دخل حمزة إلى السوق يسير بين أمواج بشرية متلاطمة، يحمل تحت إبطه الأيسر أطباقا مزينة بخيوط ملونة بألوان العلم الوطني، تشكلت على حوافيها زهرات جميلة، وعلى كتفه الأيمن المائل قليلا نحو الأسفل رزمة من أشياء تقليدية، وهو يجول و يتنقل من مكان إلى مكان، ومن حين إلى حين يرفع صوته يبلغ الناس خبر وفاة الحاج معروف: " سمعكم الله خيرا يا أهل السوق، الحاج معروف رحمه الله، و الجنازة بعد العصر في جبّانة سيدي بوعزيز."
و أحيانا يغير النّداء، فيهتز له الناس أكثر من الأول:
" سمعكم اللّه خيرا الحاج معروف مات، والعاقبة للذي بعده، والجنازة بعد العصر."
وفي حركته بين الأمواج البشرية، يستوقفه شخص، يحاول أن يصحح له العبارة التي ينادي بها و يلقنه عبارة أخرى، فيردّ عليه وهو يسير:
- لماذا تخافون من الحقيقة يا بشر؟ أتريدون أن تزيفوا كل شيء حتى الموت ؟!. أنتم هكذا بني البشر ، منكم من يفرح لموت خصمه، لكنّه يخفي فرحته. لماذا يزعجكم خبر الموت ؟ و يفرحكم خبر المولود الجديد؟ أليست هي سنة اللّه في الحياة ؟ بلى هي كذلك، كما يفرح الإنسان بالمولود، لا محالة سيبكي عليه ذلك المولود في يوم ما ، هذه سنة اللّه في خلقه، إنها عدالة السّماء.
الحاج معروف فرح مرارا بولادة أبنائه. هاهم اليوم يبكون عليه، هذا إن كان بكاؤهم حقيقة. لأن البكاء على الميت أحيانا يكون مزيّفا، فالذي يبكي حقيقة، هو من يبكي على نفسه، كل الناس يبكون على أنفسهم، يبكون على فرطوا في حق الله، حتى فرعون بكى على نفسه عندما أحس بالموت ، الذين يبكون بقلوبهم على أبائهم، هم نحن الفقراء، لأننا نبكي فراق الأبوة ، أما عدانا فمنهم - وليس كلهم- من يبكي ظاهرا ويفرح باطنا.
يواصل حمزة سيره وسط الازدحام، لا يلوي على شيء وهو يهذي، و يعيد ويكرر، لو بقي الحاج معروف مريضا طريح الفراش مشلول الحركة، لا يقوى على قضاء حاجته الفطرية بنفسه، يتمنى له أبناؤه الموت رحمة به؛ أو ربما يرمونه في دار العجزة، وما الفرق بين من يدفن في جبانة المسلمين؛ و من يدفن في دار العجزة حيا، شخص مثل هذا، يتمنى الموت الطبيعي، ويدفنه أبناؤه في الجبانة، ويقيمون له مراسيم جنازة حاشدة، يحضرها القاصي والداني، فتلك أرحم له من دفنه في دار العجزة، فالموت في هذه الحالة يكون رحمة له.
يجول حمزة في السوق، وهو لا يزال يبلغ عن الجنازة؛ أحيانا ينادي، وأحيانا يتوقف مع الفضوليين يتحدث معهم، و أحيانا يهتم ببيع شيء مما يحمله من أغراض.
بقي حمزة على هده الحال إلى أن انفض السوق، و جمع البائعون سلعهم وخلا السوق من المتسوقين، ذهب رأسا إلى نزل الوحات حيث زبائنه من السواح الذين لا يبخلون عليه بشراء بضاعته، و يجد فيهم الشفقة والعطف، خصوصا من السواح الألمان والسويسريين، والبلجيكيين ، بعد نفاد سلعته رجع إلى بيته وقلبه معلق بالمأتم يتعجل مرور الوقت، ليحضر مراسيم الدفن.
بعد صلاة العصر كان حمزة أول من حضر إلى بيت الحاج معروف فجلس على فراش بُسِطَ في باحة واسعة من الدار الكبيرة، وبدأ الرجال يتوافدون على المكان أفرادا وجماعات، و في لحظات قليلة امتلأ المكان ، فتشكلت منهم حلقة واسعة توسطهم حمزة في قشابيته البنية، و على رأسه طاقية بيضاء، يخاله من لا يعرف حالَه إنه من كبار الحفاظ أو سيد من السادة، صورته يلفت إليه الانتباه.
رفع الحاضرون أصواتهم يتلون سورة ياسين، وحمزة معهم يرفع عقيرته مع نهاية كل آية فيها مد.
و عندما حان الوقت، رفعت الجنازة على الأكتاف و سير بها إلى المقبرة، في موكب جنائزي حاشد مهيب، فانقسم المشيعون إلى مجموعات، كل مجموعة تلهج بما تحفظه من أذكار، و حمزة يتنقل من مجموعة إلى مجموعة، يردد ما يلهجون به من ذكر وتكبير ودعاء، فمرة يكون مع المجموعة المتقدمة، التي تنشد بردة البصيري، ومرة يكون في المؤخرة يرفع صوته بالتهليل والتكبير، وإذا أحس بفتور انتاب المشيعين ، رفع صوته عاليا ولعابه يتطاير فيصيب به أحيانا من كان قريبا منه، وهو يحث الناس على التهليل و الإنشاد، خصوصا إذا قابله شخص ملتح يلبس لباسا قصيرا، فيقترب منه ويزيد في رفع صوته بالتكبير والتهليل وأحينا ينشد البردة ليغيظه.........
استمر المشهد في صوره المتنوعة،إلى أن وصل الحشد المتدفق إلى المقبرة، حيث أقيمت صلاة الجنازة، ومباشرة بعد الصلاة جلس فريق منهم في أماكنهم يقرؤون سورة يــــس، وقد اختلطت القراءة الصحيحة بالقراءة الخاطئة، وجماعة أخرى وقفوا على القبر يشهدوا الدفن ويقرأون سورة الدخان، والباقي تفرقوا في المقبرة اثنين وثلاثة وأربعة، يتبادلون الحديث في أمور تخصهم وتخص حياتهم المادية. وبعضهم وقف على مراقد أقربائه يترحم ويدعو، والقليل جلسوا فرادى يتأملون مشاهد القبور ليعتبروا و يستحضرون مشاهد مآلهم.
وعندما تمت مراسيم الدفن و قف حمزة في الصف مع أهل الميت يتلقى العزاء من المشيعين، ثم خرج مسرعا من المقبرة وذهب يطوف على أصحابه المنتشرين في الأركان الخفية من المدينة، يخبرهم عن وليمة العشاء التي سيفتح الله بها عليهم في هذه الليلة، فلا يتعبون أنفسهم في نبش القمامات للبحث عن فضلات الطعام التي يرميها الناس .
بعد انقضاء صلاة العشاء، يمم حمزة شطر منزل الحاج معروف مع حزابة المساجد لافتداء الحاج معروف، فيمحوا عنه سيئاته وذنوبه إذا كانت عنده سيئات و ذنوب، إنه حظ عظيم أن يجتمع عدد كبير من القراء جاؤوا من عدة مساجد، عدد لم يجتمع في جنازة قبلها،إنها لعاقبة ميمونة، عدد القارئين فاق مائة وعشرين قارئا، أربع ختمات ستقرأ على الحاج معروف، فضلا على الطعام الذي سيأكله القراء، ويتوزع على الفقراء، لا شك أن كل من حضر إلى الفدية سيدعو له بالرحمة، و سيشفع له القرآن الذي قرأه الفقهاء، هذا ما تعتقده الحاجة زوليخة، تلك المرأة الوفية لزوجها، أبت على نفسها إلا أن تقيم لزوجها ثلاث فديات متواليات، رغم أنف أبنائها الذين ينكرون الفدية، التي سيقرأها الرجال الملاح، ولماذا لا تفعل ذلك ؟ المال ماله وهذا هو اليوم الذي ينفع فيه المال.
