1 - الغرب مجددا للرواية والهوية
1-1-في المسار الذي قطعه الكاتب المغربي ( = الروائي)، سواء على مستوى تبلور تيمة خطابه أو البناء الجمالي للإنتاج الروائي على العموم، نجد الغرب أو "الآخر" بالصيغة التي انتشرت مع العروي(1)، يفوز بحصة معتبرة. إنه حضور يهيمن على الأدب الروائي العربي بصورة عامة، وينهض قاعدة لمحاولات التجديد الأولى، ونحن نعتبر أن الاتصال مع الغرب قد أثر بقوة على عدد من الكتاب العرب في السياق الشامل للمثاقفة(2)، دعك، بطبيعة الحال، من التأثيرات الجوهرية التي أحدثتها المدنية الغربية منذ العقود الأخيرة إلى القرن التاسع عشر(3).
ويعلن تاريخنا الأدبي اعترافه الكامل بهذا التأثير، وعلى سبيل المثال ما ذكرته فاطمة موسى، من أن اتصال الكاتب العربي بالغرب في مطلع هذا القرن هو ما سينير أمامه الطريق ويدفعه للوعي بهويته العربية، وبالتالي سيحثه على خلق عالم خصوصي عبر الأشكال السردية الحديثة، أي الرواية والقصة القصيرة(4). وتشير الباحثة نفسها إلى أن إقامة "هيكل" في الخارج هي التي ستكون وراء رواية "زينب" بينما سيغتني "توفيق الحكيم" تجربة في فرنسا، فيكتب "عودة الروح" (1933) و"عصفور من الشرق" (1938). وهو ما ينطبق، عندها، أيضا، على يحيى حقي، في العقد الأربعيني بكتابته لـ "قنديل أم هاشم" (1944)، وعلى الطيب صالح في العقد الستيني مع روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" (1967)(5).
أما الأدب العربي في بلدان المغرب الكبير فقد كان بدوره منجذبا للعلاقة مع الغرب وذلك منذ العقد الثلاثيني. ونحن هنا لا نرجع، فقط، إلى وجوه التحول المباشر أو غير المباشر التي نجمت حتما عن الفعل الاستعماري مع ما ترتب عنه، ولا إلى استخدام أو تقليد بعض الصور، والصيغ الثقافية أو الجمالية لمعارضة كتابة تقليدية استنفدت روافدها. فلقد تجلى التأثير، أيضا، في كون هذا الأدب قد انكب على الغرب بوصفه موضوعا محددا للاستقصاء وليس لمجرد التلميح، وهذا ما تتوقف عنده رواية الكاتب التونسي علي الدوعاجي (1909-1949) "جولة بين حانات البحر الأبيض المتوسط"(6)، هذه القصة التي تتأسس تدريجيا بربط العلاقة مع "الآخر" وفق رؤية خصوصية.
والحق أن إلصاق اسم الجنس الأدبي بهذا الكتاب ليس إلا تعمية إذ أنها -الرواية- حسب مؤلفها لا تبتغي أكثر من وصف ما وقعت عليه العين وهي تتنقل بين مرافئ البحر المتوسط، وما استراح فيه الكاتب من مقاه وحانات(7)، فضلا عن أن القصة حسب الناشر بقيت غير مكتملة(8). ما يهم هو طبيعة الرحلة إلى الغرب الذي هو موضوع افتتان، والرؤية المبثوثة في النص. إن الخطيبي، الذي يعتبر "جولة" بمثابة أول رواية في المغرب العربي يرى أنها تعبر عن رؤية الغرب كامرأة. فالدوعاجي يجنسن رؤيته للغرب والشرق معا، محتفظا للأولى بالمادية وللثاني بالروحية(9). فعلا إن ما كان يراه الدوعاجي في تجواله من مدينة "نيس" إلى "نابولي"، ومن "أثينا" إلى "إسطمبول"، يبرزه بصورة جنسية أو تحت صفات أنوثية، وهكذا فإن "نيس" مثلا هي "مدينة الحب الشيطاني، مدينة المتعة"(10). ووهج المقارنة بين الشرق والغرب يظهر قارا في هيئة معارضة بين سماتها الخصوصية.
وعموما، فإن جميع الروائيين العرب الذين انجذبوا إلى الغرب بلوروا الرؤية ذاتها. الدوعاجي التونسي، والمصريون: يحيى حقي، توفيق الحكيم، طه حسين، واللبناني سهيل إدريس، والسوداني الطيب صالح، وصولا، إلى المغربي محمد زفزاف. كل منهم، وعلى طريقته، قدم صورة خصوصية لعالم أغراه. وتصب الصور مجتمعة، على الأغلب، في رافد مشترك أي في جنسنة المرئي كوسيط لتفجير المكبوت واختراق "التابو" ( = المحرمات).
ولا يقل حضور تيمة الغرب في الكتابة الروائية المغربية عما هو عليه الحال في المشرق، وهو ما ظهر في مرحلة أولى عند عبد المجيد بن جلون في سيرته الذاتية "في الطفولة" التي رسمت لنا طفولة مقسمة بين مدينتين (لندن وفاس) متعارضين أشد التعارض. غير أنه، وبعد هذا الرائد في جنسه، ومع روايات أخرى أو روايات سير ذاتية، اتخذ حضور الغرب موقعا جوهريا، ومرتبطا في آن بنوع من البحث في تطوير الكتابة السردية ولنهج الواقعية. ونحن هنا نفكر، على الخصوص، في محمد زفزاف وعبد الله العروي. وباستقصائنا للرؤية التي شكلاها عن الغرب، أو فهمهما له، كما يستخلص من عملين أساسين من أعمالهما، فإننا نرغب، كذلك، في استكشاف النقاط الحاسمة في تطور الكتابة الروائية لهذا الأدب، والتي ساهمت في رسم نهج الواقعية طيلة الحقبة المؤدية إلى العقد الثمانيني حين ستعرف هذه الكتابة ما نحسبه منعطفا نوعيا.
2 - زفزاف: الانتقال من المعتقد إلى الجمالية.
2-1-من القصة القصيرة إلى كتابة الرواية عمق محمد زفزاف تجربة تمتد جذورها إلى المحاولات الأولى الرصينة للكتابة السردية في أدب المغرب. فبوصفه قاصا كان من القلائل الذين وفروا لهذا النوع، في أدبنا، انسجام التركيب، والموضوع الملائم، والتكنيك الفني الحديث. والواقعية عند هذا الكاتب لا تتشيد من مجرد اختيار تيمة اجتماعية أو حول تعليق على أوضاع من طراز اجتماعي. إنها مرتكزة أوليا على الانطباع الذي يصدره الواقع والمعيش عنهما، بالانطلاق من الخصوصي لا النمطي، أو بالأحرى باتباع نهج يقدم النمطي متفردا. وليس أقدر على ذلك من سرد يهتم بالدواخل والصور الذاتية. فانطلاقا من اللحظة التي لم يعد فيها الكاتب مقتصرا على معاينة المعطى المباشر، وبحساب فهمه بأن الالتزام المطلوب منه من وسط سوسيوثقافي مشبع بمفاهيم دوغمائية إنما يقود إلى استلاب الأدبي لأهداف سياسية، عندئذ سيتبلور التزامه في صورة وعي عميق بالطابع التركيبي للأوضاع الممكن معالجتها. والحدود بين متاعب الحياة والحزن الداخلي تصبح حتما شفافة، مرجعة بذلك الصورة الواحدة إلى أوجه متكاثرة، متعددة الدلالات، بهذا يتقدم الذاتي على النمط الاتفاقي (Le Conventionnel)، دون التنقيص منه كليا، إذ يبقى عموما معلمة إن لم نقل عماد الدلالة الشاملة للنص. فيما يتوصل الذاتي إلى إبلاغ رسالته، قوله، ما بين السطور خالقا بذلك بعد واقعية جديدة.
وبانتقاله من القصة القصيرة إلى الرواية يحذو "زفزاف" حذو سابقين له، كأنما ليؤكد بأن تعلم السرد المقتضب هو اختبار ضروري إن لم يكن حتميا، أحيانا، يسبق كتابة الرواية بمعناها الصحيح. على أن ما يتميز به هذا الانتقال عند زفزاف كونه يتحقق بإبراز الأنا الفردي كصيغة فيتوسع قياسا بالصيغ الأخرى، المحتكرة عموما والممثلة في التبني التام للتيمة الاجتماعية. وبالإمكان رصد انتقال مماثل عند "مبارك ربيع"، وهو ما يظهر لنا ذا دلالة أكبر عند زفزاف، ذلك أن روايته الأولى "المرأة والوردة"(11) تكشف عن فضاء آخر غير ذلك الموصوف عادة في الكتابة الروائية لأدب المغرب. إنه فضاء الغرب الذي حام حوله كل الكتاب المغاربة وهم يحاولون السيطرة على تقنيات السرد، والذي يشغل مكانة هامة لا في النقاش الثقافي لبلدان المغرب العربية الباحثة عن هوية جديدة، وحسب بل، وأيضا، في سلوك ووعي الأفراد، وهو ما يعمل الكاتب على نقله إلى عالمه الأدبي.
2-2-باختلاف عن الحوافز الثقافية مثل التي أنجبت الكتاب الشهير للطهطاوي(12) فإن محمد زفزاف يعيد ربط الصلة مع التقليد الذي دشنه التونسي علي الدوعاجي ثلاثين سنة قبله بسفره إلى الغرب جسدا وكتابة. صحيح أن التماهي في "جولة بين حانات البحر الأبيض المتوسط" كامل بين السرد والشخصية، وهو ما يصرح به الكاتب مباشرة في قولة "قررت كتابة هذه الرحلة التي قمت بها خلال صيف 1933"(13). عند خلفه المغربي يصبح التخييل هو قطب العمل واضعا في الصدارة شخصية ( = بطلا) في رحلة استكشافية للغرب، وهو ما لا يمنع وجود تشابهات عديدة بين السارد وموضوع سرده تقرب محكي الرواية من الرواية السيرذاتية، وهو ما لن يفوتنا التوقف عنده في حينه.
2-2-1-تستهل "المرأة والوردة" بمقطع شعري من طراز قصيدة النثر يعلن الأسباب التي دعت بطل زفزاف للقيام برحلته من طنجة إلى إسبانيا، أي من الجنوب نحو الشمال:… "بيني وبين نفسي/عالم من العرب/ من المجالات والخرائط، آه يا إلاهي/لا أستطيع أن أتكلم"(14). إنها الرغبة في الكلام والتفتح، للخروج من عالم "هؤلاء العرب"، ثم تظهر شخصية ثانوية سبق لها أن عاشت في أوربا لتنورنا، في صورة تعليق، بأسباب الانزعاج، مشجعة الشخصية الرئيسية على السفر".. إننا محظوظون في أوربا أكثر مما نحن عليه هنا في الدار البيضاء. هنا تسيرنا أقلية بيضاء من المغامرين والقوادين وبائعي نسائهم، فيبنون الشركات ويستثمرون الأموال، ويطردوننا من المقاهي والمراقص[…] وهكذا فلا مكان لك أو لي هنا في هذه المدينة الكبيرة إلا إذا كنت ذا بشرة بيضاء وتتكلم الفرنسية بطلاقة الباريسيين. وإذا استنجدت بشرطي ضربك على رأسك وقادك إلى المركز حيث تشم رائحة الوسخ والقذارة […] إني لا أقبل وظيفة هنا في الدار البيضاء، حتى لو تقاضيت ألف درهم. لأنني هنا أشعر بأن إنسانيتي مفقودة. ولكن هناك تستطيع أن تصير ما شئت. وهناك، لك أن تشاء أو لا تشاء. ولا أحد يشاء في مكانك مثلما هو الشأن هنا. […] اكتشفت بالحدس فقط، عندما وقفت في البوليفار بطنجة، أن تلك الأراضي التي تظهر لي عن قرب وراء البحر الأزرق هي عالم مسحور رائع […] قضيت هناك أربع سنوات وعشت مثلما يعيش الملوك والأباطرة […] أربع سنوات لم أشتغل. كنت آكل واشرب وأرتدي أفخر الثياب وأنكح أجمل النساء"(15). من هذه الفقرة يمكن استخلاص الحوافز التي دفعت بطل زفزاف، ربما الكاتب نفسه لخوض البحر نحو الغرب، هذا العبور من محيط سوسيوثقافي إلى آخر، وهي التي نلخصها في الآتي:
-أوربا معادل للحظ الحسن.
-في المغرب أقلية من "البيض" تستولي على كل الامتيازات.
-اللغة الفرنسية هي مفتاح النجاح.
-في أوربا كل شيء مباح، كل شيء في متناول اليد، والإنسان سيد نفسه.
_أوربا عالم فاتن ورائع.
-أوربا عالم مثالي حيث جميع المتع الحسية ملباة.
هذه إجمالا مجموعة "البراديغمات" التي تتوالى بثبات عبر الرواية كلها، نسمعها محكية ومنطوقة في الحوار كما يستعيدها المونولوغ الداخلي. وهي منذ البداية تمثل المغناطيس الذي سيجذب البطل إلى عالم المغامرة مفتتنا بإغراءات محاوره، وقاطعا الخطوة الأولى بعبور مضيق جبل طارق للنزول في أرض إسبانيا، أو ليس من هنا يبدأ الغرب، الأرض الموعودة؟!
وإذا كان الدوعاجي قد اختار التنقل بين عدة موانئ غربية، أو بالأحرى حاناتها وملاهيها، فإن زفزاف قصد مكانا واحدا هو مدينة (طور مولينس (TORREMOLLINOS)، المصطاف الشهير بساحل "الكوسطا ديل صول" الإسباني، حيث يتوافد الأوروبيون صيفا من كل مكان، هنا الفضاء هو المرآة التي يفترض أن تعكس صورا شديدة التعارض مع الأرض الملعونة، أرض الوطن الأم (=المغرب).
2-2-2-إنما قبل هذا، ما الذي يحكيه المؤلف؟ وهل من هدف وراء السفر؟ وما هي هوية بطله؟ من البداية لا بد أن نشير إلى أن ليس ثمة كثير مما يمكن اختصاره، لا بسبب ندرة المعلومات التي يحملها السرد، ولكن لأن المؤلف يبني حكيه في حركة دائرية يقع البطل محمد - وهو اسم المؤلف أيضا- في قلبها. فكل شيء حوله، من كائنات وأشياء تلتقي وتفترق لتجدد اللقاء وسط هذا الفضاء المعبود ومصدر الإحباط في آن. فبين التجول في الشوارع، والاستحمام بالليل والنهار، والاستراحات في باحات المقاهي للتطلع في وجوه المارة والتلذذ بأجساد النساء، والانتقال إلى سهرات راقصة؛ بين هذه الأجواء المختلفة يعتقد محمد أنه غزا حقا "الأرض الموعودة". إن هذا الإيقاع الذي يستأنف يوميا تتخلله لحظات يهيمن فيها شعور الإحباط نتيجة ما يحس به البطل من تعارض بين معيش السفر وهويته الحقيقية.
ولعل الكاتب، وعيا منه بمحذور وقوع قصته في رتابة مسار شخصي ونمطي، لا يخلو من فولكلورية، سيختار لكسر حلقة الدائرة إدخال حكاية بوليسية أبطالها محمد دائما، ثم جورج وألان. وهما فرنسيان متسكعان جاءا إلى "طورمولينس" بحثا عن المغامرة، وخلافا لمحمد فإن الجنوب بغيتهما، وطنجة ما يجذبهما، يذهبان إليها لجلب عشبة الحشيش للاتجار بها في أوربا. بمعدى عن خاتمة هذه المغامرة، فالرواية تنتهي بمحاكمة حلمية وكافكاوية ينصبها البطل نفسه من أجل تبرير فعله والتنفيس أكثر ضد كل القيم التي تخنقه، مدركا أن خلاصه لن يأتيه إلا من الغرب، أي من "سوز" الدنماركية.
أجل، إن الأمر يتعلق بسوز، فيما الباعث ليس سوى جملة متقلبات عابرة. إن حبل الحكاية منسوج بالعلاقة الجنسية التي تربط محمد بسوز، الفتاة الدنماركية التي التقاها في المصطاف الإسباني، وحولت العلاقة التي حققت له الإشباع الجنسي إلى مناسبة لتفجير المكبوت بما جعله يتصور أنه يقتص من الحياة كلها. وهذه الحكاية مسرودة على مستويين: مستوى اللقاء العابر والطبيعي بين رجل وامرأة، من جهة، ومستوى المقارنة التي تقيم التعارض بين عالمين، من جهة ثانية: "وهكذا، فلسوز، رائحة متميزة لا كباقي روائح النساء. تتسرب هذه الرائحة بليونة […] حيوية، منعشة، دافئة، مثل المطلق"(17)؛ "جلست سوز إلى جانبي فوق السرير. كنت ما أزال عاريا وقد أغلقت زجاج النافذة. أحكمت الستارة السوداء. حاولت سوز عبثا أن تقنعني بفتح النافذة. قلت إن الناس مجتمعون وإن ذلك غير ممكن. قالت: لا يهم، قلت: كلا. شيء مهم.."(18). مثل هذه الوضعية تكشف عما هو أكبر من وجود تباعد في المبادئ الأخلاقية إذ أننا إزاء رؤيتين للعالم متعارضتين كليا": كل شيء في هذه اللحظة [مع سوز] له وجود ضروري. أشعر بالتناسق في كل شيء لا بالتنافر. شعرت أن سوز، لا كأي امرأة أخرى، تعرف كيف تساهم في إعطاء العالم الحنان والعذوبة والتناغم وعلى العكس فبعض الناس اللآئي عرفتهن، كن يجعلن العالم يكشر في وجهي وأشعر بخوف وإرهاب"(19).
وبصرف النظر عن سوز فإن المقارنة والتعارض بين الشمال والجنوب يتحولان تدريجيا إلى تيمة مستقلة فمع كل صورة مرئية في "طوريمولينوس" ثمة أخرى نقيض لها، مكروهة، في مسقط الرأس. فالمتاجر المتخمة بالمواد الغذائية تحيل محمد إلى سنوات الفقر: "في سنوات معينة [……] كنا نعاني من الجوع الشديد والفقر - قيل إذ ذاك إن العالم كله كان يجتاز أزمة اقتصادية- غير أنه في حقيقة الأمر لم يكن العالم هو الذي يجتاز هذه الأزمة -ولكن- العائلة -عائلتي أنا- لذلك كان أبي يعود بأي شيء يستطيع أن يملأ البطن حتى ولو كان براز بعض الحيوانات"(20). التجول في الشاطئ، الهواء والرمل، كذلك تتحول إلى عناصر للمواجهة بين عالمين: "مشينا دون أن نتكلم. شعرت أن الرمل تحت قدمي لا يشبه رمل شواطئ الوطن. حتى الهواء كان غريبا إلى حد الجنون. حتى حركات انخفاض وصعود الرئتين في القفص الصدري تغيرت صارت ذات نسق آخر حي. في السابق كان كل شيء رتيبا. كنت أشم الهواء وأشعر بقيود حديدية تكبلني الآن، ورغم الخوف الهائل يختفي وراء أحلامي. شعرت بالحرية"(21).
