بضعة أعوام مضت؛ تجر في أعقابها أحلامي؛ أمنياتي ومفردات شكلتها حياتي التي كانت تنعم يوما بالسلام.
بضع سنوات أبت ذاكرتي أن تحصيها، لأنني لم اكترث بها يوما؛ ولم تعرني هي أيضا أيما اهتمام، رغم أنها شهدت جنوني وسر دفنته بين طيات لساني خشية أن تكتشفه الجدران.
مرّ وقت طويل وأنا أكبّل بالصمت لساني، لكنني سأشرع اليوم أبواب ذاكرتي، فليس هنالك ما أخشاه، لأني لا أنوي ترك دليل يدينني، كل ما في الأمر أني سئمت صمتي والخوف وأريد أن أّبث لهذه الأوراق الصّماء بعض أحزاني.
وسوف أمزّق أوراقي والكلمات؛ وسأمحو الذكريات فور انتهائي؛ وأرجو ألا أضطر أيضا لقطع لساني، فالموت مايزال يلوّح مرحّبا وفي أكثر من اتجاه.
ها أنذا أفتح الأبواب والنوافذ لأطلق سراح زمن عابث؛ غيّر المسارات؛ أطفأ نور السماوات؛ وهبنا الموت بسخاء وزرع الحزن في كل بيت وشارع.
أكاد أشم رائحة البارود، غبار المعارك، آه إنها الحرب، أجل هي الحرب، أسمع صيحات الجنود، أزيز الطائرات، دوي المدافع وصوت الآمر يعنفني:
ـــ هيا لا تكن جبانا، اذهب واتني بتلك الرأس، إنه الرفيق خالد.
“نعم هو الرفيق خالد صار محض رأس تتدحرج”
كحلم جميل مضت تلك الأيام المعجونة بعنفوان صباي، بغداد تشخص أمامي بصخبها وجنونها، بشوارعها المزدانة بالفرح، بشواطئها المكتظة وأشجارها السامقة المعطّرة بمياه دجلة الخالد.
كنت مطمئنا، أغزل أحلامي بألوان قوس قزح، اكتشف غريزتي البكر باشتياق جامح، أجوب الشّوارع بحثا عن ملذّات قد لا تتناسب مع حداثة سني، أغازل فتاة هنا، أتعقب أخرى هناك، أشتهي نساءً، أعرّي أجسادا رخامية لا يمكنني الاقتراب منها إلا في حلم، تبهرني القطرات اللّزجة فأزداد شبقا، أتوق لزرع لحمي في جسد امرأة، أية امرأة.
هكذا ظللت أشعل رغباتي ثم أطفؤها في الأحلام ليس إلا، حتى صحوت على كابوس متواتر مفزع؛ بدّد كل شيْ وقادني إلى منعطف آخر لم يكن في الحسبان.
ذهبت بمفردي، ترافقني دعوات أمي وأوراق حملتها بيد مرتعشة قاصدا دائرة التجنيد.
لم أكن يومها قد شفيت من مراهقتي بعد، تلك المراهقة التي تسبّبت في رسوبي لأعوام متتالية؛ فصار لزاما عليّ الالتحاق بخدمة العلم في وقت لم يكن مثاليا بالنسبة لي ولا لمن هم سواي.
كنت كالذي فطم توا من ثدي الحياة، تسبق دموعي خطواتي وأنا ألهث راجلا صوب معسكر التّدريب.
أتوغل في الطريق غير المعبد، أعب الهواء الملوّث بالتراب لأستنشق رائحة الحرّية قبل الولوج إلى عالم يجهلني كما أجهله.
بدت الأسوار أكثر شموخا وصار حجمي أقل ضآلة إزاءها، فلم يتبق سوى بضعة أقدام لأصل إلى الباب المنغلق على عوالمه السرّية.
قال أبي وهو يسحبني من ذراعي الذي تشبّث بعباءة أمي:
ــ كفّ عن النّواح كما الحريم، وحدها الجنديّة هي التي ستصنع منك رجلا كما صنعت معظم الرجال.
صنعت الجندية مني رجلا بالفعل؟ أم أنها قضت على الطفل والرجل اللذان في داخلي يسكنان!
هناك.. أقف برأس حليق أذعن للأوامر، أتلقّى الدروس الأولى في النظام والانضباط والسّلوك العسكري.
