ادعى رجل النبوة في البصرة، في زمن المهدي. فلما أدخل عليه، قال: “أنت نبي؟”. قال: “نعم!” قال: “إلى من بعثت؟”. قال: “أو تركتموني أُبعث إلى أحد؟! بُعثتُ بالغداة، وحُبستُ بالعَشيِّ!”.
النويري، “نهاية الأرب في فنون الأدب”
أما أني كذاب فذاك حق، وأما أني سرّاق فو الله أني كذلك، وأما أني قد ادعيت النبوة فإنه افتراء وإفك! وإن حسادي وكارهيَّ كثر، فأنىّ لي أن أعلم أنه بعد حين من الدهر سيتقولون علي الأقاويل؟
غاية الأمر أني كنت رجلا أبيع المؤمنين ما يريدون، يقصدني أهل التقوى من المسلمين والنصارى على حد سواء، جاءني تاجر من حلب يقصدني لشراء خرقة من ثوب الرسول، فأتيت له بما يريد، وجاءني راهب من بغداد ذو إرث عظيم! أراد قطعة من الصليب الذي صلب عليه المسيح، فمكثتُ دهرا لكنه حصل على ما أراد. في خزانتي ملكت يوما قصعتين من قصاع العشاء الأخير، ونعال عثمان، وغير ذلك مما تعدّون.
أما كيف جاءتني فذا مما ليس لكم أن تعرفوه!
كان المهدي هو من به لوثة لا أنا، استدعاني وجاء بي من طريق طويل، انتظرت أن يقول أنه يريد أثرا من آثار الرسول الكريم، أو متاعا من متاع أحد أجداده الغابرين، أو ربما جوهرة نفيسة لإحدى جواريه. مضيت أتحزر ما يريد وأنا على ظهر جملي في مسيري الطويل إليه، أخذت معي صالحا في سفري كي يغني لي أغاني الفساق، غناء ليس فيه أغاني الفساق ليس بغناء.
لا أكتمكم أن الأمر كان خطيرا على رأسي، فما توقعت أن يبعث إلي يوما، فإن كنت أكذب على البشر وأقول أن هذا يعود لذا، فما قد يحل بي إن علم الخليفة أني كذاب أشر؟ كيف أبيعه كذبا وخداعا؟ وهل الآن هو وقت الحساب والعقاب؟
لما وصلته، تبين أن الخليفة لا تقوى ولا مخافة! دخلت عليه أرجف رجفا، يبس حلقي وما استطعت سوق عبارات “يا أمير المؤمنين” و”أعز الله الأمير” و يا أميرنا”، أما هو فخاطبني باسمي وحده وكأنه يعرفني من أول الخليقة: “يا جابر إنا نعلم أنك لا يعوزك الإتيان بأي نفيس من نفائس الأولين، أليس الأمر كذلك يا جابر؟”، “المعذرة يا مولاي، ذات مرة أرادني أحدهم أن آتي له بكيس نقود يوحنا المعمدان، كان هذا والله طلبا معجزا، من أين ليوحنا طيب الله ثراه بكيس نقود أصلا؟ صاحبنا أقام لي لأجل ذلك قناطير مقنطرة من الذهب، ولكن كيف لي..” قاطعني: “قد علمنا يا جابر، قد علمنا، غير أني أريد حفنة عظام” “عظام من؟ أيد الله الأمير!” فكرت حينها أنه ربما أراد عظام المقنع الذي ثار عليه وادعى النبوة، لكن جنده كفيلين بهذه العظام، أما أنا فلا يقصدني إلا من أراد متاعا يزيد عن سنوات طويلة. “إن جدي قصي بن كلاب سرق منه رجل اسمه المثنى بن ضارية قصيدة وادعاها لنفسه، يقولون إنه علقها على أستار الكعبة، لكن رجال جدي الأعظم العظماء ما تركوها له يراها الأشهاد، جدي ليس من عادته الغدر ولا القتل، ولكنه أوصى ألا تترك عظامه وأن تدق دقا عقابا وفاقا له على ما فعل ولو مر على موته بضع سنين، المثنى مات في أرض بعيدة، قيل في اليمن وقيل أبعد، وليس منا من توصل إلى عظامه، فما قولك يا جابر؟”
“أو تريد القصيدة يا أمير المؤمنين؟”
“قلت أريد العظام يا جابر”
“عظام من؟”
“عظام المثنى يا جابر”
“لمن يا أمير المؤمنين؟”
“هل تود أن أقطع رأسك يا جابر؟”
“ساحني يا أمير المؤمنين، مثلك يعذر مثلنا” مجنون أنا؟ من أنا لا أبا لي كي أسأل الخليفة عن سبب بحثه عمن ادعى لنفسه قصيدة جده! لأصمت لا أبا لي!
