عمر شهريار - زمن الرواية".. حين يصبح النوع ديكتاتورا

"ليس النقد حقلا بريئا، ولم يكن كذلك أبدا"
تيري إيجلتون


لم يكن جابر عصفور أول من أطلق مقولة "زمن الرواية"، فقد سبقه، على سبيل المثال، محسن الموسوي الذي أطلق هو الآخر مقولته "عصر الرواية"، فضلا عن العديد من المقولات التي ذهبت في اتجاهات مضادة لهما، شكليا على الأقل، مثل زمن الشعر أو زمن القصة القصيرة، أو زمن الدراما التليفزيونية، إلى آخر هذه المقولات، التي تبدو، لو توقفنا فقط عند تنافرها السطحي، تقوض بعضها بعضا، لكنها، في أية قراءة تتجاوز السطوح، تنطلق من بنية واحدة، وأعني بنية التراتب الهرمي الهيراركي، وواحدية النوع المسيطر على غيره من الأنواع.
على أي حال، فإن مقولة عصفور كانت الأكثر انتشارا وذيوعا، والتي تبدو، في سطحها أيضا، أنها تفجير للتراث الأدبي والنقدي العربي الذي كان يعتبر الشعر ديوان العرب وعلمهم الذي لا علم لهم غيره، كما ذهب ابن سلام الجمحي. وفي الحقيقة فإن مقولة الجمحي تم مركزتها باعتبارها التراث النقدي، وأهدرت في سبيل ذلك العديد من المقولات والتوجهات النقدية التي تهدمها وتتناقض معها تناقضا جذريا، فلم يكن موقف الجمحي هو الموقف المعتمد للتراث النقدي كله، بل بالأحرى يمكننا أن نقول، بدرجة ما من الاطمئنان، إننا لا نملك تراثا نقديا واحدا، بل تراثات متباينة إلى درجة التناطح، فأين، مثلا، مقولة أبي حيان التوحيدي "في الشعر ظل النثر وفي النثر ظل الشعر" بل أين نضـع الجاحـظ الذي قرأ النـثر بالقـدر ذاته الذي قرأ به الشـعر في " البيان والتبيين"؟ بل ذهب أحد النقاد إلى القول إن "المنثور في كلام العرب أشرف من المنظوم"(1) مع ما للشرف في الثقافة العربية من قداسة اجتماعية، كما أكد حازم القرطاجني أيضا أن" صناعة الشعر تستعمل يسيرا من الأقوال الخطابية، كما أن الخطابة تستعمل يسيرا من الأقوال الشعرية، لتعتضد المحاكاة في هذه بإقناع، والإقناع في تلك بالمحاكاة"(2) . تعددت، إذن، المقاربات النقدية التراثية لمشكل الأنواع الأدبية، بين تفضيل الشعر عند بعض النقاد، وتفضيل النثر عند آخرين، وإزالة الفواصل بينهما عند فريق ثالث، فلم يكن النقاد القدامى صوتا واحدا بل أصوات متقاطعة في كثير من الأحايين، ولكن يبدو أن ثمة رغبة ما لدى بعض النقاد المحدثين في إنتاج المعارك القديمة، مع إهمال واضح لبعض جوانب ذلك التراث، ربما ليخايلوا بأن شيئا جديدا يقال.
وبغض النظر عن مدى منهجية "زمن الرواية" من عدمها، والتي قيل فيها الكثير "كتابة تستهلك اللغة، وتضفي على نثار الأفكار العادية، أو المرتجلة، هالة من المهابة المصطنعة أو الجدة المفتعلة، بفعل لغة إنشائية رنانة، ويقين قاطع جازم كيقين الأنبياء"(3) وبغض النظر، أيضا، عن كون المقولة توهم بأنها ثورة على التراتبات الطبقية المرتبطة بالتراتبات الأدبية والتي كانت سائدة –حسب تصوره المنقوص- في التراثات النقدية المهدرة "وانطوت علاقات التراتب بين الأنواع الأدبية على هذه المكانة الاجتماعية للشعر والشاعر، فوضعت الشعر على رأس الإنواع الأدبية، والشاعر في أعلى درجات سلم الأدباء، حيث تقترن القيمة الأدبية بالمكانة الاجتماعية، وأنزلت الأنواع الأدبية المغايرة منازل أدنى في تراتب هابط، وضع القص والقصاص في أدنى درجات السلم الأدبي والاجتماعي على السواء. وساد هذا التضاد عصور التراث الأدبي العربي."(4) فرغم إدراكه لهذا الاقتران بين تراتبية الأنواع الأدبية وبين التراتبية الاجتماعية فإنه لم يبتعد كثيرا عن إعادة إنتاج التراتبية ذاتها وبالآلية ذاتها، عبر مركزة نوع وتهميش أنواع أخرى، فالزمن الآني يجب أن يكون زمن الرواية، ولتذهب بقية الأنواع إلى جحيم الإقصاء والنسيان، فالمهم أن يكون لدينا نوع متسيد على غيره من الأنواع، قد يكون الشعر حينا، أو القصة القصيرة أو الرواية، ولكننا لا نستطيع أن نحيا بعيدا عن ديكتاتورية النوع.
