كنا، صاحبي وأنا، عند باب الحانة الإنكليزية لنلهو ونستأنس بما يتيحه المكان ورواده، والقوم، في يوم عطلة نهاية الأسبوع، ودلفنا حيث الروائح والسوائل والأطعمة والفراغات التي يتركها المواطنون فيحار فيها الغرباء، وثمة ما يسقط من اللغة أو يتعسر على غريب من لهجة أهل البلد وفقهها واختصاراتها وعادات تورياتها القاسية.
إنها حانة " TRANSIT" التي استهوتنا، مصادفة على زاوية شارع يتفرع من أشهر شوارع لندن (OXFORD STREET) وكان لاسم الحانة وقع مثير يتصل بنا، نحن العابرين، فترجمته "العابر".
قال صاحبي: لندخل! فدخلنا.
بالكاد عثرنا على كرسيين، فالحانات تزدحم يوم السبت/ ليلة الأحد بلندن، لكن البريطانيين لا يعبأون بالكراسي والطاولات، مثلنا، نحن العرب الذين نقرن "الجلسة/ القعدة" بالجلوس، فالناس هنا يمضون سهرتهم حتى الصباح وقوفاً، يتبادلون الأنخاب والقبل والفكاهات، في مثل هذه الحانات الشعبية التي هي بمثابة مقاهي المحلات الشعبية عندنا، مع الفارق الهائل في الشكل والمضمون، ومن يريد الأرقى والأبهى فليقصد المطاعم الأنيقة، الباهظة الكلفة.
لكزني صاحبي لافتاً انتباهي إلى سيدة جميلة في ثلاثينياتها المبكرة تجلس وحيدة تحتسي كأساً من النبيذ الأحمروعلبة دخان (قبل منع التدخين داخل المحلات العامة) عند شمعة صغيرة مشتعلة، بينما يجاورها كرسي خال.
جمعت ما بقي فيّ من همة ذكورية ورومانس عراقي معتق وحرّكت خيالي لأرسم صورة ما لهذه السيدة مع كل ما أسقطه من رغائب وأوهام وتخيلات حول شخصيتها الغريبة، فليس من المألوف، هنا والآن، أن تجلس سيدة جميلة في بواكير ثلاثينياتها إلى نفسها، وحيدة، مع كأس من النبيذ الأحمر الذي أضفت عليه شمعة صغيرة مضاءة لمعاناً كئيباً.. وسط هذا الزحام البريطاني الثمل.
قلت لصاحبي: لعلها تنتظر صديقاً، حبيباً، عشيقاً، أو مشروع علاقة حميمة ما، وهذا تبرير لجبن عربي إزاء اقتحامات من هذا النوع، فالبريطانيون، الشباب منهم خصوصاً، لا يترددون ولا يجبنون، فخلاصة ما تصل إليه الأمور، في مثل هذه الحالات لا يتعدى الاعتذار عما بدر عندما تعلمك امرأة ما، في مثل هذه المواقف أن: آسفة، أنا أنتظر صديق، مثلاً، لينتهي الأمر بسلام، بلا صفعات ولا صراخ ولا فضائح كما يحدث في مجتمعاتنا.
واصلت رسم سيناريو متعجل لسيدة جميلة تجلس وحيدة في حانة لندنية ليلة الأحد: لعلها وحيدة، مهجورة، تغالب مأساة صغيرة ألمت بها، وربما ستكون الدردشة معها ذات عمق رومانسي يفضي إلى قصة مثيرة لا تحدث إلا في أفلام السينما.
اقترب منها رجل أنيق، في مثل عمرها، ليستعير الكرسي الفارغ فرفضت بابتسامة إنكليزية لبقة وإن كانت جاهزة.
قلت لصاحبي: لعلها ربة بيت محترمة جاءت الحانة بعد شجار زوجي لتسترخي بكأس نبيذ أو أكثر ثم تغادر، هذا إذا لم يلحق بها زوج حريص ليعتذر ويكمّلا السهرة هنا أو في البيت.
