قبل أن نتحدث أولًا عن مفهوم المثقف عند غرامشي، يجب أن نوضّح وجهة نظره في الدولة، وفكرته عن الهيمنة، لاتصال مفهوم المثقف بتلك المفاهيم، لأن غرامشي في النهاية هو ماركسي، ويحلل مفاهيمًا مثل الدولة والهيمنة، تحليلًا طبقيًا.
الدولة في النظرة الماركسية:
يقتبس لينين في كتابه الدولة الثورة فقرة لإنجلز، يوضح فيها نتائج تحليل إنجلز التاريخي لمفهوم الدولة: (الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك (واقع الفكرة الأخلاقية)، (صورة وواقع العقل) كما يدعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره، الدولة إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، عن واقع أن هذا المجتمع قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكي لا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضًا والمجتمع في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود النظام. إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة.
ويعقب لينين بقوله:
في هذه الفقرة قد أُعرب بأتم الوضوح عن الفكرة الأساسية التي تنطلق منها الماركسية في مسألة دور الدولة التاريخي ومعناها. فالدولة هي نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية. فإن الدولة تنشأ حيث وعندما وبمقدار ما تكون التناقضات الطبقية موضوعيًا في حال لا يمكن التوفيق بينها. وبالعكس، فإن وجود الدولة يبرهن على أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها.
هكذا يوضح لينين مفهوم الدولة في الماركسية، ونحن هنا بصدد الحديث فقط عن فترة ما قبل غرامشي لإيضاح إضافته، ولكن يجب القول أن ألتوسير انتقد ذلك المفهوم عن الدولة، وأكمل الطريق الذي مهده غرامشي له. يظهر لنا من الكلام السابق أن الدولة:
1- ليست تعبيرًا عن فكرة مطلقة مثل فلسفة هيغل، كما في ذلك المفهوم انتقاد للمفهوم الليبرالي عن الدولة.
2- نابعة من الوجود المادي ذاته.
3- الدولة ناتجة عن التناقضات والصراع الطبقي، وهي تعمل كقوة ملطفة لحدة ذلك الصراع.
4- الدولة أداة لسيطرة الطبقة البورجوازية، فالدولة هنا هي دولة الطبقة الأقوى اقتصاديًا، والتي تصبح سائدة سياسيًا.
الدولة عند غرامشي:
ينتقد غرامشي اختزال الدولة في أنها محض (آلة) أو (جهاز) ويعرف الدولة بقوله:
(ينبغي ألا تفهم الدولة على أنها فقط جهاز الحكومة. ولكن أيضًا الجهاز الأهلي (غير الحكومي) للسيطرة السياسية، أو المجتمع المدني. ولابد من ذكر أن الفكرة العامة للدولة تشمل عناصر نحتاج أن نرجعها إلى فكرة المجتمع المدني .. ويمكن أن نقول أن الدولة = المجتمع السياسي + المجتمع المدني، أو بتعبير آخر “سيطرة سياسية يحميها سلاح القهر”.
ويمكن القول أن للدولة شقًّا قمعيًا، وشقًّا آخر سياسيًا/ إيديولوجيًّا.
ويعرف غرامشي المجتمع المدني بأنه شبكة أفقية من المنظمات، والعلاقات المهنية تنتظم في الحياة الاجتماعية مثل: النقابات والأحزاب والصحافة والمدارس والكنيسة، باختصار كل ما هو خارج سلطة الدولة.
وفي المقابل، يموضع «غرامشي» المجتمع السياسي، بوصفه المجتمع الذي يقوم على ممارسات القهر والانضباط المباشر والوظائف التنظيمية والبيروقراطية، وفي الجمع بين المجتمع السياسي، والمجتمع المدني تظهر الدولة في شكلها الجدلي، ويكون عمادها هو الهيمنة الثقافية من ناحية، والسيطرة السياسية والقانونية من ناحية أخرى.
يقول هابرماس عن المجتمع المدني.
«الرأي العام غير الرسمي (أي الذي لا يخضع لسلطة الدولة)»، ومن خلال هذه المؤسسات يتم نشر القيم والأفكار وهي منطقة صراعات الهيمنة، فيها يتم إنتاج وإعادة إنتاج أيدولوجيا الطبقة المسيطرة من خلال تجسيد تلك الأيدولوجيا وتحقيق إجماع جماهيري، وقبول بالوضع الراهن، وبسياسات النخبة الحاكمة ومصالحها، و«جرامشي» يضع المجتمع المدني في موضع بين البنية التحتية (الاقتصادية)، والبنية الفوقية (الدولة والمجتمع السياسي) بخلاف ماركس.