وكما توهم مقولة عصفور بثورتها على التراث، فإنها توهم، في الوقت ذاته، بأنها مقولة إبستمولوجية بحتة، تجابه مقولات إبستمولوجية، قديمة أو محدثة، تختلف معها وتناقضها، بيد أنه لا وجود للإبستمولوجي بعيدا عن الأيديولوجي والسياسي الذي يسعى بدأب للهيمنة على المعرفي ويسيطر عليه ابتغاء توجيهه وتوظيفه لخدمة مصالحه البعيدة والاستراتيجية، فلا نستطيع تجاهل أن "الهيمنة كانت النقطة الأولى، وأحيانا الوحيدة ، المسجلة على جدول أعمال كل حركة سياسية أو دينية، بل كل قوة اجتماعية تطمح إلى السيطرة السياسية أو تريد الحفاظ عليها. ومن هنا تلك العلاقة العضوية بين الصراع الأيديولوجي والصدام الأبستمولوجي في الثقافة العربية"(5) فهذه المقولة، ليست ما يقوله ظاهرها فقط، بقدر ما يوجد هناك، في مكان سحيق في باطنها، ما يظل مطمورا ومخفيا، وهذا المطمور هو الأكثر خطورة "فالخطاب الظاهر، ليس في نهاية المطاف سوى الحضور المانع لما لا يقوله؟ وهذا الما لا يقال هو باطن يلغم، ومن الداخل، كل ما يقال"(6) وإذا كان ظاهر المقولة هو نفي وتدمير الطابع التراتبي للأنواع الأدبية، فإن الباطن، وللمفارقة، هو تكريس هذه التراتبات، مع تغيير من يجلس على كرسي الحكم الأدبي، ولكنها، في نهاية المطاف تلح على كوننا لا نستطيع الاستغناء عن الديكتاتور النوعي؛ أيا كان اسم الديكتاتور (رواية- شعر – قصة- مسرح) فلابد لنا من ديكتاتور نسير وراءه ونقدسه، ويصبح الزمن زمنه، والعصر عصره، والمكان مكانه. وليس المسكوت هنا عنه متعلقا، فقط، بالديكتاتور المتعالي والمفارق، بل يعيد إنتاج مبدأ الثنائيات المهيمنة على العقل العربي منذ قرون (7) ( السيد/العبد_ الحاكم/المحكوم – السماء/ الأرض- الأبيض/الأسود- العرب/الموالي – المسلم/الكافر- الشعر/النثر... وهكذا) فهذه المقولات، تعيد، من ثم، مركزة أحد طرفي الثنائية، وفي الوقت ذاته، تسعى، بدأب، نحو إزاحة الطرف الآخر وإبعاده إلى ركن قصي من المشهد، دون أن تقتله تماما، فهي تحتفظ به ابتغاء الحفاظ على الشكل الديكوري لوجود الآخر المختلف. فهذه التراتبات، في الأخير، تمتلك أدوات ديمومتها وانتشارها، بحيث لا يمكن هدمها، وتسمح فقط، بإعادة تغيير أشكالها، ولكنها تظل- على المستوى البنيوي- فاعلة وبعمق، ولعل هذا ما لاحظه- وياللمفارقة- جابر عصفور الذي يقول: " وإذا كان التراتب الأدبي لعلاقات الأنواع الأدبية هو الوجه الآخر للتراتب الاجتماعي للعلاقات الاجتماعية، ين الطوائف والطبقات، فإن هذا التراتب بوجهيه الأدبي والاجتماعي، كان يصون نفسه مما يهدده ويحمي كيانه من أية محاولة لتغييره أو تعديله في مستوياته الاجتماعية والأدبية. ولذلك تحول إلى تراتب قمعي يفرض احترامه الاتباعي على أبناء المجتمع الذي ينتسب إليه وعلى ثقافته في الوقت نفسه"(8).