لم ترهقني الأوامر الصّارمة بقدر ما أرهقتني النظرات والعبارات الساخرة التي صدرت من بعض الجنود الذين يتمتّعون بقامات فارعة وبأجساد تفوح منها رائحة الرجولة، بينما أعاني من ضآلة جسدي ودقة ملامحي التي أعطت للبعض انطباعا ليس بصحيح.
استنفدت جميع أساليبي في ردع أولئك المتطاولين الذين استمرؤوا إهانتي ولم يكفّوا عن رجمي بالكلمات اللاذعة دون حياء، مما أثار حفيظة بعض الغيارى فتصدوا لهم ثم اتخذوني صديقا، أما أنا فسعيت لتعميق تلك الصداقة وأضفيت عليها طابع الحميمية، لكن القدر لم يمهلنا طويلا لأنه كان يقف لنا بالمرصاد.
خلف الأسلاك الشائكة وبعيدا عن العالم الرحب الغارق في المتع والملذات عرفت
أن للحياة وجوها أخرى، وإن للوجوه حياة أخرى غير التي نعرفها مهما حاولنا الاقتراب، لأنها لا تكشف عن حقيقة ذلك الوجه إلا لمن ترغب أن تمنحه ذلك الشرف الرفيع.
دعاني الضّابط إلى مكتبه سرا، لم يكن ضابطا، بل كان يحمل رتبة عقيد، توجّست، فهو متغطرس، صعب المراس، لا تقوى على النّظر في عينيه المتوهجتين، ولا يمكنك في أي حال من الأحوال أن تلمحه في حالة ارتياح ، فهو متجهم دوما، ثائرا بسبب أو دونما سبب.
استقبلني بحفاوة، داعب رأسي الأمل، فربما يتكرّم ويمنحني أجازة، اشتقت كثيرا لحضن أمي، لكن أيّة أجازة هذه ولم يمض على وجودي هنا إلا بضعة أسابيع، طوّحت بالأمل بعيدا، فأعاده إليّ ثانية، إذ راح يداعبني كما يداعب طفله المدلّل الجميل، توسّمت به خيرا، لكنّه قتل الأمل هذه المرّة، واغتال براءة أعوامي الثمانية عشرة في آن.
دنا منّي كوغد، يفضح رغبته شهيقه الدّاعر، أمرني بخلع ملابسي، فانتفضت، انتفخت عروقي، كدت أضربه لكنّي جبنت.
ما الذي دعاه للتفكير بي على هذا النحو؟ هل فعلوها الأوغاد، أم أنه ظن بي الظنون كما ظنوا من قبل؟ اللعنة على ملامحي التي أسقطتني في هذا المستنقع العفن اللعين.
اقترب الوغد مرة أخرى؛ ألصق جسده الهرم بجسدي، نفرت فاغتاظ، لكنه ابتلع غضبه، ثم راح يتوسّل ويتسوّل عطفي ومرضاتي، كاد يبكي من شدّة الرغبة والهياج، أحكم قبضته على جسدي النحيل، تضرعت، أجهشت بالبكاء، لكن، هل يعتق الذئب الجائع فريسته؟!
دائما كانت هنالك مفاجآت، فبعد مرور ثلاثة أشهر من التدريب المضنى الذي لم يؤهلني رغم صعوبته لقتل جرذ اشتعلت الحرب، وفي غضون أيام قلائل وجدتني ورفاقي نحمل أمتعتنا خلف ظهورنا، نقطع المسافات، نطوي الصحارى الشاسعة لنقف بعد رحلة شاقة طويلة وسط الحمم في ساحات أعدت للموت، أعدت للفناء.
في السّواتر الخلفيّة، ثمة قلوب تذرف الدمع على شبابها الذي يقف على شفير الموت، وفي ساحات الوغى، الموت لا يبكي ضحاياه.
أحمل سلاحي بيد شلّها الخوف، أنضم إلى الرفاق، تخذلني شجاعتي، لكن لا مناص من الانخراط بالكتيبة التي راحت تتوغل في ساحة القتال المزروعة بالجثث. الأرض ترتج بمئات القذائف، الطائرات تقذف حممها بلا هوادة، الحديد يتناثر، ينصهر، فكيف هو حال الرجال المنسوجة أجسادهم من لحم ودم؟!