وزع القائمون على الفدية أجزاء المصاحف على الجالسين، أعطى قائد الحلقة إشارة التلاوة، التي بدأها بقراءة الفاتحة، ثم استقل كل واحد بتلاوة جزئه بالطريقة التي تناسبه، وعلى الطريقة التي حفظ بها، وليتمكن كل واحد من ربح السباق، والفراغ من قراءة الجزء في الوقت المناسب، أو ربما ليظهر أمام القراء أنه من الحفاظ الماهرين، فكان يقرأ من كل صفحة نصفها، وينتقل إلى الصفحة الموالية، وبعضهم يقرأ من كل حزب ربعه أو نصفه، فلا ترى إلا الشفاه تتحرك، ولا يُسمع من القراءة إلا همهمة وطنينا كطنين النحل، ولا يُفهم من القراءة شيئا.
وبعد عشرين دقيقة، جمع المشرفون الأجزاء من أيدي القراء، ولم تبق إلا الأجزاء التي بأيدي من يقرأون قراءة هادئة وصحيحة، لكنَّ شيخ القراء لم يمهلهم يكملون ما تبقى لهم، فرفع صوته بتلاوة سورة الزلزلة، وما بعدها تلاوة جماعية، ختمت بدعاء ختم القرآن، ثم رفع الجميع أصواتهم بإنشاد الدعاء المشهور" طلبتك يا رب بأسرار البسملة، ذلك الدعاء الذي يحفظه الخاص والعام.
مباشرة تحلق الحاضرون مجموعات متساوية، يتوسط كل مجموعة خوان وقبل حضور الأكل، دخلت كل مجموعة في حديث بعيد عن جو المأتم، يتبادلون المداعبات ونكت الولائم، وفي لحظات قصيرة حضرت قصاع الكسكسى فوقها كتل من اللحم.
وبعد الطعام و غسل الأيدي وزعوا على الحاضرين البسكويت والفول السوداني في أكياس بلاستيكية، ثم انصرف الجميع وهم يترحمون على الميت، كل بطريقته الخاصة.
في هذه اللحظات التي يغادر فيها المدعوون ساحة المأتم ، تقدم حمزة إلى العزري أكبر أبناء الحاج معروف، و قبل أن ينطق بكلمة فهمه وفهم مراده ، فقام من توه ودخل إلى البيت ثم رجع ومعه أربعة شبان، اثنان يحملان قِدرا متوسط الحجم مملوءا مرقا، والآخران يحمل كل واحد منهما قصعة عامرة بالكسكسى و على كل قصعة قطعة كبيرة من اللحم، وُضع الكل على عربة اكتراها حمزة لحمل ما يجود به أهل المأتم.
وقبل أن يغادر حمزة المكان قال للعزري: ثق يا سيدي أن هذين القصعتين هما ما سيصل إلى روح والدك، فيخففان عنه في قبره، تبرم العزري وامتعض ، لكنه بلعها وجعل نفسه لم يسمع، ثم أردف حمزة يقول: ما أكله القراء وأتباعهم لا ينفع، لأنهم جاؤوا رياء ونفاقا وتقربا للأحياء لا تقربا لله وبعضهم جاء للأكل فقط، ابتعد عنه العزري خطوات، وجعل نفسه مهتما بشيء آخر لئلا يتمادى حمزة في هذيانه، لا يريد أن يسمع منه أكثر مما سمع.
تحركت العربة ببطء يجره الحمار في الاتجاه الذي حدده حمزة، أخذ الحوذيُ الشاب يلهب ظهر الحمار بالسوط، ليزيد في السرعة، ويضاعف الضرب يحث الحمار على المقاومة، إذا نزلت عجلة في حفرة من حفر الطريق الهشمة، أو واجه عقبةً، و كلما رأى حمزة ذلك، عتب عليه ليكف عن ضرب الحيوان الأخرس، وبطريقة غير مباشرة يؤنبه وفي نفس الوقت يعيره: لماذا البشر قساة هكذا ؟ لا يرحمون حتى من يعينهم على عيشهم، لولا هذا الحمار يا أخي ما وجدتني وما وجدت غيري لتفتك منه ثمن الخبز الذي تأكله، الظاهر إنك إذا شبعت ستستعيض عنه بجرار ثم تقتني شاحنة، وإذا شبعت يتحول سوطك من ظهر الحمار، إلى ظهور العباد، لأن من اكتسب عادة التصقت به وأصبحت جزءا منه، فمن كانت طبيعته القسوة فلا ينفك عنها أبدا،فكلما أتيحت له الفرصة استعمل قسوته، ومن يقسو على الحيوان لا يرحم الإنسان.
رد عليه السائق: في هذه أنت مخطيء يا حمزة، ربما اختلطت عليك الأمور، ربما هذا يصدق على عالمنا البدوي، أما العالم الآخر انقلبت فيه الصورة فالحيوان عندهم أفضل من الإنسان.
- لا أنا على صواب و لم أجانبه، هذه هي الحقيقة،الإنسان هو الإنسان، كل البشر كانوا بدو. يُطعمون الكلاب والقطط اللحم، ويسرقون قوت البشر. ألم تسمع أن بعض البشر يسهرون على تطبيب القطط والكلاب في أرقى المستشفيات، ويدفعون الأموال لتفجير المدارس و الآمنين في بيوتهم، ليسقطوا االحكام الذين ينتقدونهم، ويمنعونهم من صيد جميلات و طيور بلدانهم.
- ذهبت بعيدا يا حمزة قد اختلط على الناس معنى الإنسانية.
- بالطبع يختلط عليهم الأمر، لأن من يدافعون على الإنسانية و حقوق الإنسان هم أنفسهم من يدمر الإنسان في العراق و الصومال وسوريا و اليمن.
وصلت العربة إلى محطة سيارات الأجرة، فنزل حمزة و أخرج من القفة صحنا ملأه كسكسا، و وضع فوقه أربع قطع لحما، ثم أخرج غرفية ملأها مرقا، حمل الصحن بكف و الغرفية بكف، ثم اتجه نحو زاوية من زوايا محطة سيارات الأجرة، وضع الطعام بين أربع أشخاص، وعاد أدراجه سريعا دون أن يتكلّم بكلمة، ركب العربة، أومأ للسائق أن يتّوجه إلى محطة نقل المسافرين، تحرّكت العربة، واصلت طريقها في الاتجاه المرسوم، وفي الطريق سأله السائق لمن أعطيت الطعام؟ لا شك للمسافرين, ردّ عليه: المسافرون لا يستأهلون منّي أن أنقل إليهم الطعام، و لا أدفع من أجلهم ثمن كراء عربتك، فإذا أطعمنا المسافرين فمن أين يعيش أصحاب محلات الأكل الخفيف؟ الطعام أعطيته لحرّاس هذا الجناح من المدينة ....... لا تعتقد أنّهم حرّاس المحلات والمتاجر، إنهم حرّاس وبدون مقابل إنهم وجه المدينة، هم الذين يفضحون المسؤولين و الأعيان .
كلام غريب لا أفهمه،هم حراس لكنّهم لا يحرسون المحلاّت؛ ماذا يحرسون إذًا ؟ وهم وجه المدينة يفضحون المسؤولين و الأعيان؛ كيف ذلك ؟ ألغاز في ألغاز .
لا ألغاز و لا هم يحزنون بل هي الحقيقة، أنتم لا تفهمون إلا بالحسابات النفعية المباشرة، دعني أقول لك كيف يحرسون:
هؤلاء يحرسون هذا الجناح من الجن و العفاريت، كل من دخل في حمى هؤلاء، لا تستطيع الجن و لا العفاريت أن تمسّه بسّوء، لأنه دخل في لطف الله و رحمته و لولاهم لهلكنا الله بأفعالنا.