في كل لحظة ينجس الإحساس بالإحباط في قلب وسط الرفاه، ويعجز محمد عن الإفلات من ضغط مقارنة معيش مع معيش الآخرين المقابلين له في العالم الذي ارتحل إليه، وخاصة ألان، المفلس مثله لكن مع الفارق ذلك "أن طفلا صغيرا منبوذا في حي فقير من أحياء مملكة النمل السعيدة، لا يشبه بأي حال طفلا يشتغل أبوه صحفيا في "الكنار أنشنيه" ابن صحفي مهما يكن لا يستطيع أن يعيش مثلما عاش ابن لا أحد. ابن لا شيء. ابن نفسه. أما ابن لا شيء، ابن لا أحد [……] فإنه في حالة الانهزام والسقوط ليس أمامه سوى المضي في طريق الانهزام والسقوط من جديد"(22).
2-2-3-بيد أن القيمة الرئيسية التي يتبأر حولها الخطاب وموقع البطل ترجع أساسا إلى الحرية والتفتح، إلى سلطة تحقيق الذات والتحرر من إكراهات الماضي والجنوب. وهي قيمة مرتبطة على الدوام في وعي وسلوك بطلنا بإمكانية إرضاء الرغبة الجنسية إلى الدرجة التي تصبح معها الحرية مرادفا للجنس، وهما معا يمثلان الوجه والقفا لعالم معبود، أي للغرب مطلقا. والفقرات الموالية لها أيما دلالة في هذا المعنى: "وضعت سوز كل جسدها الآن تحت تصرفي. شعرت بالدفء والحرارة وكل شيء. وأيضا، الحرارة، المطلق، وكل شيء"(23)، "وبالنسبة لي، الشيء الأساسي والضروري حتى في أدنى مراحل الإنسان الحيوانية هو أن آكل وأشرب. أتزود بطاقات حرارية تجعلني أرى العالم بوضوح، لا من وراء ستر الضباب"(24)، "صمتنا بهدوء[ بعد فعل الجنس مع سوز]، شعرنا بالأمن في العالم. كان العالم كبيرا لكنه صغير تحت ملكنا. على الأقل، تحت ملكي الخاص. يمكنني أن أذهب أينما أشاء وأحل أينما أشاء. فلا أحد ولا شيء يمنعني. هذه إحدى اللحظات التي أشعر فيها بالرهبة وتتباطأ أنفاسي، تصير رتيبة […] أعترف لنفسي أنها صارت حرة، تعيش حرية مطلقة عفوية. تتضخم حريتها وتنمو في الوقت الذي تسقط فيه كل العراقيل التي نماها الماضي، وولدتها تجارب بسيطة معقدة في نفس الوقت"(25).
على أن جنسنة الرؤية للغرب عند زفزاف لا تأخذ بعدا أحاديا، سيما وأن البطل الذي يشخصها يتعرض خلال السرد لتحولات مستمرة، رغم أن مثاله لا يتزحزح. من المفيد في هذا الصدد أن نسجل من الآن بأن إحدى الخصائص الجوهرية لهذه الرواية هي كثافة المونولوج الداخلي، الوسيلة التي يشتغل بها وعي الشخصية بمعدى عن رتابة مجرى الحديث في الحكي. وإن كان محمد لا يفلت أي فرصة ليعبر عن افتتانه بكل ما له صلة بمجتمع الاستهلاك الغربي والقيم المضمرة فيه. ويسهل علينا مماهاته بجيل الكاتب زفزاف، أو على الأقل بقسم تمثيلي فيه، منبثق عن عهد الاستقلال، المحبط في مطامحه، والموضوع في منعطف ثقافتين. ثقافة أقرب إلى الماضي لا تترك ممارستها الإيديولوجية والسياسية سوى هامش ضيق لتفتح الفرد. وأخرى، رغم ما تثيره من حذر إزاء الاستعمار، فتحت الأذهان على طراز حياة جديد، وشكلت قطب جاذبية تولد عنه تجليات سوسيو-ثقافية مختلفة. على أن حصر هذا التماهي لن يذهب بنا بعيدا، إذ ربما بتر ما هو متفرد في رواية، في كتابة سردية تنبذ فعل إعادة إنتاج الواقع وقد تجاوزته بتحكمها في أدواتها ونباهة مقاربتها للفضاء السوسيوبشري. إن زفزاف، قاصا أو روائيا، يحذر من النزعة التبسيطية وحس البداهة اللذين قد يهددان بالسطحية مصير الشخصيات -وربما شخصيته هو- ذلك أن الافتتان بالغرب لا يمكن أن يقوم بمفرده عمادا لعمل روائي كما هو الشأن في جولات الدوعاجي أو عند سهيل إدريس نفسه الذي لا يبحث بطله في "الحي اللاتيني" في النهاية، وعبر سفره إلى فرنسا، سوى عن التصالح مع تقاليد بلده.
2-2-4-تعتمد "المرأة والوردة" بناء تدريجيا في تقديم شخصية محمد. فإذا رأيناه في الفصول الأولى مفتتنا بالاستعراض الجنسي الصيفي الذي تمنحه "طوريمولينس"، رمزا للغرب كله، على غرار "نيس" الموصوفة من قبل الدوعاجي بكونها مدينة الشباب الذهبي، والعذوبة والحب الشيطاني(27)، فإننا سنراه لاحقا، وحين سينطفئ عطشه مؤقتا، يعيد النظر في علاقته بالمحيط الأجنبي بنبرة تشكيكية، واستفهام تشاؤمي منطلقا من مسألة الهوية الفردية، عبورا بإعادة النظر في هوية الآخرين، هؤلاء الذين جاء لمقابلتهم، ومنتهيا في آخر المطاف، إلى مصير ما هو بالمصير، منفتح على المجهول.
ونحن إن افترضنا السؤال التالي: من هو محمد؟ جاءنا الجواب بطريقة صريحة، وبانسجام مع وضع الشخصية في القصة. على سبيل المثال نورد الآتي: "الشيء الأساسي والضروري […] هو أن آكل وأشرب. أتزود بطاقات حرارية تجعلني أرى العالم بوضوح، لا من وراء ستر الضباب. ضباب الجوع والبؤس"(28)، "[…] ولكني متأكد أني لا أملك شيئا سوى عضو متدل أنهكته حرب الاستنزاف من أجل لقمة العيش"(29)؛ "الآن فكرت في شيء، كل واحد مثلي مهاجر، سائح، أو لص، أو لوطي/ أنا مهاجر، نفسيا وكل شيء…"(30).
ومن المؤكد أن هذا الطائر المهاجر، وهو ينظر إلى جسده النحيل في الشاطئ، يبعد عن نفسه كل خجل، فهو يعرف نفسه، من البداية، كالآتي: "لم أكن معطوبا جسديا، بل نفسيا"(31). ولا عجب إذا كان اكتشاف هويته سيتجلى أيضا بتعبيرات مجازية: "الحلم أو اليقظة عندي سيان"(32)، "الوهم هو ديدني، والصمت هو ديدني"(33)، يحصل لي ألا أفرق بين الحلم واليقظة. ولا أعلم إذا كان ذلك شيئا مهما أم لا. وأتساءل: ما هو المهم في حياتي؟ لا أعلم. إنني أعيش لأنني هكذا. بلا فلسفة. وقد تكون اللامبالاة طابع تفكيري. لكني لا أعي شيئا سوى دفء العالم أحيانا"(34). إنه "مثقف أولا قبل أن أصير مهربا. إني مثقف بائس"(35)، "هدفي هو أن أكتشف حياتي على طريقتي"(36). كل هذه الخصائص المعلنة بتعثر في النص تثير، سطحا وعمقا، سمات شخصية إشكالية يعطي مسارها للرواية دلالة جوهرية.
وأخيرا، هل اكتشاف الشمال، ورفض الأنا الجماعي (في البلد الأصلي) لصالح الأنا الأجنبي، والغزو للغرب (سوز) قادر على دفع الرحلة إلى القطيعة، إلى نقطة اللاعودة؟ هل هي قادرة جميعها حقا لإقناعه بالانقطاع عن جذوره؟ وهل الغرب يمثل فعلا البديل المنشود؟ أثناء نوم محمد إلى جانب سوز يسمعها في الحلم تقترح عليه الزواج: "فكرت مليا - يا إلاهي! ما هذه الحيرة والعطالة في دماغي. إن ساعة الاختيار قد حلت. ما هي إلا فرصة تتاح في العمر كله. أنا؟ من أي جنس أنا؟ عربي. ما لكل العرب تتحقق فرص مثل هذه"(37). وبالفعل، فإن الاختيار صعب، فثقل الماضي يبقى رازحا لحد التشويش على صورة الحاضر: "حركت قدمي وتذكرت كل ماضي السيء الذي عشته واحدا مثل الملايين في قرى قذرة منتشرة في جبال الأطلس أو جبال الريف أو سهول الشاوية أو صحراء طنطان المترامية. وتذكرت صوت آلامي الكثيرة التي قصمت ظهري الضعيف"(38). وفي المقهى وهو يتطلع إلى وجوه المتجولين، وبرفقته جورج وألان. يلح في هذا المعنى: "وبديهي أنني لست وسطهم في هذه الظروف الحرجة التي أعاني منها في العمق. العمق الذي لا يدركه أحد غيري"(39). والشيء نفسه بالنسبة للغادين والرائحين أمامه، ذلك أن "رؤوسهم في الأغلب الأعم شقراء وسحناتهم تختلف عن سحنتي. وجوه يبدو عليها أنها من تاريخ غير تاريخي، ومن منطقة مهما قيل عنها فهي ليست منطقتي"(40).
2-3-ماذا يبقى من الغرب إذن؟ وماذا يبقى من رواية العلاقة مع الغرب هي مدماكها، ولأي مصير سيؤول محمد، الطائر المهاجر المعذب بتعاسة أصوله،والذي لا يجلب له السفر إلى الأرض الموعودة الخلاص المنشود؟
في سبيل الإجابة عن هذه الأسئلة نجدنا مدعوين إلى مزيد من توسيع الدلالة التي يأخذها "الآخر" في علاقته مع "الأنا" في "المرأة والوردة"، أي أن نقرأ هذا النص من زوايا مختلفة، وننطق، ما أمكن، المسكوت عنه في خطابه. بعبارة أخرى، إذا كانت رواية زفزاف تندرج في نوع التقليد الروائي والثقافي العربي، الذاهب من اكتشاف الضفاف الأخرى للمتوسط بإعلان إعجاب لا مشروط للمدنية الغربية، مع إعادة النظر في مكونات الهوية الوطنية، فإن هذه الرواية هي، أيضا، نتاج مظهر آخر للمثاقفة حين تبين أن اكتشاف الذات يمر عبر الآخر. وهو ما يعني أنه يجب أن نضيف إلى هذين الفضاءين فضاء ثالثا هو هذا المكان الخصوصي للتوتر السيكولوجي، الثقافي والتاريخي الذي يتولد من داخله وعي جديد. وإذن، فالغرب أبعد من أن يمنح الخلاص لمن يستنتج، وهو يتفحص الوجوه أمامه، بأنهم ينتمون إلى تاريخ ومنطقة غريبين عنه.
إن الرحلة إلى الضفة الأخرى للمتوسط، كما هي مشخصة في الرواية، تعد، أيضا، مناسبة للانتقال من مستوى للتعبير إلى آخر، نعني إلى نهج السيرة الذاتية، رغم غياب المؤشرات الأصلية الخاصة بهذا الجنس(41). رغم ذلك توجد بعض العلامات التي تسمح لنا بإخضاع المحكي لقراءة سير ذاتية، مع العلم أن استعمال ضمير المتكلم كأداة لنقل الخطاب لا يمكن أن يعد وحده الدعامة الكبرى في هذا المجال(42). إنما لا شيء يمنعنا من التشكيك في هذا السارد المحظوظ بموقعه الرئيسي، في شأن إخفاء أو كشف بعض المعلومات المتصلة بالمؤلف(43). ففي المحاكمة التي ينصبها البطل وهماً لنفسه يقدم لنا -ربما عمدا- معلومات تؤهل للتعرف على هوية المؤلف: سنة ومكان الميلاد، المهنة وبعض الإشارات عن وضعيته الاجتماعية. وإنه لرمز ذو دلالة أن نلاحظ بأن هذه الجذاذة الوصفية تعود لتتكرر في روايات لاحقة لزفزاف، وخاصة في "أرصفة وجدران"(44)، "والأفعى والبحر"(45) و"الثعلب الذي يظهر ويختفي"(46). في مجموع هذه الأعمال يتماهى السارد كلية مع الفاعل الرئيسي في القصة، وهو لا يحتل حقا الموقع المنوط به، أي موقع الشخصية المتخيلة التي دورها سرد الحكاية. علينا إحصاء العلامات التالية: طفولة مدموغة بالحرمان، انعدام العطف والحنان، مجرى حياة متردية ماديا وسيكولوجيا وثقافيا، ورفض للنظام الاجتماعي والسياسي القائم، الملائم لأقلية من المحظوظين، هذه العلامات القاصرة كلها التي تطبع شخصيات روايات الكاتب مستوحاة من حياته نفسها. ونحن لو تساهلنا في عدم إشهار ضمير المتكلم السير ذاتي أمكننا القول بأن زفزاف قد نقل سيرته إلى مركبة التخييل الروائي بدون أن يتخطى، من أجل ذلك، أو يضحي بما هو من صميم هذا النوع من السرد. إن قرارا من هذا القبيل، ينهض من جانبنا على فرضيتين: الأولى فحواها أن الفضاء الأجنبي الذي تدور فيه تكوينات الرواية يسمح، بحكم مغايرته، بتفتح الفرد، ويمكنه من التنفيس عما هو مكبوت لديه عادة، وإذن، بتصفية الحساب مع ماضيه بانتهاج خطاب ملائم للنبرة الذاتية وقريب من التجربة الأوتوبيوغرافية. فيما تعتمد الفرضية الثانية ربط عمل زفزاف بالتحول النسبي في الكتابة الروائية بأدب المغرب، المتنقلة باحتشام من سرد ذي طابع موضوعي، ملتفت أساسا إلى الخارج، إلى حكي بديل يمتح جوهره من التجربة الفردية للمؤلف. وهو لعمري توجه سيتأكد بكيفية ملحوظة خلال سنوات العقد الثمانيني معينا منعطفا دالا في إنتاج الرواية عندنا. كيفما كان الأمر، وسواء تعلق الأمر بـ"أنا" سير ذاتي، أو بخطاب شخصية مندمجة كليا في وضع الرواية ، فإن رواية زفزاف الأولى، والأكثر تمثيلية لديه لكونها ستتحول إلى منجم لأعماله اللاحقة، تتميز بتطور نوعي لتقنية السرد، ولأسلوب الكاتب الذي يعرف كيف يصف، ويصنع الشخصية، ويقدمها في طرح دلالة النص.
2-4-أجل، إن الكتابة السردية في روايات زفزاف لم تستوعب الواقعية بوصفها مضمونا أو رسالة ينبغي توصيلها استجابة لحاجة مطلوبة، بل إنها، علاوة على ذلك، بنت عالمها، وبلورت رؤيتها، وصاغت معانيها متكئة، أساسا، على أدوات هي بنت التخييل الأدبي. وإنه بإمكاننا الوقوف عند هذه الخاصية إذا ما عالجنا إسهام هذا الكتاب في باب القصة القصيرة، كيف أمكنه إعادة نمذجة فنيتها قالبا وتقنية متجها بها في أفق النضج الحقيقي. صحيح أن القص القصير والرواية يتمايزان في خصائصهما، إلا أن التقنية ذاتها لا تتبدل، سيما إن أخذنا في الاعتبار طابع اقتضاب روايات زفزاف. فهو على الرغم من توفره على فضاء نصي مفتوح تؤهله الرواية عادة، نلاحظ حرصه على التشذيب أقصى حد، واطراح التفاصيل الفائضة والنافلة، كل عبارة في السرد وكدها وظيفة حاسمة سواء للوصف أو الفعل أو تطور الشخصية. ومن جانب آخر يجدر بنا أن نسجل أنه مع وجود التقاطع أو التمفصل بين المؤلف والسارد والبطل، كما سبق التنويه، فإن أدوار السارد والبطل قل أن تثير أي خلط. فإذا كان الواحد ينوب أحيانا عن الآخر فبوسع القارئ دون صعوبة تذكر تحدي موقع كل منهما. أما الخطاب الروائي فهو يتناسل من الحركة الداخلية تنشطها الأفعال والأجواء الشعورية للفرقاء. وهو ما يفيد، بتعبير آخر، أن التيمة أو الرؤية المستثمرة في الرواية تينع في تركيب العناصر التي يضعها المؤلف في خدمة حكيه، عناصر من طراز تقني (تكنيكي)، وأسلوبي ودلالي.
لا يفوتنا أخيرا التنبيه إلى أن علاقة المؤلف بالغرب توجد، أيضا، على مستوى التعلم الثقافي والأدبي، إذ بإمكاننا ملاحظة مدى تمثله لجمالية الرواية الحديثة، والفرنسية منها خاصة، وهو ما يسمح لنا باستخلاص أن العلاقة مع الغرب، على الأقل من خلال العمل المدروس، تتجلى في صورة تركيب بين قيم معتقدية وأخرى استطيقية. وقد كان من السهل على البعض -وأنا منهم- إدانة "المرأة والوردة" لدى صدورها، والتسرع إلى رجمها بالاستلاب(48)، غير أن ما فاتنا هو أن الحداثة في الرواية أو أي شكل من أشكال التعبير والفكر، لا يمكن بلوغها بإقامة التطابق بين القيم التقليدية والأشكال الحديثة.
ينخرط بطل محمد زفزاف في مصير شخصي، ويتصرف كما يحلو له ضد جميع ضغوط محيطه. صحيح تماما أنه لا يستطيع شيئا كثيرا ضد أسباب إحباطه، ولكن هذا بالذات هو ما يؤجج إحساسه بفرديته، وهي قيمة جديدة من قيم الواقعية الجديدة. وها هو ذا، في نهاية المطاف، يعود إلى نقطة الانطلاق، ولا يملك إلا أن يرسل نداء حارا إلى سوز. "أحبك وأحب الدانمارك. أنتظر دائما أن تنقذيني. أحبك…"(49). مدركا أن لا سوز، ولا الغرب هما ما يمثلان خلاصه الحقيقي.
3 - لحبابي: الحقيقة الفلسفية على محك القيمة الفنية.