أبلى الجميع بلاءاً حسنا ولم يضنّوا على الوطن بدمائهم، كانوا صناديدا بالفعل، أما أنا فلا أتذكر شيئا على الإطلاق، يبدو أن ذاكرتي قد تعطلت حينها لأنها لم تسجل لقطة واحدة من شدّة الرعب.
لا أعرف كيف نجوت، رغم أني لا أجيد القتال وأجهل تماما فن الكر والفر الذي تقتضيه المعارك.
لم أكن على علم بأن مواليد أخي الذي سرّح من الجيش منذ سنوات قد استدعيت لخدمة الاحتياط، إلا حين لمحته في أحد المواقع، حاولت الوصول إليه لكن القصف حال دون ذلك.
قضيت ليلتي مسهّد، أصغي إلى نشيج قلبي الذي أيقظ فيه أخي شوقا وحنينا أفلتا زمام صمودي.
الحرب تزداد ضراوة، يبدو أن كلا الطرفين يرغب في إحراز نصر يتباهى به أمام العالم على حساب ضحاياه، فيزداد عنادا ووحشيّة يوما بعد يوم.
سقط معظم الرفاق متدثرين بأمنيات لم يكتب لها النّجاة، وسقطت أيضا، حملوني على نقالة الجرحى إلى الصفوف الخلفية لتلقي العلاج.
لم تكن إصابتي خطيرة فلقد أخطأني الموت هذه المرّة، لكنّه على موعد معي في جولة أخرى لا محال.
لم تكن الصفوف الخلفيّة أقل ذعرا من ساحات القتال، فأنين الجرحى لا ينقطع، ومأساة الذين فقدوا أطرافهم فصاروا أنصاف أجساد، والذين لم يحتملوا فظاعة الحرب فغادرتهم عقولهم، وأولئك الذين شوّهت النيران ملامحهم، وحالات أخرى تشعرني الآن بالغثيان، كل ذلك جعلني أتصدّى للموت وأتشبّث بالحياة.
مرا صار طعم أيامنا، الحرب تعزف مارشا جنائزيّا يبعث الأسى في أرواح الأحياء والأموات على حد سواء، وليس من أمل في النجاة من آتون حرب لم يتمكن مشعلوها من إخمادها فأكلت على موائد أجسادنا وشربت بينما نتضور اشتياقا للسلام.
في زمن استثنائي أضاف إلى عمري عمرا آخر لم أعشه، وحكمة جعلتني أضع منطقا خاصا يتنافى مع منطق الحرب ومجريات الأحداث.
فالتضحية بالنفس من أجل قضية ما يفرضها الإيمان المطلق بتلك القضية، وأنا لست مجبرا على الإيمان بقضايا يفجرها الآخرون، ثم يفرضون علينا التضحية من أجلها، كما أنّي مازلت أحمل في مؤخرتي وشما يجلب العار لرجولتي التي اغتصبت بالأمس؛ واليوم يريدونني رجلا ليزجوا بي إلى الجحيم.
الحرب لعبة سياسية لها أهداف تخص أصحابها ولا تعنيني، لذا قررت أن أختار حرية الاختيار، لأنني وحدي من يملك قرار الرفض أو القبول بالموت من أجل نزاع لست طرفا فيه.
أعرف أن قراري هذا يعد جريمة في زمن الحرب، جريمة تخضعني لمحاكمة عسكرية؛ قد تطيح برأسي الصغير الذي راودته فكرة العصيان، وداعبه هوس الحرية، من أجل ذلك عقدت العزم على البحث عن وسيلة تمكنني من الوقوف على حافة النجاة، بلا تضحيات ودون محاكمة عسكرية .
ساقوني إلى الخطوط الأمامية، حسنا فعلوا، فلقد برأت من جراحي وصار بإمكاني تنفيذ خطتي بإحكام، لكن الصبر جميل فلم يحن الوقت بعد.
الأمر لا يخلو من خطورة بالطبع، فالموت يقف لصق أنفاسي، لكنّي كنت حذرا وأمضيت معظم أوقاتي في الخنادق التي لم تشعرني هي أيضا بالأمان، حتى حان الوقت، وقت تنفيذ الخطة.
