منهم من يكون في أقصى مغارب الأرض، والآخر يكون في أقصى شرقها، في جنوبها، أم في شمالها؛ ثمة تقاطعات بين بضعة من المبدعين، على اختلاف نتاجهم الإبداعي، وهي تكاد تكون قواسم مشتركة بينهم، حتى إنها تكاد تكون معايير إبداعية، ولعل أول هذه التقاطعات: عيش الحياة بكل العجلة، ومن ثم ولأن فترة الحياة محدودة، فثمة إصرارٌ على قول الصرخة كاملة، ومن ثم إنجازها في أقل مدّةٍ زمنية، وحتى إمكانية عيش هذه الحياة بالطول والعرض والارتفاع، ولأن الحياة بكل هذه الجلبة، إذاً لابأس بالكثير من الأعداء، والخصوم، والحاسدين، الذين قد تكون النهاية غدراً على يد أحد منهم.. فبقدر، ما عاش فولفغانغ أماديوس موتسارت (1756م-1791م) على سبيل المثال حياة متفردة، بقدر ما تقاطعت مع حياة الكثير من العباقرة والمبدعين. ذلك ما كانت عليه حياة رامبو الفرنسي، وتاكوبوكو الياباني، ولن يكون آخرهم المتنبي، وأبو فراس الحمداني العربيين. كما لن يكون آخرهم السوري رياض الصالح الحسين.
«يركضُ في عينيه كوكبٌ مذبوح
وسماءٌ مُنكسرة
يركضُ في عينيه بحرٌ من النيون
ومحيطٌ من العتمة الطبقيّة
في عينيه أيضاً
تركضُ صبيّةٌ جميلةٌ بقدمين حافيتين
يُغني:
لقد كانت طرّيةً.. طرية
كالثلج والينابيع
لقد كانت سنبلةً طرية».
هذا المقطع من قصيدة أطلق عليها الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين «صورة شخصية
لـ ر.ص.ح» والحقيقة، إن هذه القصيدة تكاد أن تكون «بورتريهاً» عن هذا الشاعر الذي أثار جدلاً واسعاً خلال مدّةٍ قصيرة وفرتها له الحياة من الزاوية الأشدُّ ضيقاً، ومع ذلك استطاع هذا الشاعر التي تبدو حياته أقرب إلى معجزات الحياة؛ أن يُقدم إبداعه كله دفقةً واحدة في «كمشة» العمر القصيرة، ويرحل تاركاً القوم من بعده، يقضون الأوقات الكثيرة في قراءته والاندهاش بما قدم من نتاجٍ شعري كثيراً ما تأثر به شعراء لدرجة أصبح أسلوباً في المشهد الشعري السوري له ملامحه المُفارقة.
وفي كتابه الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة، بعنوان «رياض الصالح الحسين» يتناول خلاله الناقد نذير جعفر الكثير من المحطات الحياتية والشعرية في مسيرة هذا الشاعر الذي لا يُشبه في التجربة أو الحياة غير قلة من الشعراء استطاعوا أن يقدموا مشروعهم الشعري مُبكراً وخلال فسحة حياةٍ قصيرة.
«يتوسّدُ خندقهُ الرمليَّ
ويداهُ تُحيطان برشاشٍ مملوء بالموت
سيأتي الزّوارُ مساءً
كقطيعِ ذئابٍ كاسرةٍ
يلتهمونَ بيوتَ الطين
وأشجار التفاح
وكراسات الأطفال
ورأس الجندي».
رياض الصالح الحسين (1954م-1982م) الذي رحل شاباً في الثامنة والعشرين من عمره. وجد الناقد جعفر ثلاث محطات رئيسة في حياته، توقف في كل منها فترة حتى وصل إلى نهاية المطاف. في المحطة الأولى؛ رأى الشاعر النور في درعا جنوب سورية لأبٍ من أهالي بلدة مارع شمال حلب كان متطوعاً في الجيش العربي السوري، ثم انتقل مع أسرته الكبيرة إلى دمشق، وعاش في دمر البلد حيث نال من مدرستها شهادة التعليم الابتدائي، وتأثر بجمال طبيعتها الساحرة التي انعكست بعضُ عناصرها في قصائده الأولى، وفي هذه الفترة بدأ يُعاني من القصور الكلوي، فأجريت له عملية جراحية سنة 1967م فقد على أثرها السمع، ما اضطره لترك المدرسة وهو لايزال طالباً في الصف الأول الإعدادي، ليعيش بعد ذلك سنوات طويلة من الارتباك والحذر والعزلة لصعوبة التواصل مع الآخرين، ولأن نطقه أصبح ثقيلاً فقد كان يلتزم الصمت غالباً إلا مع المقربين منه، ولم يُدار به من حالته النفسية القاسية تلك سوى القراءة، حيث تبدو طفولته الموزعة بين دمر البلد بدمشق، وبيت جدته في قرية مارع بريف حلب، وحي الصاخور شرق حلب؛ محفوفةً بالشقاء والألم ولاسيما أن العدد الكبير لأفراد الأسرة لم يكن يسمح للأب أن ينفق عليه بما يُحقق لتلك الطفولة ما تتمناه.