أما كيف يفضحون المسؤولين والأعيان ؟ وجود أمثال هؤلاء المشرّدين في المدينة، يدل على عجز المسؤولين، ويبين تقصيرهم في حق المجتمع، لأنهم مشغلون بنهب خيراته، و يدل أيضا أن أعيان المدينة متواطئون مع المسؤولين، وجود هؤلاء مظهر من مظاهر الإفلاس، فإذا خلت المدينة من هؤلاء ؛ معناه أن الدولة راشدة تهتم بشعبها، ألا تعلم إنّه إذا قرّر مسؤول كبير زيارة المدينة جمعوا المشرّدين و المجانين و حشروهم في مكان واحد، كما تحشر البهائم والأنعام في الزرائب, وزينوا له المدينة و جمّلوها تجميلا مزيفا،حتى تصبح كالمومس التي تنتظر الزبائن المخدوعين بجمالها.
وعندما تنتهي الزيارة يزول ذلك الجمال المزيف، و تتحوّل المدينة إلى عجوز شمطاء مارست الدعارة في شبابها وكهولتها، ويعود المشردون إلى الشوارع كما كانوا فالداخل إلى المدينة، بهؤلاء المشرّدين يعرف حقيقتها و حقيقة كبارها.
و الله صدقت يا حمزة حياتنا أصبحت كلها زائفة، حتى ممارسة القيم دخلت هي الأخرى في سوق المزايدة و المتاجرة و الزيف من فعل فاحشة أو ظلم نفسه بنهب المال العام يكفيه أن يدخل تحت برنوس شيخ بايعوه على المشوي وتلاوة طقوس الغفران، إذا عانقه تنمحي عنه كل الشبهات، و يخرج نظيفا كنظافة الشيخ نفسه.
بدأت الآن تفهم .... في الحقيقة كل الناس فاهمون، لكن الدنيا أعمت أبصارهم عن الحقيقة.
وصلت العربة إلى محطة نقل المسافرين،نزل حمزة و فعل مثل ما فعل في محطة سيارات الأجرة، لكن هذه المرة ملأ صحنين بدلا من صحن واحد، حمل حمزة صحنا وغرفية المرق، و حمل الحوذي صحنا ثانيا و بمجرد وصولهما إلى المكان انقسم المشرّدون إلى مجموعتين،وتحلّقوا حلقتين دون أن ينطق واحد منهم بكلمة كأنهم خرس، وضع حمزة صحنا وسط مجموعة وصحنا آخر وسط مجموعة ثانية. و وضع الغرفية بين المجموعتين ثم انصرف وتركهم، و من خلقه صاحب العربة يسأل نفسه عن طبيعة هؤلاء الذين أعطاهم حمزة الطعام: أولئك حراس المدينة وهؤلاء ما شأنهم؟.
انطلقت العربة و واصلت طريقها و في الطريق سأل صاحب العربة حمزة عن هؤلاء المشرّدين، وكيف عرفهم ؟ ولماذا لم يتكلموا بكلمة واحدة ؟ أهم خرس ؟ أجابه حمزة: هم لا يتكلّمون لأنهم ملّوا الكلام و كرهوه، ففضّلوا السكوت لئلا يكذبون على الناس،و لا ينمقوا الكلام لتزوير الحقائق وتزكية التزييف ، أما كيف عرفتهم فلا غرابة أن أعرف أمثال هؤلاء،لأنني مثلهم، لولا العجوز أمي تحتضنني لكنت مشردا مثلهم .
تسأل عن هؤلاء من هم؟ نعم منظرهم و حالهم يدعوان للتساؤل، يا أخي هؤلاء وأمثالهم كثير في مدننا و قرانا؛منهم من أنفق عمره في المدارس والجامعات، و عندما امتلأ دماغه بالنظريات،وشبع بالقوانين و حقوق الإنسان و حرية الرّأي، و حشا دماغه بالأخلاق والقيم و حب الوطن، ثم نزل إلى الحياة الحقيقية، ليطبق ما حفظه، و آمن به أصطدم بأن الحياة تسير بطريقة تناقض مع ما تعلمه، فلم يجد لا قانون و لا عدالة و لا حرية و لا أخلاق.
وعندما حاول أن ينسجم مع الواقع،و يسير على نقيض ما اعتقده،وآمن به، لم يستطع أن يوفق بين هذا و ذاك، و لم يسمح له ضميره أن يقع في وحل النفاق ... والانتهازية، ولما حاول أن يقول الحقيقة لتصحو الضمائر، لم يستطع فعل شيء، فاتهمه الناس بالعجز، ونعتوه بالغباء والجهل، فانسحب من الميدان مهموما، وشعر أنه ضيع عمره في أمور تافهة، لا تنفعه و لا تنفع مجتمعه، و لما تملكه الإحباط ولم يستطع هضم ما يشاهده ويراه ، صار إلى ما ترى.
هؤلاء الذين رأيتهم انعزلوا الحياة و طلقوها طلاقا بائنا، و التزموا الصمت، هؤلاء فيهم المهندس و الطبيب و الأستاذ الصادق، و التاجر الأمين العامل المخلص وسترى آخرين،لكنهم عندما رفعوا أصواتهم بالنهي عن المنكر، حكم عليهم المجتمع بالجنون فاتخذهم الناس سخرية.
سكت حمزة ، تنهد صاحب العربة تنهيدة عميقة،واصلت العربة طريقها في الشارع العريض الوحيد الذي نجا من الحفر،و قد خلا هذه الساعة من الراجلين، الذين كانوا قبل ساعات يقطعونه جيئة وذهابا، و هدأت حركة مرور السيارات والعربات والشاحنات التي كانت تسد المنافذ وتعوق السير، و تلوث البيئة بهدير محركاتها النافثة للأدخنة، في هذا الشارع وجد الحمار سهولة في جر العربة فزاد من سرعته التي كان يريدها السائق بدون استعمال السوط.
علق حمزة قائلا: أنظر إلى الحمار عندما وجد الطريق ممهدا أزداد خفة،كذلك هذا الشعب المسكين لو مهدت له طرق العيش، وخلت من الحفر البشيرية لصنع المعجزات.
بعد لحظات توقفت العربة أمام باب المقبرة، أخذ حمزة من القفة صحنا كبيرا ملأه كسكسا، و غرفية ملأها مرقا، ثم و دخل بها إلى المقبرة،رجع مسرعا أشار إلى السائق أن يواصل الطريق إلى المقبرة الثانية، التي لا يفصلها عن الأولى سوى سور قصير و لا تبعد عن بابها إلا بأمتار، في الحقيقة هي مقبرة واحدة، لكن عقلية الأحياء انتقلت إلى المقبرة، فقسمتها إلى مقبرتين و إلى مجموعات وحارات و عروش.
وقفت العربة أمام باب المقبرة الثانية، تناول حمزة من القفة صحنا آخر أفرغ فيه ما تبقى من الطعام، و غرفية صب فيها ما تبقى من مرق، ثم استل من جيبه خمسين دينارا دفعها إلى صاحب العربة، وهو يقول: هذا ثمن الشعير والعلف تعويضا لتعب الحمار الذي ليس له أجر غير هذا،أما أنت فأجرك على الله، لأنك قمت بعمل جليل لا يقوم به إلا الخيرون من هذا الشعب،وأحسب أنك منهم دون أن تشعر بأنك شريف، لكنني أوصيك خيرا بهذا الحمار، أرجع بالقصعتين والقدرين إلى دار الميت بارك الله فيك.
- و أنت ؟
- لا تهتم بي، سأنتظر الجماعة حتى ينتهوا من الأكل، ثم أعود لأجمع المواعين و أرجع بها إلى البيت.
- سأنتظرك .
- لا تتعب نفسك، سيطول بي المقام مع الجماعة إلى الصبح إنها ليلة الندوة، أمانة، فالمواعين أمانة يجب أن ترجع إلى أهلها اليوم وشكرا .