أمرني القائد بسحب جثة مقطوعة الرأس، امتثلت لأمره في وقت احتدمت فيه المعارك؛ وصار البشر مجرد ذرات متناثرة في الفضاء.
حاولت سحب الجثة، لكنّي لم أتمكن من زحزحتها ، فتقهقرت مذعور، وبخني القائد وأعادني ثانية لآتيه بالرأس هذه المرة.
كان القصف على أشده، التقطت أنفاسي التي تقطعت خوفا من الرأس ومن قعقعات القنابل التي أحالت المكان إلى خراب.
لم يتمكن القائد من النظر إلى الرأس الذي أفزعه السقوط من فوق قامته التي كانت تسعى منذ لحظات.
أشاح الرجل بوجهه، ثم أمرني بوضعه فوق أكداس من الأشلاء فسقطت مغشيا علي.
لم أخطط لتلك الإغماءة، لكنّها جاءت لتخدم خطتي. عندما أفقت من غيبوبتي، تقمّصت حالة شخص فقد عقله، كنت قد رأيته في الصفوف الخلفيّة أثناء اصابتي، وهكذا انتهى بي المطاف في مستشفى الأمراض العقلية ببغداد.
هنالك وقت يهرب المرء فيه من وعيه ليقتنص لحظات من السعادة قد لا يضاهيها عمرا بأكمله، وأنا حين قررت التجرّد من وعيي لم يخطر لي بأنني سأمكث في منطقة اللاوعي تلك، طوال هذه المدة دون إرادة مني ودون أن أحظى بلحظة سعادة.
ها قد بلغت غايتي، أفلت من الموت، انتزعت حريتي من الجلادين والجزارين والعسس، ناضلت من أجل الحفاظ على نبض قلبي، فيما بقي الرفاق هناك، ينهشهم الموت والأمل الذي لا أمل فيه.
أتأمل الرجال هنا.. أرنو إلى وجوههم البلهاء، وعيونهم الضّالة المتحجّرة، كلنا حمقى ظننا أن الحياة محض شهيق وحسب.
مازلت أقبع هنا، أطوي الأزمنة، أرمّم شروخ نفسي الخربة، أنتظر شروق شمس لا تشرق.
انتهت حرب القادسية، وها هو الوطن يخوض حربا أخرى يدعونها عاصفة الصحراء، فهل يحتمل الوطن عاصفة أخرى!؟
كفت أمي عن زيارتي، ولا أعرف لذلك سببا، عندما زارتني للمرّة الأولى كانت ترتدي ملابس الحداد، لم أعرفها لوهلة، فقد أفقدها الحزن بهاء طلتها، كانت متفجعة لموت أبي واستشهاد أخي، أما حالتي فزادتها حزنا على حزن.
كنت أرغب في مواساتها، لكنني لم أفعل، ولم أتحدّث إليها قط، لا أعرف إن كانت قد سئمت صمتي كما سئمته أنا، أم ماذا حل بها.
كنت مضطرا للسكوت؛ فما زال الموت يحيط بي ما دامت فرق التفتيش تحوم هنا، يبدو أنهم بحاجة إلى حطب يغذي نيرانهم المشتعلة، فبين فترة وأخرى يظهرون ليصطحبوا معهم بعض المرضى الذين تثبت تقاريرهم الطبية أنهم أصحاء، حتى أن الرجل الذي تقمّصت حالته اتهموه أيضا بالكذب والادعاء.
ليس أعظم من أن نمد للحياة جسورا حتى وإن كانت تلك الجسور قد شيدناها من وهم أو ادعاءات، نحن الذين لم تمد لنا الحياة جسورها فسقطنا أيضا في الوهم والادعاءات.
ها أنذا أسخر من الجميع، فإلى الآن لم يكتشف أحد سري، وأنا الوحيد الذي يعرف حقيقة أمري، لكن الذي يثير السخرية حقا، أن تقاريري الطبية تؤكد أنّي أعاني من صدمة عصبيّة حادة أفقدتني صوابي، وإن الأمل في شفائي ضعيف، ضعيف جدا.
سولاف هلال
العراق
sadazakera.wordpress.com
بضع سنوات أبت ذاكرتي أن تحصيها، لأنني لم اكترث بها يوما؛ ولم تعرني هي أيضا أيما اهتمام، رغم أنها شهدت جنوني وسر دفنته بين طيات لساني خشية أن تكتشفه الجدران.