المحطة الثانية؛ كانت عندما بلغ رياض سنته العشرين، حيث استطاع أن يُثقف نفسه بنفسه وصار يرتاد الملتقيات الأدبية والشعرية ومهرجانات المسرح والسينما وبدأ بنشر قصائده، حيث كان يتواصل مع أصدقائه بالقلم والورقة، إلى أن أصبح قادراً على قراءة الشفاه، وانحاز إلى كتابة قصيدة النثر في تلك الأيام التي شهدت عنتريات وانحيازات لكل نوع شعري، فقد تأثر الصالح بكل من محمد الماغوط، نزيه أبو عفش، أدونيس، علي الجندي، محمد عمران، محمود درويش، وأمل دنقل بشكلٍ خاص.. واليوم يتساءل الناقد جعفر رغم بعد مسافة رحيل هذا الشاعر عن السر الكامن بالاهتمام به واتساع دائرة قرائه على امتداد المشهد الثقافي العربي؟
فهل يكمن في رحيله المبكر الذي صدم مُحبيه، أو قراءته للشفاه بدلاً من الاستماع إليها، أو في موهبته وصوته الشعري الخاص المتفرد صياغة وتعبيراً ودلالة وتماساً جوهرياً مع الإنسان ومعاناته وقضايا عصره ومجتمعه، أو من باب الوفاء والشعور بالتقصير تجاه المبدعين لا أكثر ولا أقل، أم تعبيراً عن الفراغ الذي تركه، والخواء الذي يعيشه المشهد الشعري، والاكتشاف المُتأخر لفرادة صوته ومشروعه الفني الذي تبلور في قصيدة النثر؟
ويجد جعفر أنه في محطته التالية، يكتب رياض الصالح الحسين كل قصائد ديوانه الأول «خراب الدورة الدموية» 1979م، إضافة لكتابة الكثير من المقالات والزوايا والحوارات الصحفية مع شعراء غيره، وفي المحطة الثالثة ينتقل لدمشق ويصدر ديوانين شعريين «أساطير يومية»1980م و«بسيط كالماء واضحٌ كطلقة مسدس»1982م، وكان قبل رحيله قد انتهى من إعداد ديوانه الرابع «وعلٌ في الغابة» الذي صدر عن وزارة الثقافة سنة 1983م ليكون ديوانه الأخير. حيث طبعت كتبه أكثر من مرة ولاقت استقبالاً واسعاً من القراء وحفاوة نقدية كبيرة.
«عندما تكونين حزينة
يحزن معك النهر والزورق
أشجار الصفصاف والدوري الرمادي
الجبل ومصباح الغرفة
حتى ذئاب البراري المتوحشة
حتى الذئاب
تدفن رؤوسها في الرمال وتبكي»
علي الرّاعي
tishreen.news.sy
«يركضُ في عينيه كوكبٌ مذبوح
وسماءٌ مُنكسرة
يركضُ في عينيه بحرٌ من النيون
ومحيطٌ من العتمة الطبقيّة
في عينيه أيضاً
تركضُ صبيّةٌ جميلةٌ بقدمين حافيتين
يُغني:
لقد كانت طرّيةً.. طرية
كالثلج والينابيع
لقد كانت سنبلةً طرية».
هذا المقطع من قصيدة أطلق عليها الشاعر الراحل رياض الصالح الحسين «صورة شخصية
لـ ر.ص.ح» والحقيقة، إن هذه القصيدة تكاد أن تكون «بورتريهاً» عن هذا الشاعر الذي أثار جدلاً واسعاً خلال مدّةٍ قصيرة وفرتها له الحياة من الزاوية الأشدُّ ضيقاً، ومع ذلك استطاع هذا الشاعر التي تبدو حياته أقرب إلى معجزات الحياة؛ أن يُقدم إبداعه كله دفقةً واحدة في «كمشة» العمر القصيرة، ويرحل تاركاً القوم من بعده، يقضون الأوقات الكثيرة في قراءته والاندهاش بما قدم من نتاجٍ شعري كثيراً ما تأثر به شعراء لدرجة أصبح أسلوباً في المشهد الشعري السوري له ملامحه المُفارقة.
وفي كتابه الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب- وزارة الثقافة، بعنوان «رياض الصالح الحسين» يتناول خلاله الناقد نذير جعفر الكثير من المحطات الحياتية والشعرية في مسيرة هذا الشاعر الذي لا يُشبه في التجربة أو الحياة غير قلة من الشعراء استطاعوا أن يقدموا مشروعهم الشعري مُبكراً وخلال فسحة حياةٍ قصيرة.