أطرق السائق رأسه إلى الأرض ثم قال : فيها خير، ثم ركب عربته وساق الحمار، و هو يعجب مما رأى و سمع وطفق يحدث نفسه: كيف لهذا المعتوه أن يفكر هذا التفكير الذي لا تجده إلا عند الفلاسفة?! يهتم بهؤلاء المشردين والمجانين، كنا نعتقد أن هذا العمل يقوم به العقلاء الأفاضل من الناس، فأين الدولة ؟ أين الجمعيات الخيرية ؟ لا تسمع عنها إلا في المناسبات، أين الهلال الأحمر؟ أين الأئمة و الوعاظ، أين أفعالهم، من فعل هذا المعتوه لا يستطيع أن يقوم به واعظ في مسجد،عجبا والله! لقد صدق حمزة عندما قال هؤلاء حراس المدينة، بفضلهم ندخل في لطف الله و رحمته لولاهم لهلكنا، لا أكون مخطئا إذا قلت أن الفلاسفة يأخذون أفكارهم من أفواه المعتوهين، و قديما قيل: خذوا الحكمة من أفواه المجانين. كل جملة نطق بها حمزة تحتاج إلى محاضرة في الجامعة، ثم واصل طريقه إلى دار العزاء كما طلب منه حمزة.
دخل حمزة بالطعام إلى المقبرة و توجه به إلى المصلى المغطى القريب من الباب، فوجد الدراويش متحلقين ينظر بعضهم إلى في صمت رهيب، فوضع بين أيديهم الأكل، ثم عمد إلى مصباح يدوي، فشغله ثم ثبَّته على لبنة إسمنتية كبيرة، وقبل أن يجلس بين المجموعة، التفت إلى اليمين وقال السلام عليكم يا أهل الديار الخالدة، وأنغمس الجميع في لقم الطعام و حمزة ينظر إليهم فيهم من يأكل بالملعقة، ومنهم يلقم بيده، وأثناء ذلك لا تسمع إلا عبارات الشكر و الحمد و الدعاء بالرحمة والمغفرة للميت، و تتكرر الدعوات مع كل لقمة، و رنين الملاعق تصطدم بحوافي الصحن الحديدي .
و بعد لحظات رفع الدراويش أيديهم عن الأكل، و نفضوها من حبات الكسكسي، ولعقوا أصابعهم ولحسوا ما تبقى في الصحن و الغرفية من أثر الطعام، و التقطوا ما سقط على الأرض.
نظر حمزة إلى الأرض، ثم رفع رأسه: اليوم ما تركتم شيئا للنمل والحشرات يا جماعة!.
ردت عليه عراسة التي جاءت تزور الدراويش هي الأخرى، و تحضر الندوة الأسبوعية: يا حمزة نمل الجبانة و حشراتها، لا تحتاج إلى الفضلات، فهي تشبع من الأجساد التي تسكن في الجبانة كل يوم ينزل فيها ضيف جديد.
- صدقت يا خالة عراسة، هذا مصير كل مخلوق، و مآل كل جبار على الأرض هذه هي دار العدل و المساواة.
تزحزح قنَّارة إلى الوراء، و لف جسمه بالبطنية التي على ظهره: نعم العدل و المساواة لا يتجسدان و لا يتحققان إلا في هذه الديار، لكننا لا نرى العدل كاملا إلا عندما نلتحق بهم، هات المصباح، أدار بومدين المصباح يمينا وشمالا وسلط نوره على القبور وهو يخاطب حمزة: أنظر إلى القبور، تمعن في أشكالها جيدا ، هل هي متشابهة ؟ هل هي متناسقة ؟ لا شك ستقول لي لماذا هي غير متشابهة وغير متناسقة؟سأقول لك لماذا: كانت الجبانة هي المكان الوحيد الذي يتساوى فيه كل شيء، لكن صلف الإنسان وأنانيته،و تأثير الحياة المادية فيه،أراد الإنسان الحي أن يمحو مظاهر الفناء من أمام عينيه،فملأ الجبانة أزهارا و ورودا، و شيد قبورها بالرخام والخزف، لِيُلهي نفسه ويمتعها، في اللحظات التي يضطر فيها للدخول إلى الجبانة، هذه الزخرفة و البناء على القبور اتخذها الأحياء كالحبوب المسكنة، تنسيهم التفكير في مصائرهم بعض اللحظات .
ابتسم النخلة ابتسامة عريضة كشفت عن أسنانه الناصعة:
- هؤلاء الذين تتحدثون عنهم، قتلوا العدل و المساواة في حياتهم و في علاقاتهم، وصمموا أن يقتلوه أيضا في الجبانة، فمظهر الجبانة اليوم هو صورة لمظهر حياتهم، كان الشخص إذا دخل إلى الجبانة تأخذه رهبة و سكينة، وترتعد فرائسه، ويهتز كيانه، فترعبه مناظر القبور، فتعيده إلى توازنه الروحي، أما الآن فأصبحت الجبانة كمقهى من المقاهي، يجتمع فيها الناس لقضاء عادة من العادات. انظروا إلى القبور.ثم أخذ المصباح اليدوي من يد بومدين، وأدار نوره من اليمين إلى اليسار، و عاد يقول: قبور مستوية مع الأرض، قبور مرتفعة عن الأرض وقبور مشيدة بالرخام والخزف، وقبور سكانها معروفون و قبور أهلها مجهولون،يعني أن هذه القبور ترمز إلى حياة الناس وتباينهم.
استوقفه الأستاذ الروجي، هكذا يناديه الناس لتطرفه اليساري أيام كان يشار إليه بالأصابع، وهو الذي شاب في تربية الأجيال، ثم لفظته الحياة، فأنضم إلى هذه الفئة المباركة و أخذ يشرح الحال كأنه في قسم مع تلاميذ النهائي: هناك من أراد بنيته أن يغير عقلية المجتمع ويطور أفكارهم، ويخلصهم من براثن التخلف، لكنه لم يتعب نفسه في البحث عن مناهج التغيير، فعمد إلى سرقة مناهج الآخرين، وما سرقه لم يحسن استغلاله، فأبعد الناس عن أصولهم، ولم يلحقهم بالآخرين، فمثله كمثل ذلك الدب الذي أراد أن يخلص صاحبه من بعوضة وقعت على رأسه تمص دمه، فهشم رأسه بحجر شفقة عليه، أو كالغراب الذي أراد أن يتعلم مشية الحجل، فضيع مشيته، هذا حال نخبتنا التي بيدها الحل والعقد. انظروا أين تنفق الأموال، إنها تنفق في التزويق الخارجي، و تهديم البناء الداخلي، حالنا – يا جماعة- تحولت إلى مظاهر زائفة، تقودها عقلية بدوية بأساليب غربية، التفت إليه قنارة وهو يمط شفتيه كيف ذلك؟
- الأساليب الغربية غزت أدمغتنا بالمظاهر الخداعة، فشكلت سلوكاتنا في لباسنا وأكلنا ومتاعنا، فصارت آلياتنا متمدنة،أما تصرفاتنا و سلوكاتنا فبقيت بدوية،ومن البداوة السلبية. لأن بداوة أجدادنا كانت عنوانا للشجاعة والكرم،والوفاء،أما بداوة اليوم فهي زيف ونفاق واحتيال.
وقف مجوجة يهدر كما يهدر جمل هائج أثخنته الجراح، ثم جلس وهو يقول: يا أخي الروجي، لم يبق في العالم شعب متحضر، وشعب بدوي كل الشعوب عادت إلى البداوة، إنها بداوة ليست كما تظنون، ليست بداوة الكرم والمروءة والشجاعة، والصدق والوفاء، إنها بداوة السفه والجهل والأنانية.
سكت الجميع فجأة،و وجم المكان إلا من أصوات الصراصير،أخذ حمزة يجمع المواعين، و يضعها في القفة، و هو يقول: أيها الأحباب لا تتركوا إخوانكم في غفلتهم نائمين، قولوا لهم الحقيقة، لا تسكتوا عنها، كلامكم أيها الدراويش والمجانين، يزلزل كياناتهم، ويصعقهم كالكهرباء. أنتم تعلمون أن الخالة عراسة إذا وقفت أمام البلدية يرتعد منها أعضاء المجلس البلدي، فيهربون من الأبواب الخلفية، و تخيف رئيس الدائرة أكثر مما تخيفه مظاهرة حاشدة، فكونوا جميعا مثل الخالة عراسة. ثم وضع القفة على كتفه، و عاد أدراجه يجمع مواعينه التي تركها عند كل مجموعة من المجموعات التي زارها في هذه الليلة.