مرّ وقت طويل وأنا أكبّل بالصمت لساني، لكنني سأشرع اليوم أبواب ذاكرتي، فليس هنالك ما أخشاه، لأني لا أنوي ترك دليل يدينني، كل ما في الأمر أني سئمت صمتي والخوف وأريد أن أّبث لهذه الأوراق الصّماء بعض أحزاني.
وسوف أمزّق أوراقي والكلمات؛ وسأمحو الذكريات فور انتهائي؛ وأرجو ألا أضطر أيضا لقطع لساني، فالموت مايزال يلوّح مرحّبا وفي أكثر من اتجاه.
ها أنذا أفتح الأبواب والنوافذ لأطلق سراح زمن عابث؛ غيّر المسارات؛ أطفأ نور السماوات؛ وهبنا الموت بسخاء وزرع الحزن في كل بيت وشارع.
أكاد أشم رائحة البارود، غبار المعارك، آه إنها الحرب، أجل هي الحرب، أسمع صيحات الجنود، أزيز الطائرات، دوي المدافع وصوت الآمر يعنفني:
ـــ هيا لا تكن جبانا، اذهب واتني بتلك الرأس، إنه الرفيق خالد.
“نعم هو الرفيق خالد صار محض رأس تتدحرج”
كحلم جميل مضت تلك الأيام المعجونة بعنفوان صباي، بغداد تشخص أمامي بصخبها وجنونها، بشوارعها المزدانة بالفرح، بشواطئها المكتظة وأشجارها السامقة المعطّرة بمياه دجلة الخالد.
كنت مطمئنا، أغزل أحلامي بألوان قوس قزح، اكتشف غريزتي البكر باشتياق جامح، أجوب الشّوارع بحثا عن ملذّات قد لا تتناسب مع حداثة سني، أغازل فتاة هنا، أتعقب أخرى هناك، أشتهي نساءً، أعرّي أجسادا رخامية لا يمكنني الاقتراب منها إلا في حلم، تبهرني القطرات اللّزجة فأزداد شبقا، أتوق لزرع لحمي في جسد امرأة، أية امرأة.
هكذا ظللت أشعل رغباتي ثم أطفؤها في الأحلام ليس إلا، حتى صحوت على كابوس متواتر مفزع؛ بدّد كل شيْ وقادني إلى منعطف آخر لم يكن في الحسبان.
ذهبت بمفردي، ترافقني دعوات أمي وأوراق حملتها بيد مرتعشة قاصدا دائرة التجنيد.
لم أكن يومها قد شفيت من مراهقتي بعد، تلك المراهقة التي تسبّبت في رسوبي لأعوام متتالية؛ فصار لزاما عليّ الالتحاق بخدمة العلم في وقت لم يكن مثاليا بالنسبة لي ولا لمن هم سواي.
كنت كالذي فطم توا من ثدي الحياة، تسبق دموعي خطواتي وأنا ألهث راجلا صوب معسكر التّدريب.
أتوغل في الطريق غير المعبد، أعب الهواء الملوّث بالتراب لأستنشق رائحة الحرّية قبل الولوج إلى عالم يجهلني كما أجهله.
بدت الأسوار أكثر شموخا وصار حجمي أقل ضآلة إزاءها، فلم يتبق سوى بضعة أقدام لأصل إلى الباب المنغلق على عوالمه السرّية.
قال أبي وهو يسحبني من ذراعي الذي تشبّث بعباءة أمي:
ــ كفّ عن النّواح كما الحريم، وحدها الجنديّة هي التي ستصنع منك رجلا كما صنعت معظم الرجال.
صنعت الجندية مني رجلا بالفعل؟ أم أنها قضت على الطفل والرجل اللذان في داخلي يسكنان!
هناك.. أقف برأس حليق أذعن للأوامر، أتلقّى الدروس الأولى في النظام والانضباط والسّلوك العسكري.
لم ترهقني الأوامر الصّارمة بقدر ما أرهقتني النظرات والعبارات الساخرة التي صدرت من بعض الجنود الذين يتمتّعون بقامات فارعة وبأجساد تفوح منها رائحة الرجولة، بينما أعاني من ضآلة جسدي ودقة ملامحي التي أعطت للبعض انطباعا ليس بصحيح.