اقترب منها رجل آخر وهو يحمل بيده كأس بيرة مستأذناً الجلوس فسمحت له، وقدمت له سيجارة من علبتها.. أشعل السيجارة وتبادلا بعض الجمل التي لا يمكن سماعها في جو صاخب وثمل ليلة السبت في حانة إنكليزية. قام الرجل الثاني من كرسيه وترك المرأة الجميلة بعد أن أطفأ سيجارته في منفضة زجاج كبيرة تتوسط الطاولة!
سألني صاحبي: ما رأيك؟
قلت وأنا أهم بالذهاب ناحيتها: لعلها طردته من مجلسها.
اقتربت منها محيياً، مستأذناً الجلوس فردت تحيتي بأحسن منها، ثم أردفت بعربية ركيكة: "السلام أليكم".
أنت تعرفين العربية قليلاً: نبرت متسائلاً. ردت: لا، لكنني أعرف هذه التحية العربية فقط.
شجعتني تحيتها العربية على أن أمضي في لعبتي لأنها مدخل مشجع إلى عالم امرأة تعرف التحية العربية.
حسناً، قلت، أنا عربي من العراق، شاعر وصحفي.
ردت بلباقة إنكليزية: خمنت أنك عربي، أو شرق أوسطي.. من صلعتك وشاربك وبشرتك وأنفك.
كنت أستبطن ما توحيه مهنتي من إثارة وما يولّده محياي من فضول: ألف ليلة وليلة والسندباد البحري و.. صدام حسين مع الأسف.
قلت: أنت وحيدة، فأحببت أجالسك.. ثم أردفت مخادعاً: وأنا وحيد.
ردت، وبالعربية أيضاً: "أخلاً وسخلاً".
خمنت أن المرأة توفرت على تجربة عربية ما تجعلها موضع احترام ثقافي وحياتي عميق، سيتيح حواراً دافئاً بين عالمين مختلفين وربما سينفتح على آفاق غير متوقعة ومآرب يحققها متآمر عراقي غير تقليدي.
لمحت صاحبي من مجلسي فكان ينظر باتجاهنا بترقب واضح، لكنه مثير للسخرية.
قلت لها مختصراً الوقت والجهد واللغة: عرفيني بنفسك.. من أنت؟
ردت من دون أي تردد، وبالعربية: أنا شرموتا يا خبيبي!
* عن تاتوو
إنها حانة " TRANSIT" التي استهوتنا، مصادفة على زاوية شارع يتفرع من أشهر شوارع لندن (OXFORD STREET) وكان لاسم الحانة وقع مثير يتصل بنا، نحن العابرين، فترجمته "العابر".
قال صاحبي: لندخل! فدخلنا.
بالكاد عثرنا على كرسيين، فالحانات تزدحم يوم السبت/ ليلة الأحد بلندن، لكن البريطانيين لا يعبأون بالكراسي والطاولات، مثلنا، نحن العرب الذين نقرن "الجلسة/ القعدة" بالجلوس، فالناس هنا يمضون سهرتهم حتى الصباح وقوفاً، يتبادلون الأنخاب والقبل والفكاهات، في مثل هذه الحانات الشعبية التي هي بمثابة مقاهي المحلات الشعبية عندنا، مع الفارق الهائل في الشكل والمضمون، ومن يريد الأرقى والأبهى فليقصد المطاعم الأنيقة، الباهظة الكلفة.
لكزني صاحبي لافتاً انتباهي إلى سيدة جميلة في ثلاثينياتها المبكرة تجلس وحيدة تحتسي كأساً من النبيذ الأحمروعلبة دخان (قبل منع التدخين داخل المحلات العامة) عند شمعة صغيرة مشتعلة، بينما يجاورها كرسي خال.
جمعت ما بقي فيّ من همة ذكورية ورومانس عراقي معتق وحرّكت خيالي لأرسم صورة ما لهذه السيدة مع كل ما أسقطه من رغائب وأوهام وتخيلات حول شخصيتها الغريبة، فليس من المألوف، هنا والآن، أن تجلس سيدة جميلة في بواكير ثلاثينياتها إلى نفسها، وحيدة، مع كأس من النبيذ الأحمر الذي أضفت عليه شمعة صغيرة مضاءة لمعاناً كئيباً.. وسط هذا الزحام البريطاني الثمل.