«يتوسّدُ خندقهُ الرمليَّ
ويداهُ تُحيطان برشاشٍ مملوء بالموت
سيأتي الزّوارُ مساءً
كقطيعِ ذئابٍ كاسرةٍ
يلتهمونَ بيوتَ الطين
وأشجار التفاح
وكراسات الأطفال
ورأس الجندي».
رياض الصالح الحسين (1954م-1982م) الذي رحل شاباً في الثامنة والعشرين من عمره. وجد الناقد جعفر ثلاث محطات رئيسة في حياته، توقف في كل منها فترة حتى وصل إلى نهاية المطاف. في المحطة الأولى؛ رأى الشاعر النور في درعا جنوب سورية لأبٍ من أهالي بلدة مارع شمال حلب كان متطوعاً في الجيش العربي السوري، ثم انتقل مع أسرته الكبيرة إلى دمشق، وعاش في دمر البلد حيث نال من مدرستها شهادة التعليم الابتدائي، وتأثر بجمال طبيعتها الساحرة التي انعكست بعضُ عناصرها في قصائده الأولى، وفي هذه الفترة بدأ يُعاني من القصور الكلوي، فأجريت له عملية جراحية سنة 1967م فقد على أثرها السمع، ما اضطره لترك المدرسة وهو لايزال طالباً في الصف الأول الإعدادي، ليعيش بعد ذلك سنوات طويلة من الارتباك والحذر والعزلة لصعوبة التواصل مع الآخرين، ولأن نطقه أصبح ثقيلاً فقد كان يلتزم الصمت غالباً إلا مع المقربين منه، ولم يُدار به من حالته النفسية القاسية تلك سوى القراءة، حيث تبدو طفولته الموزعة بين دمر البلد بدمشق، وبيت جدته في قرية مارع بريف حلب، وحي الصاخور شرق حلب؛ محفوفةً بالشقاء والألم ولاسيما أن العدد الكبير لأفراد الأسرة لم يكن يسمح للأب أن ينفق عليه بما يُحقق لتلك الطفولة ما تتمناه.
المحطة الثانية؛ كانت عندما بلغ رياض سنته العشرين، حيث استطاع أن يُثقف نفسه بنفسه وصار يرتاد الملتقيات الأدبية والشعرية ومهرجانات المسرح والسينما وبدأ بنشر قصائده، حيث كان يتواصل مع أصدقائه بالقلم والورقة، إلى أن أصبح قادراً على قراءة الشفاه، وانحاز إلى كتابة قصيدة النثر في تلك الأيام التي شهدت عنتريات وانحيازات لكل نوع شعري، فقد تأثر الصالح بكل من محمد الماغوط، نزيه أبو عفش، أدونيس، علي الجندي، محمد عمران، محمود درويش، وأمل دنقل بشكلٍ خاص.. واليوم يتساءل الناقد جعفر رغم بعد مسافة رحيل هذا الشاعر عن السر الكامن بالاهتمام به واتساع دائرة قرائه على امتداد المشهد الثقافي العربي؟
فهل يكمن في رحيله المبكر الذي صدم مُحبيه، أو قراءته للشفاه بدلاً من الاستماع إليها، أو في موهبته وصوته الشعري الخاص المتفرد صياغة وتعبيراً ودلالة وتماساً جوهرياً مع الإنسان ومعاناته وقضايا عصره ومجتمعه، أو من باب الوفاء والشعور بالتقصير تجاه المبدعين لا أكثر ولا أقل، أم تعبيراً عن الفراغ الذي تركه، والخواء الذي يعيشه المشهد الشعري، والاكتشاف المُتأخر لفرادة صوته ومشروعه الفني الذي تبلور في قصيدة النثر؟
ويجد جعفر أنه في محطته التالية، يكتب رياض الصالح الحسين كل قصائد ديوانه الأول «خراب الدورة الدموية» 1979م، إضافة لكتابة الكثير من المقالات والزوايا والحوارات الصحفية مع شعراء غيره، وفي المحطة الثالثة ينتقل لدمشق ويصدر ديوانين شعريين «أساطير يومية»1980م و«بسيط كالماء واضحٌ كطلقة مسدس»1982م، وكان قبل رحيله قد انتهى من إعداد ديوانه الرابع «وعلٌ في الغابة» الذي صدر عن وزارة الثقافة سنة 1983م ليكون ديوانه الأخير. حيث طبعت كتبه أكثر من مرة ولاقت استقبالاً واسعاً من القراء وحفاوة نقدية كبيرة.
«عندما تكونين حزينة
يحزن معك النهر والزورق
أشجار الصفصاف والدوري الرمادي
الجبل ومصباح الغرفة
حتى ذئاب البراري المتوحشة
حتى الذئاب
تدفن رؤوسها في الرمال وتبكي»
علي الرّاعي
في ذكرى رحيله
منهم من يكون في أقصى مغارب الأرض، والآخر يكون في أقصى شرقها، في جنوبها، أم في شمالها؛ ثمة تقاطعات بين بضعة من المبدعين، على…