استنفدت جميع أساليبي في ردع أولئك المتطاولين الذين استمرؤوا إهانتي ولم يكفّوا عن رجمي بالكلمات اللاذعة دون حياء، مما أثار حفيظة بعض الغيارى فتصدوا لهم ثم اتخذوني صديقا، أما أنا فسعيت لتعميق تلك الصداقة وأضفيت عليها طابع الحميمية، لكن القدر لم يمهلنا طويلا لأنه كان يقف لنا بالمرصاد.
خلف الأسلاك الشائكة وبعيدا عن العالم الرحب الغارق في المتع والملذات عرفت
أن للحياة وجوها أخرى، وإن للوجوه حياة أخرى غير التي نعرفها مهما حاولنا الاقتراب، لأنها لا تكشف عن حقيقة ذلك الوجه إلا لمن ترغب أن تمنحه ذلك الشرف الرفيع.
دعاني الضّابط إلى مكتبه سرا، لم يكن ضابطا، بل كان يحمل رتبة عقيد، توجّست، فهو متغطرس، صعب المراس، لا تقوى على النّظر في عينيه المتوهجتين، ولا يمكنك في أي حال من الأحوال أن تلمحه في حالة ارتياح ، فهو متجهم دوما، ثائرا بسبب أو دونما سبب.
استقبلني بحفاوة، داعب رأسي الأمل، فربما يتكرّم ويمنحني أجازة، اشتقت كثيرا لحضن أمي، لكن أيّة أجازة هذه ولم يمض على وجودي هنا إلا بضعة أسابيع، طوّحت بالأمل بعيدا، فأعاده إليّ ثانية، إذ راح يداعبني كما يداعب طفله المدلّل الجميل، توسّمت به خيرا، لكنّه قتل الأمل هذه المرّة، واغتال براءة أعوامي الثمانية عشرة في آن.
دنا منّي كوغد، يفضح رغبته شهيقه الدّاعر، أمرني بخلع ملابسي، فانتفضت، انتفخت عروقي، كدت أضربه لكنّي جبنت.
ما الذي دعاه للتفكير بي على هذا النحو؟ هل فعلوها الأوغاد، أم أنه ظن بي الظنون كما ظنوا من قبل؟ اللعنة على ملامحي التي أسقطتني في هذا المستنقع العفن اللعين.
اقترب الوغد مرة أخرى؛ ألصق جسده الهرم بجسدي، نفرت فاغتاظ، لكنه ابتلع غضبه، ثم راح يتوسّل ويتسوّل عطفي ومرضاتي، كاد يبكي من شدّة الرغبة والهياج، أحكم قبضته على جسدي النحيل، تضرعت، أجهشت بالبكاء، لكن، هل يعتق الذئب الجائع فريسته؟!
دائما كانت هنالك مفاجآت، فبعد مرور ثلاثة أشهر من التدريب المضنى الذي لم يؤهلني رغم صعوبته لقتل جرذ اشتعلت الحرب، وفي غضون أيام قلائل وجدتني ورفاقي نحمل أمتعتنا خلف ظهورنا، نقطع المسافات، نطوي الصحارى الشاسعة لنقف بعد رحلة شاقة طويلة وسط الحمم في ساحات أعدت للموت، أعدت للفناء.
في السّواتر الخلفيّة، ثمة قلوب تذرف الدمع على شبابها الذي يقف على شفير الموت، وفي ساحات الوغى، الموت لا يبكي ضحاياه.
أحمل سلاحي بيد شلّها الخوف، أنضم إلى الرفاق، تخذلني شجاعتي، لكن لا مناص من الانخراط بالكتيبة التي راحت تتوغل في ساحة القتال المزروعة بالجثث. الأرض ترتج بمئات القذائف، الطائرات تقذف حممها بلا هوادة، الحديد يتناثر، ينصهر، فكيف هو حال الرجال المنسوجة أجسادهم من لحم ودم؟!
أبلى الجميع بلاءاً حسنا ولم يضنّوا على الوطن بدمائهم، كانوا صناديدا بالفعل، أما أنا فلا أتذكر شيئا على الإطلاق، يبدو أن ذاكرتي قد تعطلت حينها لأنها لم تسجل لقطة واحدة من شدّة الرعب.