فالرجل يعي أن هذه التراتبات تحمي كيانها وتصون نفسها، كما يعي أنها تتحول إلى تراتب قمعي، ولكن طموحه، على ما يبدو، كان موجها، فقط، نحو محاولة "تغيير وتعديل" طبيعة هذه التراتبية، وليس إلى محاولة تقويضها من داخلها وتدميرها. وهنا تحديدا تكمن الأدلجة والوظيفة السياسية للنقد، الذي لم يكن أبدا حقلا بريئا بتعبير إيجلتون، بل تحول، بشـكل أو بآخر، إلى جزء من الأجهزة الأيديولوجيـة للدولة - حسب اصطلاح ألتوسير- والتي تعمل على إعادة إنتاج أيديولوجيتها عبر الخطابات المعرفية المتباينة، إذ يصبح الخطاب النقدي، منبنيا بواسطة أيديولوجية الدولة من ناحية، ومن ناحية أخرى يعيد هو بناء هذه الأيديولوجية. فالأمر، إذن، أقرب إلى التشييد والتشييد المضاد، فكل منهما يساهم في بناء الآخر، وتدعيم وجوده، فالأنظمة السياسية والأيديولوجية والاجتماعية، تساهم عبر طرائق، خفية حينا ومعلنة حينا، في تشييد الخطابات المعرفية (النقدية في هذه الحالة) وفق مصالحها الخاصة، وهذه الأخيرة تساهم، بشكل واع أو غير واع، في إعادة تكريس الأنظمة السياسية والأيديولوجية والاجتماعية السائدة بما يضمن للمعرفي الاعتراف به كخطاب صالح للتداول "وبسبب الحاجة الماسة إلى إدماج طبقات جديدة وأجزاء من طبقات في الوحدة الثقافية، ومن أجل إنجاز إجماع على ذوق اجتماعي محدد وبناء تقاليد مشتركة ونشر عادات موحدة الطابع، يصبح النقد واحدا من نقاط الارتكاز في الطقم الكامل للمؤسسات الأيديولوجية" (9).
فالنقد، إذن، نقطة ارتكاز في في الطقم الكامل للمؤسسات الأيديولوجية، وفي سبيل تمرير هذه الأيديولوجيات فإنه كثيرا ما يتمسح بمسوح العلمية، كي يخفي أدلجته ومؤسسيته، التي عجن بواستطها، فكثيرا ما يصر الخطاب النقدي، وكهنته المعتمدون، على التأكيد على أن "النقد العلمي يقول" هذه المقولة التي تخفي كهنوتية لا يضارعها سوى مقولة "الإسلام يقول"، فيتساوى الخطابان في بنيتهما السلطوية التي تراوغ لطمس كهنوتيتها وقمعيتها، والأخطر إخفاء كونها خطابات السلطة التي تسمح بتمريرها لتأكيد دعائمها. رغم أن النقد والإسلام كليهما، لا يقولان، فهما حمالا أوجه، بل نحن الذين نقول عادة، وربما دائما، ما يتناغم مع السلطة التي ننطق بلسانها. فالنقد، كنشاط دنيوي أرضي، يتشابه مع الخطاب الديني الأصولي، بوصفهما معا يمثلان جزءا من "سلسلة من المؤسسات الثانوية المساعدة التي تؤدي وظيفة أيديولوجية، بصورة مباشرة، وتعنى بتعريف المعايير الأدبية ] والدينية[ والقيم الافتراضية ونشرها بين الناس"(10) . فالخطابان ينطلقان من الاحتماء وراء مصدر مفارق (الدين والعلم) لتدعيم أركان نظام ما. وفي حالة الخطاب النقدي الذي نحن بصدده، تكون استعارة الاستبداد من الحقل السياسي، وإعادة غرسه في التربة الأدبية، عبر التأكيد على ديكتاتورية نوع أدبي ( الرواية في هذه الحالة) واستبداديته، ومن ثم تصير هذه الاستبدادية جزءا من وعينا بالعالم وتعاطينا معه، فتغدو مكونا رئيسيا من مكونات وعينا التي لا نستطيع نفضها بسهولة، بوصفها قيمة من قيمنا الافتراضية، بعد أن يتم "نشرها بين الناس".
