساحة يراقصني على نغمات تصفيق الموتى، هي رقصة تشبه مسرحية موحشة، لكنها رقصة صاقة.
-هل يكذب الاموات؟
– لا، لا يكذبون، ولما يكذبون وهم في دار الحق كما يقول الاحياء، الكذب في دار الباطل.
راح يدور بي دورات حول جسدينا، وكدت يغمى علي من فرط الدوران، في نهاية الرقصة رمى بي في حفرة، و تفاجات بعدها أنها قبره، صفق له الجميع، و صرت أنظر في ذهول الى ما يحدث حولي، توجهوا نحوي يباركون و يبتسمون، و يصفقون، فدنت مني أمراة تشبه كثيرا أمي، لا تخجلي و لا ترتابي، فهو ميت له سمعة حسنة في مجتمع الاموات، لم أفهم ما قالته، لكني أمسكت بطرف من ثوبها، و سالتها:
– ماذا تقصدين؟
– ردت: يبدوا انك جديدة في مقبرتنا، لكن لا تخافي، ساشرح لك: في كل مساء يتم الاحتفال بعروسين، و في غمرة الاحتفال يختار ميت عروسه من الحاضرين، فيراقصها وفق طقوسنا كما رايت الان، وحين انتهاء الرقصة تتوجه العروس الى قبر عريسها كما حدث لك تماما.
انتهى كلام المراة التي تشبه أمي، و أنا جامدة في مكاني أتخيل مصيري في هذه المقبرة مع الميتين و أنا التي مازلت أنعم بنعمة الحياة، ولا أحد سيفهم ذلك الان هنا، ربما انتهيت.
صرت اتجول بعيني بين الحضور وهم غارقون في التصفيق و الاحتفال بعريسهم الذي يجتهد في اظهار عضلاته الفحلة، و التباهي بزوجتها التي كساها الشحوب.
تساءلت: هل هذا ما سيؤول اليه مصير اللعين؟ كيف كنت في مصحة اخلع علي ملابسي استعدادا لولادة قيصرية، و صرت هنا بين الاموات؟
حملتني قدماي خارج الجموع، و التفت نحوهم فإذا بهم ينتشرون بين القبور و يدخلونها ، كل يعرف قبره من الشاهدة المكتوب عليه اسمه و تاريخ ولادته و تاريخ وفاته، توقفت اشاهد المنظر المهيب، و المخيف، وإذا بالفتاة الصغيرة تدخل من الباب الخلفي للمقبرة و تبتسم لي بعينيها، و صارت تنزل في قبرها الصغير و قد لوحت لي بيدها.
خرجت من المقبرة متجهة الى مكان ما، نظرت أمامي فواجهتني المساحات الشاسعة من الحقول التي تتناثر فيها بعض شجيرات السدرة هنا وهناك، انتابني خوف شديد، اعتصر أعضائي فصرت اشعر برغبة في التبولن تنحيت قليلا عن سور المقبرة و جلست القرفصاء اقضي حاجتي، تراءت لي اشعة الشمس قادمة من هناك، فسرحت في جسمي نسمة الصباح، و بدات اشعر بقليل من الارتياح، لكن الخوف مازال يحفر أعماقي كحفار القبور.
– أين انا؟
– لا اعرف
– علي العودة الى منزلي، لكن كيف؟ لا أعرف؟
فجاة تذكرت اني كنت حاملا لطفلة في احشائي، تحسست بطني لكنه كان خاويا من كل شيء، شعرت باحساس الامومة البدائي، و ملأتني رغبة في احتضاني طفلتي، سقطت دمعة من عيني، و النزوع الى البقاء الذي يجعل الانسان يقاوم للحفاظ على الحياة دفعني للجري في اتجاه شورق الشمس، ركضت فقط، ركضت بكل ما في قدماي من قوة، كنت اركض، أركض، اركض….
فجأة سقطت في حفرة لا غور لها، هذا آخر ما تذكرته، كانت حفرة عميقة جدا…
فتحت عيني فوجدت طفلتي فوق صدري تنادي: ماما، ماما استيقظي.
سالتهم: كم لبثت؟
- تبادلوا النظرات و ابتسموا، و بدأوا يهنئونني بعودتي من موت محقق..