عند غرامشي العلاقة بين الدولة، والطبقة المهيمنة اقتصاديًا ليست علاقة خطية ولا بسيطة، فينتقد غرامشي اختزال الدولة في شكل (أداة)، فليست هناك دولة دون سيطرة سياسية، وحلول وسطية، وعلاقات وتحالفات، فهناك منطقة وسيطة بين الحاكمين والمحكومين، تتجاوز فيها الطبقة الحاكمة المصالح الاقتصادية الضيقة، ليتم التوصل لنوع من التسوية، أو الحل الوسط، لتأكيد وضعيتها كطبقة قائدة سياسيًا، وتتم تلك السيطرة عن الطريق شبكة معقدة من الإجراءات، التي يتشارك فيها القمع، والأيديولوجيا. وهذا هو مفهوم غرامشي عن الهيمنة، فالدولة ليست فقط أداة للقمع، بل هي تخلق شبكات أيديولوجية تتمثل في كثير من المؤسسات، والأدوات التي تستخدمها في تحقيق سيطرتها السياسية.
المثقف العضوي:
يقول غرامشي: (كل جماعة اجتماعية يظهر لها وجود على الأرض الأصلية لوظيفة أساسية في عالم الانتاج الاقتصادي، تخلق بنفسها عضويًا، طبقة أو أكثر من المثقفين يمنحونها تجانسًا ووعيًا بوظيفتها الخاصة ليس فقط في المجال الاقتصادي، ولكن أيضًا في المجال السياسي).
يستخدم غرامشي مصطلح المثقف بشكل عريض، ليشير إلى كل أولئك الذين لديهم دور تنظيمي / ثقافي/ إيديولوجي في المجتمع، فعلى سبيل المثل معلمو المدارس، وتقنيو ومديرو المصانع، موظفو الخدمة العامة … إلخ. مثلًا رجل الأعمال الرأسمالي يخلق إلى جانبه التقني الصناعي، والمتخصص في الاقتصاد السياسي، ومن يقومون بتنظيم ثقاقة جديدة ونظام قانوني جديد إلخ.
فطبيعة المثقف العضوي تكون مستمدة أولًا من النواحي التقنية للوظائف الانتاجية الأساسية، ثم يشارك هذا المثقف في المساعدة لتطوير وبناء نمط معين خاص بالطبقة التي ينتمي إليها. وبالتالي فالمثقف العضوي،هو المثقف الذي ينتمي إلى طبقته ويمنحها وعيًا بمهامها، ويصوغ تصوراتها النظرية عن العالم، ويفرضه على الطبقات الأخرى من خلال «الهيمنة»، ويدافع عن مصالحها، ويقوم بالوظائف التنظيمية، والأداتية لضمان تقسيم العمل الاجتماعي داخل الطبقة من ثم استمرارها.
فوكو ومفهومه عن السلطة:
قبل أن نتحدث عن مفهوم فوكو عن المثقف المتخصص، يجب أن نناقش مفهومه عن السلطة، حيث يتجاوز تحليل فوكو للسلطة، التحليل الماركسي التقليدي، فالسلطة ليست عند فوكو هي الدولة، إن الدولة جزء من السلطة، ولكنها ليست السلطة بشموليتها. كما ليست السلطة هي العنف والاخضاع والهيمنة، ففوكو يرى أن وصف السلطة دائمًا بشكل (سلبي) هو اختزال للسلطة، فالسلطة صيرورة تنتج ذاتها في كل لحظة، ولذا هي حضور دائم، فهي غير متركزة في مؤسسة أو جهاز معين، بل هي كما يقول فوكو متوزعة على الجسد الاجتماعي بأكمله، تخترقه، فعند فوكو لا يوجد مالك محدد للسلطة، لا طبقة، ولا ذات، لا عامل اقتصادي محدد. فالسلطة ممارسة، وليست ملكية، فالسلطة بلا جوهر، بل هي إجرائية، أو علاقة، تمارس عبر نشاط عن طريق علاقات غير متساوية، غير متجانسة.
السلطة كإنتاج:
يقول فوكو:
(يحب التوقف عن وصف مفاعيل السلطة بعبارات سلبية مثل: إن السلطة تستعبد وتكبت وتقمع وتراقب وتجرد وتقنع وتخفي. في الواقع إن السلطة تنتج، تنتج الواقع الحقيقي، تنتج مجالات من الموضوعات ومن طقوس الحقيقة).