لا أعرف كيف نجوت، رغم أني لا أجيد القتال وأجهل تماما فن الكر والفر الذي تقتضيه المعارك.
لم أكن على علم بأن مواليد أخي الذي سرّح من الجيش منذ سنوات قد استدعيت لخدمة الاحتياط، إلا حين لمحته في أحد المواقع، حاولت الوصول إليه لكن القصف حال دون ذلك.
قضيت ليلتي مسهّد، أصغي إلى نشيج قلبي الذي أيقظ فيه أخي شوقا وحنينا أفلتا زمام صمودي.
الحرب تزداد ضراوة، يبدو أن كلا الطرفين يرغب في إحراز نصر يتباهى به أمام العالم على حساب ضحاياه، فيزداد عنادا ووحشيّة يوما بعد يوم.
سقط معظم الرفاق متدثرين بأمنيات لم يكتب لها النّجاة، وسقطت أيضا، حملوني على نقالة الجرحى إلى الصفوف الخلفية لتلقي العلاج.
لم تكن إصابتي خطيرة فلقد أخطأني الموت هذه المرّة، لكنّه على موعد معي في جولة أخرى لا محال.
لم تكن الصفوف الخلفيّة أقل ذعرا من ساحات القتال، فأنين الجرحى لا ينقطع، ومأساة الذين فقدوا أطرافهم فصاروا أنصاف أجساد، والذين لم يحتملوا فظاعة الحرب فغادرتهم عقولهم، وأولئك الذين شوّهت النيران ملامحهم، وحالات أخرى تشعرني الآن بالغثيان، كل ذلك جعلني أتصدّى للموت وأتشبّث بالحياة.
مرا صار طعم أيامنا، الحرب تعزف مارشا جنائزيّا يبعث الأسى في أرواح الأحياء والأموات على حد سواء، وليس من أمل في النجاة من آتون حرب لم يتمكن مشعلوها من إخمادها فأكلت على موائد أجسادنا وشربت بينما نتضور اشتياقا للسلام.
في زمن استثنائي أضاف إلى عمري عمرا آخر لم أعشه، وحكمة جعلتني أضع منطقا خاصا يتنافى مع منطق الحرب ومجريات الأحداث.
فالتضحية بالنفس من أجل قضية ما يفرضها الإيمان المطلق بتلك القضية، وأنا لست مجبرا على الإيمان بقضايا يفجرها الآخرون، ثم يفرضون علينا التضحية من أجلها، كما أنّي مازلت أحمل في مؤخرتي وشما يجلب العار لرجولتي التي اغتصبت بالأمس؛ واليوم يريدونني رجلا ليزجوا بي إلى الجحيم.
الحرب لعبة سياسية لها أهداف تخص أصحابها ولا تعنيني، لذا قررت أن أختار حرية الاختيار، لأنني وحدي من يملك قرار الرفض أو القبول بالموت من أجل نزاع لست طرفا فيه.
أعرف أن قراري هذا يعد جريمة في زمن الحرب، جريمة تخضعني لمحاكمة عسكرية؛ قد تطيح برأسي الصغير الذي راودته فكرة العصيان، وداعبه هوس الحرية، من أجل ذلك عقدت العزم على البحث عن وسيلة تمكنني من الوقوف على حافة النجاة، بلا تضحيات ودون محاكمة عسكرية .
ساقوني إلى الخطوط الأمامية، حسنا فعلوا، فلقد برأت من جراحي وصار بإمكاني تنفيذ خطتي بإحكام، لكن الصبر جميل فلم يحن الوقت بعد.
الأمر لا يخلو من خطورة بالطبع، فالموت يقف لصق أنفاسي، لكنّي كنت حذرا وأمضيت معظم أوقاتي في الخنادق التي لم تشعرني هي أيضا بالأمان، حتى حان الوقت، وقت تنفيذ الخطة.
أمرني القائد بسحب جثة مقطوعة الرأس، امتثلت لأمره في وقت احتدمت فيه المعارك؛ وصار البشر مجرد ذرات متناثرة في الفضاء.