سالتهم: كم بقيت؟
لم يجبني أحد، في ليلتي تلك، كانت طفلة المقبرة تجيب بعينيها.
قالت لها المرأة المسنة:
– اخلعي ثيابك و ارتدي البلوزة الزرقاء الخفيفة المعلقة أمامك، اخلعي رجاءً كل الثياب دون أن تبقي على شيء، و حرري أيضا شعرك من مقبضه، و الأساور أيضا يجب أن تزيليها إنها ستكون في أمان معي حتى عودتك.
هكذا أنهت المرأة التي تبدو عليها ملامح الخبرة و النضج والثبات، أنهت كلامها وتركتني أتجرد من كل شيء وما استبقيت على شيء، تجردت حتى كدت أتجرد من نفسي، لكني تذكرت شيئا لا أعرفه، صرت الآن عارية بالكامل، لم يتبق سوى أن أتمدد فوق السرير أمامي الذي يشبه سرير “بروست”. فعلت ذلك بدم بارد، تمددت وشعرت ببرودة الغطاء فوق السرير، دخلت امرأة اخرى غير تلك التي استقبلتني، ألقت التحية بأدب مبالغ فيه، و تحركت نحو مقبض السرير من فوق رأسي و صارت تدفعه ببطء وهي مازالت تبعث لي من فوق رأسي ابتسامتها الجميلة التي تشبه ابتسامة الفتيات الأوربيات، دفعت السرير نحو المصعد وهو يحدث صوته بفعل احتكاك قطعة حديد بالأرض. قالت لي:
– نحن نتجه الآن الى غرفة العمليات.
نظرت إليها و صرت أتجول بعيني في سماء المصعد، مرت حياتي أمامي كشريط وثائقي حزين. ترقرقت دمعة فوق خدي الأيسر وتابعت المرأة بردائها الأبيض كالملائكة دفع السرير نحو غرفة العمليات، تساءلت حينها في جوفي لماذا نتصور الملائكة دائما بلونها الأبيض النوراني وملابسها الناصعة البياض؟ هل هي فعلا بيضاء؟ أليس فيها الأبيض والأسود والأحمر والأسمر كالبشر؟ أليس فيها الخير والشرير؟.
في تلك اللحظة فتحت الممرضة التي تشبه الملاك باب الغرفة والتفت نحوي مبتسمة وقالت:
– ها نحن قد وصلنا.
لم أعرف حينها الى أين وصلنا ولكني بادلتها الابتسامة، والخوف من المجهول يعتصرني، هذا المجهول الذي تقودني اليه عبر هذا السرير.
دخلنا الغرفة، كانت شبه مظلمة الا من ضوء خافت قادم من ركن هناك، تقدمت بي وأنزلتني من السرير الى سرير آخر لا يختلف عنه سوى في لون الأغطية، تقدم نحوي رجل ضخم يرتدي بلوزة خضراء و قال لي: اجلسي رجاء وضعي ظهرك في وضع مستقيم سأحقنه الآن ببضع حقن التخذير، فعلت ما أمرني به وأنا صامتة، غرز في ظهري ست حقنات.. نعم ست حقنات كنت أعدّها من عدد مرات غرزها في وسط ظهري، بعدها أمرني بالتمدد فوق السرير، فعلت ذلك بمساعدة الممرضة.
لم اعد أشعر بنصفي الأسفل يتحرك، انه الثقل يجثم على نصفي، أحاول أن أرفع أو أحرك رجلي لكنها ثقيلة جدا.. ثقيلة جدا.
لم اشعر بشيء بعد ذلك، فقط الدخان أمامي يتصاعد و بعض الوجوه المألوفة تحلق فوق رأسي تتبع الدخان، كادت عيناي تخرجان من وجهي لتتبعاها، لكن شيئا ما كان يحبسهما في مكانهما، شيئا ما أكبر مني ومنهما.
دخل طبيب آخر ذو سحنة فرنسية رغم أنه يتكلم العربية، ألقى التحية على الفريق الطبي الذي يحيط بي، تقدم نحوي وألقى التحية فرددتها بابتسامة متعبة، كنت حينها في سحابة بين اليقظة والنوم.