وهكذا ابتدأت المسير للبحث عن عظام عدو الله والمؤمنين، سارق القصيدة وناهب سعادة الخليفة!
ماذا لو أتيت ببقايا عظام كلب؟! تلك فكرة كانت تتقلب في أحشائي على مهل.
قررت أن لا أكذب وأن أذهب في مسير للبحث عن عظام المثنى لا بارك الله في فعلته. قررت أن الرواية التي تقول إنه مدفون في اليمن هي الرواية الصواب “وهل أنا أعلم من الأمير؟”، وإن لم يكن في اليمن ففي مكان أبعد خلف اليمن.
على جملي تمنيت لو تطلع لي تلك المدينة ذات العماد، مدينة الذهب التي تطلع مرة كل ألف سنة، لكني ما لقيت مدينة ضائعة ولا عداها، ما لقيت غير الغبار يلطم وجهي.
لما وصلت اليمن أكثرت السؤال عن قبر المثنى، لا يجوز أن أذهب لنبش القبور كيفما شئت! للمقابر أهل وأولاد، وأهل المقابر هم أجداد الباعة والمعلمين، والنسوة! لا طاقة لي بعصي النسوة!
انتهيت من السؤال إلى أن القبر كائن عند شجرة عظيمة علامتها أنّ تأوي إليها الكلاب ليلا! وقال لي أحدهم أن الشمس تزاور عن قبر المثنى ذات الشمال! ما عرفت مقصد هذا الرجل، فقررت البحث عن شجرة الكلاب!
أرسلت صالحا، رفيق مسيري العظيم كي يسأل الباعة عن أرض هذه الشجرة، اتفق الباعة على أنها تبعد عن شمال مدينة؟ مسيرة يوم وليلة، لكن بائعا قال أنا إن طلعنا صباحا وصلناها ظهرا!
كثرت الأقاويل على رأسي، غير أني عرفت المدينة القرية فآثرت الذهاب ثم السؤال هناك.
في مدينة “الصلعوم”، تكأكأ الناس علينا، يقولون أن آخر رجل وفد عليهم من العراق كان قبل ثلاثين عاما، وما خرج من عندهم! قضى نحبه بعد مقامه عندهم بثلاث ليال! لا أدري أكانوا يتوعدونني أم يشفقون علي من نحسهم وسوء طالعهم! قلت أني لا أطيل ثلاثة أيام، وإني مغادر قبلها إن شاء الله.
لما سألونا أخبرناهم أنت في مهمة لأجل أمير المؤمنين، ولا أكتم أني خشيت في تلك اللحظة أن يكونوا من كارهي الأمير فيقتصون مني، ولكن تبدى لي أن الأمير لم يكن يعنيهم، وأن لون عباءتي الحائل والذي بقي حائلا بعدما نفضت الغبار عني كان أدعى لتساؤلهم.
أشار لي جد المدينة الأكبر بإصبعه الكبير باتجاه الشمال، أن شجرة المثنى، أو شجرة الكلاب في هذا الاتجاه، فقلت نغادر نحوها بعد صلاة الفجر بحول الله.
لكنا جعلت وصالحا نراقب الليل هل تأتي الكلاب؟ وقتها جعلت أفكر ما الذي يجلب الكلاب لكني لا وقت عندي، وكان النعاس يأخذ مني كل مأخذ، أول الليل نمت أنا، وقمت آخره، كان صالح الآخر أيضا نائم، لكنه وسط نومه أشار لي إلى كلبين نائمين عند الشجرة! سحبته وذلك إلى البيت الذي أعد لنا كي نكمل نومنا فيه.