3-1-إذا كان بطل زفزاف، كما عرفه بنفسه، هو ذلك المثقف الصعلوك، ابن نفسه، وبدون روابط حقيقية تشده إلى نظام ينبذه ميمما شطر الغرب بلا عقد، فإن بطل محمد عزيز لحبابي مثقف بدوره، بل إنه حاصل على دبلوم في الدراسات العليا من القاهرة، وعلى الدكتوراه من جامعة السوربون الباريسية. بيد أنه، خلافا لصاحب "المرأة والوردة"، فإن بطل "جيل الظمأ"(50) يقوم برحلة معكوسة، أي يعود إلى أرض الوطن، بعد إقامة في الغرب. إن المسار هنا مقلوب، وهو القلب الذي ينبغي اعتماده لإعادة تركيب الأحداث والعقدة اللذين يقودان إلى نهاية محتومة. رؤية محمد تتكون ببدء السفر من الدار البيضاء، عبورا بطنجة، ذهابا إلى إسبانيا، بينما رؤية إدريس تنفتح على إعلان عودته من باريس، وهي عودة تطرح، من البداية، مشكلة اختيار: "لقد رجع إلى المغرب منذ ستة شهور، وما زال حتى الآن في دنيا من الحيرة والغموض لا يجد سبيلا إلى الاختيار"(51). هو أستاذ جامعي، بينما "الهدف الذي يسعى، إليه، هو أن يصبح كاتبا أدبيا"(52). وتمتنع الرواية عن تقديم أي تفاصيل عن التغيير الذي طرأ على إدريس إبان إقامته في الخارج، باستثناء مقطع واحد تظهر فيه قريبة له وهي تعدد مآخذها عليه: "ها، ها!.. أفي سبيل مثل هذا غادرتنا إلى بلاد الكفرة المارقين؟ علموك ألا تتناول طعامك مثل باقي الناس، بل بالسكين والشوكة […] علموك أن تلطخ شعرك بالعطور مثل النساء […] علموك أن تحلق لحيتك […] حتى شاربيك حلقتهما. إنك امرأة، أين علامات الرجولة […] بدل أن تسير على قدميك مثل جدودك علمك الكفرة أن تستعمل "التوموبيل" وتركض مثل المجنون، آه، آه،"(53) خطاب يذكرنا بعبارات قيلت قبل عشرين سنة على لسان "عمي بوشناق" بطل قصة قصيرة للكاتب عبد الرحمان الفاسي. ما ينبغي استبقاؤه والحالة هذه من "جيل الظمأ" وخصوصا إزاء العالم المرجعي الذي سيظل مخفيا، بما أنه واقع في مرحلة ما قبل العودة إلى الوطن، هو الحيرة، واختلال التوازن، والتشوش المتولد عن الاتصال بالغرب، والذي يحث تبعا لذلك، على رد الفعل، أي الوعي واتخاذ موقف من الذات كما من المجتمع. و"الآخر" يمثل من جديد سبب توتر، خالقا وضعية صدامية بين "الأنا الأصيل" والأنا الآخر، المتولد عن المثاقفة. بإمكاننا قلب هذه الأطروحة فيما لو عمدنا إلى تأويل مغاير، ذلك الذي، من منطلق عنوان الرواية وإشكاليتها، يدرجها في إطار اهتمامات ومطامح جيل الاستقلال مباشرة. لا بد من أخذ هذا بعين الاعتبار دون أن ننسى بأن قسما من هذا الجيل قد تأثر عميقا بالثقافة الغربية إلى حد أن هذه العلاقة الضمنية التي يقيمها بطل لحبابي بالعالم الخارجي، المتروك خلفه، وإن ظل يسكن كل فكره يدفعه إلى مقارنات بين طرازين من الحياة والمجتمع والثقافة بالإشارة كثيرا إلى الدور المنوط بالمثقفين. وإذا كانت إحدى صيغ المقارنة تشير مباشرة إلى المجتمع المغربي غداة الاستقلال، وبالخصوص إلى الاختيارات السياسية والثقافية التي ووجهت بها النخبة، فإن الصيغة الأخرى أو بالأحرى خطابها يبقى صامتا، إنه مسكوت عنه يتميز بمعارضة للخطاب الاجتماعي المهيمن. والمعنى الإيحائي للغياب يكثف حضورها، أي ذلك الإطار المرجعي للغرب الذي يستلهمه المؤلف السوربوني لدعم مسار بطله.
3-2-والحالة هذه، فإن المسألة تبقى قائمة برمتها مادام جنس الرواية يتطلب أن تتبلور التيمة المعالجة تبعا لحدث روائي ووفق ضوابط معينة أو مختلفة للسرد. غير أن الرواية عند لحبابي -ولنذكر أنه جامعي وفيلسوف(54)- تتحول إلى حقل للنقاش النظري والتأمل المجرد. ففي "جيل الظمأ" بوسعنا الاستشهاد بصفحات كاملة يتطرق فيها المؤلف لدور المثقف(55)، أو للمواجهة بين الرؤية المثالية للعالم، لكائن في المجتمع، والطبيعة المادية لهذا الأخير المعرض لأنواع شتى من التناقضات. وهكذا فإن جميع الشخصيات، بأصواتها ومساراتها الذاتية، تعطي الصدى لأفكار المؤلف التجريدية. إنه لا يتحرك، لا يفعل بل يفكر، ويحلل، ويخطط للعالم من حوله. ومشكل المزج بين الأفكار هذا ينبغي أن يطرح بعبارت من "وليك ووارن (WELLEK et WARREN)، أي "لمعرفة كيف تتسرب الأفكار فعلا في الأدب. ونحن لا نتكلم بالطبع عن الأفكار الحاضرة في العمل الأدبي في حالة المادة الخام، أو المعلومة العادية. لا تطرح المسألة إلا في الحالة واللحظة التي تتلبس فيها هذه الأفكار بالفعل نسيج العمل الفني، وتصبح "بنائه"، وبإيجاز حين تكف عن كونها أفكارا بالمعنى العادي للمفاهيم لتتحول إلى رموز أو بل إلى "أساطير"(56). في حين نرى عند لحبابي بأن السرد والعقدة التي يتسلق حولها الحكي، والشخصيات والمحيط، كل هذه العناصر ليست سوى ذريعة، زخرفة لتمرير رسالة (MESSAGE)، فكرة فلسفية على الواقع أن يتطابق معها. وما هي بتاتا برواية أطروحة (Roman à thèse) ولكن أطروحة تتذرع في تبريرها بهالة روائية. وكيفما كانت طبيعة الرسالة فلن نخرج من متاهة الواقعية العسفية التي لا تتوافق نواياها مع طريقة مقاربة الواقع، وإعطائه شكلا. في هذا الموضوع يلح النقد على كون "المشكل الأكثر جوهرية في أعين الروائيين المحدثين -على الأقل منذ فلوبير- ربما يكمن في الشكل، الشكل الذي لا ينبغي أن يفهم كصعوبة تقنية مطلوب التغلب عليها ولكن في معناه الأكثر شمولية لـ "إعطاء شكل"، إعطاء معنى لما ليس له معنى، أي للعالم الذي نحن فيه ولحياتنا نفسها"(57)، وهو ما لا يعني البتة أننا نرفض للأدب كل مقدرة فلسفية. وبالمقابل يمكن طرح المسألة بالكيفية التالية: "أولا يجب أن نستخلص، على النقيض من ذلك بأن الحقيقية الفلسفية، بما هي عليه، ليست لها قيمة فنية تماما، مثلما […] الحقيقة السيكولوجية أو الاجتماعية لا قيمة فنية لها. وإذا ظهر المضمون الفلسفي أو الإيديولوجي، منظورا إليه في سياقه الخاص، وهو يعلي القيمة الفنية، فلأنه يعزز القيم الفنية الهامة: قيم التركيب والانسجام.. إن البعد النظري الثاقب يمكن أن ينمي حقل العمل الفني، وهو ما ليس مضمونا دائما. ذلك أن الإفراط في الإيديولوجيا حين لا تكون جيدة التمثل، يشكل معوقا لدى الفنان"(58).
ولقد أصيبت "جيل الظمأ" بهذا المعوق في القلب، وربما لا تحسب على المتن الروائي في المغرب إلا عرضا. فلقد كتبت في فترة كان صدور أي رواية في أدبنا يعد حدثا في ذاته، ولأنها أثارت، إلى حد معين، تأثير الغرب، وهو ما جعلنا نوليها بعض الاهتمام. على أنه لا مناص من الإقرار، ومن وجهة نظر سوسيوتاريخية، بأن نص لحبابي حاز استحقاق تقديم صورة عن الوضع السيكولوجي والاجتماعي لأفراد، المؤلف من بينهم، واقعين في مفترق الطرق بين حضارتين، وفي صدام مع قيم مجتمعهم دون الانقياد إلى قيم "الآخر". وضعية متسمة بالحيرة، وشهادة عن حقبة تاريخية. لا بأس إن قلنا في الختام بأن الكاتب استمد الكثير من عنديات حياته الشخصية لصوغ مادة روايته وهو ما يؤكد الطابع السير ذاتي الذي سبق وأشرنا أنه يدمغ رواية المغرب، وهي في تبلورها التدريجي.
4 - العروي، قبالتي يقع "الآخر"
4-1-ليست الرواية التي يكتبها الفلاسفة أو رجال الإيديولوجية معرضة دوما للفشل، إذ هاهو عبد الله العروي، مريد آخر في هذه المدرسة، والذي يعتبر التحليل التاريخي وفلسفة التاريخ محور نشاطه الفكري، والمتشبع حتى العظم بالثقافة الغربية، يختار الرواية، أيضا، شكلا للتعبير. والعروي كاتب الرواية هو من يعنينا هنا وإن كان من الصعب سل هذا المفكر من عجين الكاتب والعكس أيضا. والعروي ذاته يعترف بهذه الازدواجية، في تقديمه لروايته: "الغربة"(59)، التي سنحلل هنا، يقول: "درست منهجيا علاقة الماضي بالحاضر في أذهان العرب المعاصرين كما حاولت أن أحدد مدى تأثير التنظيمات الاجتماعية العتيقة في حياة مغاربة اليوم. لكن الدرس المنهجي سبقه تصوير مباشر لازدواجية العقل والذوق والإحساس التي عرفها كل من عاش في مجتمعنا مرحلتين تاريخيتين واغترف من ثقافتين متنافرتين. هذا التعبير المباشر الذي تلونه حساسية المراهقة أقدمه للقراء بعد تردد طويل مشاركة مني في ضبط موضعنا الوحيد، وهو رسم ملامح شخصيتنا القومية في زمننا هذا"(60). والواقع أن العروي ظهر على الناس أول مرة بعمل فكري سيحظى بشهرة واسعة، نعني كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة" الذي ستتبعه بانتظام أبحاث تاريخية وسوسيولوجية(61)، فيما سيوالي إنتاجه الأدبي على هامش دراساته الجامعية.
في كتاب "الإيديولوجية، "نعثر على واحد من المفاتيح القادرة على مساعدتنا للنفاذ إلى العالم المركب لـ"الغربة". المفتاح الذي يكشف عن حضور الغرب في فكر المؤلف واستراتيجية تفكيره عموما. ففي مقدمة "الإيديولوجية" يسجل ماكسيم رودنسون، أن العروي استدعى ما أسماه "الغرب النقدي" "في نزعة تصعيدية في متاهات الوعي العربي الراهن(62). أما العروي ذاته فهو يحدد إشكالية كتابه في أربع نقاط نسجل منها النقطتين التالين:
"-أولا تعريف بالنفس، ولكن بما أن كل تعريف هو نفي، فقبالتي يقع الآخر، أو بالضبط إن العرب يعرفون أنفسهم بالعلاقة مع الآخر. هذا هو الغرب؛
-وصف مسعى أنا العرب، هو إذن التقديم في الآن عينه لتاريخ حقيقي لصيغة الغرب"(63).
لا يتعلق الأمر هنا بتأمل نظري ولكن أكثر بمظهر وعي ثقافي وتاريخي يرفقان، معا، البحث الشخصي في الإبداع الأدبي إن لم يهيمنا عليه. أكيد أن المؤلف يعلمنا بأن مبحثه يأتي زمنيا في موقع ثان قياسا بالرواية(64)، وهو ما لا يلغي وجود تصور شامل، متولد عن المعطيين كليهما، بل بنية مشتركة تجلي مكوناتها بالطريقة الملائمة لدى كل تعبير.
4-3-في "الغربة" هناك محوران يتبادلان حضورهما في النص: واحد ينصرف إلى الماضي والآخر إلى الحاضر. وهما يتجذران حسب درجة التوتر التي يحس بها كل واحد من الفرقاء. ويحدث أن يحيل هذا إلى ذلك بلعبة أساليب وتلميحات مجازية يمحي معها كل تمييز بين الماضي والحاضر، ما سيصنع في لحظة الالتحام هذه محورا ثالثا القارئ حر في رسم موقعه. تنطبق هذه العملية على الزمن والفضاء والشخصيات، وأخيرا على الدلالة الممكن استخلاصها من قصة ترفض بطبيعة رؤيتها كل تأويل أحادي البعد. لنتناول هذه الملاحظة بتفصيل: فبمحور الماضي نفيد ما يكون الذاكرة التاريخية للشخصية الرئيسية (إدريس)، والعلاقات التي يقيمها مع وسطه: الأهل، الأصدقاء، رموز وذكريات الطفولة أو تاريخ بلاده. في هذا المقطع الزمني لنا أن ندمج الماضي القريب، ذاك الذي يصله بالشمال أو الغرب، يعاد تذكره عبر المعيش اليومي، والتساؤل الملحاح عن المصير.
في المحور الثاني هناك مدينة تقع جغرافيا بين النهر والبحر، وثمة إدريس، بالطبع، والأب، ومريم ابنة العم، عمر وشعيب، الصديق، المناضل وذاكرة المدينة. هناك أيضا ماريا، ولارا، في الضفة الأخرى للمتوسط، في باريس. هذه الشخصيات والفضاءات تنبثق أساسا من ذاكرة إدريس وتحلق في مخيلته، وإذا قدر لها أن تتحرك بمفردها لحظات فإنها لا تلبث أن تعود من حيث انبثقت، أي إلى إدريس، السارد والشخصية. وهو سارد يخلق الإيهام بالكائن والعدم، بالظرفي واللانهائي، دافعا إلى أقصى الحدود ثنائية الماضي-الحاضر، مثبتا شخصية ما في وضع محدد ثم ماحيا لها فجأة، دون سبب ظاهر، من مرآة الوعي مثل ساحر يخلق أمام الجمهور أشياء وهمية. ورغم الوجود المادي للمدينة-التي لا تسمى أبدا- فهي مقدمة تارة بكيفية شبحية، وتارة أخرى في مظهر أسطوري. وهذا الأخير، مثلا، يشخص من خلال ضريحين: ضريح الولي الصالح مولاي بوشعيب في الضفة الغربية للمدينة، وضريح عائشة البحرية في الضفة الشرقية للنهر. وهما علامتان تعينان مدينة أزمور المغربية على الساحل الأطلسي، هكذا يتم استحضار مولاي بوشعيب راكبا أسدا لعبور النهر ( = نهر أم الربيع) نحو عائشة دون أن يبلغ مراده، وأقواله التي يرسلها إليها هي الأقوال ذاتها التي يوجهها إدريس إلى مارية وهو على وعي تام بالهوة التي تفصل بينهما. أما المحور الثالث، الممثل للالتحام، فهو يؤثر عمل الذاكرة. إنه نقطة تقاطع بين زمنين وفضاءين: الماضي المستعاد في الحاضر (الأب، العم، شعيب، الذين يواصلون حياتهم لاهين عن كل تغير) ثم شعيب وهو يسترجع ويعيد التركيب بل ويحلم بصور من ماض بعيد أملا في العثور على الشرعية والطمأنينة. والواقع فإنه عبر هذا التقاطع أو التداخل فالمستقبل هو ما يهرب، غارقا في انعدام اليقين والخيبة اللتين سببهما الماضي /الحاضر، وحيث يشكل الغرب النواة المركزية بالعلاقة مع روح ممزقة، مهزوزة، وفي البحث عن هوية متوازنة، روح إدريس.
4-3-ترى مم يشكو إدريس تحديدا؟ هل من الممكن إدراك جذور اضطرابه؟ وهل أزمته من طراز اجتماعي، سياسي، تاريخي، عاطفي أم وجودي أم هي هذا كله؟ للإجابة على هذه الأسئلة لا مناص من إلقاء الضوء، أولا، على الوقائع المسرودة في "الغربة"، والفضاء الذي تجري فيه. وما هي بالمهمة الميسورة، نظرا لأن هذه الرواية تشق حقا عن التلخيص . والمؤلف نفسه يشير إلى شيء من هذا في ما كتبه في صورة تنبيه ختامي نورد منه هذه الفقرة: "إني لا أصف الأحداث وإنما أصف العواطف التي نشأت على أعقابها، تلك العواطف المتولدة التي لا تنعكس غالبا في مرآة الوعي"(65).
ما لا يمنعنا من استقراء أن الحكاية تدور في مسقط رأس إدريس، في مدينة ساحلية، خلال فصل صيف. والتأريخ يبقى مقلقلا ولكن بوسعنا، أيضا، أن نستنتج - انطلاقا من بعض الأحداث المنقولة على لسان السارد مشيرة إلى حضور العساكر الأجانب، واجتماعات المقاومين وعملية مسلحة ضد أحد المتعاونين مع الاستعمار- بأن الرواية تتراوح زمنيا بين حقبتين، واحدة سابقة على الاستقلال، والثانية غداته مباشرة. إدريس يعيش زمن العطلة الصيفية، يقضي وقته في الشاطئ، وزيارة الأقارب، وتبادل الحديث مع شعيب ومريم. غير أن هذا كله ليس سوى ماجريات عابرة بما أن الفعل الحقيقي لن يحدث إلا بدءا من اللحظة التي ينكب فيها البطل على نفسه، ويحس بأنه يسبح في مجرى ذاكرته مع بقائه في آن على صلة بالعالم الخارجي، بما يعمق بحثه الداخلي. يشرح لنا توماس وولف (Thomas Wolfe ) بشكل ساحر هذه الوضعية والكتابة بقوله: "أنا -يقول بطل رواية حديثة- جزء من كل ما مسست وما مسني، والذي ليس له من وجود غير ما أعطيته، وأصبح آخر مختلطا ما مع كنته آنئذ، والذي تحول أيضا، بما أنه اختلط بما أنا هو، وما أنا هو التراكم الذي أصبحت عليه"(66).