و أحيانا يغير النّداء، فيهتز له الناس أكثر من الأول:
" سمعكم اللّه خيرا الحاج معروف مات، والعاقبة للذي بعده، والجنازة بعد العصر."
وفي حركته بين الأمواج البشرية، يستوقفه شخص، يحاول أن يصحح له العبارة التي ينادي بها و يلقنه عبارة أخرى، فيردّ عليه وهو يسير:
- لماذا تخافون من الحقيقة يا بشر؟ أتريدون أن تزيفوا كل شيء حتى الموت ؟!. أنتم هكذا بني البشر ، منكم من يفرح لموت خصمه، لكنّه يخفي فرحته. لماذا يزعجكم خبر الموت ؟ و يفرحكم خبر المولود الجديد؟ أليست هي سنة اللّه في الحياة ؟ بلى هي كذلك، كما يفرح الإنسان بالمولود، لا محالة سيبكي عليه ذلك المولود في يوم ما ، هذه سنة اللّه في خلقه، إنها عدالة السّماء.
الحاج معروف فرح مرارا بولادة أبنائه. هاهم اليوم يبكون عليه، هذا إن كان بكاؤهم حقيقة. لأن البكاء على الميت أحيانا يكون مزيّفا، فالذي يبكي حقيقة، هو من يبكي على نفسه، كل الناس يبكون على أنفسهم، يبكون على فرطوا في حق الله، حتى فرعون بكى على نفسه عندما أحس بالموت ، الذين يبكون بقلوبهم على أبائهم، هم نحن الفقراء، لأننا نبكي فراق الأبوة ، أما عدانا فمنهم - وليس كلهم- من يبكي ظاهرا ويفرح باطنا.
يواصل حمزة سيره وسط الازدحام، لا يلوي على شيء وهو يهذي، و يعيد ويكرر، لو بقي الحاج معروف مريضا طريح الفراش مشلول الحركة، لا يقوى على قضاء حاجته الفطرية بنفسه، يتمنى له أبناؤه الموت رحمة به؛ أو ربما يرمونه في دار العجزة، وما الفرق بين من يدفن في جبانة المسلمين؛ و من يدفن في دار العجزة حيا، شخص مثل هذا، يتمنى الموت الطبيعي، ويدفنه أبناؤه في الجبانة، ويقيمون له مراسيم جنازة حاشدة، يحضرها القاصي والداني، فتلك أرحم له من دفنه في دار العجزة، فالموت في هذه الحالة يكون رحمة له.
يجول حمزة في السوق، وهو لا يزال يبلغ عن الجنازة؛ أحيانا ينادي، وأحيانا يتوقف مع الفضوليين يتحدث معهم، و أحيانا يهتم ببيع شيء مما يحمله من أغراض.
بقي حمزة على هده الحال إلى أن انفض السوق، و جمع البائعون سلعهم وخلا السوق من المتسوقين، ذهب رأسا إلى نزل الوحات حيث زبائنه من السواح الذين لا يبخلون عليه بشراء بضاعته، و يجد فيهم الشفقة والعطف، خصوصا من السواح الألمان والسويسريين، والبلجيكيين ، بعد نفاد سلعته رجع إلى بيته وقلبه معلق بالمأتم يتعجل مرور الوقت، ليحضر مراسيم الدفن.
بعد صلاة العصر كان حمزة أول من حضر إلى بيت الحاج معروف فجلس على فراش بُسِطَ في باحة واسعة من الدار الكبيرة، وبدأ الرجال يتوافدون على المكان أفرادا وجماعات، و في لحظات قليلة امتلأ المكان ، فتشكلت منهم حلقة واسعة توسطهم حمزة في قشابيته البنية، و على رأسه طاقية بيضاء، يخاله من لا يعرف حالَه إنه من كبار الحفاظ أو سيد من السادة، صورته يلفت إليه الانتباه.
رفع الحاضرون أصواتهم يتلون سورة ياسين، وحمزة معهم يرفع عقيرته مع نهاية كل آية فيها مد.
و عندما حان الوقت، رفعت الجنازة على الأكتاف و سير بها إلى المقبرة، في موكب جنائزي حاشد مهيب، فانقسم المشيعون إلى مجموعات، كل مجموعة تلهج بما تحفظه من أذكار، و حمزة يتنقل من مجموعة إلى مجموعة، يردد ما يلهجون به من ذكر وتكبير ودعاء، فمرة يكون مع المجموعة المتقدمة، التي تنشد بردة البصيري، ومرة يكون في المؤخرة يرفع صوته بالتهليل والتكبير، وإذا أحس بفتور انتاب المشيعين ، رفع صوته عاليا ولعابه يتطاير فيصيب به أحيانا من كان قريبا منه، وهو يحث الناس على التهليل و الإنشاد، خصوصا إذا قابله شخص ملتح يلبس لباسا قصيرا، فيقترب منه ويزيد في رفع صوته بالتكبير والتهليل وأحينا ينشد البردة ليغيظه.........
استمر المشهد في صوره المتنوعة،إلى أن وصل الحشد المتدفق إلى المقبرة، حيث أقيمت صلاة الجنازة، ومباشرة بعد الصلاة جلس فريق منهم في أماكنهم يقرؤون سورة يــــس، وقد اختلطت القراءة الصحيحة بالقراءة الخاطئة، وجماعة أخرى وقفوا على القبر يشهدوا الدفن ويقرأون سورة الدخان، والباقي تفرقوا في المقبرة اثنين وثلاثة وأربعة، يتبادلون الحديث في أمور تخصهم وتخص حياتهم المادية. وبعضهم وقف على مراقد أقربائه يترحم ويدعو، والقليل جلسوا فرادى يتأملون مشاهد القبور ليعتبروا و يستحضرون مشاهد مآلهم.
وعندما تمت مراسيم الدفن و قف حمزة في الصف مع أهل الميت يتلقى العزاء من المشيعين، ثم خرج مسرعا من المقبرة وذهب يطوف على أصحابه المنتشرين في الأركان الخفية من المدينة، يخبرهم عن وليمة العشاء التي سيفتح الله بها عليهم في هذه الليلة، فلا يتعبون أنفسهم في نبش القمامات للبحث عن فضلات الطعام التي يرميها الناس .
بعد انقضاء صلاة العشاء، يمم حمزة شطر منزل الحاج معروف مع حزابة المساجد لافتداء الحاج معروف، فيمحوا عنه سيئاته وذنوبه إذا كانت عنده سيئات و ذنوب، إنه حظ عظيم أن يجتمع عدد كبير من القراء جاؤوا من عدة مساجد، عدد لم يجتمع في جنازة قبلها،إنها لعاقبة ميمونة، عدد القارئين فاق مائة وعشرين قارئا، أربع ختمات ستقرأ على الحاج معروف، فضلا على الطعام الذي سيأكله القراء، ويتوزع على الفقراء، لا شك أن كل من حضر إلى الفدية سيدعو له بالرحمة، و سيشفع له القرآن الذي قرأه الفقهاء، هذا ما تعتقده الحاجة زوليخة، تلك المرأة الوفية لزوجها، أبت على نفسها إلا أن تقيم لزوجها ثلاث فديات متواليات، رغم أنف أبنائها الذين ينكرون الفدية، التي سيقرأها الرجال الملاح، ولماذا لا تفعل ذلك ؟ المال ماله وهذا هو اليوم الذي ينفع فيه المال.
