هدية حسين - مثل فراشة

كما يحدث بين نوم وصحو، حيث الزمن مرتبك ورجراج، حدث الأمر، كنتُ جالسة لاستريح على مصطبة قبل عودتي الى البيت من عيادة الطبيب.. ولما رأيت ما رأيت فركت عيني، فتماثلت أمامي واضحة الملامح، بثوبٍ أزرق طويل تتناثر على قماشته أزهار قرنفل حمراء، تساءلتُ: من هي، هذه التي أعرفها ولا أعرفها؟ تلفتُ من حولي، الشارع خالٍ من المشاة، والسيارات تتخاطف، وثمة أغنية تنبثق من نوافذ أحد البيوت تُذكّر بزمن مضى ولم يترك إلا الذكريات المرة.
كانت تنظر إليّ بابتسامة رقيقة، وتستقر على خديها غمازتان.. أين التقيت هذه الشابة الجميلة؟ في أي وقت، وتحت أية ظروف ؟ لا أدري، كأن ذاكرتي نفضت من شجرتها المكان والزمان ورمت بهما بعيداً.
اتسعت ابتسامتها، بدت مراوغة، ولما لم استجب لها فقد كانت شفتاي ثقيلتين من الحيرة، خطت نحوي، ركزت عينيها في عينيّ، ولم يبدُ لها أنني عرفتها، وبالابتسامة ذاتها رمت سؤالها: احزري من أكون؟
اوقعتني بين حيرة وحيرة، فتلك الابتسامة المراوغة، والنظرة المتحدية، والشابة بكل ما تجود به ملامحها من رقة وجمال، ليست غريبة عني، لكنني لا أتذكرها تماماً، لا أتذكر الأمكنة التي التقيتها فيها، ولا الزمان الذي جمعني بها.
ـ احزري من أكون؟
كررت السؤال، فلم أجد سوى أن أقول لها: بالله عليكِ، لا تدعيني حائرة، فذاكرتي معطوبة، وقد عدتُ للتو من الطبيب.. كادت تقهقه، لكنها وضعت كفها على شفتيها، وحاولت اللعب باعصابي، فترنمت بلحن أعرفه، وأوردت أسماء أشخاص ليسوا غريبين عني، وحينما أغمضتُ عينيّ لكي أتذكّر انسلت هي واختفت من المكان، جال بصري في الزوايا، التفتّ الى الوراء، الى اليمين، الى اليسار فلم أرها، أيكون ما رأيت بسبب ما أعانيه من عدم التركيز في الآونة الأخيرة؟ أرى أشياء ثم يتضح أن لا وجود لها؟ يُخيّل لي أمر ويتضح فيما بعد ان أمراً آخر هو الذي غشى عينيّ؟ أي عذابٍ هذا إذا استمرت الحالة التي حار الطبيب في معرفة
أسبابها؟
وبعد لحظات وجدها بصري، حيث أطلت من وراء جذع شجرة معمّرة، أخرجت رأسها من وراء ذلك الجذع الشائخ، وهي ترسم الابتسامة المراوغة ذاتها كأنها تعذبني، ولأنها راحت تلعب معي لعبة القط والفار في الظهور والاختفاء، فقد تظاهرتُ بتجاهلها حتى ينكشف لي أمرها، بينما، في حقيقة الأمر، رحت أحرث في رأسي عن صورة هذه الشابة اللعوب، التي حطت أمامي فجأة مثل فراشة في أول الربيع، لكنها تتصرف معي مثل نحلة تريد غرز شوكتها في
ذاكرتي.
استعرضتُ الوجوه الغاربة، واستحضرتُ الطرقات المنسية، لكن الذاكرة لم تسعفني، بل توقعني بمزيد من الضلالات، وحينما لم يسفر الحرث عن خيط يوصلني بها رفعتُ رأسي ثانية نحوها، فرأيتها تحمل فانوساً صغيراً، مثل تلك الفوانيس التي يقتنيها الأطفال في شهر رمضان، وإذا تركتُ المعنى الذي يرمز إليه الفانوس في الأساطير، فإن المعنى الآخر الذي اهتديت إليه، هو ان هذه الشابة تريد من وراء ذلك الفانوس ان تضيء لي أمراً ما، ربما تبغي حثي على إضاءة ذاكرتي لمعرفتها وقد جاءت بغاية
محددة..
لكن ذلك لم يحدث، فقد انتهى حرثي في الرأس وبحثي في معنى ما يشير إليه الفانوس ولم أتذكر شيئاً، سوى أنني سبق أن التقيت هذه الشابة، لكنني الآن عاجزة عن
تذكّرها.
ولما عجزت تماماً، قلت لنفسي: عليّ تجاهل الأمر برمته لعله يتضح لي فيما بعد من دون عناء، فكثيراً ما نبحث عن شيء ويستعصي علينا، ثم حين نتجاهله أو نطرده من الذاكرة ينط أمامنا بمصادفة لم نكن قد
حسبناها..
وهكذا فعلت، طاردة حضورها البهي المراوغ، لكنني حين فعلت ذلك، وسبقتها في الطريق الى بيتي، وجدتها هناك، كأنها فعلاً فراشة، فردت جناحيها وحلّقت لتسبقني، ولتقف عند مدخل بيتي تماماً، ولكن بأية قدرة وصلت وكيف عرفت البيت؟
لا تحمل فانوساً هذه المرة، بل تحمل مرارة على شفتيها، ونظرة عتب ممزوجة بالتحدي.. واصلتُ التظاهر بلا مبالاتي ومددتُ يدي لأفتح الباب، إلا انها أسرعت وأزاحت يدي لتضع يدها على أكرة الباب، لم يراودني شك بانها تريد دخول البيت، إلا أن شكّي لم يكن في مكانه، فقد تحركت شفتاها المثقلتين بالمرارة، وهمست بصوت مجروح بالعتب: أهكذا تفعل الأم مع أبنائها بعد أن تلدهم؟
عند هذا الحد قلت لها: أنا امرأة لم يمسسني رجل لألد أبناءً، لابد أنك أخطأتِ المرأة المقصودة، على الرغم من أنني ربما أكون قد التقيتك في مكانٍ ما، لكنني لا أتذكّر
متى وأين.
تلوّن وجهها بالحزن، وسحبت يدها عن أكرة الباب، بدت منكسرة وهي تبتعد بخطواتها، ثم ترتفع قدماها عن الأرض وتحلّق في الفضاء، يهفهف ثوبها الأزرق، تسّاقط عنه القرنفلات الحمر، تنسكب مثل دموع من دم، وقبل أن تختفي الى الأبد ترمي إليّ كلماتها المشحونة بالأسى: كانت لعبة جميلة تلك التي لعبناها لكنها لم تستمر فقد شئتِ أن تقصيني من حياتك، أنا سارة، إحدى شخصياتك المبتكرة، ترى لماذا خلعتِ عليّ صفات المراوغة والظهور والتخفي، تركتني معلّقة لا أحط على أرض إلا وترفعني الريح الى الأعالي، ثم تعيدني الى الأرض وترفعني مرات ومرات، لا استقر في مكان ولا يضمني زمان لتطمئن نفسي، أهكذا تفعلين دائماً مع شخصياتك؟ تخلقينهم وتعيشين معهم أجمل اللحظات ثم تنسين مخلوقاتك؟ ألا تباً لكِ من أم لا تمنح أبناءها الأمان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...