حقا، إن كل شيء منطلقه إدريس، ويتابع مسارا محدودبا ليعود إلى نقطة الانطلاق. بينما الشخصيات التي تتسلق حوله، حتى وهي حائزة على خصائص وحضور فيزيقي، ومساهمة في صنع بؤر لعالم الرواية، فإنها تبقى هي وهمومها تمثل جزءا لا يتجزأ من رؤية إدريس. وهي مهما بلغ تشخيصها، الذي ليس إلا عرضيا، لا تزيد عن كونها تعددا من الوجوه لصورة واحدة. لشخصية وحيدة، إلى حد أن الانعكاس يصل إلى مستوى ازدواج الشخصية. ذلك أن عمر، الشخصية المطروحة كمحبوب لمارية هو إدريس نفسه. وعوض أن ينتقل هذا الأخير في الزمن والمكان يبقى مشدودا، مؤقتا، إلى مسقط رأسه تاركا مارية تبوح بحنينه إلى الغرب، إلى باريس "بلد الشعر والهواجس"(67)، عاصمة العالم "وتذكرت مارية ذلك الكاتب النحيف الذي قيل له يوما في بورسعيد إذهب إلى عاصمة الدنيا تبتسم لك الحياة"(68). تتحدث مارية، أيضا، عن أحد اقتناعاته، أي استحالة البقاء بعيدا عن باريس والعودة الحتمية إلى مدينة الأنوار(69). أما لارا، هي شخصية ثانوية، من ذكريات البطل، جاءت إلى باريس من بلد أجنبي وبقيت مشدودة إلى هذه المدينة، فترسل إليه رسالة مصدرها في الحقيقة هو مارية: "يقولون لك هنالك وراء البحر انفتحت الآن أبواب القصور المزلجة والمغاني المزخرفة، ومهدت لكم طريق الربوة العالية والفنادق الفخمة، لعل الأمر كذلك.. لكن الجديد في القلوب لا في الدور المشيدة على الكورنيش وعلى القمم"(70). مارية حاضرة وغائبة، جسد ورؤيا، حقيقة وحلم معلق. وشخصيتها تهب أنثويتها كاملة، إنها المرأة المرادف للغرب. هكذا، خلافا للدوعاجي أو زفزاف أو الطيب صالح، نجد أن العشق والهيام بالمرأة المحبوبة ينوبان عن الجنسنة المعهودة للغرب. يمكن ملاحظة ذلك عبر تدفق مشاعر إدريس (= عمر) تجاه مارية دائمة الحضور في ذهنه، والتي يشده إليها حنين عميق، والمستحضرة في كل مرة يرد فيها الغرب وحدة في الخطاب، ونقطة تداخل أو تقاطع بين الماضي والحاضر والمستقبل. إنما، وبمعزل عن المرأة وطبيعة العلاقة القائمة معها، يبدو جليا أن الأهم عند العروي يكمن في البعد الرمزي لهذه الوضعية حيث "الآخر" وهو في آن مصدر حنين وصورة اختلاف، يؤهل لحوار مثمر مع الغرب سواء لتسفيه أنويته المركزية، أو لإعادة تكوين الهوية الوطنية. هنا ينبغي القول بأن القيمة الكبرى للرواية متأتية من بحث الشخصية، التي ترى أنها بدلا من الاستقرار في رؤية ماضوية أو وحيدة البعد، كما هو الشأن في رواية "دفنا الماضي" لعبد الكريم غلاب، ترفض كل تراض مع الماضي، وتشيح بوجهها عن كل تواطؤ مع الحاضر. وعلى غرار هويتها، وأبعد من أن تكون محافظة أو جامدة، فإن بحث الشخصية أو مسعاها ينكشف لنا، أيضا، إشكاليا، وذلك عبر الملامح المختلفة المفروزة من خلال مسارات فكرها، المعبر عنها بشذرات المونولوغ الداخلي، أو بمقول ومناجاة شخصيات ترمز كل واحدة منها لمحاور الإشكالية العامة للخطاب الروائي لـ"الغربة"، هذه المسارات التي هي سيكولوجية قبل كل شيء قابلة لأن تفكك كالآتي:
4-3-1-لنبدأ بمسار شعيب، وإن جاء في المرتبة الثانية من إدريس. فهو يشخص الماضي من زاوية الأصالة والروحية. ذاكرة الماضي تسكنه وتعلقه بالحاضر يعبر عنه برغبة في التغيير، أو بالأحرى إقرار أسس عالم مهتز تحت ضغط الأجنبي. إنه يمثل ضمير المدينة وروحها الصوفية-أو ليس متماهيا أو مخلوطا عمدا بالولي الصالح مولاي بوشعيب، عين التاريخ وملاذ التعساء؟- وهو الذي يستمد من إدريس، كناية عن الجيل الجديد، قسما من ثقافته. شعيب مكتف بذاته وهو يعيش حياة ديناميكية موزعة بين ممارساته الدينية، والسياسية، والاجتماعية. غير أن نهجه، الذي يرمز إلى جيل قيمه إلى زوال، يبدو كأنه وصل إلى مداه فيما قيم أخرى تغزو التاريخ. هذا واحد من المظاهر الجوهرية للغربة بأبعادها المتعددة في "الغربة".
4-3-2-أما مسار مارية، المشخصة لرؤية معينة عن الغرب، فهو لا ينطبع ولا يأخذ أي شكل بسبب التبعية لإدريس، فهو نوعا ما امتداد لروحه.
4-3-3-نصل إلى المسار المركزي، المركب، الخاص بالشخصية الإشكالية لإدريس، وهو مفرد ومتعدد في آن. عمر، مارية وشعيب يغذون ثلاثتهم وعيه، ويتحركون في محيطه، جاعلين منه فردا متعدد الأبعاد. عمر هو أناه الأعلى. وغربته تتأتى من انقشاع الوهم تجاه ميراث الماضي والعالم الأجنبي (=الغربي) حيث لم يلق الخلاص رغم انطباعه بثقافته، وإذ يطرد من هذا العالم يضطر للبحث عبثا عن ملاذ قرب ذويه: "إني في حاجة إليكم.. لا أستطيع العيش مع هؤلاء وهم ينظرون إلي كأني من بقايا أمة دراسة"(71). هكذا يتكلم إدريس باسم عمر، معبرا عن قلقه الخاص. ومع ذلك فهو يمثل نفس الأطروحة لشخصية شعيب، وللماضي الذي يسكن دوما إدريس دون أن يتمكن هذا الأخير من التخلص منه: "إني مدين لك يا شعيب.. لكن كيف أتخلص من هذا الدين؟"(72). لكن هل ثمة وسيلة للوصول إلى تركيب (synthèse)، لتخطي الخيبة التي ولدها التاريخ والحب (مارية): هذان المحوران اللذان يتحرك حولهما مصير الشخصيات؟ وهو ما يثير، في الواقع، سؤالا آخر: لكن، من يكون إدريس هذا؟ إنه يعرف نفسه كالآتي: "أنا ابن الثامنة والعشرين وكأن دور حياتي قد انتهى.. نعم رافقت هتلر ورومل ومازلت أعايش هيروهيتو، وتيتو، لكني شاب"(73). ويساهم أبوه من جانبه في التعريف به: "[…] إنه رغم التطواف في بلدان الكفر لم يتعلم أي بدعة"(74).
بيد أن هذا الرجل الذي يلح على عمره الشاب هو الذي ينتهي في متم الرواية إلى الاستخلاص التالي: "كل شيء ينحدر نحو الزوال"(75). لا نظن أن هذا هو التركيب المطلوب، أو ما قد يعوض عنه. كما لا يمكن أن ننتظر موقفا محسوما ما دام البطل يعيش مرحلة انتقالية، مرحلة استقلال المغرب التي وردت الإشارة إليها تلميحا. على سبيل المثال، فهي إحدى الشخصيات الثانوية، لارا، من سيسجل الإحالة: "لم تتحرر البلاد وإنما تحررت قلوبكم، ولو تحررت البلاد فعلا لعرفتكم عواطف أخرى. تبدون الآن كالأموات وأنتم في الحقيقة تقتربون خطوة خطوة من عهد الرجولة، من همس الكلام وخافت الشعور والصبر الطويل.. هذه وقفة الزمن ومهلة الأحداث وأنتم عليها شاهدون..،"(76). هذا المقطع، ومثله كثير، يردد صدى خيبة إدريس موحيا بنفسية جيل يواجه بانقشاع الأوهام منذ فجر الاستقلال: "كل شيء ينحدر نحو الزوال"!.. فهل يحسم هذا الاعتراف في الموقف المركب لإدريس؟ ومن هذا المنطلق، هل أصدر العروي حكما غير قابل للاستئناف على حقبة تاريخية محددة؟ لا، بكل تأكيد. ذلك أن إدريس بحكم طبيعة شخصيته المزدوجة، المثلثة، المركبة، بمنجاة من كل تقويم قطعي. إن حافزه الرئيسي هو عدم الاستسلام لقدرية الهزيمة المناقضة كليا لوضعه الشاذ، الخارج عن العادة والإشكالي.
4-4-بين أيدينا الآن، نموذج لما ستصبح عليه الشخصية الروائية في رواية المغرب، في نهاية العقد السبعيني وما بعده. إن تلك الشخصية التي كانت تقدم في الإطار المحدود الذي يعرضها، وهي محط الشروط السوسيوتاريخية المحيطة بها، فقط، ستنتقل إلى مستوى يعلي أناها الداخلي ويطلق مجرى النشاط الكثيف لوعيها، وكي لا تظهر خاصة ذلك العاكس بوفاء تام لصورة معينة عن المجتمع. إن مرآة هذا المجتمع ذاته ستتغير، بل وستتشظى حاملة التمثيل السردي إلى تجريب مقاربات أخرى للواقع بديلا لما استنفد. أما العروي، فمن الواضح أنه مشارك في رؤية شخصيته، وبوسعنا استقراء نزعته لتجنب النطق بحكم نهائي على التاريخ، مبددا بذلك الإيديولوجية السائدة والأدب المرتبط بها، القائلين بأن إعلان استقلال البلاد مثل تحولا حاسما. خلافا لبطل غلاب، فإن بطل العروي يرفض الحبور الساذج، ويعلن عاليا في نهاية الرواية: "كلنا ذاهبون إلى مراكش راجعون منها ولكل منا عائشة يناجيها من بعيد.. كوني عائشتي يا مارية. وإني لأراك متوهجة العينين تضرمين في المدينة نار الثورة والغضب لا تهدأ لهم ثائرة إلى أن ينهض النائم ويستقيم المعوج. يا دعاة الزينة والخديعة"(77). إنه خطاب الواقعية الجديدة، والبطل المتمرد، الخيبة والانعتاق، خطاب يرفض المصالحة الزائفة مع التاريخ وينبذ أدب الانعكاس والتبعية لمبادئه المسبقة، إيديولوجية أو غيرها.
وهو في الواقع وعي وموقف إزاء التاريخ كما المجتمع، يأخذ التعبير عنه عند العروي شكل فكر، ويتشابك بنظام مفهومي مرسوم بعناية في كتابه الرئيس "الإيديولوجية العربية المعاصرة"(78). في هذا الكتاب نقف على مخطط تفكير ذي قرابة بشخصيات "الغربة"، وعلى تأمل ينصب على المشاكل الحادة للمثقف العربي في مواجهة الدين، والمجتمع، والإيديولوجيات، والاختيارات السياسية، وعلى الخصوص علاقته بالغرب.
إن الفصل المعنون "ثلاثة رجال، ثلاث تعريفات"(79) يشهد تخصيصا على القرابة بين العملين. فالشيخ، والسياسي، ورجل التقنية -المرسوم إهابهم في هذا الفصل- يستمدون تعريفاتهم، بالتتابع، من الدين، والتنظيم السياسي، والنشاط العلمي والتقني-وبحسب العروي، فإن التعريفات الثلاث تسمح بإدراك المشكل الأساس للمجتمع العربي - فالنماذج الثلاثة مواجهة بتمايز مع الغرب، وممثلة لذهنيات مختلفة ولها تصور معين عن النهضة والتقدم، والتي تمر حتما عبر قراءة خصوصية لـ"الآخر". ومحمد عبده، علال الفاسي، لطفي السيد وسلامة موسى، مطروحون بوصفهم يمثلون تباعا كل واحد على حدة النماذج الثلاثة المذكورة.
بإثارتنا لأشكال الوعي الديني والسياسي، والتقاني، فإن ما يهمنها في المقام الأول هو معرفة إلى أي حد تقترن برؤى العالم المضمرة فيها، بمسارات شخصيات رواية "الغربة" وبالذات شعيب وإدريس. فشعيب يعكس المكون الديني للمجتمع، النزوع إلى الأصالة، والحاجة لإعادة الاعتبار لهوية الماضي دون رفض بالجملة للحاضر. أما إدريس فهو في مفترق طرق ثلاثة أنهج، يشخصها كلها مع التمييز عن كل واحدة منها، وحاملا نظرته الغربوية نحو المستقبل كمن يريد القول بأن العلاج لوجوده الإشكالي، لبلبلته، مكانه المستقبل وحده. بيد أن الروائي الذي يرفض الحتمية لصالح الحلم، ليس هو المفكر، بالمقابل الذي يؤثر القول القاطع، واجدا أن "التمييز بين أنواع الوعي الثلاثة ضروري دائما، إذا كنا نريد حقا التوفر على أداة للفهم والحكم"(80).
هوامــش:
1 - "يستعمل المغاربة إشكالية هي ذاتها التي استعملت أو تستعمل عند المفكرين العرب في بلدان عربية أخرى، ولا يمكن الحكم على هؤلاء دون الحكم على أولائك. فما هي هذه الإشكالية؟ إنها تتلخص [..] أولا (في) تعريف للأنا. وبما أن كل تعريف هو نفي، قبالتي يوجد الآخر أو بتحديد أدق، إنه بالعلاقة مع الآخر يعرف أنفسهم. وهذا الآخر هو الغرب".
أنظر: LAROUI Abdellah : L 'idéologie arabe contemporaine, Paris, François Maspero Textes à l'appui, 1977, pp. 3 - 4.
2 - انظر: KHATIBI Abdelkebir: Le roman Maghrebin, Rabat SMER, 1979, p. 67. -يقول الخطيبي على وجه الخصوص: "إن المثاقفة في الرواية المغاربية هي تحديدا الحياة اليومية مضاف إليها الآخر: إدراك وضعية صدامية والانتقال من بنية اجتماعية إلى أخرى"
3 - في هذا الصدد انظر كتاب:
شرابي، هشام "المثقفون العرب والغرب" بيروت دار النهار للنشر 1971.
4 - موسى فاطمة "في الرواية العربية المعاصرة" القاهرى، مكتبة الأنجلو المصرية، 1972، ص 231-232.
5 - نفسه.
6 - الدوعاجي علي "جولة بين حانات البحر الأبيض المتوسط" تونس. الدار التونسية للنشر، 1983، ط. 4، ص 11.
نشر النص للمرة الأولى في مجلة "العالم الأدبي" من سبتمبر 1935 إلى فبراير 1936، ثم أعادت نشره مجلة "المباحث" بين يوليوز بين يوليوز وسبتمبر 1944.
7 - نفسه، ص 11.
8 - نفسه، ص 8
9 - الخطيبي، م.س، ص 69.
10 - الدوعاجي، م.س. ص 15.
11 - زفزاف محمد "المرأة والوردة، بيروت، منشورات غاليري 1، 1972 (سلسلة الكتاب الحديث).
12 - الطهطاوي رفاعة "تخليص الابريز إلى تاريخ باريز"، القاهرة، بولاق، ط.1، 1934.
13 - الدوعاجي، م.س. ص 9.
14 - زفزاف، م.س، ص 7.
15 - نفسه، ص ص 10-11.
16 - تحيل عبارة "الأقلية البيضاء" إلى قسم كبير من البورجوازية المغربية ومنبتها مدينة فاس. وتتكرر هذه الإحالة وتتضح بصورة أجلى في رواية أخرى لزفزاف هي "الأفعى والبحر" (1979)، حيث يشير إليها أو يعينها بعبارات قدحية انطلاقا من أسماء العائلات التي تبتدئ بحرف الباء (بن) - انظر ص 21 من الرواية المذكورة.
17 - زفزاف، م.س. ص 28.
18 - نفسه، ص 43.
19 - ن.، ص 45
20 - ن.،ص 31
21 - ن، ص 56
22 - ن، ص 63
23 - ن، ص 44
24 - ن،ص. 63
25 - ن،ص 44.
26 - إدريس سهيل "الحي اللاتيني"، ببيروت، دار الآداب، 1954. انظر عطاوي نجيب. تطور القصة اللبنانية العربية بعد الحرب العالمية الثانية. بيروت، منشورات دار الآفاق الجديدة. 1982.
27 - الدوعاجي. م.س. ، ص 68.
28 - زفزاف، م.س.، ص 63
29 - ن.، ص 64
30 - ن.، ص 15
32 - ن.، ص 54
33 - ن.، ص 55
34 - ن.، ص ص 54 -55
35 - ن.، ص 79
36 - ن.، ص 93
37 - ن.، ص 52
38 - ن.
39 - ن.، ص 60
40 - ن.، ص ص 60-61.
41 - انظر: GEORGES , May. L 'autobiographie, Paris. PUF, 1979.
انظر خاصة الصفحات من 169 إلى 196.
42 - نفسه، ص ص 175-176.
43 - يشير أحمد اليابوري إلى أن الشخصية المركزية في "المرأة والوردة" تمثل زفزاف نفسه، من صورة شاب بوهيمي، طالب سابق ومتمرد على أساتذته، والصورة المطبوعة على غلاف الرواية قرينة بصورة الشخصية في الرواية.
انظر قراءة جديدة "للمرأة والوردة في المحرر (الملحق الثقافي)، الدار البيضاء. 17 يونيو 1979.
44 - زفزاف محمد، "أرصفة وجدران" بغداد، منشورات وزارة الإعلام، 1974.
45 - زفزاف محمد، "الأفعى والبحر" م.س.
46 - زفزاف محمد، "الثعلب الذي يظهر ويختفي"، الدار البيضاء، منشورات أوراق، 1985. نشر زفزاف أيضا الروايات التالية:
-"قبور في الماء"، تونس، طرابلس، الدار العربية للكتاب، 1978.
-"بيضة الديك"، الدار اليضاء، منشورات الجامعة، 1984.
47 - انظر في هذا الصدد، أيضا مدخل لمناقشة زفزاف. في المحرر (الملحق الثقافي) الدار البيضاء، 30 نوفمبر 1975.
48 - المديني أحمد، قراءة على هامش رواية هامشية. في المحرر (الملحق الثقافي)، الدار البيضاء، 9 نوفمبر 1975.
49 - زفزاف "المرأة والوردة"، م.س، ص 94.
50 - الحبابي محمد عزيز، "جيل الظمأ" الدار البيضاء، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، 1982. طبعة جديدة.
51 - نفسه، ن.ـ ص 13
52 - ن.، ص 12
53 - ن.، ص 75.
54 - علاوة على مجاميعه القصصية فقد نشر لحبابي عدة أعمال فلسفية منها:
-De l'être à la personne, Paris, PUF, 1954.
-Liberté ou libération?, Paris, Aubier, 1960.
-Du clos à l'ouvert, Casablanca, Dar al-Kitab, 1961.
55 - لحبابي جيل الظمأ .. م.س. ص ص 107، 111، 112، 113، 115، 125، 126.
56 - WELLEK, René et Austin WARREN. La théorie littéraire, Paris, seuil, 1971, p. 169.
BOURNEUF, Roland et Réal ouellet. L'unvers du roman, Paris, PUF, 1981, p. 212.
WELLEK et WARREN, op.cit., 170.
59 - العروي عبد الله "الغربة" الدار البيضاء، دار النشر المغربية 1971.
60 - نفسه، انظر ظهر الغلاف.
61 - من مؤلفات العروي النظرية نذكر:
-L 'édéologie arabecontemporaine, Paris, Français Maspéro, 1967.
-La crise des intellectuels arabes, Paris, F.Maspéro, 1974.
-Islam et modernité , Paris, La découberte, 1986.
62 - العروي الإيديولوجية … م.س.، ص XIX
63 - نفسه، ص 4.
64 - في تنبيه ختامي على هامش الرواية يسجل العروي: "كتبت القصة المنشورة هنا في خريف 1956 وكانت تحمل عنوان "على هامش الأحداث" ثم أعيدت صياغتها كليا في صيف 1958 وجزئيا سنة 1961 ثم تركت بعد ذلك على حالها" ونحن من جهتنا لا نعير كبير أهمية لهذا التنبيه مولين تقديرنا فقط لتاريخ صدور الرواية، وما أحدثته من تأثير في السياق الأدبي العام.
65 - العروي، م.س، ص 202.
66 - WOLFE Thomas. Look homeward, NewYork, Angel, 1929, p. 162.
Traduit et cité par Michel ZERAFFA In: Personnage, le romanesque des années 1920 aux années 1950, Paris, éditions Klin cksieck, 1971, pp. 173-174.
67 - العروي، م.س، ص 10
68 - ن.، ص 41
70 - ن.، ص 131.
71 - ن.، ص 129
72 - ن.، ص 113
73 - ن.، ص 134
74 - ن.، ص 136
75 - ن.، ص 138
76 - ن.، ص 131
77 - ن.، ص 141.
78 - العروي، الإيديولوجية، م.س.
79 - نفسه، ص ص 19-25
80 - نفسه، ص 49.