لا ينكر فوكو الجانب القمعي من السلطة، بل هو يريدنا أن نراها بمنظور آخر، أن يكشف جوانبًا خفية منها، وألا نخترلها في ذلك الشكل، فالسلطة إيجابية ومنتجة، تنتج ذاتها أولًا، وتنتج الفرد، الواقع، المعرفة، والحقيقة. وهذا ما عبر عنه فوكو في مفهوم (الانضباط) كما وضح آلياته المختلفة.
يميز فوكو بين المثقف الكوني والمثقف المتخصص، ويتحدث فوكو عن انتهاء عصر المثقف المالك للحقيقة، والذي مثل ضمير المجتمع والعدالة فيقول فوكو:
“لقد مرت تلك الحقبة الكبرى من الفلسفة المعاصرة، حقبة سارتر وميرلوبونتي، حيث كان على نص فلسفي، أو نظري ما، أن يعطيك معنى الحياة والموت، ومعنى الحياة الجنسية، وأن يقول لك هل الله موجود أم لا ؟ وما هي الحرية وما ينبغي عمله في الحياة السياسية وكيف تتصرف مع الآخرين، إلخ.”
يؤسس فوكو لمفهوم المثقف المتخصص، والذي هو المقابل للمثقف الكوني الذي مثلته الماركسية، والوجودية، وهو يمتاز بصفات ذكرها الدكتور زواوي باغورا منها:
1- المثقف الجديد لا يعطي دروسًا ولا يقوم بالتوجيه العام، وإنما يقوم أدوات للعمل ومناهج للتحليل.
2- المثقف الجديد هو الذي يوضح مسألة معينة، أو يبين وضعية جديدة، أو يكشف عن حالة خاصة.
3- المثقف المتخصص ليس مرتبطًا بجهاز الإنتاج، ولكنه مرتبط بجهاز المعلومات، والذي لا يمكن أن يشكل بديلًا لمعرفة العامل في جهاز الإنتاج.
4- المثقف المتخصص، هو الذي يقطع نهائيًا، مع دعوى الشمولية، والكونية، والكلية، ويمارس يقظةً سياسية، نظرية، أخلاقية في ميدان عمله أو محيطه الاجتماعي.
5- المثقف الجديد هو المحلل والناقد لأنظمة الفكر، والتي أصبحت تشكل بديهيات، والتي ترتبط بشكل عضوي مع مفاهينا، ومواقفنا وسلوكنا.
6- ليست مهمة المثقف الجديد، سَنَّ القوانين واقتراح الحلول وتقديم النصح، وإنما مهمته التحويل، أو التغيير من خلال ميدانه، وذلك بتشخيص الحاضر.
يتفق فوكو وغرامشي، في توسيع مستوى مفهوم السلطة، وكشف أوجه مختلفة منها، ففوكو ذهب إلى مناطق بعيدة، ليبين كيف يمكن للسلطة السيطرة الكاملة، ووضح في مفهومه عن الانضباط آلياته المختلفة لذلك، ولكن حضور السلطة الدائم عن طريق إنتاج ذاتها، ينفي أي وسيلة (للثورة) ففوكو يرى أن كل ما يحدث هو مقاومات، ولكن تلك المقاومات في النهاية، إذا تحدثنا، بلا فائدة، لأنها تحدث في حيز السلطة، وبسبب ذلك الحضور الدائم الذي يشبه حضور الإله، تم انتقاد مفهوم السلطة عند فوكو، حيث وصف هابرماس السلطة عند فوكو (بالمقولة المتعالية)، كما أن فوكو يرفض مفهوم المثقف المرتبط برؤية كونية، شاملة، ويرسخ لمفهوم جديد لمثقف متخصص.
وعلى الجانب الآخر في رؤية غرامشي الماركسية للدولة، ومحاولته لتوضيح آليات السيطرة، والهيمنة الأيديولوجية والسياسية، تظل هناك فرصة (للثورة) فغرامشي عن طريق تأسيسه لمفهوم حرب الموقع، وعن طريق حديثه عن الحزب ووصفه له بالأمير الحديث، وحديثه عن المثقف العضوي، حاول وضع استراتيجيات يمكن من خلالها مقاومة السلطة، وإفساح مجال لحدوث ثورة للتغيير، فغرامشي أضاء الطريق عن كيف يجب الإعداد فكريًّا جيدًا، قبل أن يحدث أي تحرك مادي على الأرض.
www.facebook.com
الدولة في النظرة الماركسية:
يقتبس لينين في كتابه الدولة الثورة فقرة لإنجلز، يوضح فيها نتائج تحليل إنجلز التاريخي لمفهوم الدولة: (الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك (واقع الفكرة الأخلاقية)، (صورة وواقع العقل) كما يدعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره، الدولة إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، عن واقع أن هذا المجتمع قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكي لا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضًا والمجتمع في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود النظام. إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة.