ولعل الاستعانة بعدد من الأرقام الخاصة بجائزة "نوبل"(11) والتأكيد على كونها ذهبت إلى روائيين أكثر مما ذهبت إلى شعراء، ومن ثم الاستعانة بإحصاء لإضفاء صفة الحقيقة على ما يراه عصفور، وهنا تأكيد ثان على التمسح بمسوح العلمية، لأننا أولا لا نعرف لماذا نوبل بالذات، كما أن الاعتماد على فكرة الجوائز، في ذاتها، هو فعل سلطوي، فكأن الجائزة ترتبط وجودا وعدما مع المشروعية، وكأن خطاب الجائزة هو خطاب الحقيقة، التي استند عليها، كي تأخذ مقولته طابع " الحقيقة" بدورها، وهذه الآلية تنطوي على كثير من المغالطة، فضلا عن التعتيم على آلية الإكراه التي استخدمها في توظيف المعلومات لصالح خطابه، الذي يوظف بدوره لصالح الوعي الواحدي الاستبدادي، الذي لا يؤمن بالتعدد والتجاور، فالحاكم واحد والنوع واحد، وأية محاولة لنقض هذه البديهية المزعومة، هي محاولة لنقض "الحقيقة" والخروج على "العلم"، الذي يستدعي اتهام الخارج عليهما بـ "الجهل"، وهذه هي الاستراتيجية التي تضمرها مثل هذه الخطابات لتأبيد خطابها، الذي يولد بوصفه "خطاب السلطة" وسرعان ما يمتلك بدوره "سلطة الخطاب" القامع، ومن ثم فإن تعرية هذه الخطابات وكشف عن خوائها الموحش يستدعي تيقظا قرائيا دائما، كما يستدعي ألا نكف أبدا عن "البحث عن الروابط والاقترانات بين آليات الإكراه وعناصر المعرفة، وكيف أن عنصرا معرفيا يمكن أن تكون له آثار سلطوية، وكيف أن إكراها يمكن أن يستعير شكلا عقليا، محسوبا وناجعا وتقنيا"(12) . والآثار السلطوية، هنا، ليست محض آثار جانبية دائما، بل أحيانا ما تكون هي الأصل والغرض الرئيس، عبر انطلاق الخطاب المعرفي من "الإبستيمة"(13) المهيمنة على حقبة بعينها، والتي تمثل قوة لا يمكن أن ينفلت منها أي خطاب بسهولة، وحتى إذا جازف خطاب ما بالخروج عن الطريق الذي رستمه له هذه الإبستيمة، فإن مصيره سيكون المحاصرة والمنع الرهيف، فهي لا تسمح بالانتشار والذيوع إلا للخطابات التي تنطلق منها وتتوافق معها وتعيد إنتاجها، حيث "إن النظرية في العلم لا يعترف بها في عصرها إذا لم تتوافق مع إجماع القوة في المؤسسات والأجهزة الرسمية للعلم" (14).


الهوامش:
1- يحي ابن حمزة العلوي، الطراز: المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، مطبعة المقتطف، القاهرة 1914، الجزء الأول ص34.
2- حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الثالثة، بيروت 1986، ص 293.
3- رفعت سلام، بحثا عن الشعر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية، الطبعة الأولى، القاهرة2010، ص432.
4- جابر عصفور، زمن الرواية، مكتبة الأسرة، الطبعة الثانية، القاهرة2000، ص104.
5- محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، بيروت1988، ص6،7.
6- ميشال فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، بيروت-الدار البضاء1989، ص25.
7- للتعرف على مبدأ الثنائيات ومدى تجذره في وعينا العربي، يراجع، على سبيل المثال، زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، دار الشروق، الطبعة التاسعة، القاهرة1993، ص274 وما بعدها.
8- جابر عصفور، زمن الرواية، ص106.
9- تيري إيجلتون، النقد والأيديولوجية، ترجمة فخري صالح، المجلس الأعلى للثقافة، الطبعة الأولى، القاهرة2005، ص37.
10- المرجع نفسه، ص81.
11- راجع جابر عصفور، زمن الرواية، مصدر سابق، ص27 وما بعدها.
12- السيد ولد أباه، التاريخ والحقيقة لدى ميشال فوكو، دار المنتخب العربي، الطبعة الأولى، بيروت1994، ص179.
13- للتعرف على مفهوم الإبستيمة يراجع ميشال فوكو، حفريات المعرفة، مرجع سابق، ص176 وما بعدها.
14- رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، (ترجمة وتقديم جابر عصفور)، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، القاهرة1991، ص169.


عمر شهريار
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...