1-1-في المسار الذي قطعه الكاتب المغربي ( = الروائي)، سواء على مستوى تبلور تيمة خطابه أو البناء الجمالي للإنتاج الروائي على العموم، نجد الغرب أو "الآخر" بالصيغة التي انتشرت مع العروي(1)، يفوز بحصة معتبرة. إنه حضور يهيمن على الأدب الروائي العربي بصورة عامة، وينهض قاعدة لمحاولات التجديد الأولى، ونحن نعتبر أن الاتصال مع الغرب قد أثر بقوة على عدد من الكتاب العرب في السياق الشامل للمثاقفة(2)، دعك، بطبيعة الحال، من التأثيرات الجوهرية التي أحدثتها المدنية الغربية منذ العقود الأخيرة إلى القرن التاسع عشر(3).
ويعلن تاريخنا الأدبي اعترافه الكامل بهذا التأثير، وعلى سبيل المثال ما ذكرته فاطمة موسى، من أن اتصال الكاتب العربي بالغرب في مطلع هذا القرن هو ما سينير أمامه الطريق ويدفعه للوعي بهويته العربية، وبالتالي سيحثه على خلق عالم خصوصي عبر الأشكال السردية الحديثة، أي الرواية والقصة القصيرة(4). وتشير الباحثة نفسها إلى أن إقامة "هيكل" في الخارج هي التي ستكون وراء رواية "زينب" بينما سيغتني "توفيق الحكيم" تجربة في فرنسا، فيكتب "عودة الروح" (1933) و"عصفور من الشرق" (1938). وهو ما ينطبق، عندها، أيضا، على يحيى حقي، في العقد الأربعيني بكتابته لـ "قنديل أم هاشم" (1944)، وعلى الطيب صالح في العقد الستيني مع روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال" (1967)(5).
أما الأدب العربي في بلدان المغرب الكبير فقد كان بدوره منجذبا للعلاقة مع الغرب وذلك منذ العقد الثلاثيني. ونحن هنا لا نرجع، فقط، إلى وجوه التحول المباشر أو غير المباشر التي نجمت حتما عن الفعل الاستعماري مع ما ترتب عنه، ولا إلى استخدام أو تقليد بعض الصور، والصيغ الثقافية أو الجمالية لمعارضة كتابة تقليدية استنفدت روافدها. فلقد تجلى التأثير، أيضا، في كون هذا الأدب قد انكب على الغرب بوصفه موضوعا محددا للاستقصاء وليس لمجرد التلميح، وهذا ما تتوقف عنده رواية الكاتب التونسي علي الدوعاجي (1909-1949) "جولة بين حانات البحر الأبيض المتوسط"(6)، هذه القصة التي تتأسس تدريجيا بربط العلاقة مع "الآخر" وفق رؤية خصوصية.
والحق أن إلصاق اسم الجنس الأدبي بهذا الكتاب ليس إلا تعمية إذ أنها -الرواية- حسب مؤلفها لا تبتغي أكثر من وصف ما وقعت عليه العين وهي تتنقل بين مرافئ البحر المتوسط، وما استراح فيه الكاتب من مقاه وحانات(7)، فضلا عن أن القصة حسب الناشر بقيت غير مكتملة(8). ما يهم هو طبيعة الرحلة إلى الغرب الذي هو موضوع افتتان، والرؤية المبثوثة في النص. إن الخطيبي، الذي يعتبر "جولة" بمثابة أول رواية في المغرب العربي يرى أنها تعبر عن رؤية الغرب كامرأة. فالدوعاجي يجنسن رؤيته للغرب والشرق معا، محتفظا للأولى بالمادية وللثاني بالروحية(9). فعلا إن ما كان يراه الدوعاجي في تجواله من مدينة "نيس" إلى "نابولي"، ومن "أثينا" إلى "إسطمبول"، يبرزه بصورة جنسية أو تحت صفات أنوثية، وهكذا فإن "نيس" مثلا هي "مدينة الحب الشيطاني، مدينة المتعة"(10). ووهج المقارنة بين الشرق والغرب يظهر قارا في هيئة معارضة بين سماتها الخصوصية.
وعموما، فإن جميع الروائيين العرب الذين انجذبوا إلى الغرب بلوروا الرؤية ذاتها. الدوعاجي التونسي، والمصريون: يحيى حقي، توفيق الحكيم، طه حسين، واللبناني سهيل إدريس، والسوداني الطيب صالح، وصولا، إلى المغربي محمد زفزاف. كل منهم، وعلى طريقته، قدم صورة خصوصية لعالم أغراه. وتصب الصور مجتمعة، على الأغلب، في رافد مشترك أي في جنسنة المرئي كوسيط لتفجير المكبوت واختراق "التابو" ( = المحرمات).
ولا يقل حضور تيمة الغرب في الكتابة الروائية المغربية عما هو عليه الحال في المشرق، وهو ما ظهر في مرحلة أولى عند عبد المجيد بن جلون في سيرته الذاتية "في الطفولة" التي رسمت لنا طفولة مقسمة بين مدينتين (لندن وفاس) متعارضين أشد التعارض. غير أنه، وبعد هذا الرائد في جنسه، ومع روايات أخرى أو روايات سير ذاتية، اتخذ حضور الغرب موقعا جوهريا، ومرتبطا في آن بنوع من البحث في تطوير الكتابة السردية ولنهج الواقعية. ونحن هنا نفكر، على الخصوص، في محمد زفزاف وعبد الله العروي. وباستقصائنا للرؤية التي شكلاها عن الغرب، أو فهمهما له، كما يستخلص من عملين أساسين من أعمالهما، فإننا نرغب، كذلك، في استكشاف النقاط الحاسمة في تطور الكتابة الروائية لهذا الأدب، والتي ساهمت في رسم نهج الواقعية طيلة الحقبة المؤدية إلى العقد الثمانيني حين ستعرف هذه الكتابة ما نحسبه منعطفا نوعيا.
2 - زفزاف: الانتقال من المعتقد إلى الجمالية.
2-1-من القصة القصيرة إلى كتابة الرواية عمق محمد زفزاف تجربة تمتد جذورها إلى المحاولات الأولى الرصينة للكتابة السردية في أدب المغرب. فبوصفه قاصا كان من القلائل الذين وفروا لهذا النوع، في أدبنا، انسجام التركيب، والموضوع الملائم، والتكنيك الفني الحديث. والواقعية عند هذا الكاتب لا تتشيد من مجرد اختيار تيمة اجتماعية أو حول تعليق على أوضاع من طراز اجتماعي. إنها مرتكزة أوليا على الانطباع الذي يصدره الواقع والمعيش عنهما، بالانطلاق من الخصوصي لا النمطي، أو بالأحرى باتباع نهج يقدم النمطي متفردا. وليس أقدر على ذلك من سرد يهتم بالدواخل والصور الذاتية. فانطلاقا من اللحظة التي لم يعد فيها الكاتب مقتصرا على معاينة المعطى المباشر، وبحساب فهمه بأن الالتزام المطلوب منه من وسط سوسيوثقافي مشبع بمفاهيم دوغمائية إنما يقود إلى استلاب الأدبي لأهداف سياسية، عندئذ سيتبلور التزامه في صورة وعي عميق بالطابع التركيبي للأوضاع الممكن معالجتها. والحدود بين متاعب الحياة والحزن الداخلي تصبح حتما شفافة، مرجعة بذلك الصورة الواحدة إلى أوجه متكاثرة، متعددة الدلالات، بهذا يتقدم الذاتي على النمط الاتفاقي (Le Conventionnel)، دون التنقيص منه كليا، إذ يبقى عموما معلمة إن لم نقل عماد الدلالة الشاملة للنص. فيما يتوصل الذاتي إلى إبلاغ رسالته، قوله، ما بين السطور خالقا بذلك بعد واقعية جديدة.
وبانتقاله من القصة القصيرة إلى الرواية يحذو "زفزاف" حذو سابقين له، كأنما ليؤكد بأن تعلم السرد المقتضب هو اختبار ضروري إن لم يكن حتميا، أحيانا، يسبق كتابة الرواية بمعناها الصحيح. على أن ما يتميز به هذا الانتقال عند زفزاف كونه يتحقق بإبراز الأنا الفردي كصيغة فيتوسع قياسا بالصيغ الأخرى، المحتكرة عموما والممثلة في التبني التام للتيمة الاجتماعية. وبالإمكان رصد انتقال مماثل عند "مبارك ربيع"، وهو ما يظهر لنا ذا دلالة أكبر عند زفزاف، ذلك أن روايته الأولى "المرأة والوردة"(11) تكشف عن فضاء آخر غير ذلك الموصوف عادة في الكتابة الروائية لأدب المغرب. إنه فضاء الغرب الذي حام حوله كل الكتاب المغاربة وهم يحاولون السيطرة على تقنيات السرد، والذي يشغل مكانة هامة لا في النقاش الثقافي لبلدان المغرب العربية الباحثة عن هوية جديدة، وحسب بل، وأيضا، في سلوك ووعي الأفراد، وهو ما يعمل الكاتب على نقله إلى عالمه الأدبي.
2-2-باختلاف عن الحوافز الثقافية مثل التي أنجبت الكتاب الشهير للطهطاوي(12) فإن محمد زفزاف يعيد ربط الصلة مع التقليد الذي دشنه التونسي علي الدوعاجي ثلاثين سنة قبله بسفره إلى الغرب جسدا وكتابة. صحيح أن التماهي في "جولة بين حانات البحر الأبيض المتوسط" كامل بين السرد والشخصية، وهو ما يصرح به الكاتب مباشرة في قولة "قررت كتابة هذه الرحلة التي قمت بها خلال صيف 1933"(13). عند خلفه المغربي يصبح التخييل هو قطب العمل واضعا في الصدارة شخصية ( = بطلا) في رحلة استكشافية للغرب، وهو ما لا يمنع وجود تشابهات عديدة بين السارد وموضوع سرده تقرب محكي الرواية من الرواية السيرذاتية، وهو ما لن يفوتنا التوقف عنده في حينه.
2-2-1-تستهل "المرأة والوردة" بمقطع شعري من طراز قصيدة النثر يعلن الأسباب التي دعت بطل زفزاف للقيام برحلته من طنجة إلى إسبانيا، أي من الجنوب نحو الشمال:… "بيني وبين نفسي/عالم من العرب/ من المجالات والخرائط، آه يا إلاهي/لا أستطيع أن أتكلم"(14). إنها الرغبة في الكلام والتفتح، للخروج من عالم "هؤلاء العرب"، ثم تظهر شخصية ثانوية سبق لها أن عاشت في أوربا لتنورنا، في صورة تعليق، بأسباب الانزعاج، مشجعة الشخصية الرئيسية على السفر".. إننا محظوظون في أوربا أكثر مما نحن عليه هنا في الدار البيضاء. هنا تسيرنا أقلية بيضاء من المغامرين والقوادين وبائعي نسائهم، فيبنون الشركات ويستثمرون الأموال، ويطردوننا من المقاهي والمراقص[…] وهكذا فلا مكان لك أو لي هنا في هذه المدينة الكبيرة إلا إذا كنت ذا بشرة بيضاء وتتكلم الفرنسية بطلاقة الباريسيين. وإذا استنجدت بشرطي ضربك على رأسك وقادك إلى المركز حيث تشم رائحة الوسخ والقذارة […] إني لا أقبل وظيفة هنا في الدار البيضاء، حتى لو تقاضيت ألف درهم. لأنني هنا أشعر بأن إنسانيتي مفقودة. ولكن هناك تستطيع أن تصير ما شئت. وهناك، لك أن تشاء أو لا تشاء. ولا أحد يشاء في مكانك مثلما هو الشأن هنا. […] اكتشفت بالحدس فقط، عندما وقفت في البوليفار بطنجة، أن تلك الأراضي التي تظهر لي عن قرب وراء البحر الأزرق هي عالم مسحور رائع […] قضيت هناك أربع سنوات وعشت مثلما يعيش الملوك والأباطرة […] أربع سنوات لم أشتغل. كنت آكل واشرب وأرتدي أفخر الثياب وأنكح أجمل النساء"(15). من هذه الفقرة يمكن استخلاص الحوافز التي دفعت بطل زفزاف، ربما الكاتب نفسه لخوض البحر نحو الغرب، هذا العبور من محيط سوسيوثقافي إلى آخر، وهي التي نلخصها في الآتي:
-أوربا معادل للحظ الحسن.
-في المغرب أقلية من "البيض" تستولي على كل الامتيازات.
-اللغة الفرنسية هي مفتاح النجاح.
-في أوربا كل شيء مباح، كل شيء في متناول اليد، والإنسان سيد نفسه.
_أوربا عالم فاتن ورائع.
-أوربا عالم مثالي حيث جميع المتع الحسية ملباة.
هذه إجمالا مجموعة "البراديغمات" التي تتوالى بثبات عبر الرواية كلها، نسمعها محكية ومنطوقة في الحوار كما يستعيدها المونولوغ الداخلي. وهي منذ البداية تمثل المغناطيس الذي سيجذب البطل إلى عالم المغامرة مفتتنا بإغراءات محاوره، وقاطعا الخطوة الأولى بعبور مضيق جبل طارق للنزول في أرض إسبانيا، أو ليس من هنا يبدأ الغرب، الأرض الموعودة؟!
وإذا كان الدوعاجي قد اختار التنقل بين عدة موانئ غربية، أو بالأحرى حاناتها وملاهيها، فإن زفزاف قصد مكانا واحدا هو مدينة (طور مولينس (TORREMOLLINOS)، المصطاف الشهير بساحل "الكوسطا ديل صول" الإسباني، حيث يتوافد الأوروبيون صيفا من كل مكان، هنا الفضاء هو المرآة التي يفترض أن تعكس صورا شديدة التعارض مع الأرض الملعونة، أرض الوطن الأم (=المغرب).
2-2-2-إنما قبل هذا، ما الذي يحكيه المؤلف؟ وهل من هدف وراء السفر؟ وما هي هوية بطله؟ من البداية لا بد أن نشير إلى أن ليس ثمة كثير مما يمكن اختصاره، لا بسبب ندرة المعلومات التي يحملها السرد، ولكن لأن المؤلف يبني حكيه في حركة دائرية يقع البطل محمد - وهو اسم المؤلف أيضا- في قلبها. فكل شيء حوله، من كائنات وأشياء تلتقي وتفترق لتجدد اللقاء وسط هذا الفضاء المعبود ومصدر الإحباط في آن. فبين التجول في الشوارع، والاستحمام بالليل والنهار، والاستراحات في باحات المقاهي للتطلع في وجوه المارة والتلذذ بأجساد النساء، والانتقال إلى سهرات راقصة؛ بين هذه الأجواء المختلفة يعتقد محمد أنه غزا حقا "الأرض الموعودة". إن هذا الإيقاع الذي يستأنف يوميا تتخلله لحظات يهيمن فيها شعور الإحباط نتيجة ما يحس به البطل من تعارض بين معيش السفر وهويته الحقيقية.
ولعل الكاتب، وعيا منه بمحذور وقوع قصته في رتابة مسار شخصي ونمطي، لا يخلو من فولكلورية، سيختار لكسر حلقة الدائرة إدخال حكاية بوليسية أبطالها محمد دائما، ثم جورج وألان. وهما فرنسيان متسكعان جاءا إلى "طورمولينس" بحثا عن المغامرة، وخلافا لمحمد فإن الجنوب بغيتهما، وطنجة ما يجذبهما، يذهبان إليها لجلب عشبة الحشيش للاتجار بها في أوربا. بمعدى عن خاتمة هذه المغامرة، فالرواية تنتهي بمحاكمة حلمية وكافكاوية ينصبها البطل نفسه من أجل تبرير فعله والتنفيس أكثر ضد كل القيم التي تخنقه، مدركا أن خلاصه لن يأتيه إلا من الغرب، أي من "سوز" الدنماركية.
أجل، إن الأمر يتعلق بسوز، فيما الباعث ليس سوى جملة متقلبات عابرة. إن حبل الحكاية منسوج بالعلاقة الجنسية التي تربط محمد بسوز، الفتاة الدنماركية التي التقاها في المصطاف الإسباني، وحولت العلاقة التي حققت له الإشباع الجنسي إلى مناسبة لتفجير المكبوت بما جعله يتصور أنه يقتص من الحياة كلها. وهذه الحكاية مسرودة على مستويين: مستوى اللقاء العابر والطبيعي بين رجل وامرأة، من جهة، ومستوى المقارنة التي تقيم التعارض بين عالمين، من جهة ثانية: "وهكذا، فلسوز، رائحة متميزة لا كباقي روائح النساء. تتسرب هذه الرائحة بليونة […] حيوية، منعشة، دافئة، مثل المطلق"(17)؛ "جلست سوز إلى جانبي فوق السرير. كنت ما أزال عاريا وقد أغلقت زجاج النافذة. أحكمت الستارة السوداء. حاولت سوز عبثا أن تقنعني بفتح النافذة. قلت إن الناس مجتمعون وإن ذلك غير ممكن. قالت: لا يهم، قلت: كلا. شيء مهم.."(18). مثل هذه الوضعية تكشف عما هو أكبر من وجود تباعد في المبادئ الأخلاقية إذ أننا إزاء رؤيتين للعالم متعارضتين كليا": كل شيء في هذه اللحظة [مع سوز] له وجود ضروري. أشعر بالتناسق في كل شيء لا بالتنافر. شعرت أن سوز، لا كأي امرأة أخرى، تعرف كيف تساهم في إعطاء العالم الحنان والعذوبة والتناغم وعلى العكس فبعض الناس اللآئي عرفتهن، كن يجعلن العالم يكشر في وجهي وأشعر بخوف وإرهاب"(19).
وبصرف النظر عن سوز فإن المقارنة والتعارض بين الشمال والجنوب يتحولان تدريجيا إلى تيمة مستقلة فمع كل صورة مرئية في "طوريمولينوس" ثمة أخرى نقيض لها، مكروهة، في مسقط الرأس. فالمتاجر المتخمة بالمواد الغذائية تحيل محمد إلى سنوات الفقر: "في سنوات معينة [……] كنا نعاني من الجوع الشديد والفقر - قيل إذ ذاك إن العالم كله كان يجتاز أزمة اقتصادية- غير أنه في حقيقة الأمر لم يكن العالم هو الذي يجتاز هذه الأزمة -ولكن- العائلة -عائلتي أنا- لذلك كان أبي يعود بأي شيء يستطيع أن يملأ البطن حتى ولو كان براز بعض الحيوانات"(20). التجول في الشاطئ، الهواء والرمل، كذلك تتحول إلى عناصر للمواجهة بين عالمين: "مشينا دون أن نتكلم. شعرت أن الرمل تحت قدمي لا يشبه رمل شواطئ الوطن. حتى الهواء كان غريبا إلى حد الجنون. حتى حركات انخفاض وصعود الرئتين في القفص الصدري تغيرت صارت ذات نسق آخر حي. في السابق كان كل شيء رتيبا. كنت أشم الهواء وأشعر بقيود حديدية تكبلني الآن، ورغم الخوف الهائل يختفي وراء أحلامي. شعرت بالحرية"(21).