وزع القائمون على الفدية أجزاء المصاحف على الجالسين، أعطى قائد الحلقة إشارة التلاوة، التي بدأها بقراءة الفاتحة، ثم استقل كل واحد بتلاوة جزئه بالطريقة التي تناسبه، وعلى الطريقة التي حفظ بها، وليتمكن كل واحد من ربح السباق، والفراغ من قراءة الجزء في الوقت المناسب، أو ربما ليظهر أمام القراء أنه من الحفاظ الماهرين، فكان يقرأ من كل صفحة نصفها، وينتقل إلى الصفحة الموالية، وبعضهم يقرأ من كل حزب ربعه أو نصفه، فلا ترى إلا الشفاه تتحرك، ولا يُسمع من القراءة إلا همهمة وطنينا كطنين النحل، ولا يُفهم من القراءة شيئا.
وبعد عشرين دقيقة، جمع المشرفون الأجزاء من أيدي القراء، ولم تبق إلا الأجزاء التي بأيدي من يقرأون قراءة هادئة وصحيحة، لكنَّ شيخ القراء لم يمهلهم يكملون ما تبقى لهم، فرفع صوته بتلاوة سورة الزلزلة، وما بعدها تلاوة جماعية، ختمت بدعاء ختم القرآن، ثم رفع الجميع أصواتهم بإنشاد الدعاء المشهور" طلبتك يا رب بأسرار البسملة، ذلك الدعاء الذي يحفظه الخاص والعام.
مباشرة تحلق الحاضرون مجموعات متساوية، يتوسط كل مجموعة خوان وقبل حضور الأكل، دخلت كل مجموعة في حديث بعيد عن جو المأتم، يتبادلون المداعبات ونكت الولائم، وفي لحظات قصيرة حضرت قصاع الكسكسى فوقها كتل من اللحم.
وبعد الطعام و غسل الأيدي وزعوا على الحاضرين البسكويت والفول السوداني في أكياس بلاستيكية، ثم انصرف الجميع وهم يترحمون على الميت، كل بطريقته الخاصة.
في هذه اللحظات التي يغادر فيها المدعوون ساحة المأتم ، تقدم حمزة إلى العزري أكبر أبناء الحاج معروف، و قبل أن ينطق بكلمة فهمه وفهم مراده ، فقام من توه ودخل إلى البيت ثم رجع ومعه أربعة شبان، اثنان يحملان قِدرا متوسط الحجم مملوءا مرقا، والآخران يحمل كل واحد منهما قصعة عامرة بالكسكسى و على كل قصعة قطعة كبيرة من اللحم، وُضع الكل على عربة اكتراها حمزة لحمل ما يجود به أهل المأتم.
وقبل أن يغادر حمزة المكان قال للعزري: ثق يا سيدي أن هذين القصعتين هما ما سيصل إلى روح والدك، فيخففان عنه في قبره، تبرم العزري وامتعض ، لكنه بلعها وجعل نفسه لم يسمع، ثم أردف حمزة يقول: ما أكله القراء وأتباعهم لا ينفع، لأنهم جاؤوا رياء ونفاقا وتقربا للأحياء لا تقربا لله وبعضهم جاء للأكل فقط، ابتعد عنه العزري خطوات، وجعل نفسه مهتما بشيء آخر لئلا يتمادى حمزة في هذيانه، لا يريد أن يسمع منه أكثر مما سمع.
تحركت العربة ببطء يجره الحمار في الاتجاه الذي حدده حمزة، أخذ الحوذيُ الشاب يلهب ظهر الحمار بالسوط، ليزيد في السرعة، ويضاعف الضرب يحث الحمار على المقاومة، إذا نزلت عجلة في حفرة من حفر الطريق الهشمة، أو واجه عقبةً، و كلما رأى حمزة ذلك، عتب عليه ليكف عن ضرب الحيوان الأخرس، وبطريقة غير مباشرة يؤنبه وفي نفس الوقت يعيره: لماذا البشر قساة هكذا ؟ لا يرحمون حتى من يعينهم على عيشهم، لولا هذا الحمار يا أخي ما وجدتني وما وجدت غيري لتفتك منه ثمن الخبز الذي تأكله، الظاهر إنك إذا شبعت ستستعيض عنه بجرار ثم تقتني شاحنة، وإذا شبعت يتحول سوطك من ظهر الحمار، إلى ظهور العباد، لأن من اكتسب عادة التصقت به وأصبحت جزءا منه، فمن كانت طبيعته القسوة فلا ينفك عنها أبدا،فكلما أتيحت له الفرصة استعمل قسوته، ومن يقسو على الحيوان لا يرحم الإنسان.
رد عليه السائق: في هذه أنت مخطيء يا حمزة، ربما اختلطت عليك الأمور، ربما هذا يصدق على عالمنا البدوي، أما العالم الآخر انقلبت فيه الصورة فالحيوان عندهم أفضل من الإنسان.
- لا أنا على صواب و لم أجانبه، هذه هي الحقيقة،الإنسان هو الإنسان، كل البشر كانوا بدو. يُطعمون الكلاب والقطط اللحم، ويسرقون قوت البشر. ألم تسمع أن بعض البشر يسهرون على تطبيب القطط والكلاب في أرقى المستشفيات، ويدفعون الأموال لتفجير المدارس و الآمنين في بيوتهم، ليسقطوا االحكام الذين ينتقدونهم، ويمنعونهم من صيد جميلات و طيور بلدانهم.
- ذهبت بعيدا يا حمزة قد اختلط على الناس معنى الإنسانية.
- بالطبع يختلط عليهم الأمر، لأن من يدافعون على الإنسانية و حقوق الإنسان هم أنفسهم من يدمر الإنسان في العراق و الصومال وسوريا و اليمن.
وصلت العربة إلى محطة سيارات الأجرة، فنزل حمزة و أخرج من القفة صحنا ملأه كسكسا، و وضع فوقه أربع قطع لحما، ثم أخرج غرفية ملأها مرقا، حمل الصحن بكف و الغرفية بكف، ثم اتجه نحو زاوية من زوايا محطة سيارات الأجرة، وضع الطعام بين أربع أشخاص، وعاد أدراجه سريعا دون أن يتكلّم بكلمة، ركب العربة، أومأ للسائق أن يتّوجه إلى محطة نقل المسافرين، تحرّكت العربة، واصلت طريقها في الاتجاه المرسوم، وفي الطريق سأله السائق لمن أعطيت الطعام؟ لا شك للمسافرين, ردّ عليه: المسافرون لا يستأهلون منّي أن أنقل إليهم الطعام، و لا أدفع من أجلهم ثمن كراء عربتك، فإذا أطعمنا المسافرين فمن أين يعيش أصحاب محلات الأكل الخفيف؟ الطعام أعطيته لحرّاس هذا الجناح من المدينة ....... لا تعتقد أنّهم حرّاس المحلات والمتاجر، إنهم حرّاس وبدون مقابل إنهم وجه المدينة، هم الذين يفضحون المسؤولين و الأعيان .
كلام غريب لا أفهمه،هم حراس لكنّهم لا يحرسون المحلاّت؛ ماذا يحرسون إذًا ؟ وهم وجه المدينة يفضحون المسؤولين و الأعيان؛ كيف ذلك ؟ ألغاز في ألغاز .
لا ألغاز و لا هم يحزنون بل هي الحقيقة، أنتم لا تفهمون إلا بالحسابات النفعية المباشرة، دعني أقول لك كيف يحرسون:
هؤلاء يحرسون هذا الجناح من الجن و العفاريت، كل من دخل في حمى هؤلاء، لا تستطيع الجن و لا العفاريت أن تمسّه بسّوء، لأنه دخل في لطف الله و رحمته و لولاهم لهلكنا الله بأفعالنا.
أما كيف يفضحون المسؤولين والأعيان ؟ وجود أمثال هؤلاء المشرّدين في المدينة، يدل على عجز المسؤولين، ويبين تقصيرهم في حق المجتمع، لأنهم مشغلون بنهب خيراته، و يدل أيضا أن أعيان المدينة متواطئون مع المسؤولين، وجود هؤلاء مظهر من مظاهر الإفلاس، فإذا خلت المدينة من هؤلاء ؛ معناه أن الدولة راشدة تهتم بشعبها، ألا تعلم إنّه إذا قرّر مسؤول كبير زيارة المدينة جمعوا المشرّدين و المجانين و حشروهم في مكان واحد، كما تحشر البهائم والأنعام في الزرائب, وزينوا له المدينة و جمّلوها تجميلا مزيفا،حتى تصبح كالمومس التي تنتظر الزبائن المخدوعين بجمالها.