حاولت سحب الجثة، لكنّي لم أتمكن من زحزحتها ، فتقهقرت مذعور، وبخني القائد وأعادني ثانية لآتيه بالرأس هذه المرة.
كان القصف على أشده، التقطت أنفاسي التي تقطعت خوفا من الرأس ومن قعقعات القنابل التي أحالت المكان إلى خراب.
لم يتمكن القائد من النظر إلى الرأس الذي أفزعه السقوط من فوق قامته التي كانت تسعى منذ لحظات.
أشاح الرجل بوجهه، ثم أمرني بوضعه فوق أكداس من الأشلاء فسقطت مغشيا علي.
لم أخطط لتلك الإغماءة، لكنّها جاءت لتخدم خطتي. عندما أفقت من غيبوبتي، تقمّصت حالة شخص فقد عقله، كنت قد رأيته في الصفوف الخلفيّة أثناء اصابتي، وهكذا انتهى بي المطاف في مستشفى الأمراض العقلية ببغداد.
هنالك وقت يهرب المرء فيه من وعيه ليقتنص لحظات من السعادة قد لا يضاهيها عمرا بأكمله، وأنا حين قررت التجرّد من وعيي لم يخطر لي بأنني سأمكث في منطقة اللاوعي تلك، طوال هذه المدة دون إرادة مني ودون أن أحظى بلحظة سعادة.
ها قد بلغت غايتي، أفلت من الموت، انتزعت حريتي من الجلادين والجزارين والعسس، ناضلت من أجل الحفاظ على نبض قلبي، فيما بقي الرفاق هناك، ينهشهم الموت والأمل الذي لا أمل فيه.
أتأمل الرجال هنا.. أرنو إلى وجوههم البلهاء، وعيونهم الضّالة المتحجّرة، كلنا حمقى ظننا أن الحياة محض شهيق وحسب.
مازلت أقبع هنا، أطوي الأزمنة، أرمّم شروخ نفسي الخربة، أنتظر شروق شمس لا تشرق.
انتهت حرب القادسية، وها هو الوطن يخوض حربا أخرى يدعونها عاصفة الصحراء، فهل يحتمل الوطن عاصفة أخرى!؟
كفت أمي عن زيارتي، ولا أعرف لذلك سببا، عندما زارتني للمرّة الأولى كانت ترتدي ملابس الحداد، لم أعرفها لوهلة، فقد أفقدها الحزن بهاء طلتها، كانت متفجعة لموت أبي واستشهاد أخي، أما حالتي فزادتها حزنا على حزن.
كنت أرغب في مواساتها، لكنني لم أفعل، ولم أتحدّث إليها قط، لا أعرف إن كانت قد سئمت صمتي كما سئمته أنا، أم ماذا حل بها.
كنت مضطرا للسكوت؛ فما زال الموت يحيط بي ما دامت فرق التفتيش تحوم هنا، يبدو أنهم بحاجة إلى حطب يغذي نيرانهم المشتعلة، فبين فترة وأخرى يظهرون ليصطحبوا معهم بعض المرضى الذين تثبت تقاريرهم الطبية أنهم أصحاء، حتى أن الرجل الذي تقمّصت حالته اتهموه أيضا بالكذب والادعاء.
ليس أعظم من أن نمد للحياة جسورا حتى وإن كانت تلك الجسور قد شيدناها من وهم أو ادعاءات، نحن الذين لم تمد لنا الحياة جسورها فسقطنا أيضا في الوهم والادعاءات.
ها أنذا أسخر من الجميع، فإلى الآن لم يكتشف أحد سري، وأنا الوحيد الذي يعرف حقيقة أمري، لكن الذي يثير السخرية حقا، أن تقاريري الطبية تؤكد أنّي أعاني من صدمة عصبيّة حادة أفقدتني صوابي، وإن الأمل في شفائي ضعيف، ضعيف جدا.
سولاف هلال
العراق
إلى الوراء دُرْ.. قصة قصيرة بقلم: سولاف هلال
إلى الوراء دُرْ بضعة أعوام مضت؛ تجر في أعقابها أحلامي؛ أمنياتي ومفردات شكلتها حياتي التي كانت تنعم يوما بالسلام. بضع سنوات أبت ذاكرتي أن تحصيها، لأنني لم اكترث بها يوما؛ ولم تعرني هي أيضا أيما اه…