أحمد حسن الزيات - رأي الرافعي في الأستاذين طه والعقاد..

بمناسبة ذكراه الثالثة

ذكرتُ بذكرَى الرافعي وعداً درجت الأيام عليه ولم أوفّ به. ذلك أن أذكر لقراء الرسالة الرأي الصريح المجرد لصاحب (السفود) و (تحت راية القرآن) في خصميه العظيمين طه والعقاد. وفي ظني أن تسجيل هذا الرأي قد يصحح ما شاع في أجواء الأدب من نقد مسه الهوى وحكم أفسدته الخصومة.

فإن الرافعي رحمة الله عليه كان من أبصر الناس بِصَرف الكلام وأقدرهم على نقده؛ ولكن تعقبه للأدباء الأحياء قلما كان يبرأ من مجاملة الصداقة أو منافسة الحرفة. فإذا أردت استنباط رأيه الحر من غوره البعيد لا يتيسر ذلك منه إلا في الخلوة حين يأمن الأذن الخصيمة والقلم المسجل

جلسنا معاً ذات يوم من أيام الإسكندرية على قهوة (أتينيوس) بعد غداء ضاحك هنئ على مائدة صديقنا المرحوم فليكس فارس. وكان الرافعي برد الله ضريحه شديد الحساسة بالجمال قوي الرغبة في اللذة؛ ولكنه كان يطلبها من طريق المحال أو الحلال فتعييه. كان يتمنى أن يكون كأصحاب الجنة: يصبو من غير فجور وينتشي من غير إثم. فلما أعجزه الدرَك أغلق فؤاده من دون نفسه؛ ثم فتح للجمال عينيه وأطلق في نعيمه لسانه، فلا يدع معنى من معاني اللهو ولا لوناً من ألوان العيش إلا صرَّف الكلام فيه وأدار الرأي عليه

كان حديث الرافعي على المقهى الأنيق الوادع أفانين من النكات والأفاكيه يدور أكثرها على سكرات الجمال في الكرنيش، وسطوات الشباب على الشاطئ، وحسرات الحرمان فيما بين ذلك. ثم توافدت زمر المصطافين على المقهى، فأخذ يتحفظ في الحديث ويخافت به حتى رده مرغماً إلى الأدب؛ فسألني كيف أكتب ومتى أكتب وماذا أشرب حين أكتب. فلما أجبته أني لا أفكر إلا أول الكتابة، ولا أكتب إلا آخر الوقت، ولا أدخن التبغ ولا أشرب القهوة ولا أكركر الشيشة، عجب كيفتواتي القريحة على هذه الحال الكليلة، وذكر لي ما يتملق به قريحته من المطاعم والمشارب والعقاقير، ثم روي لي الأعاجيب مما يُلقى عليه إلقاء في النوم، وما يلهَمه إلهاماً في اليقظة، وعزا ذلك إلى قوة إلهية ترفده وتسنده. فقلت له ضاحكاً: وهل تعتقد أن من إلهام هذه القوة تلك الفصول المقذعة التي كتب النقد؟ فأجاب بلهجته الطفلية الحاسمة:

أما ما كتبته (على السفود) فأكثره رجس من عمل الشيطان، وأما ما أدخلته (تحت راية القرآن) فكله إلهام من روح الله

فقلت له، أو بالحري كتبت، لأن مناقلة الحديث كانت لصممه تحريرية مني وشفوية منه:

أتستطيع في هذه المناسبة يا صاحب (تاريخ آداب العرب) أن تجرد نفسك من ملابسات الخصومة وتُجمل لي رأيك الخالص في طه والعقاد؟

فأجاب الرافعي وعلى محياه الوردي سيما المعترف المقر:

- أما لك فأقول الحق. وما دمت لا أكتبه فلا أبالي أن تنشره:

إن طه عجيب التكوين جليل المواهب. وهو مدين بنبوغه لتوقد ذهنه ودقة حسه وقوة ذاكرته ولباقة حديثه ومزايا عاهته. ولو أنه انتهى كما بدأ لكان اليوم أحد عباقرة الدنيا. ولكنه بلغ المنزلة المرجوة قبل الأوان لأسباب غير طبيعية، فأعفى طبعه واطمأن إلى منصبه المضمون ومجده المكتسب

علمه علم الأديب يأخذ من كل شئ بطرَف، وأدبه أدب الصحفي تصرفه السرعة عن الإجادة، وأسلوبه أسلوب الوادي المنحدر يشتد جريانه ويقل عمقه

ذهنه لمًاع الذكاء ولكنه لا ينفذ، وقريحته واسعة الحيلة ولكنها لا تخلق. لذلك تجده مغسول الكلام لا أثر فيه لروعة الفن ولا لبراعة الفكرة. ولكنه قوي الشخصية جياش الحركة عذب السياق جميل العرض. وهو أشبه الناس بمهندس العرض في بيوت التجارة، يعرض البضائع في البترينات منسقة على نظام يملك البصر، ولكنها تظل بعد التنسيق كما كانت قبل التنسيق ملك غيره. وأحسبه إذا تنفس به العمر على هذه الحال يعود رجلاً له رأي مسموع في التأديب، ولكن ليس له أثر خالد في الأدب.

ويلوح لي أن طه تعوزه العقيدة التي تخلق المبدأ، ومن هنا كان التناقض الظاهر في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل

أما العقاد فإني أكرهه وأحترمه: أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره. ولعله أعلم الناس بمكاني من الأدب، ولكنه يَنْفِس عليَّ قوة البيان فيتجاهلني حتى لا أجري معه في عنان وأحترمه لأنه أديب قد استملك أداة الأدب، وباحث قد استكمل عدة البحث. قَصرَ عمره وجهده على القراءة والكتابة فلا ينفك بين كتاب وقلم. ومن آفة الذين يديمون النظر في كلام الناس أنهم يفقدون استقلال الفكر وابتكار القريحة، وليس كذلك العقاد؛ فإن رأيه لقوة عقله وسلامة طبعه يظل متميزاً عن رأي الكتاب مهيمناً عليه؛ يؤيده أو يفنده، ولكنه لا يسمح له أن يذوب فيه أو يتأثر به

أسلوب العقاد أسلوب الأديب الحكيم، تبرز فيه الفكرة الدقيقة في مجتلى من الفن الرفيع، فيجمع بقوة تفكيره ودقة تعبيره طَرَفيْ البلاغة. والعقاد مخلص لفنه فلا يخرج للناس ما لا يرضاه. فهو لذلك أبعد الأدباء عن استغلال شهرته واستخدام إمضائه

فقلت له وأنا أختم الورقة التي أحدثه عليها: هيهات يا صديقي أن يخلص رأيك من هواك. إن رأيك في الأستاذ العقاد رجوع إلى الحق، ولكن رأيك في الدكتور طه إمعان في الباطل!

أحمد حسن الزيات


مجلة الرسالة - العدد 358
بتاريخ: 13 - 05 - 1940
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...