قلت لصاحبي: لعلها تنتظر صديقاً، حبيباً، عشيقاً، أو مشروع علاقة حميمة ما، وهذا تبرير لجبن عربي إزاء اقتحامات من هذا النوع، فالبريطانيون، الشباب منهم خصوصاً، لا يترددون ولا يجبنون، فخلاصة ما تصل إليه الأمور، في مثل هذه الحالات لا يتعدى الاعتذار عما بدر عندما تعلمك امرأة ما، في مثل هذه المواقف أن: آسفة، أنا أنتظر صديق، مثلاً، لينتهي الأمر بسلام، بلا صفعات ولا صراخ ولا فضائح كما يحدث في مجتمعاتنا.
واصلت رسم سيناريو متعجل لسيدة جميلة تجلس وحيدة في حانة لندنية ليلة الأحد: لعلها وحيدة، مهجورة، تغالب مأساة صغيرة ألمت بها، وربما ستكون الدردشة معها ذات عمق رومانسي يفضي إلى قصة مثيرة لا تحدث إلا في أفلام السينما.
اقترب منها رجل أنيق، في مثل عمرها، ليستعير الكرسي الفارغ فرفضت بابتسامة إنكليزية لبقة وإن كانت جاهزة.
قلت لصاحبي: لعلها ربة بيت محترمة جاءت الحانة بعد شجار زوجي لتسترخي بكأس نبيذ أو أكثر ثم تغادر، هذا إذا لم يلحق بها زوج حريص ليعتذر ويكمّلا السهرة هنا أو في البيت.
اقترب منها رجل آخر وهو يحمل بيده كأس بيرة مستأذناً الجلوس فسمحت له، وقدمت له سيجارة من علبتها.. أشعل السيجارة وتبادلا بعض الجمل التي لا يمكن سماعها في جو صاخب وثمل ليلة السبت في حانة إنكليزية. قام الرجل الثاني من كرسيه وترك المرأة الجميلة بعد أن أطفأ سيجارته في منفضة زجاج كبيرة تتوسط الطاولة!
سألني صاحبي: ما رأيك؟
قلت وأنا أهم بالذهاب ناحيتها: لعلها طردته من مجلسها.
اقتربت منها محيياً، مستأذناً الجلوس فردت تحيتي بأحسن منها، ثم أردفت بعربية ركيكة: "السلام أليكم".
أنت تعرفين العربية قليلاً: نبرت متسائلاً. ردت: لا، لكنني أعرف هذه التحية العربية فقط.
شجعتني تحيتها العربية على أن أمضي في لعبتي لأنها مدخل مشجع إلى عالم امرأة تعرف التحية العربية.
حسناً، قلت، أنا عربي من العراق، شاعر وصحفي.
ردت بلباقة إنكليزية: خمنت أنك عربي، أو شرق أوسطي.. من صلعتك وشاربك وبشرتك وأنفك.
كنت أستبطن ما توحيه مهنتي من إثارة وما يولّده محياي من فضول: ألف ليلة وليلة والسندباد البحري و.. صدام حسين مع الأسف.
قلت: أنت وحيدة، فأحببت أجالسك.. ثم أردفت مخادعاً: وأنا وحيد.
ردت، وبالعربية أيضاً: "أخلاً وسخلاً".
خمنت أن المرأة توفرت على تجربة عربية ما تجعلها موضع احترام ثقافي وحياتي عميق، سيتيح حواراً دافئاً بين عالمين مختلفين وربما سينفتح على آفاق غير متوقعة ومآرب يحققها متآمر عراقي غير تقليدي.
لمحت صاحبي من مجلسي فكان ينظر باتجاهنا بترقب واضح، لكنه مثير للسخرية.
قلت لها مختصراً الوقت والجهد واللغة: عرفيني بنفسك.. من أنت؟
ردت من دون أي تردد، وبالعربية: أنا شرموتا يا خبيبي!
* عن تاتوو