في كل لحظة ينجس الإحساس بالإحباط في قلب وسط الرفاه، ويعجز محمد عن الإفلات من ضغط مقارنة معيش مع معيش الآخرين المقابلين له في العالم الذي ارتحل إليه، وخاصة ألان، المفلس مثله لكن مع الفارق ذلك "أن طفلا صغيرا منبوذا في حي فقير من أحياء مملكة النمل السعيدة، لا يشبه بأي حال طفلا يشتغل أبوه صحفيا في "الكنار أنشنيه" ابن صحفي مهما يكن لا يستطيع أن يعيش مثلما عاش ابن لا أحد. ابن لا شيء. ابن نفسه. أما ابن لا شيء، ابن لا أحد [……] فإنه في حالة الانهزام والسقوط ليس أمامه سوى المضي في طريق الانهزام والسقوط من جديد"(22).
2-2-3-بيد أن القيمة الرئيسية التي يتبأر حولها الخطاب وموقع البطل ترجع أساسا إلى الحرية والتفتح، إلى سلطة تحقيق الذات والتحرر من إكراهات الماضي والجنوب. وهي قيمة مرتبطة على الدوام في وعي وسلوك بطلنا بإمكانية إرضاء الرغبة الجنسية إلى الدرجة التي تصبح معها الحرية مرادفا للجنس، وهما معا يمثلان الوجه والقفا لعالم معبود، أي للغرب مطلقا. والفقرات الموالية لها أيما دلالة في هذا المعنى: "وضعت سوز كل جسدها الآن تحت تصرفي. شعرت بالدفء والحرارة وكل شيء. وأيضا، الحرارة، المطلق، وكل شيء"(23)، "وبالنسبة لي، الشيء الأساسي والضروري حتى في أدنى مراحل الإنسان الحيوانية هو أن آكل وأشرب. أتزود بطاقات حرارية تجعلني أرى العالم بوضوح، لا من وراء ستر الضباب"(24)، "صمتنا بهدوء[ بعد فعل الجنس مع سوز]، شعرنا بالأمن في العالم. كان العالم كبيرا لكنه صغير تحت ملكنا. على الأقل، تحت ملكي الخاص. يمكنني أن أذهب أينما أشاء وأحل أينما أشاء. فلا أحد ولا شيء يمنعني. هذه إحدى اللحظات التي أشعر فيها بالرهبة وتتباطأ أنفاسي، تصير رتيبة […] أعترف لنفسي أنها صارت حرة، تعيش حرية مطلقة عفوية. تتضخم حريتها وتنمو في الوقت الذي تسقط فيه كل العراقيل التي نماها الماضي، وولدتها تجارب بسيطة معقدة في نفس الوقت"(25).
على أن جنسنة الرؤية للغرب عند زفزاف لا تأخذ بعدا أحاديا، سيما وأن البطل الذي يشخصها يتعرض خلال السرد لتحولات مستمرة، رغم أن مثاله لا يتزحزح. من المفيد في هذا الصدد أن نسجل من الآن بأن إحدى الخصائص الجوهرية لهذه الرواية هي كثافة المونولوج الداخلي، الوسيلة التي يشتغل بها وعي الشخصية بمعدى عن رتابة مجرى الحديث في الحكي. وإن كان محمد لا يفلت أي فرصة ليعبر عن افتتانه بكل ما له صلة بمجتمع الاستهلاك الغربي والقيم المضمرة فيه. ويسهل علينا مماهاته بجيل الكاتب زفزاف، أو على الأقل بقسم تمثيلي فيه، منبثق عن عهد الاستقلال، المحبط في مطامحه، والموضوع في منعطف ثقافتين. ثقافة أقرب إلى الماضي لا تترك ممارستها الإيديولوجية والسياسية سوى هامش ضيق لتفتح الفرد. وأخرى، رغم ما تثيره من حذر إزاء الاستعمار، فتحت الأذهان على طراز حياة جديد، وشكلت قطب جاذبية تولد عنه تجليات سوسيو-ثقافية مختلفة. على أن حصر هذا التماهي لن يذهب بنا بعيدا، إذ ربما بتر ما هو متفرد في رواية، في كتابة سردية تنبذ فعل إعادة إنتاج الواقع وقد تجاوزته بتحكمها في أدواتها ونباهة مقاربتها للفضاء السوسيوبشري. إن زفزاف، قاصا أو روائيا، يحذر من النزعة التبسيطية وحس البداهة اللذين قد يهددان بالسطحية مصير الشخصيات -وربما شخصيته هو- ذلك أن الافتتان بالغرب لا يمكن أن يقوم بمفرده عمادا لعمل روائي كما هو الشأن في جولات الدوعاجي أو عند سهيل إدريس نفسه الذي لا يبحث بطله في "الحي اللاتيني" في النهاية، وعبر سفره إلى فرنسا، سوى عن التصالح مع تقاليد بلده.
2-2-4-تعتمد "المرأة والوردة" بناء تدريجيا في تقديم شخصية محمد. فإذا رأيناه في الفصول الأولى مفتتنا بالاستعراض الجنسي الصيفي الذي تمنحه "طوريمولينس"، رمزا للغرب كله، على غرار "نيس" الموصوفة من قبل الدوعاجي بكونها مدينة الشباب الذهبي، والعذوبة والحب الشيطاني(27)، فإننا سنراه لاحقا، وحين سينطفئ عطشه مؤقتا، يعيد النظر في علاقته بالمحيط الأجنبي بنبرة تشكيكية، واستفهام تشاؤمي منطلقا من مسألة الهوية الفردية، عبورا بإعادة النظر في هوية الآخرين، هؤلاء الذين جاء لمقابلتهم، ومنتهيا في آخر المطاف، إلى مصير ما هو بالمصير، منفتح على المجهول.
ونحن إن افترضنا السؤال التالي: من هو محمد؟ جاءنا الجواب بطريقة صريحة، وبانسجام مع وضع الشخصية في القصة. على سبيل المثال نورد الآتي: "الشيء الأساسي والضروري […] هو أن آكل وأشرب. أتزود بطاقات حرارية تجعلني أرى العالم بوضوح، لا من وراء ستر الضباب. ضباب الجوع والبؤس"(28)، "[…] ولكني متأكد أني لا أملك شيئا سوى عضو متدل أنهكته حرب الاستنزاف من أجل لقمة العيش"(29)؛ "الآن فكرت في شيء، كل واحد مثلي مهاجر، سائح، أو لص، أو لوطي/ أنا مهاجر، نفسيا وكل شيء…"(30).
ومن المؤكد أن هذا الطائر المهاجر، وهو ينظر إلى جسده النحيل في الشاطئ، يبعد عن نفسه كل خجل، فهو يعرف نفسه، من البداية، كالآتي: "لم أكن معطوبا جسديا، بل نفسيا"(31). ولا عجب إذا كان اكتشاف هويته سيتجلى أيضا بتعبيرات مجازية: "الحلم أو اليقظة عندي سيان"(32)، "الوهم هو ديدني، والصمت هو ديدني"(33)، يحصل لي ألا أفرق بين الحلم واليقظة. ولا أعلم إذا كان ذلك شيئا مهما أم لا. وأتساءل: ما هو المهم في حياتي؟ لا أعلم. إنني أعيش لأنني هكذا. بلا فلسفة. وقد تكون اللامبالاة طابع تفكيري. لكني لا أعي شيئا سوى دفء العالم أحيانا"(34). إنه "مثقف أولا قبل أن أصير مهربا. إني مثقف بائس"(35)، "هدفي هو أن أكتشف حياتي على طريقتي"(36). كل هذه الخصائص المعلنة بتعثر في النص تثير، سطحا وعمقا، سمات شخصية إشكالية يعطي مسارها للرواية دلالة جوهرية.
وأخيرا، هل اكتشاف الشمال، ورفض الأنا الجماعي (في البلد الأصلي) لصالح الأنا الأجنبي، والغزو للغرب (سوز) قادر على دفع الرحلة إلى القطيعة، إلى نقطة اللاعودة؟ هل هي قادرة جميعها حقا لإقناعه بالانقطاع عن جذوره؟ وهل الغرب يمثل فعلا البديل المنشود؟ أثناء نوم محمد إلى جانب سوز يسمعها في الحلم تقترح عليه الزواج: "فكرت مليا - يا إلاهي! ما هذه الحيرة والعطالة في دماغي. إن ساعة الاختيار قد حلت. ما هي إلا فرصة تتاح في العمر كله. أنا؟ من أي جنس أنا؟ عربي. ما لكل العرب تتحقق فرص مثل هذه"(37). وبالفعل، فإن الاختيار صعب، فثقل الماضي يبقى رازحا لحد التشويش على صورة الحاضر: "حركت قدمي وتذكرت كل ماضي السيء الذي عشته واحدا مثل الملايين في قرى قذرة منتشرة في جبال الأطلس أو جبال الريف أو سهول الشاوية أو صحراء طنطان المترامية. وتذكرت صوت آلامي الكثيرة التي قصمت ظهري الضعيف"(38). وفي المقهى وهو يتطلع إلى وجوه المتجولين، وبرفقته جورج وألان. يلح في هذا المعنى: "وبديهي أنني لست وسطهم في هذه الظروف الحرجة التي أعاني منها في العمق. العمق الذي لا يدركه أحد غيري"(39). والشيء نفسه بالنسبة للغادين والرائحين أمامه، ذلك أن "رؤوسهم في الأغلب الأعم شقراء وسحناتهم تختلف عن سحنتي. وجوه يبدو عليها أنها من تاريخ غير تاريخي، ومن منطقة مهما قيل عنها فهي ليست منطقتي"(40).
2-3-ماذا يبقى من الغرب إذن؟ وماذا يبقى من رواية العلاقة مع الغرب هي مدماكها، ولأي مصير سيؤول محمد، الطائر المهاجر المعذب بتعاسة أصوله،والذي لا يجلب له السفر إلى الأرض الموعودة الخلاص المنشود؟
في سبيل الإجابة عن هذه الأسئلة نجدنا مدعوين إلى مزيد من توسيع الدلالة التي يأخذها "الآخر" في علاقته مع "الأنا" في "المرأة والوردة"، أي أن نقرأ هذا النص من زوايا مختلفة، وننطق، ما أمكن، المسكوت عنه في خطابه. بعبارة أخرى، إذا كانت رواية زفزاف تندرج في نوع التقليد الروائي والثقافي العربي، الذاهب من اكتشاف الضفاف الأخرى للمتوسط بإعلان إعجاب لا مشروط للمدنية الغربية، مع إعادة النظر في مكونات الهوية الوطنية، فإن هذه الرواية هي، أيضا، نتاج مظهر آخر للمثاقفة حين تبين أن اكتشاف الذات يمر عبر الآخر. وهو ما يعني أنه يجب أن نضيف إلى هذين الفضاءين فضاء ثالثا هو هذا المكان الخصوصي للتوتر السيكولوجي، الثقافي والتاريخي الذي يتولد من داخله وعي جديد. وإذن، فالغرب أبعد من أن يمنح الخلاص لمن يستنتج، وهو يتفحص الوجوه أمامه، بأنهم ينتمون إلى تاريخ ومنطقة غريبين عنه.
إن الرحلة إلى الضفة الأخرى للمتوسط، كما هي مشخصة في الرواية، تعد، أيضا، مناسبة للانتقال من مستوى للتعبير إلى آخر، نعني إلى نهج السيرة الذاتية، رغم غياب المؤشرات الأصلية الخاصة بهذا الجنس(41). رغم ذلك توجد بعض العلامات التي تسمح لنا بإخضاع المحكي لقراءة سير ذاتية، مع العلم أن استعمال ضمير المتكلم كأداة لنقل الخطاب لا يمكن أن يعد وحده الدعامة الكبرى في هذا المجال(42). إنما لا شيء يمنعنا من التشكيك في هذا السارد المحظوظ بموقعه الرئيسي، في شأن إخفاء أو كشف بعض المعلومات المتصلة بالمؤلف(43). ففي المحاكمة التي ينصبها البطل وهماً لنفسه يقدم لنا -ربما عمدا- معلومات تؤهل للتعرف على هوية المؤلف: سنة ومكان الميلاد، المهنة وبعض الإشارات عن وضعيته الاجتماعية. وإنه لرمز ذو دلالة أن نلاحظ بأن هذه الجذاذة الوصفية تعود لتتكرر في روايات لاحقة لزفزاف، وخاصة في "أرصفة وجدران"(44)، "والأفعى والبحر"(45) و"الثعلب الذي يظهر ويختفي"(46). في مجموع هذه الأعمال يتماهى السارد كلية مع الفاعل الرئيسي في القصة، وهو لا يحتل حقا الموقع المنوط به، أي موقع الشخصية المتخيلة التي دورها سرد الحكاية. علينا إحصاء العلامات التالية: طفولة مدموغة بالحرمان، انعدام العطف والحنان، مجرى حياة متردية ماديا وسيكولوجيا وثقافيا، ورفض للنظام الاجتماعي والسياسي القائم، الملائم لأقلية من المحظوظين، هذه العلامات القاصرة كلها التي تطبع شخصيات روايات الكاتب مستوحاة من حياته نفسها. ونحن لو تساهلنا في عدم إشهار ضمير المتكلم السير ذاتي أمكننا القول بأن زفزاف قد نقل سيرته إلى مركبة التخييل الروائي بدون أن يتخطى، من أجل ذلك، أو يضحي بما هو من صميم هذا النوع من السرد. إن قرارا من هذا القبيل، ينهض من جانبنا على فرضيتين: الأولى فحواها أن الفضاء الأجنبي الذي تدور فيه تكوينات الرواية يسمح، بحكم مغايرته، بتفتح الفرد، ويمكنه من التنفيس عما هو مكبوت لديه عادة، وإذن، بتصفية الحساب مع ماضيه بانتهاج خطاب ملائم للنبرة الذاتية وقريب من التجربة الأوتوبيوغرافية. فيما تعتمد الفرضية الثانية ربط عمل زفزاف بالتحول النسبي في الكتابة الروائية بأدب المغرب، المتنقلة باحتشام من سرد ذي طابع موضوعي، ملتفت أساسا إلى الخارج، إلى حكي بديل يمتح جوهره من التجربة الفردية للمؤلف. وهو لعمري توجه سيتأكد بكيفية ملحوظة خلال سنوات العقد الثمانيني معينا منعطفا دالا في إنتاج الرواية عندنا. كيفما كان الأمر، وسواء تعلق الأمر بـ"أنا" سير ذاتي، أو بخطاب شخصية مندمجة كليا في وضع الرواية ، فإن رواية زفزاف الأولى، والأكثر تمثيلية لديه لكونها ستتحول إلى منجم لأعماله اللاحقة، تتميز بتطور نوعي لتقنية السرد، ولأسلوب الكاتب الذي يعرف كيف يصف، ويصنع الشخصية، ويقدمها في طرح دلالة النص.
2-4-أجل، إن الكتابة السردية في روايات زفزاف لم تستوعب الواقعية بوصفها مضمونا أو رسالة ينبغي توصيلها استجابة لحاجة مطلوبة، بل إنها، علاوة على ذلك، بنت عالمها، وبلورت رؤيتها، وصاغت معانيها متكئة، أساسا، على أدوات هي بنت التخييل الأدبي. وإنه بإمكاننا الوقوف عند هذه الخاصية إذا ما عالجنا إسهام هذا الكتاب في باب القصة القصيرة، كيف أمكنه إعادة نمذجة فنيتها قالبا وتقنية متجها بها في أفق النضج الحقيقي. صحيح أن القص القصير والرواية يتمايزان في خصائصهما، إلا أن التقنية ذاتها لا تتبدل، سيما إن أخذنا في الاعتبار طابع اقتضاب روايات زفزاف. فهو على الرغم من توفره على فضاء نصي مفتوح تؤهله الرواية عادة، نلاحظ حرصه على التشذيب أقصى حد، واطراح التفاصيل الفائضة والنافلة، كل عبارة في السرد وكدها وظيفة حاسمة سواء للوصف أو الفعل أو تطور الشخصية. ومن جانب آخر يجدر بنا أن نسجل أنه مع وجود التقاطع أو التمفصل بين المؤلف والسارد والبطل، كما سبق التنويه، فإن أدوار السارد والبطل قل أن تثير أي خلط. فإذا كان الواحد ينوب أحيانا عن الآخر فبوسع القارئ دون صعوبة تذكر تحدي موقع كل منهما. أما الخطاب الروائي فهو يتناسل من الحركة الداخلية تنشطها الأفعال والأجواء الشعورية للفرقاء. وهو ما يفيد، بتعبير آخر، أن التيمة أو الرؤية المستثمرة في الرواية تينع في تركيب العناصر التي يضعها المؤلف في خدمة حكيه، عناصر من طراز تقني (تكنيكي)، وأسلوبي ودلالي.
لا يفوتنا أخيرا التنبيه إلى أن علاقة المؤلف بالغرب توجد، أيضا، على مستوى التعلم الثقافي والأدبي، إذ بإمكاننا ملاحظة مدى تمثله لجمالية الرواية الحديثة، والفرنسية منها خاصة، وهو ما يسمح لنا باستخلاص أن العلاقة مع الغرب، على الأقل من خلال العمل المدروس، تتجلى في صورة تركيب بين قيم معتقدية وأخرى استطيقية. وقد كان من السهل على البعض -وأنا منهم- إدانة "المرأة والوردة" لدى صدورها، والتسرع إلى رجمها بالاستلاب(48)، غير أن ما فاتنا هو أن الحداثة في الرواية أو أي شكل من أشكال التعبير والفكر، لا يمكن بلوغها بإقامة التطابق بين القيم التقليدية والأشكال الحديثة.
ينخرط بطل محمد زفزاف في مصير شخصي، ويتصرف كما يحلو له ضد جميع ضغوط محيطه. صحيح تماما أنه لا يستطيع شيئا كثيرا ضد أسباب إحباطه، ولكن هذا بالذات هو ما يؤجج إحساسه بفرديته، وهي قيمة جديدة من قيم الواقعية الجديدة. وها هو ذا، في نهاية المطاف، يعود إلى نقطة الانطلاق، ولا يملك إلا أن يرسل نداء حارا إلى سوز. "أحبك وأحب الدانمارك. أنتظر دائما أن تنقذيني. أحبك…"(49). مدركا أن لا سوز، ولا الغرب هما ما يمثلان خلاصه الحقيقي.
3 - لحبابي: الحقيقة الفلسفية على محك القيمة الفنية.