يبدو أنهم بدأوا عملهم الطبي في بطني هذا ما اشعر به من خلال الجسد الذي يتحرك و يهتز أمامي، انتبهت بعد لحظة اني أطفو فوق هذا الجسد، فأرى الأطباء يتعاونون عليه يقومون بتشريح جزء منه، نظرت اليهم طويلا لكني لم أفهم شيئا من عملهم، رحت أتجول بنظري في غرفة العمليات، لكني سرعان ما عدت أتأمل في هذا الجسد الراقد أمام هؤلاء الأطباء الذين يتحدثون بهمس اعتقادا منهم أني لا أسمعهم.
لكنهم لم ينتبهوا أني تحررت من جسدي وصرت أحلّق فوق رؤوسهم.
وأني أتصاعد مع الدخان مع تلك الوجوه المألوفة لدي. صرت واحدة منها…
نظرت اليهم وهم غارقون في تشريح بطني، تركتهم وخرجت متجهة نحو المقبرة القريبة من هناك. جلست فوق سورها
حينها رأيت…
رأيت فيما يرى من في مثل موقعي، رأيت الاجساد تخرج من القبور و تتنزل الارواح لتحل بها وهي فرحة بعودتها لأمكنتها،رأيتها تلبس أجسادها كقميص، رأيت أشخاصا كثيرين، منهم من لا أعرف، ومنهم من ألفته عيني، رأيت شخصا كأني أعرفه، لكنه اتضح فيما ما بعد أني التقيت به في حديقة عامة، كانت هناك طفلة صغيرة تنظر إلي و أنا فوق السور، كانت عيناها تتكلم، فالاموات لا يتكلمون من أفواههم، إنهم يظلون صامتين و لكن عيونهم تقول كل شيء، ولاني صرت في عالمهم الان فقد صرت افهم أكثر كلامهم، قبلا كانت جدتي الميتة تزورني في أحلامي و تظل واقفة عندها ولا تحدثني، لكنها تريد ان تقول شيئا، في النهاية تمضي عائدة دون ان تنبس بكلمة.
تقدمت الطفلة نحوي و أشارت لي بيدها، بادلتها السلام و قفزت من على السور نحوها، نظرت الي و قالت لي الكثير عن طفولتها التي قضتها في المقبرة، قالت الطفلة أنها تبلغ من السن الان بحسب التقدير الدنيوي تسعين عاما، بدت علي الدهشة مما سمعته،
أأنت عجوز الان بجسد طفلة
قالت: ان الميتون هكذا، لا يزداد عمرهم في قبورهم، و ابتسمت و مضت متجازة جسدي الذي يرتفع قليلا عن الارض، ودعتني و قالت: سأذهب الان لزيارة امي فهي تنتظرني كل مساء عند البحيرة.
غادر الباب الامامي للمقبرة، و انتبهت أنا الى الضجيج الذي يملأ المكان، كان الميتون يحتفلون بعرس أحدهم، كان عجوزا يجلس هناك فوق شاهدة قبرهن كان بجنبه فتاة في مقتبل العمر ترتدي ثوبا ابيضا، كانوا يصفقون فقط، لا أنخاب يتبادلونها، ولا حفل شواء بالمناسبةن فالاموات لا ياكلون ولا يشربون، لكنهم يتزوجون، ترى هل ينكحون ايضا، هل سترافق العروس عريسها الى قبره، ام سيسافران في شهر عسل، ترى إلى اين؟
قيل لي ذات مرة في صغري إن الاموات لا يخرجون من مقابرهم إلا مرة، وهذه المرة لم تحن بعد
لكنهم الان يملؤون المكان، و يحتفلون ايضا.
قاطع رجل حبل أسئلتي، و سالني عن قبرين ارتبكت حينها لاني لا اعرف اين هو، ولاني جئت من مكان آخر، ولا اعرف ان كان سيصدقني ان اخبرته. لم ينتظر جوابي ولكنه طلب ان يراقصني رقصة الاحياء، قبلت طلبه ومد يديه وعانقني من خصري، فتقدمنا بعض الخطوان فصرنا في وسط الحفل و بالقرب من شاهدة العروسين، حياهما الرجل باشارة من يده، و انطلق بي في الساحة يراقصني على نغمات تصفيق الموتى، هي رقصة تشبه مسرحية موحشة، لكنها رقصة صاقة.