ويعقب لينين بقوله:
في هذه الفقرة قد أُعرب بأتم الوضوح عن الفكرة الأساسية التي تنطلق منها الماركسية في مسألة دور الدولة التاريخي ومعناها. فالدولة هي نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية. فإن الدولة تنشأ حيث وعندما وبمقدار ما تكون التناقضات الطبقية موضوعيًا في حال لا يمكن التوفيق بينها. وبالعكس، فإن وجود الدولة يبرهن على أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها.
هكذا يوضح لينين مفهوم الدولة في الماركسية، ونحن هنا بصدد الحديث فقط عن فترة ما قبل غرامشي لإيضاح إضافته، ولكن يجب القول أن ألتوسير انتقد ذلك المفهوم عن الدولة، وأكمل الطريق الذي مهده غرامشي له. يظهر لنا من الكلام السابق أن الدولة:
1- ليست تعبيرًا عن فكرة مطلقة مثل فلسفة هيغل، كما في ذلك المفهوم انتقاد للمفهوم الليبرالي عن الدولة.
2- نابعة من الوجود المادي ذاته.
3- الدولة ناتجة عن التناقضات والصراع الطبقي، وهي تعمل كقوة ملطفة لحدة ذلك الصراع.
4- الدولة أداة لسيطرة الطبقة البورجوازية، فالدولة هنا هي دولة الطبقة الأقوى اقتصاديًا، والتي تصبح سائدة سياسيًا.
الدولة عند غرامشي:
ينتقد غرامشي اختزال الدولة في أنها محض (آلة) أو (جهاز) ويعرف الدولة بقوله:
(ينبغي ألا تفهم الدولة على أنها فقط جهاز الحكومة. ولكن أيضًا الجهاز الأهلي (غير الحكومي) للسيطرة السياسية، أو المجتمع المدني. ولابد من ذكر أن الفكرة العامة للدولة تشمل عناصر نحتاج أن نرجعها إلى فكرة المجتمع المدني .. ويمكن أن نقول أن الدولة = المجتمع السياسي + المجتمع المدني، أو بتعبير آخر “سيطرة سياسية يحميها سلاح القهر”.
ويمكن القول أن للدولة شقًّا قمعيًا، وشقًّا آخر سياسيًا/ إيديولوجيًّا.
ويعرف غرامشي المجتمع المدني بأنه شبكة أفقية من المنظمات، والعلاقات المهنية تنتظم في الحياة الاجتماعية مثل: النقابات والأحزاب والصحافة والمدارس والكنيسة، باختصار كل ما هو خارج سلطة الدولة.
وفي المقابل، يموضع «غرامشي» المجتمع السياسي، بوصفه المجتمع الذي يقوم على ممارسات القهر والانضباط المباشر والوظائف التنظيمية والبيروقراطية، وفي الجمع بين المجتمع السياسي، والمجتمع المدني تظهر الدولة في شكلها الجدلي، ويكون عمادها هو الهيمنة الثقافية من ناحية، والسيطرة السياسية والقانونية من ناحية أخرى.
يقول هابرماس عن المجتمع المدني.
«الرأي العام غير الرسمي (أي الذي لا يخضع لسلطة الدولة)»، ومن خلال هذه المؤسسات يتم نشر القيم والأفكار وهي منطقة صراعات الهيمنة، فيها يتم إنتاج وإعادة إنتاج أيدولوجيا الطبقة المسيطرة من خلال تجسيد تلك الأيدولوجيا وتحقيق إجماع جماهيري، وقبول بالوضع الراهن، وبسياسات النخبة الحاكمة ومصالحها، و«جرامشي» يضع المجتمع المدني في موضع بين البنية التحتية (الاقتصادية)، والبنية الفوقية (الدولة والمجتمع السياسي) بخلاف ماركس.