3-1-إذا كان بطل زفزاف، كما عرفه بنفسه، هو ذلك المثقف الصعلوك، ابن نفسه، وبدون روابط حقيقية تشده إلى نظام ينبذه ميمما شطر الغرب بلا عقد، فإن بطل محمد عزيز لحبابي مثقف بدوره، بل إنه حاصل على دبلوم في الدراسات العليا من القاهرة، وعلى الدكتوراه من جامعة السوربون الباريسية. بيد أنه، خلافا لصاحب "المرأة والوردة"، فإن بطل "جيل الظمأ"(50) يقوم برحلة معكوسة، أي يعود إلى أرض الوطن، بعد إقامة في الغرب. إن المسار هنا مقلوب، وهو القلب الذي ينبغي اعتماده لإعادة تركيب الأحداث والعقدة اللذين يقودان إلى نهاية محتومة. رؤية محمد تتكون ببدء السفر من الدار البيضاء، عبورا بطنجة، ذهابا إلى إسبانيا، بينما رؤية إدريس تنفتح على إعلان عودته من باريس، وهي عودة تطرح، من البداية، مشكلة اختيار: "لقد رجع إلى المغرب منذ ستة شهور، وما زال حتى الآن في دنيا من الحيرة والغموض لا يجد سبيلا إلى الاختيار"(51). هو أستاذ جامعي، بينما "الهدف الذي يسعى، إليه، هو أن يصبح كاتبا أدبيا"(52). وتمتنع الرواية عن تقديم أي تفاصيل عن التغيير الذي طرأ على إدريس إبان إقامته في الخارج، باستثناء مقطع واحد تظهر فيه قريبة له وهي تعدد مآخذها عليه: "ها، ها!.. أفي سبيل مثل هذا غادرتنا إلى بلاد الكفرة المارقين؟ علموك ألا تتناول طعامك مثل باقي الناس، بل بالسكين والشوكة […] علموك أن تلطخ شعرك بالعطور مثل النساء […] علموك أن تحلق لحيتك […] حتى شاربيك حلقتهما. إنك امرأة، أين علامات الرجولة […] بدل أن تسير على قدميك مثل جدودك علمك الكفرة أن تستعمل "التوموبيل" وتركض مثل المجنون، آه، آه،"(53) خطاب يذكرنا بعبارات قيلت قبل عشرين سنة على لسان "عمي بوشناق" بطل قصة قصيرة للكاتب عبد الرحمان الفاسي. ما ينبغي استبقاؤه والحالة هذه من "جيل الظمأ" وخصوصا إزاء العالم المرجعي الذي سيظل مخفيا، بما أنه واقع في مرحلة ما قبل العودة إلى الوطن، هو الحيرة، واختلال التوازن، والتشوش المتولد عن الاتصال بالغرب، والذي يحث تبعا لذلك، على رد الفعل، أي الوعي واتخاذ موقف من الذات كما من المجتمع. و"الآخر" يمثل من جديد سبب توتر، خالقا وضعية صدامية بين "الأنا الأصيل" والأنا الآخر، المتولد عن المثاقفة. بإمكاننا قلب هذه الأطروحة فيما لو عمدنا إلى تأويل مغاير، ذلك الذي، من منطلق عنوان الرواية وإشكاليتها، يدرجها في إطار اهتمامات ومطامح جيل الاستقلال مباشرة. لا بد من أخذ هذا بعين الاعتبار دون أن ننسى بأن قسما من هذا الجيل قد تأثر عميقا بالثقافة الغربية إلى حد أن هذه العلاقة الضمنية التي يقيمها بطل لحبابي بالعالم الخارجي، المتروك خلفه، وإن ظل يسكن كل فكره يدفعه إلى مقارنات بين طرازين من الحياة والمجتمع والثقافة بالإشارة كثيرا إلى الدور المنوط بالمثقفين. وإذا كانت إحدى صيغ المقارنة تشير مباشرة إلى المجتمع المغربي غداة الاستقلال، وبالخصوص إلى الاختيارات السياسية والثقافية التي ووجهت بها النخبة، فإن الصيغة الأخرى أو بالأحرى خطابها يبقى صامتا، إنه مسكوت عنه يتميز بمعارضة للخطاب الاجتماعي المهيمن. والمعنى الإيحائي للغياب يكثف حضورها، أي ذلك الإطار المرجعي للغرب الذي يستلهمه المؤلف السوربوني لدعم مسار بطله.
3-2-والحالة هذه، فإن المسألة تبقى قائمة برمتها مادام جنس الرواية يتطلب أن تتبلور التيمة المعالجة تبعا لحدث روائي ووفق ضوابط معينة أو مختلفة للسرد. غير أن الرواية عند لحبابي -ولنذكر أنه جامعي وفيلسوف(54)- تتحول إلى حقل للنقاش النظري والتأمل المجرد. ففي "جيل الظمأ" بوسعنا الاستشهاد بصفحات كاملة يتطرق فيها المؤلف لدور المثقف(55)، أو للمواجهة بين الرؤية المثالية للعالم، لكائن في المجتمع، والطبيعة المادية لهذا الأخير المعرض لأنواع شتى من التناقضات. وهكذا فإن جميع الشخصيات، بأصواتها ومساراتها الذاتية، تعطي الصدى لأفكار المؤلف التجريدية. إنه لا يتحرك، لا يفعل بل يفكر، ويحلل، ويخطط للعالم من حوله. ومشكل المزج بين الأفكار هذا ينبغي أن يطرح بعبارت من "وليك ووارن (WELLEK et WARREN)، أي "لمعرفة كيف تتسرب الأفكار فعلا في الأدب. ونحن لا نتكلم بالطبع عن الأفكار الحاضرة في العمل الأدبي في حالة المادة الخام، أو المعلومة العادية. لا تطرح المسألة إلا في الحالة واللحظة التي تتلبس فيها هذه الأفكار بالفعل نسيج العمل الفني، وتصبح "بنائه"، وبإيجاز حين تكف عن كونها أفكارا بالمعنى العادي للمفاهيم لتتحول إلى رموز أو بل إلى "أساطير"(56). في حين نرى عند لحبابي بأن السرد والعقدة التي يتسلق حولها الحكي، والشخصيات والمحيط، كل هذه العناصر ليست سوى ذريعة، زخرفة لتمرير رسالة (MESSAGE)، فكرة فلسفية على الواقع أن يتطابق معها. وما هي بتاتا برواية أطروحة (Roman à thèse) ولكن أطروحة تتذرع في تبريرها بهالة روائية. وكيفما كانت طبيعة الرسالة فلن نخرج من متاهة الواقعية العسفية التي لا تتوافق نواياها مع طريقة مقاربة الواقع، وإعطائه شكلا. في هذا الموضوع يلح النقد على كون "المشكل الأكثر جوهرية في أعين الروائيين المحدثين -على الأقل منذ فلوبير- ربما يكمن في الشكل، الشكل الذي لا ينبغي أن يفهم كصعوبة تقنية مطلوب التغلب عليها ولكن في معناه الأكثر شمولية لـ "إعطاء شكل"، إعطاء معنى لما ليس له معنى، أي للعالم الذي نحن فيه ولحياتنا نفسها"(57)، وهو ما لا يعني البتة أننا نرفض للأدب كل مقدرة فلسفية. وبالمقابل يمكن طرح المسألة بالكيفية التالية: "أولا يجب أن نستخلص، على النقيض من ذلك بأن الحقيقية الفلسفية، بما هي عليه، ليست لها قيمة فنية تماما، مثلما […] الحقيقة السيكولوجية أو الاجتماعية لا قيمة فنية لها. وإذا ظهر المضمون الفلسفي أو الإيديولوجي، منظورا إليه في سياقه الخاص، وهو يعلي القيمة الفنية، فلأنه يعزز القيم الفنية الهامة: قيم التركيب والانسجام.. إن البعد النظري الثاقب يمكن أن ينمي حقل العمل الفني، وهو ما ليس مضمونا دائما. ذلك أن الإفراط في الإيديولوجيا حين لا تكون جيدة التمثل، يشكل معوقا لدى الفنان"(58).
ولقد أصيبت "جيل الظمأ" بهذا المعوق في القلب، وربما لا تحسب على المتن الروائي في المغرب إلا عرضا. فلقد كتبت في فترة كان صدور أي رواية في أدبنا يعد حدثا في ذاته، ولأنها أثارت، إلى حد معين، تأثير الغرب، وهو ما جعلنا نوليها بعض الاهتمام. على أنه لا مناص من الإقرار، ومن وجهة نظر سوسيوتاريخية، بأن نص لحبابي حاز استحقاق تقديم صورة عن الوضع السيكولوجي والاجتماعي لأفراد، المؤلف من بينهم، واقعين في مفترق الطرق بين حضارتين، وفي صدام مع قيم مجتمعهم دون الانقياد إلى قيم "الآخر". وضعية متسمة بالحيرة، وشهادة عن حقبة تاريخية. لا بأس إن قلنا في الختام بأن الكاتب استمد الكثير من عنديات حياته الشخصية لصوغ مادة روايته وهو ما يؤكد الطابع السير ذاتي الذي سبق وأشرنا أنه يدمغ رواية المغرب، وهي في تبلورها التدريجي.
4 - العروي، قبالتي يقع "الآخر"
4-1-ليست الرواية التي يكتبها الفلاسفة أو رجال الإيديولوجية معرضة دوما للفشل، إذ هاهو عبد الله العروي، مريد آخر في هذه المدرسة، والذي يعتبر التحليل التاريخي وفلسفة التاريخ محور نشاطه الفكري، والمتشبع حتى العظم بالثقافة الغربية، يختار الرواية، أيضا، شكلا للتعبير. والعروي كاتب الرواية هو من يعنينا هنا وإن كان من الصعب سل هذا المفكر من عجين الكاتب والعكس أيضا. والعروي ذاته يعترف بهذه الازدواجية، في تقديمه لروايته: "الغربة"(59)، التي سنحلل هنا، يقول: "درست منهجيا علاقة الماضي بالحاضر في أذهان العرب المعاصرين كما حاولت أن أحدد مدى تأثير التنظيمات الاجتماعية العتيقة في حياة مغاربة اليوم. لكن الدرس المنهجي سبقه تصوير مباشر لازدواجية العقل والذوق والإحساس التي عرفها كل من عاش في مجتمعنا مرحلتين تاريخيتين واغترف من ثقافتين متنافرتين. هذا التعبير المباشر الذي تلونه حساسية المراهقة أقدمه للقراء بعد تردد طويل مشاركة مني في ضبط موضعنا الوحيد، وهو رسم ملامح شخصيتنا القومية في زمننا هذا"(60). والواقع أن العروي ظهر على الناس أول مرة بعمل فكري سيحظى بشهرة واسعة، نعني كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة" الذي ستتبعه بانتظام أبحاث تاريخية وسوسيولوجية(61)، فيما سيوالي إنتاجه الأدبي على هامش دراساته الجامعية.
في كتاب "الإيديولوجية، "نعثر على واحد من المفاتيح القادرة على مساعدتنا للنفاذ إلى العالم المركب لـ"الغربة". المفتاح الذي يكشف عن حضور الغرب في فكر المؤلف واستراتيجية تفكيره عموما. ففي مقدمة "الإيديولوجية" يسجل ماكسيم رودنسون، أن العروي استدعى ما أسماه "الغرب النقدي" "في نزعة تصعيدية في متاهات الوعي العربي الراهن(62). أما العروي ذاته فهو يحدد إشكالية كتابه في أربع نقاط نسجل منها النقطتين التالين:
"-أولا تعريف بالنفس، ولكن بما أن كل تعريف هو نفي، فقبالتي يقع الآخر، أو بالضبط إن العرب يعرفون أنفسهم بالعلاقة مع الآخر. هذا هو الغرب؛
-وصف مسعى أنا العرب، هو إذن التقديم في الآن عينه لتاريخ حقيقي لصيغة الغرب"(63).
لا يتعلق الأمر هنا بتأمل نظري ولكن أكثر بمظهر وعي ثقافي وتاريخي يرفقان، معا، البحث الشخصي في الإبداع الأدبي إن لم يهيمنا عليه. أكيد أن المؤلف يعلمنا بأن مبحثه يأتي زمنيا في موقع ثان قياسا بالرواية(64)، وهو ما لا يلغي وجود تصور شامل، متولد عن المعطيين كليهما، بل بنية مشتركة تجلي مكوناتها بالطريقة الملائمة لدى كل تعبير.
4-3-في "الغربة" هناك محوران يتبادلان حضورهما في النص: واحد ينصرف إلى الماضي والآخر إلى الحاضر. وهما يتجذران حسب درجة التوتر التي يحس بها كل واحد من الفرقاء. ويحدث أن يحيل هذا إلى ذلك بلعبة أساليب وتلميحات مجازية يمحي معها كل تمييز بين الماضي والحاضر، ما سيصنع في لحظة الالتحام هذه محورا ثالثا القارئ حر في رسم موقعه. تنطبق هذه العملية على الزمن والفضاء والشخصيات، وأخيرا على الدلالة الممكن استخلاصها من قصة ترفض بطبيعة رؤيتها كل تأويل أحادي البعد. لنتناول هذه الملاحظة بتفصيل: فبمحور الماضي نفيد ما يكون الذاكرة التاريخية للشخصية الرئيسية (إدريس)، والعلاقات التي يقيمها مع وسطه: الأهل، الأصدقاء، رموز وذكريات الطفولة أو تاريخ بلاده. في هذا المقطع الزمني لنا أن ندمج الماضي القريب، ذاك الذي يصله بالشمال أو الغرب، يعاد تذكره عبر المعيش اليومي، والتساؤل الملحاح عن المصير.
في المحور الثاني هناك مدينة تقع جغرافيا بين النهر والبحر، وثمة إدريس، بالطبع، والأب، ومريم ابنة العم، عمر وشعيب، الصديق، المناضل وذاكرة المدينة. هناك أيضا ماريا، ولارا، في الضفة الأخرى للمتوسط، في باريس. هذه الشخصيات والفضاءات تنبثق أساسا من ذاكرة إدريس وتحلق في مخيلته، وإذا قدر لها أن تتحرك بمفردها لحظات فإنها لا تلبث أن تعود من حيث انبثقت، أي إلى إدريس، السارد والشخصية. وهو سارد يخلق الإيهام بالكائن والعدم، بالظرفي واللانهائي، دافعا إلى أقصى الحدود ثنائية الماضي-الحاضر، مثبتا شخصية ما في وضع محدد ثم ماحيا لها فجأة، دون سبب ظاهر، من مرآة الوعي مثل ساحر يخلق أمام الجمهور أشياء وهمية. ورغم الوجود المادي للمدينة-التي لا تسمى أبدا- فهي مقدمة تارة بكيفية شبحية، وتارة أخرى في مظهر أسطوري. وهذا الأخير، مثلا، يشخص من خلال ضريحين: ضريح الولي الصالح مولاي بوشعيب في الضفة الغربية للمدينة، وضريح عائشة البحرية في الضفة الشرقية للنهر. وهما علامتان تعينان مدينة أزمور المغربية على الساحل الأطلسي، هكذا يتم استحضار مولاي بوشعيب راكبا أسدا لعبور النهر ( = نهر أم الربيع) نحو عائشة دون أن يبلغ مراده، وأقواله التي يرسلها إليها هي الأقوال ذاتها التي يوجهها إدريس إلى مارية وهو على وعي تام بالهوة التي تفصل بينهما. أما المحور الثالث، الممثل للالتحام، فهو يؤثر عمل الذاكرة. إنه نقطة تقاطع بين زمنين وفضاءين: الماضي المستعاد في الحاضر (الأب، العم، شعيب، الذين يواصلون حياتهم لاهين عن كل تغير) ثم شعيب وهو يسترجع ويعيد التركيب بل ويحلم بصور من ماض بعيد أملا في العثور على الشرعية والطمأنينة. والواقع فإنه عبر هذا التقاطع أو التداخل فالمستقبل هو ما يهرب، غارقا في انعدام اليقين والخيبة اللتين سببهما الماضي /الحاضر، وحيث يشكل الغرب النواة المركزية بالعلاقة مع روح ممزقة، مهزوزة، وفي البحث عن هوية متوازنة، روح إدريس.
4-3-ترى مم يشكو إدريس تحديدا؟ هل من الممكن إدراك جذور اضطرابه؟ وهل أزمته من طراز اجتماعي، سياسي، تاريخي، عاطفي أم وجودي أم هي هذا كله؟ للإجابة على هذه الأسئلة لا مناص من إلقاء الضوء، أولا، على الوقائع المسرودة في "الغربة"، والفضاء الذي تجري فيه. وما هي بالمهمة الميسورة، نظرا لأن هذه الرواية تشق حقا عن التلخيص . والمؤلف نفسه يشير إلى شيء من هذا في ما كتبه في صورة تنبيه ختامي نورد منه هذه الفقرة: "إني لا أصف الأحداث وإنما أصف العواطف التي نشأت على أعقابها، تلك العواطف المتولدة التي لا تنعكس غالبا في مرآة الوعي"(65).
ما لا يمنعنا من استقراء أن الحكاية تدور في مسقط رأس إدريس، في مدينة ساحلية، خلال فصل صيف. والتأريخ يبقى مقلقلا ولكن بوسعنا، أيضا، أن نستنتج - انطلاقا من بعض الأحداث المنقولة على لسان السارد مشيرة إلى حضور العساكر الأجانب، واجتماعات المقاومين وعملية مسلحة ضد أحد المتعاونين مع الاستعمار- بأن الرواية تتراوح زمنيا بين حقبتين، واحدة سابقة على الاستقلال، والثانية غداته مباشرة. إدريس يعيش زمن العطلة الصيفية، يقضي وقته في الشاطئ، وزيارة الأقارب، وتبادل الحديث مع شعيب ومريم. غير أن هذا كله ليس سوى ماجريات عابرة بما أن الفعل الحقيقي لن يحدث إلا بدءا من اللحظة التي ينكب فيها البطل على نفسه، ويحس بأنه يسبح في مجرى ذاكرته مع بقائه في آن على صلة بالعالم الخارجي، بما يعمق بحثه الداخلي. يشرح لنا توماس وولف (Thomas Wolfe ) بشكل ساحر هذه الوضعية والكتابة بقوله: "أنا -يقول بطل رواية حديثة- جزء من كل ما مسست وما مسني، والذي ليس له من وجود غير ما أعطيته، وأصبح آخر مختلطا ما مع كنته آنئذ، والذي تحول أيضا، بما أنه اختلط بما أنا هو، وما أنا هو التراكم الذي أصبحت عليه"(66).
