حسن الرموتي - قصة خلق موكادور ما لم يذكره صاحب بدائع الزهور في وقائع الدهور.

لم يكن العالم موجودا حينها، كان ما يشبه السديم، أو بين النور والظلام، وفي غير نظام. وكان على الرب أن يخلق شيئا أول الأمر، شيئا يؤنسه، يؤنس وحدته وسط هذا العالم اللامتناهي، أو وسط هذا الفراغ، استوى على العرش وخلق بمشيئته موكادور، موكادور لم يشيدها السلطان محمد بن عبد الله، المؤرخون يكذبون، وأساتذة التاريخ يعيشون من الكذب.. موكادور خلقها الله يوم الجمعة قبيل الغروب، وجعل الأيام سبعة… ثم جعل لها بحرا وأشجارا وفصلا واحدا وطيورا من جنس واحد، أسماها النورس الفضي. وراح يتأمل صنيعه..وقبل أن يخلق موكادور خلق القلم، فانشق القلم وانساب منه حبر كثير حتى فاض الكون، وترك للقادمين أن يكتبوا تاريخا، لكن من جاء كتب تاريخا محرفا، تاريخ الملوك والسلاطين ولم يكتبوا تاريخ المدينة و تاريخ البسطاء، فقد نسيها الجميع..أحست المدينة يوما بالضجر والملل، وبكت كثيرا، حتى سال الدمع أنهارا، واختلطت ملوحة الدمع بملوحة البحر، فبكى البحر، واحمر لونه. فتوسلت المدينة للرب أن يخلق لها من يؤنسها بدورها كما أنس هو بها.. من ضلعها خلق لها مدنا كثيرة، وبث فيها حيوانات وأشجارا وأصنافا من الطيور الأخرى وجعل لها فصولا أربعة، تتعاقب في نظام بديع، لكنه نسي موكادور بأن خلق لها فصلا واحدا وطقسا واحدا لا يتغير إلا إذا غضب البحر وغضبت النوارس وهي تصدر زعيقا لا يتوقف، لأنها تحس أن شيئا تغير.. فكان صيفها مثل شتائها، وكان ربيعها شبيه بخريفها… عاد وخلق لها رياحا أربعة وأمرها أن تهب من كل الجهات، مار البحر وهاج، وارتفع الموج واضطرب، فظهرت صخرة كبيرة يحملها حوت ضخم، تبدو الصخرة وسط البحر مثل التل العظيم، وأوكل إليها حراسة المدينة في غيابه من مخلوقات أخرى كان قد خلقها، أسمى هذه الصخرة جزيرة موكادور.. ثم فاض وزبد البحر بدوره وطلا المدينة بالبياض… وحتى يسعدها الله أكثر خلق لها اللون الأزرق، ليناسب بياضها، كما اقتطع لها من السديم قطعة ومن السحاب قطعة ومزجهما لينشئ توأما لها وجعله بعيدا عنها بعشرين يوما مشيا على الأقدام، أطلق على هذا التوأم اسم مازاغان، وعلم هذه الأسماء لمن جاء بعد ذلك. ظلت موكادور غارقة في أحلامها تتوق لزيارة شقيقاتها، لكنها لم تستطع، فقد أحيطت بالأسوار وجعل عليها حراسا شدادا..حتى جاءها النبأ العظيم، أنه سيبث فيها رجالا ونساء وأطفالا…حزنت المدينة وترجت ألا يسكنها من يفسد فيها..لكن الحبر كان قد فاض وكتب أسماء من سيسكنها… فظهرت شجرة لم يكن الله قد خلقها، شجرة ذات أشواك، زيتها زينة وجمال، سماها شجرة أركان العظيمة…منها تفرعت باقي سلالة موكادور من الأشجار وحتى من الأنساب فقد خرج منها خلق كثير… آخر الأنساب الشعراء الصعاليك، بعدها انقطع النسب وسادت الفوضى..فقد خرج هؤلاء من المدينة يوما، عندما عادوا كانت الأبواب مقفلة.. انتظروا شهورا، لم تفتح الأبواب فتاهوا شرقا في الأرض يبحثون عن جنة أخرى، فلم يجدوا غير الصحراء.. أما موكادور ظلت مقفلة تعصف فيها الريح من الجهات الأربعة حتى سقط المطر، وفاضت الوادي القريب منها حتى وصل المدينة، فتحت الأبواب من جديد، وغسل المطر وجه المدينة وأشجارها..ثم تحركت الأرض..قال قائل منهم: إن الحوت يتحرك، الحوت الذي يحمل الصخرة..قال آخر: إن الثور الذي خلقه الله ويحمل المدينة على قرن قد أصابه العياء، ويستبدلها للقرن الآخر..وقال ثالث، إنه غضب من الله لأن المدينة أغلقت أبوابها، وجعلت شعراءها الصعاليك يتيهون في الصحراء… توالت التعاليق فبدأ الاختلاف والصراع..كان ذلك بداية العنف وسقوط أول قطرة دم على الأرض..الأرض لم ترتشف البقعة، وظلت إلى اليوم ماثلة، يسمونها الأرض الحمراء.. لكن الناس لا يعرفون أصلها. تقول الروايات إنهم بدلوا جهودا كبيرة لمسحها، لكنهم فشلوا، فتركوا الأمر للزمن، لكن البقعة امتدت شيئا فشيئا.. فغدت من بعيد مثل بحيرة حمراء وسط سهل أخضر..تكسوها شقائق النعمان.. وحين يسقط المطر يصعد منها دخان يسير جهة الشرق حتى ولو هبت الريح من الغرب أو الجنوب، لا أحد قدم جوابا شافيا مانعا، واعتبروا الأمر سرا من أسرار الغيب..فكثرت التأويلات، من هنا بدأ الاختلاف. ظلت موكادور مفتوحة أبوابها، مفتوحة على التيه والغرباء، غزتها حيوانات كثيرة ثم تكن من قبل، قادمة من المدن الأخرى، وغزاها الجراد ذات يوم، كان يوم الجمعة، هو اليوم الذي خلقت فيه، أتى الجراد على كل شيء، لم يستثني الأرض الحمراء، فتوقفت الحياة في المدينة، فبقيت خالية على عروشها..حتى جاء الطوفان العظيم، وحمل معه ما حمل من الموج والظلام..حين استقر البحر وغيض الماء. ظهرت المدينة من جديد، كل شيء أخضر، الأرض الحمراء لم يعد لها وجود، فقد تحولت إلى بحيرة زرقاء…وظهرت طيور أخرى غير النورس الفضي..فتحت الأبواب من جديد..ذات عصر، والحياة تسير بشكلها العادي، ظهر الشعراء الصعاليك من جديد، عادوا بعد قرون فوق جيادهم يحملون السيوف ومعهم وثائق ورسوم وخلفهم جيش عرمرم.. يقولون إنهم أصحاب الأرض… مات خلق كثير… بعد حرب ضروس… فكان ذلك أصل الحرب … حين استقر بهم المقال وطال، اتخذوا لهم عبيدا يخدمونهم، وجعلوا الناس في المدينة طبقات، نفوا المرضى والمعتوهين وذوي العاهات إلى الصخرة دون طعام أو ماء، فأكل بعضهم البعض حتى زالوا جميعا.. فكان ذلك بداية حرب جديدة، سميت حرب المنفى…فانطلق القهر والاستبداد في المدينة.. بكت المدينة كثيرا، لم يكن ثمة مجيب… كان الله قد أنهى خلقه، وتركهم يختصمون إلى حين.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...