عند غرامشي العلاقة بين الدولة، والطبقة المهيمنة اقتصاديًا ليست علاقة خطية ولا بسيطة، فينتقد غرامشي اختزال الدولة في شكل (أداة)، فليست هناك دولة دون سيطرة سياسية، وحلول وسطية، وعلاقات وتحالفات، فهناك منطقة وسيطة بين الحاكمين والمحكومين، تتجاوز فيها الطبقة الحاكمة المصالح الاقتصادية الضيقة، ليتم التوصل لنوع من التسوية، أو الحل الوسط، لتأكيد وضعيتها كطبقة قائدة سياسيًا، وتتم تلك السيطرة عن الطريق شبكة معقدة من الإجراءات، التي يتشارك فيها القمع، والأيديولوجيا. وهذا هو مفهوم غرامشي عن الهيمنة، فالدولة ليست فقط أداة للقمع، بل هي تخلق شبكات أيديولوجية تتمثل في كثير من المؤسسات، والأدوات التي تستخدمها في تحقيق سيطرتها السياسية.
المثقف العضوي:
يقول غرامشي: (كل جماعة اجتماعية يظهر لها وجود على الأرض الأصلية لوظيفة أساسية في عالم الانتاج الاقتصادي، تخلق بنفسها عضويًا، طبقة أو أكثر من المثقفين يمنحونها تجانسًا ووعيًا بوظيفتها الخاصة ليس فقط في المجال الاقتصادي، ولكن أيضًا في المجال السياسي).
يستخدم غرامشي مصطلح المثقف بشكل عريض، ليشير إلى كل أولئك الذين لديهم دور تنظيمي / ثقافي/ إيديولوجي في المجتمع، فعلى سبيل المثل معلمو المدارس، وتقنيو ومديرو المصانع، موظفو الخدمة العامة … إلخ. مثلًا رجل الأعمال الرأسمالي يخلق إلى جانبه التقني الصناعي، والمتخصص في الاقتصاد السياسي، ومن يقومون بتنظيم ثقاقة جديدة ونظام قانوني جديد إلخ.
فطبيعة المثقف العضوي تكون مستمدة أولًا من النواحي التقنية للوظائف الانتاجية الأساسية، ثم يشارك هذا المثقف في المساعدة لتطوير وبناء نمط معين خاص بالطبقة التي ينتمي إليها. وبالتالي فالمثقف العضوي،هو المثقف الذي ينتمي إلى طبقته ويمنحها وعيًا بمهامها، ويصوغ تصوراتها النظرية عن العالم، ويفرضه على الطبقات الأخرى من خلال «الهيمنة»، ويدافع عن مصالحها، ويقوم بالوظائف التنظيمية، والأداتية لضمان تقسيم العمل الاجتماعي داخل الطبقة من ثم استمرارها.
فوكو ومفهومه عن السلطة:
قبل أن نتحدث عن مفهوم فوكو عن المثقف المتخصص، يجب أن نناقش مفهومه عن السلطة، حيث يتجاوز تحليل فوكو للسلطة، التحليل الماركسي التقليدي، فالسلطة ليست عند فوكو هي الدولة، إن الدولة جزء من السلطة، ولكنها ليست السلطة بشموليتها. كما ليست السلطة هي العنف والاخضاع والهيمنة، ففوكو يرى أن وصف السلطة دائمًا بشكل (سلبي) هو اختزال للسلطة، فالسلطة صيرورة تنتج ذاتها في كل لحظة، ولذا هي حضور دائم، فهي غير متركزة في مؤسسة أو جهاز معين، بل هي كما يقول فوكو متوزعة على الجسد الاجتماعي بأكمله، تخترقه، فعند فوكو لا يوجد مالك محدد للسلطة، لا طبقة، ولا ذات، لا عامل اقتصادي محدد. فالسلطة ممارسة، وليست ملكية، فالسلطة بلا جوهر، بل هي إجرائية، أو علاقة، تمارس عبر نشاط عن طريق علاقات غير متساوية، غير متجانسة.
السلطة كإنتاج:
يقول فوكو:
(يحب التوقف عن وصف مفاعيل السلطة بعبارات سلبية مثل: إن السلطة تستعبد وتكبت وتقمع وتراقب وتجرد وتقنع وتخفي. في الواقع إن السلطة تنتج، تنتج الواقع الحقيقي، تنتج مجالات من الموضوعات ومن طقوس الحقيقة).