حقا، إن كل شيء منطلقه إدريس، ويتابع مسارا محدودبا ليعود إلى نقطة الانطلاق. بينما الشخصيات التي تتسلق حوله، حتى وهي حائزة على خصائص وحضور فيزيقي، ومساهمة في صنع بؤر لعالم الرواية، فإنها تبقى هي وهمومها تمثل جزءا لا يتجزأ من رؤية إدريس. وهي مهما بلغ تشخيصها، الذي ليس إلا عرضيا، لا تزيد عن كونها تعددا من الوجوه لصورة واحدة. لشخصية وحيدة، إلى حد أن الانعكاس يصل إلى مستوى ازدواج الشخصية. ذلك أن عمر، الشخصية المطروحة كمحبوب لمارية هو إدريس نفسه. وعوض أن ينتقل هذا الأخير في الزمن والمكان يبقى مشدودا، مؤقتا، إلى مسقط رأسه تاركا مارية تبوح بحنينه إلى الغرب، إلى باريس "بلد الشعر والهواجس"(67)، عاصمة العالم "وتذكرت مارية ذلك الكاتب النحيف الذي قيل له يوما في بورسعيد إذهب إلى عاصمة الدنيا تبتسم لك الحياة"(68). تتحدث مارية، أيضا، عن أحد اقتناعاته، أي استحالة البقاء بعيدا عن باريس والعودة الحتمية إلى مدينة الأنوار(69). أما لارا، هي شخصية ثانوية، من ذكريات البطل، جاءت إلى باريس من بلد أجنبي وبقيت مشدودة إلى هذه المدينة، فترسل إليه رسالة مصدرها في الحقيقة هو مارية: "يقولون لك هنالك وراء البحر انفتحت الآن أبواب القصور المزلجة والمغاني المزخرفة، ومهدت لكم طريق الربوة العالية والفنادق الفخمة، لعل الأمر كذلك.. لكن الجديد في القلوب لا في الدور المشيدة على الكورنيش وعلى القمم"(70). مارية حاضرة وغائبة، جسد ورؤيا، حقيقة وحلم معلق. وشخصيتها تهب أنثويتها كاملة، إنها المرأة المرادف للغرب. هكذا، خلافا للدوعاجي أو زفزاف أو الطيب صالح، نجد أن العشق والهيام بالمرأة المحبوبة ينوبان عن الجنسنة المعهودة للغرب. يمكن ملاحظة ذلك عبر تدفق مشاعر إدريس (= عمر) تجاه مارية دائمة الحضور في ذهنه، والتي يشده إليها حنين عميق، والمستحضرة في كل مرة يرد فيها الغرب وحدة في الخطاب، ونقطة تداخل أو تقاطع بين الماضي والحاضر والمستقبل. إنما، وبمعزل عن المرأة وطبيعة العلاقة القائمة معها، يبدو جليا أن الأهم عند العروي يكمن في البعد الرمزي لهذه الوضعية حيث "الآخر" وهو في آن مصدر حنين وصورة اختلاف، يؤهل لحوار مثمر مع الغرب سواء لتسفيه أنويته المركزية، أو لإعادة تكوين الهوية الوطنية. هنا ينبغي القول بأن القيمة الكبرى للرواية متأتية من بحث الشخصية، التي ترى أنها بدلا من الاستقرار في رؤية ماضوية أو وحيدة البعد، كما هو الشأن في رواية "دفنا الماضي" لعبد الكريم غلاب، ترفض كل تراض مع الماضي، وتشيح بوجهها عن كل تواطؤ مع الحاضر. وعلى غرار هويتها، وأبعد من أن تكون محافظة أو جامدة، فإن بحث الشخصية أو مسعاها ينكشف لنا، أيضا، إشكاليا، وذلك عبر الملامح المختلفة المفروزة من خلال مسارات فكرها، المعبر عنها بشذرات المونولوغ الداخلي، أو بمقول ومناجاة شخصيات ترمز كل واحدة منها لمحاور الإشكالية العامة للخطاب الروائي لـ"الغربة"، هذه المسارات التي هي سيكولوجية قبل كل شيء قابلة لأن تفكك كالآتي:
4-3-1-لنبدأ بمسار شعيب، وإن جاء في المرتبة الثانية من إدريس. فهو يشخص الماضي من زاوية الأصالة والروحية. ذاكرة الماضي تسكنه وتعلقه بالحاضر يعبر عنه برغبة في التغيير، أو بالأحرى إقرار أسس عالم مهتز تحت ضغط الأجنبي. إنه يمثل ضمير المدينة وروحها الصوفية-أو ليس متماهيا أو مخلوطا عمدا بالولي الصالح مولاي بوشعيب، عين التاريخ وملاذ التعساء؟- وهو الذي يستمد من إدريس، كناية عن الجيل الجديد، قسما من ثقافته. شعيب مكتف بذاته وهو يعيش حياة ديناميكية موزعة بين ممارساته الدينية، والسياسية، والاجتماعية. غير أن نهجه، الذي يرمز إلى جيل قيمه إلى زوال، يبدو كأنه وصل إلى مداه فيما قيم أخرى تغزو التاريخ. هذا واحد من المظاهر الجوهرية للغربة بأبعادها المتعددة في "الغربة".
4-3-2-أما مسار مارية، المشخصة لرؤية معينة عن الغرب، فهو لا ينطبع ولا يأخذ أي شكل بسبب التبعية لإدريس، فهو نوعا ما امتداد لروحه.
4-3-3-نصل إلى المسار المركزي، المركب، الخاص بالشخصية الإشكالية لإدريس، وهو مفرد ومتعدد في آن. عمر، مارية وشعيب يغذون ثلاثتهم وعيه، ويتحركون في محيطه، جاعلين منه فردا متعدد الأبعاد. عمر هو أناه الأعلى. وغربته تتأتى من انقشاع الوهم تجاه ميراث الماضي والعالم الأجنبي (=الغربي) حيث لم يلق الخلاص رغم انطباعه بثقافته، وإذ يطرد من هذا العالم يضطر للبحث عبثا عن ملاذ قرب ذويه: "إني في حاجة إليكم.. لا أستطيع العيش مع هؤلاء وهم ينظرون إلي كأني من بقايا أمة دراسة"(71). هكذا يتكلم إدريس باسم عمر، معبرا عن قلقه الخاص. ومع ذلك فهو يمثل نفس الأطروحة لشخصية شعيب، وللماضي الذي يسكن دوما إدريس دون أن يتمكن هذا الأخير من التخلص منه: "إني مدين لك يا شعيب.. لكن كيف أتخلص من هذا الدين؟"(72). لكن هل ثمة وسيلة للوصول إلى تركيب (synthèse)، لتخطي الخيبة التي ولدها التاريخ والحب (مارية): هذان المحوران اللذان يتحرك حولهما مصير الشخصيات؟ وهو ما يثير، في الواقع، سؤالا آخر: لكن، من يكون إدريس هذا؟ إنه يعرف نفسه كالآتي: "أنا ابن الثامنة والعشرين وكأن دور حياتي قد انتهى.. نعم رافقت هتلر ورومل ومازلت أعايش هيروهيتو، وتيتو، لكني شاب"(73). ويساهم أبوه من جانبه في التعريف به: "[…] إنه رغم التطواف في بلدان الكفر لم يتعلم أي بدعة"(74).
بيد أن هذا الرجل الذي يلح على عمره الشاب هو الذي ينتهي في متم الرواية إلى الاستخلاص التالي: "كل شيء ينحدر نحو الزوال"(75). لا نظن أن هذا هو التركيب المطلوب، أو ما قد يعوض عنه. كما لا يمكن أن ننتظر موقفا محسوما ما دام البطل يعيش مرحلة انتقالية، مرحلة استقلال المغرب التي وردت الإشارة إليها تلميحا. على سبيل المثال، فهي إحدى الشخصيات الثانوية، لارا، من سيسجل الإحالة: "لم تتحرر البلاد وإنما تحررت قلوبكم، ولو تحررت البلاد فعلا لعرفتكم عواطف أخرى. تبدون الآن كالأموات وأنتم في الحقيقة تقتربون خطوة خطوة من عهد الرجولة، من همس الكلام وخافت الشعور والصبر الطويل.. هذه وقفة الزمن ومهلة الأحداث وأنتم عليها شاهدون..،"(76). هذا المقطع، ومثله كثير، يردد صدى خيبة إدريس موحيا بنفسية جيل يواجه بانقشاع الأوهام منذ فجر الاستقلال: "كل شيء ينحدر نحو الزوال"!.. فهل يحسم هذا الاعتراف في الموقف المركب لإدريس؟ ومن هذا المنطلق، هل أصدر العروي حكما غير قابل للاستئناف على حقبة تاريخية محددة؟ لا، بكل تأكيد. ذلك أن إدريس بحكم طبيعة شخصيته المزدوجة، المثلثة، المركبة، بمنجاة من كل تقويم قطعي. إن حافزه الرئيسي هو عدم الاستسلام لقدرية الهزيمة المناقضة كليا لوضعه الشاذ، الخارج عن العادة والإشكالي.
4-4-بين أيدينا الآن، نموذج لما ستصبح عليه الشخصية الروائية في رواية المغرب، في نهاية العقد السبعيني وما بعده. إن تلك الشخصية التي كانت تقدم في الإطار المحدود الذي يعرضها، وهي محط الشروط السوسيوتاريخية المحيطة بها، فقط، ستنتقل إلى مستوى يعلي أناها الداخلي ويطلق مجرى النشاط الكثيف لوعيها، وكي لا تظهر خاصة ذلك العاكس بوفاء تام لصورة معينة عن المجتمع. إن مرآة هذا المجتمع ذاته ستتغير، بل وستتشظى حاملة التمثيل السردي إلى تجريب مقاربات أخرى للواقع بديلا لما استنفد. أما العروي، فمن الواضح أنه مشارك في رؤية شخصيته، وبوسعنا استقراء نزعته لتجنب النطق بحكم نهائي على التاريخ، مبددا بذلك الإيديولوجية السائدة والأدب المرتبط بها، القائلين بأن إعلان استقلال البلاد مثل تحولا حاسما. خلافا لبطل غلاب، فإن بطل العروي يرفض الحبور الساذج، ويعلن عاليا في نهاية الرواية: "كلنا ذاهبون إلى مراكش راجعون منها ولكل منا عائشة يناجيها من بعيد.. كوني عائشتي يا مارية. وإني لأراك متوهجة العينين تضرمين في المدينة نار الثورة والغضب لا تهدأ لهم ثائرة إلى أن ينهض النائم ويستقيم المعوج. يا دعاة الزينة والخديعة"(77). إنه خطاب الواقعية الجديدة، والبطل المتمرد، الخيبة والانعتاق، خطاب يرفض المصالحة الزائفة مع التاريخ وينبذ أدب الانعكاس والتبعية لمبادئه المسبقة، إيديولوجية أو غيرها.
وهو في الواقع وعي وموقف إزاء التاريخ كما المجتمع، يأخذ التعبير عنه عند العروي شكل فكر، ويتشابك بنظام مفهومي مرسوم بعناية في كتابه الرئيس "الإيديولوجية العربية المعاصرة"(78). في هذا الكتاب نقف على مخطط تفكير ذي قرابة بشخصيات "الغربة"، وعلى تأمل ينصب على المشاكل الحادة للمثقف العربي في مواجهة الدين، والمجتمع، والإيديولوجيات، والاختيارات السياسية، وعلى الخصوص علاقته بالغرب.
إن الفصل المعنون "ثلاثة رجال، ثلاث تعريفات"(79) يشهد تخصيصا على القرابة بين العملين. فالشيخ، والسياسي، ورجل التقنية -المرسوم إهابهم في هذا الفصل- يستمدون تعريفاتهم، بالتتابع، من الدين، والتنظيم السياسي، والنشاط العلمي والتقني-وبحسب العروي، فإن التعريفات الثلاث تسمح بإدراك المشكل الأساس للمجتمع العربي - فالنماذج الثلاثة مواجهة بتمايز مع الغرب، وممثلة لذهنيات مختلفة ولها تصور معين عن النهضة والتقدم، والتي تمر حتما عبر قراءة خصوصية لـ"الآخر". ومحمد عبده، علال الفاسي، لطفي السيد وسلامة موسى، مطروحون بوصفهم يمثلون تباعا كل واحد على حدة النماذج الثلاثة المذكورة.
بإثارتنا لأشكال الوعي الديني والسياسي، والتقاني، فإن ما يهمنها في المقام الأول هو معرفة إلى أي حد تقترن برؤى العالم المضمرة فيها، بمسارات شخصيات رواية "الغربة" وبالذات شعيب وإدريس. فشعيب يعكس المكون الديني للمجتمع، النزوع إلى الأصالة، والحاجة لإعادة الاعتبار لهوية الماضي دون رفض بالجملة للحاضر. أما إدريس فهو في مفترق طرق ثلاثة أنهج، يشخصها كلها مع التمييز عن كل واحدة منها، وحاملا نظرته الغربوية نحو المستقبل كمن يريد القول بأن العلاج لوجوده الإشكالي، لبلبلته، مكانه المستقبل وحده. بيد أن الروائي الذي يرفض الحتمية لصالح الحلم، ليس هو المفكر، بالمقابل الذي يؤثر القول القاطع، واجدا أن "التمييز بين أنواع الوعي الثلاثة ضروري دائما، إذا كنا نريد حقا التوفر على أداة للفهم والحكم"(80).
هوامــش:
1 - "يستعمل المغاربة إشكالية هي ذاتها التي استعملت أو تستعمل عند المفكرين العرب في بلدان عربية أخرى، ولا يمكن الحكم على هؤلاء دون الحكم على أولائك. فما هي هذه الإشكالية؟ إنها تتلخص [..] أولا (في) تعريف للأنا. وبما أن كل تعريف هو نفي، قبالتي يوجد الآخر أو بتحديد أدق، إنه بالعلاقة مع الآخر يعرف أنفسهم. وهذا الآخر هو الغرب".
أنظر: LAROUI Abdellah : L 'idéologie arabe contemporaine, Paris, François Maspero Textes à l'appui, 1977, pp. 3 - 4.
2 - انظر: KHATIBI Abdelkebir: Le roman Maghrebin, Rabat SMER, 1979, p. 67. -يقول الخطيبي على وجه الخصوص: "إن المثاقفة في الرواية المغاربية هي تحديدا الحياة اليومية مضاف إليها الآخر: إدراك وضعية صدامية والانتقال من بنية اجتماعية إلى أخرى"
3 - في هذا الصدد انظر كتاب:
شرابي، هشام "المثقفون العرب والغرب" بيروت دار النهار للنشر 1971.
4 - موسى فاطمة "في الرواية العربية المعاصرة" القاهرى، مكتبة الأنجلو المصرية، 1972، ص 231-232.
5 - نفسه.
6 - الدوعاجي علي "جولة بين حانات البحر الأبيض المتوسط" تونس. الدار التونسية للنشر، 1983، ط. 4، ص 11.
نشر النص للمرة الأولى في مجلة "العالم الأدبي" من سبتمبر 1935 إلى فبراير 1936، ثم أعادت نشره مجلة "المباحث" بين يوليوز بين يوليوز وسبتمبر 1944.
7 - نفسه، ص 11.
8 - نفسه، ص 8
9 - الخطيبي، م.س، ص 69.
10 - الدوعاجي، م.س. ص 15.
11 - زفزاف محمد "المرأة والوردة، بيروت، منشورات غاليري 1، 1972 (سلسلة الكتاب الحديث).
12 - الطهطاوي رفاعة "تخليص الابريز إلى تاريخ باريز"، القاهرة، بولاق، ط.1، 1934.
13 - الدوعاجي، م.س. ص 9.
14 - زفزاف، م.س، ص 7.
15 - نفسه، ص ص 10-11.
16 - تحيل عبارة "الأقلية البيضاء" إلى قسم كبير من البورجوازية المغربية ومنبتها مدينة فاس. وتتكرر هذه الإحالة وتتضح بصورة أجلى في رواية أخرى لزفزاف هي "الأفعى والبحر" (1979)، حيث يشير إليها أو يعينها بعبارات قدحية انطلاقا من أسماء العائلات التي تبتدئ بحرف الباء (بن) - انظر ص 21 من الرواية المذكورة.
17 - زفزاف، م.س. ص 28.
18 - نفسه، ص 43.
19 - ن.، ص 45
20 - ن.،ص 31
21 - ن، ص 56
22 - ن، ص 63
23 - ن، ص 44
24 - ن،ص. 63
25 - ن،ص 44.
26 - إدريس سهيل "الحي اللاتيني"، ببيروت، دار الآداب، 1954. انظر عطاوي نجيب. تطور القصة اللبنانية العربية بعد الحرب العالمية الثانية. بيروت، منشورات دار الآفاق الجديدة. 1982.
27 - الدوعاجي. م.س. ، ص 68.
28 - زفزاف، م.س.، ص 63
29 - ن.، ص 64
30 - ن.، ص 15
32 - ن.، ص 54
33 - ن.، ص 55
34 - ن.، ص ص 54 -55
35 - ن.، ص 79
36 - ن.، ص 93
37 - ن.، ص 52
38 - ن.
39 - ن.، ص 60
40 - ن.، ص ص 60-61.
41 - انظر: GEORGES , May. L 'autobiographie, Paris. PUF, 1979.
انظر خاصة الصفحات من 169 إلى 196.
42 - نفسه، ص ص 175-176.
43 - يشير أحمد اليابوري إلى أن الشخصية المركزية في "المرأة والوردة" تمثل زفزاف نفسه، من صورة شاب بوهيمي، طالب سابق ومتمرد على أساتذته، والصورة المطبوعة على غلاف الرواية قرينة بصورة الشخصية في الرواية.
انظر قراءة جديدة "للمرأة والوردة في المحرر (الملحق الثقافي)، الدار البيضاء. 17 يونيو 1979.
44 - زفزاف محمد، "أرصفة وجدران" بغداد، منشورات وزارة الإعلام، 1974.
45 - زفزاف محمد، "الأفعى والبحر" م.س.
46 - زفزاف محمد، "الثعلب الذي يظهر ويختفي"، الدار البيضاء، منشورات أوراق، 1985. نشر زفزاف أيضا الروايات التالية:
-"قبور في الماء"، تونس، طرابلس، الدار العربية للكتاب، 1978.
-"بيضة الديك"، الدار اليضاء، منشورات الجامعة، 1984.
47 - انظر في هذا الصدد، أيضا مدخل لمناقشة زفزاف. في المحرر (الملحق الثقافي) الدار البيضاء، 30 نوفمبر 1975.
48 - المديني أحمد، قراءة على هامش رواية هامشية. في المحرر (الملحق الثقافي)، الدار البيضاء، 9 نوفمبر 1975.
49 - زفزاف "المرأة والوردة"، م.س، ص 94.
50 - الحبابي محمد عزيز، "جيل الظمأ" الدار البيضاء، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، 1982. طبعة جديدة.
51 - نفسه، ن.ـ ص 13
52 - ن.، ص 12
53 - ن.، ص 75.
54 - علاوة على مجاميعه القصصية فقد نشر لحبابي عدة أعمال فلسفية منها:
-De l'être à la personne, Paris, PUF, 1954.
-Liberté ou libération?, Paris, Aubier, 1960.
-Du clos à l'ouvert, Casablanca, Dar al-Kitab, 1961.
55 - لحبابي جيل الظمأ .. م.س. ص ص 107، 111، 112، 113، 115، 125، 126.
56 - WELLEK, René et Austin WARREN. La théorie littéraire, Paris, seuil, 1971, p. 169.
BOURNEUF, Roland et Réal ouellet. L'unvers du roman, Paris, PUF, 1981, p. 212.
WELLEK et WARREN, op.cit., 170.
59 - العروي عبد الله "الغربة" الدار البيضاء، دار النشر المغربية 1971.
60 - نفسه، انظر ظهر الغلاف.
61 - من مؤلفات العروي النظرية نذكر:
-L 'édéologie arabecontemporaine, Paris, Français Maspéro, 1967.
-La crise des intellectuels arabes, Paris, F.Maspéro, 1974.
-Islam et modernité , Paris, La découberte, 1986.
62 - العروي الإيديولوجية … م.س.، ص XIX
63 - نفسه، ص 4.
64 - في تنبيه ختامي على هامش الرواية يسجل العروي: "كتبت القصة المنشورة هنا في خريف 1956 وكانت تحمل عنوان "على هامش الأحداث" ثم أعيدت صياغتها كليا في صيف 1958 وجزئيا سنة 1961 ثم تركت بعد ذلك على حالها" ونحن من جهتنا لا نعير كبير أهمية لهذا التنبيه مولين تقديرنا فقط لتاريخ صدور الرواية، وما أحدثته من تأثير في السياق الأدبي العام.
65 - العروي، م.س، ص 202.
66 - WOLFE Thomas. Look homeward, NewYork, Angel, 1929, p. 162.
Traduit et cité par Michel ZERAFFA In: Personnage, le romanesque des années 1920 aux années 1950, Paris, éditions Klin cksieck, 1971, pp. 173-174.
67 - العروي، م.س، ص 10
68 - ن.، ص 41
70 - ن.، ص 131.
71 - ن.، ص 129
72 - ن.، ص 113
73 - ن.، ص 134
74 - ن.، ص 136
75 - ن.، ص 138
76 - ن.، ص 131
77 - ن.، ص 141.
78 - العروي، الإيديولوجية، م.س.
79 - نفسه، ص ص 19-25
80 - نفسه، ص 49.