-هل يكذب الاموات؟
– لا، لا يكذبون، ولما يكذبون وهم في دار الحق كما يقول الاحياء، الكذب في دار الباطل.
راح يدور بي دورات حول جسدينا، وكدت يغمى علي من فرط الدوران، في نهاية الرقصة رمى بي في حفرة، و تفاجات بعدها أنها قبره، صفق له الجميع، و صرت أنظر في ذهول الى ما يحدث حولي، توجهوا نحوي يباركون و يبتسمون، و يصفقون، فدنت مني أمراة تشبه كثيرا أمي، لا تخجلي و لا ترتابي، فهو ميت له سمعة حسنة في مجتمع الاموات، لم أفهم ما قالته، لكني أمسكت بطرف من ثوبها، و سالتها:
– ماذا تقصدين؟
– ردت: يبدوا انك جديدة في مقبرتنا، لكن لا تخافي، ساشرح لك: في كل مساء يتم الاحتفال بعروسين، و في غمرة الاحتفال يختار ميت عروسه من الحاضرين، فيراقصها وفق طقوسنا كما رايت الان، وحين انتهاء الرقصة تتوجه العروس الى قبر عريسها كما حدث لك تماما.
انتهى كلام المراة التي تشبه أمي، و أنا جامدة في مكاني أتخيل مصيري في هذه المقبرة مع الميتين و أنا التي مازلت أنعم بنعمة الحياة، ولا أحد سيفهم ذلك الان هنا، ربما انتهيت.
صرت اتجول بعيني بين الحضور وهم غارقون في التصفيق و الاحتفال بعريسهم الذي يجتهد في اظهار عضلاته الفحلة، و التباهي بزوجتها التي كساها الشحوب.
تساءلت: هل هذا ما سيؤول اليه مصير اللعين؟ كيف كنت في مصحة اخلع علي ملابسي استعدادا لولادة قيصرية، و صرت هنا بين الاموات؟
حملتني قدماي خارج الجموع، و التفت نحوهم فإذا بهم ينتشرون بين القبور و يدخلونها ، كل يعرف قبره من الشاهدة المكتوب عليه اسمه و تاريخ ولادته و تاريخ وفاته، توقفت اشاهد المنظر المهيب، و المخيف، وإذا بالفتاة الصغيرة تدخل من الباب الخلفي للمقبرة و تبتسم لي بعينيها، و صارت تنزل في قبرها الصغير و قد لوحت لي بيدها.
خرجت من المقبرة متجهة الى مكان ما، نظرت أمامي فواجهتني المساحات الشاسعة من الحقول التي تتناثر فيها بعض شجيرات السدرة هنا وهناك، انتابني خوف شديد، اعتصر أعضائي فصرت اشعر برغبة في التبولن تنحيت قليلا عن سور المقبرة و جلست القرفصاء اقضي حاجتي، تراءت لي اشعة الشمس قادمة من هناك، فسرحت في جسمي نسمة الصباح، و بدات اشعر بقليل من الارتياح، لكن الخوف مازال يحفر أعماقي كحفار القبور.
– أين انا؟
– لا اعرف
– علي العودة الى منزلي، لكن كيف؟ لا أعرف؟
فجاة تذكرت اني كنت حاملا لطفلة في احشائي، تحسست بطني لكنه كان خاويا من كل شيء، شعرت باحساس الامومة البدائي، و ملأتني رغبة في احتضاني طفلتي، سقطت دمعة من عيني، و النزوع الى البقاء الذي يجعل الانسان يقاوم للحفاظ على الحياة دفعني للجري في اتجاه شورق الشمس، ركضت فقط، ركضت بكل ما في قدماي من قوة، كنت اركض، أركض، اركض….
فجأة سقطت في حفرة لا غور لها، هذا آخر ما تذكرته، كانت حفرة عميقة جدا…
فتحت عيني فوجدت طفلتي فوق صدري تنادي: ماما، ماما استيقظي.
سالتهم: كم لبثت؟
- تبادلوا النظرات و ابتسموا، و بدأوا يهنئونني بعودتي من موت محقق..
سالتهم: كم بقيت؟
لم يجبني أحد، في ليلتي تلك، كانت طفلة المقبرة تجيب بعينيها.