وعندما تنتهي الزيارة يزول ذلك الجمال المزيف، و تتحوّل المدينة إلى عجوز شمطاء مارست الدعارة في شبابها وكهولتها، ويعود المشردون إلى الشوارع كما كانوا فالداخل إلى المدينة، بهؤلاء المشرّدين يعرف حقيقتها و حقيقة كبارها.
و الله صدقت يا حمزة حياتنا أصبحت كلها زائفة، حتى ممارسة القيم دخلت هي الأخرى في سوق المزايدة و المتاجرة و الزيف من فعل فاحشة أو ظلم نفسه بنهب المال العام يكفيه أن يدخل تحت برنوس شيخ بايعوه على المشوي وتلاوة طقوس الغفران، إذا عانقه تنمحي عنه كل الشبهات، و يخرج نظيفا كنظافة الشيخ نفسه.
بدأت الآن تفهم .... في الحقيقة كل الناس فاهمون، لكن الدنيا أعمت أبصارهم عن الحقيقة.
وصلت العربة إلى محطة نقل المسافرين،نزل حمزة و فعل مثل ما فعل في محطة سيارات الأجرة، لكن هذه المرة ملأ صحنين بدلا من صحن واحد، حمل حمزة صحنا وغرفية المرق، و حمل الحوذي صحنا ثانيا و بمجرد وصولهما إلى المكان انقسم المشرّدون إلى مجموعتين،وتحلّقوا حلقتين دون أن ينطق واحد منهم بكلمة كأنهم خرس، وضع حمزة صحنا وسط مجموعة وصحنا آخر وسط مجموعة ثانية. و وضع الغرفية بين المجموعتين ثم انصرف وتركهم، و من خلقه صاحب العربة يسأل نفسه عن طبيعة هؤلاء الذين أعطاهم حمزة الطعام: أولئك حراس المدينة وهؤلاء ما شأنهم؟.
انطلقت العربة و واصلت طريقها و في الطريق سأل صاحب العربة حمزة عن هؤلاء المشرّدين، وكيف عرفهم ؟ ولماذا لم يتكلموا بكلمة واحدة ؟ أهم خرس ؟ أجابه حمزة: هم لا يتكلّمون لأنهم ملّوا الكلام و كرهوه، ففضّلوا السكوت لئلا يكذبون على الناس،و لا ينمقوا الكلام لتزوير الحقائق وتزكية التزييف ، أما كيف عرفتهم فلا غرابة أن أعرف أمثال هؤلاء،لأنني مثلهم، لولا العجوز أمي تحتضنني لكنت مشردا مثلهم .
تسأل عن هؤلاء من هم؟ نعم منظرهم و حالهم يدعوان للتساؤل، يا أخي هؤلاء وأمثالهم كثير في مدننا و قرانا؛منهم من أنفق عمره في المدارس والجامعات، و عندما امتلأ دماغه بالنظريات،وشبع بالقوانين و حقوق الإنسان و حرية الرّأي، و حشا دماغه بالأخلاق والقيم و حب الوطن، ثم نزل إلى الحياة الحقيقية، ليطبق ما حفظه، و آمن به أصطدم بأن الحياة تسير بطريقة تناقض مع ما تعلمه، فلم يجد لا قانون و لا عدالة و لا حرية و لا أخلاق.
وعندما حاول أن ينسجم مع الواقع،و يسير على نقيض ما اعتقده،وآمن به، لم يستطع أن يوفق بين هذا و ذاك، و لم يسمح له ضميره أن يقع في وحل النفاق ... والانتهازية، ولما حاول أن يقول الحقيقة لتصحو الضمائر، لم يستطع فعل شيء، فاتهمه الناس بالعجز، ونعتوه بالغباء والجهل، فانسحب من الميدان مهموما، وشعر أنه ضيع عمره في أمور تافهة، لا تنفعه و لا تنفع مجتمعه، و لما تملكه الإحباط ولم يستطع هضم ما يشاهده ويراه ، صار إلى ما ترى.
هؤلاء الذين رأيتهم انعزلوا الحياة و طلقوها طلاقا بائنا، و التزموا الصمت، هؤلاء فيهم المهندس و الطبيب و الأستاذ الصادق، و التاجر الأمين العامل المخلص وسترى آخرين،لكنهم عندما رفعوا أصواتهم بالنهي عن المنكر، حكم عليهم المجتمع بالجنون فاتخذهم الناس سخرية.
سكت حمزة ، تنهد صاحب العربة تنهيدة عميقة،واصلت العربة طريقها في الشارع العريض الوحيد الذي نجا من الحفر،و قد خلا هذه الساعة من الراجلين، الذين كانوا قبل ساعات يقطعونه جيئة وذهابا، و هدأت حركة مرور السيارات والعربات والشاحنات التي كانت تسد المنافذ وتعوق السير، و تلوث البيئة بهدير محركاتها النافثة للأدخنة، في هذا الشارع وجد الحمار سهولة في جر العربة فزاد من سرعته التي كان يريدها السائق بدون استعمال السوط.
علق حمزة قائلا: أنظر إلى الحمار عندما وجد الطريق ممهدا أزداد خفة،كذلك هذا الشعب المسكين لو مهدت له طرق العيش، وخلت من الحفر البشيرية لصنع المعجزات.
بعد لحظات توقفت العربة أمام باب المقبرة، أخذ حمزة من القفة صحنا كبيرا ملأه كسكسا، و غرفية ملأها مرقا، ثم و دخل بها إلى المقبرة،رجع مسرعا أشار إلى السائق أن يواصل الطريق إلى المقبرة الثانية، التي لا يفصلها عن الأولى سوى سور قصير و لا تبعد عن بابها إلا بأمتار، في الحقيقة هي مقبرة واحدة، لكن عقلية الأحياء انتقلت إلى المقبرة، فقسمتها إلى مقبرتين و إلى مجموعات وحارات و عروش.
وقفت العربة أمام باب المقبرة الثانية، تناول حمزة من القفة صحنا آخر أفرغ فيه ما تبقى من الطعام، و غرفية صب فيها ما تبقى من مرق، ثم استل من جيبه خمسين دينارا دفعها إلى صاحب العربة، وهو يقول: هذا ثمن الشعير والعلف تعويضا لتعب الحمار الذي ليس له أجر غير هذا،أما أنت فأجرك على الله، لأنك قمت بعمل جليل لا يقوم به إلا الخيرون من هذا الشعب،وأحسب أنك منهم دون أن تشعر بأنك شريف، لكنني أوصيك خيرا بهذا الحمار، أرجع بالقصعتين والقدرين إلى دار الميت بارك الله فيك.
- و أنت ؟
- لا تهتم بي، سأنتظر الجماعة حتى ينتهوا من الأكل، ثم أعود لأجمع المواعين و أرجع بها إلى البيت.
- سأنتظرك .
- لا تتعب نفسك، سيطول بي المقام مع الجماعة إلى الصبح إنها ليلة الندوة، أمانة، فالمواعين أمانة يجب أن ترجع إلى أهلها اليوم وشكرا .