لا ينكر فوكو الجانب القمعي من السلطة، بل هو يريدنا أن نراها بمنظور آخر، أن يكشف جوانبًا خفية منها، وألا نخترلها في ذلك الشكل، فالسلطة إيجابية ومنتجة، تنتج ذاتها أولًا، وتنتج الفرد، الواقع، المعرفة، والحقيقة. وهذا ما عبر عنه فوكو في مفهوم (الانضباط) كما وضح آلياته المختلفة.
يميز فوكو بين المثقف الكوني والمثقف المتخصص، ويتحدث فوكو عن انتهاء عصر المثقف المالك للحقيقة، والذي مثل ضمير المجتمع والعدالة فيقول فوكو:
“لقد مرت تلك الحقبة الكبرى من الفلسفة المعاصرة، حقبة سارتر وميرلوبونتي، حيث كان على نص فلسفي، أو نظري ما، أن يعطيك معنى الحياة والموت، ومعنى الحياة الجنسية، وأن يقول لك هل الله موجود أم لا ؟ وما هي الحرية وما ينبغي عمله في الحياة السياسية وكيف تتصرف مع الآخرين، إلخ.”
يؤسس فوكو لمفهوم المثقف المتخصص، والذي هو المقابل للمثقف الكوني الذي مثلته الماركسية، والوجودية، وهو يمتاز بصفات ذكرها الدكتور زواوي باغورا منها:
1- المثقف الجديد لا يعطي دروسًا ولا يقوم بالتوجيه العام، وإنما يقوم أدوات للعمل ومناهج للتحليل.
2- المثقف الجديد هو الذي يوضح مسألة معينة، أو يبين وضعية جديدة، أو يكشف عن حالة خاصة.
3- المثقف المتخصص ليس مرتبطًا بجهاز الإنتاج، ولكنه مرتبط بجهاز المعلومات، والذي لا يمكن أن يشكل بديلًا لمعرفة العامل في جهاز الإنتاج.
4- المثقف المتخصص، هو الذي يقطع نهائيًا، مع دعوى الشمولية، والكونية، والكلية، ويمارس يقظةً سياسية، نظرية، أخلاقية في ميدان عمله أو محيطه الاجتماعي.
5- المثقف الجديد هو المحلل والناقد لأنظمة الفكر، والتي أصبحت تشكل بديهيات، والتي ترتبط بشكل عضوي مع مفاهينا، ومواقفنا وسلوكنا.
6- ليست مهمة المثقف الجديد، سَنَّ القوانين واقتراح الحلول وتقديم النصح، وإنما مهمته التحويل، أو التغيير من خلال ميدانه، وذلك بتشخيص الحاضر.
يتفق فوكو وغرامشي، في توسيع مستوى مفهوم السلطة، وكشف أوجه مختلفة منها، ففوكو ذهب إلى مناطق بعيدة، ليبين كيف يمكن للسلطة السيطرة الكاملة، ووضح في مفهومه عن الانضباط آلياته المختلفة لذلك، ولكن حضور السلطة الدائم عن طريق إنتاج ذاتها، ينفي أي وسيلة (للثورة) ففوكو يرى أن كل ما يحدث هو مقاومات، ولكن تلك المقاومات في النهاية، إذا تحدثنا، بلا فائدة، لأنها تحدث في حيز السلطة، وبسبب ذلك الحضور الدائم الذي يشبه حضور الإله، تم انتقاد مفهوم السلطة عند فوكو، حيث وصف هابرماس السلطة عند فوكو (بالمقولة المتعالية)، كما أن فوكو يرفض مفهوم المثقف المرتبط برؤية كونية، شاملة، ويرسخ لمفهوم جديد لمثقف متخصص.
وعلى الجانب الآخر في رؤية غرامشي الماركسية للدولة، ومحاولته لتوضيح آليات السيطرة، والهيمنة الأيديولوجية والسياسية، تظل هناك فرصة (للثورة) فغرامشي عن طريق تأسيسه لمفهوم حرب الموقع، وعن طريق حديثه عن الحزب ووصفه له بالأمير الحديث، وحديثه عن المثقف العضوي، حاول وضع استراتيجيات يمكن من خلالها مقاومة السلطة، وإفساح مجال لحدوث ثورة للتغيير، فغرامشي أضاء الطريق عن كيف يجب الإعداد فكريًّا جيدًا، قبل أن يحدث أي تحرك مادي على الأرض.
Ahmad Alkhamisi
Ahmad Alkhamisi ist bei Facebook. Tritt Facebook bei, um dich mit Ahmad Alkhamisi und anderen Nutzern, die du kennst, zu vernetzen. Facebook gibt Menschen die Möglichkeit, Inhalte zu teilen und die...