أطرق السائق رأسه إلى الأرض ثم قال : فيها خير، ثم ركب عربته وساق الحمار، و هو يعجب مما رأى و سمع وطفق يحدث نفسه: كيف لهذا المعتوه أن يفكر هذا التفكير الذي لا تجده إلا عند الفلاسفة?! يهتم بهؤلاء المشردين والمجانين، كنا نعتقد أن هذا العمل يقوم به العقلاء الأفاضل من الناس، فأين الدولة ؟ أين الجمعيات الخيرية ؟ لا تسمع عنها إلا في المناسبات، أين الهلال الأحمر؟ أين الأئمة و الوعاظ، أين أفعالهم، من فعل هذا المعتوه لا يستطيع أن يقوم به واعظ في مسجد،عجبا والله! لقد صدق حمزة عندما قال هؤلاء حراس المدينة، بفضلهم ندخل في لطف الله و رحمته لولاهم لهلكنا، لا أكون مخطئا إذا قلت أن الفلاسفة يأخذون أفكارهم من أفواه المعتوهين، و قديما قيل: خذوا الحكمة من أفواه المجانين. كل جملة نطق بها حمزة تحتاج إلى محاضرة في الجامعة، ثم واصل طريقه إلى دار العزاء كما طلب منه حمزة.
دخل حمزة بالطعام إلى المقبرة و توجه به إلى المصلى المغطى القريب من الباب، فوجد الدراويش متحلقين ينظر بعضهم إلى في صمت رهيب، فوضع بين أيديهم الأكل، ثم عمد إلى مصباح يدوي، فشغله ثم ثبَّته على لبنة إسمنتية كبيرة، وقبل أن يجلس بين المجموعة، التفت إلى اليمين وقال السلام عليكم يا أهل الديار الخالدة، وأنغمس الجميع في لقم الطعام و حمزة ينظر إليهم فيهم من يأكل بالملعقة، ومنهم يلقم بيده، وأثناء ذلك لا تسمع إلا عبارات الشكر و الحمد و الدعاء بالرحمة والمغفرة للميت، و تتكرر الدعوات مع كل لقمة، و رنين الملاعق تصطدم بحوافي الصحن الحديدي .
و بعد لحظات رفع الدراويش أيديهم عن الأكل، و نفضوها من حبات الكسكسي، ولعقوا أصابعهم ولحسوا ما تبقى في الصحن و الغرفية من أثر الطعام، و التقطوا ما سقط على الأرض.
نظر حمزة إلى الأرض، ثم رفع رأسه: اليوم ما تركتم شيئا للنمل والحشرات يا جماعة!.
ردت عليه عراسة التي جاءت تزور الدراويش هي الأخرى، و تحضر الندوة الأسبوعية: يا حمزة نمل الجبانة و حشراتها، لا تحتاج إلى الفضلات، فهي تشبع من الأجساد التي تسكن في الجبانة كل يوم ينزل فيها ضيف جديد.
- صدقت يا خالة عراسة، هذا مصير كل مخلوق، و مآل كل جبار على الأرض هذه هي دار العدل و المساواة.
تزحزح قنَّارة إلى الوراء، و لف جسمه بالبطنية التي على ظهره: نعم العدل و المساواة لا يتجسدان و لا يتحققان إلا في هذه الديار، لكننا لا نرى العدل كاملا إلا عندما نلتحق بهم، هات المصباح، أدار بومدين المصباح يمينا وشمالا وسلط نوره على القبور وهو يخاطب حمزة: أنظر إلى القبور، تمعن في أشكالها جيدا ، هل هي متشابهة ؟ هل هي متناسقة ؟ لا شك ستقول لي لماذا هي غير متشابهة وغير متناسقة؟سأقول لك لماذا: كانت الجبانة هي المكان الوحيد الذي يتساوى فيه كل شيء، لكن صلف الإنسان وأنانيته،و تأثير الحياة المادية فيه،أراد الإنسان الحي أن يمحو مظاهر الفناء من أمام عينيه،فملأ الجبانة أزهارا و ورودا، و شيد قبورها بالرخام والخزف، لِيُلهي نفسه ويمتعها، في اللحظات التي يضطر فيها للدخول إلى الجبانة، هذه الزخرفة و البناء على القبور اتخذها الأحياء كالحبوب المسكنة، تنسيهم التفكير في مصائرهم بعض اللحظات .
ابتسم النخلة ابتسامة عريضة كشفت عن أسنانه الناصعة:
- هؤلاء الذين تتحدثون عنهم، قتلوا العدل و المساواة في حياتهم و في علاقاتهم، وصمموا أن يقتلوه أيضا في الجبانة، فمظهر الجبانة اليوم هو صورة لمظهر حياتهم، كان الشخص إذا دخل إلى الجبانة تأخذه رهبة و سكينة، وترتعد فرائسه، ويهتز كيانه، فترعبه مناظر القبور، فتعيده إلى توازنه الروحي، أما الآن فأصبحت الجبانة كمقهى من المقاهي، يجتمع فيها الناس لقضاء عادة من العادات. انظروا إلى القبور.ثم أخذ المصباح اليدوي من يد بومدين، وأدار نوره من اليمين إلى اليسار، و عاد يقول: قبور مستوية مع الأرض، قبور مرتفعة عن الأرض وقبور مشيدة بالرخام والخزف، وقبور سكانها معروفون و قبور أهلها مجهولون،يعني أن هذه القبور ترمز إلى حياة الناس وتباينهم.
استوقفه الأستاذ الروجي، هكذا يناديه الناس لتطرفه اليساري أيام كان يشار إليه بالأصابع، وهو الذي شاب في تربية الأجيال، ثم لفظته الحياة، فأنضم إلى هذه الفئة المباركة و أخذ يشرح الحال كأنه في قسم مع تلاميذ النهائي: هناك من أراد بنيته أن يغير عقلية المجتمع ويطور أفكارهم، ويخلصهم من براثن التخلف، لكنه لم يتعب نفسه في البحث عن مناهج التغيير، فعمد إلى سرقة مناهج الآخرين، وما سرقه لم يحسن استغلاله، فأبعد الناس عن أصولهم، ولم يلحقهم بالآخرين، فمثله كمثل ذلك الدب الذي أراد أن يخلص صاحبه من بعوضة وقعت على رأسه تمص دمه، فهشم رأسه بحجر شفقة عليه، أو كالغراب الذي أراد أن يتعلم مشية الحجل، فضيع مشيته، هذا حال نخبتنا التي بيدها الحل والعقد. انظروا أين تنفق الأموال، إنها تنفق في التزويق الخارجي، و تهديم البناء الداخلي، حالنا – يا جماعة- تحولت إلى مظاهر زائفة، تقودها عقلية بدوية بأساليب غربية، التفت إليه قنارة وهو يمط شفتيه كيف ذلك؟
- الأساليب الغربية غزت أدمغتنا بالمظاهر الخداعة، فشكلت سلوكاتنا في لباسنا وأكلنا ومتاعنا، فصارت آلياتنا متمدنة،أما تصرفاتنا و سلوكاتنا فبقيت بدوية،ومن البداوة السلبية. لأن بداوة أجدادنا كانت عنوانا للشجاعة والكرم،والوفاء،أما بداوة اليوم فهي زيف ونفاق واحتيال.
وقف مجوجة يهدر كما يهدر جمل هائج أثخنته الجراح، ثم جلس وهو يقول: يا أخي الروجي، لم يبق في العالم شعب متحضر، وشعب بدوي كل الشعوب عادت إلى البداوة، إنها بداوة ليست كما تظنون، ليست بداوة الكرم والمروءة والشجاعة، والصدق والوفاء، إنها بداوة السفه والجهل والأنانية.
سكت الجميع فجأة،و وجم المكان إلا من أصوات الصراصير،أخذ حمزة يجمع المواعين، و يضعها في القفة، و هو يقول: أيها الأحباب لا تتركوا إخوانكم في غفلتهم نائمين، قولوا لهم الحقيقة، لا تسكتوا عنها، كلامكم أيها الدراويش والمجانين، يزلزل كياناتهم، ويصعقهم كالكهرباء. أنتم تعلمون أن الخالة عراسة إذا وقفت أمام البلدية يرتعد منها أعضاء المجلس البلدي، فيهربون من الأبواب الخلفية، و تخيف رئيس الدائرة أكثر مما تخيفه مظاهرة حاشدة، فكونوا جميعا مثل الخالة عراسة. ثم وضع القفة على كتفه، و عاد أدراجه يجمع مواعينه التي تركها عند كل مجموعة من المجموعات التي زارها في هذه الليلة.