قمت لأصلي الفجر وأيقظت صالحا، ما كنا نصلي أنا وصالح كثيرا، لم نكن بحريصين دوما على الصلاة، ولكن ليس لنا ألا نصلي وقد قام للصلاة كل أهل القرية. عند الباب خرجت اتلمس نعالي بنصف عين فما وجدته! ولا وجدت نعال صالح!
من سرق نعالي؟
عندما سمعنا إقامة الصلاة اضطررنا للإسراع نحو المسجد حافيين! ليست هذه هيئة محتشمة تليق بمبعوثي الخليفة، بعد الصلاة شكونا أمرنا إلى كبير القرية، فنظر إلينا بريبة وارتياب، فإنا بهذا الادعاء الكذاب حول نعلينا نتهم أهل القرية بذهاب الأمانة وقلة الحياء، وهم أهل شيمة وكرم لا يسرقون نعال ضيوفهم.
ما كادت الشمس تطلع حتى اشترينا نعالين جديدين محفوفين بالاحتقار؟ وأخذنا متاعنا واتجهنا صوب الشجرة. وقفنا لا نعرف من أي منزل نبدأ! بمحاذاة الشجرة أم بعيدا عنها؟! صالح اقترح لفراسة المؤمن غير التقي أن نبدأ الحفر حيث كانت الكلاب نائمة بالضبط. وبدأنا الحفر. أول ما بدأنا الحفر كان بي من الهمة أني أود حفر كل أرض اليمن، وبعد بضع ضربات شعرت أي أريد أن أضرب رأس الخليفة بالفأس.
لكنني عند هذه اللحظة ضربت سطحا، ألححت بالحفر، فظهر صندوق، ألححت اكثر، فاستطعنا إخراجه، وبضربة من أقدامنا انفتح، ولقينا فيه عظمتين.
أين بقية العظام المأفونة قاتلها الله؟ أين الجمجمة؟
صالح صار يتفحص العظام: ليست عظام كلب، فهي أطول من أن تكون عظام كلب، ولا عظام دابة فهي أقصر.
صرخت فيه: “انبش القبر جيدا جعلك الله فدائي يا ابن اللكيعة!” فأثار نقع التراب في وجهي! كتمت ما بي، فليس لي في هذه القفر سوى صالح، وإن فتك بي لا ينجدني أحد.
جلست تحت الشمس تحرقني، قلبت العظمتين برقة خشية أن تفتتا، وهما عظمتان رقيقتان خفيفتان لا تستحقان كل هذا الحقد القديم الذي أورثه قصي للمهدي أخزاه الله!
أنحفر حول الشجرة دائرة كي نتحقق ألا عظام أخرى؟ وهل يعقل أن يضعوا بعض العظام في صندوق وعظام أخريات خارجه؟
قلت له: تعال نرجع.
ورجعنا.
وفي القرية ألحفنا بالسؤال، أحدهم قال أن في ناحية أخرى قرية ذات كير، وفيها رجل كبير يعرف كل خير قديم، أبا العريّف.
لففنا صندوقنا الذي أثار الريبة وذهبنا باتجاه ذات كير.
في ذات كير اهتدينا إلى أبي العريف سريعا، أخبرناه عن ثأر قديم بين جد المهدي والمثنى، فأخبرنا أن ثمة من يقول إنهم يومذاك قرروا أن ينثروا عظامه ما بين أقصى الشمال وأقصى الجنوب، وأما أقصى الجنوب فقد لقيتموها، وأما أقصى الشمال ففي قبر من قبور بغداد، على شاهدته نحت كلاب، والله أعلم!
قبر من قبور بغداد؟! أقطعنا الفيافي والقفار من أجل عظمتين فيما بقية العظام عند أنوفنا تتشمس؟! ماذا فعل لا غفر الله له كي يصيب منهم كل هذا الحقد ويفرقوا عظامه وينثروها في أقصى أصقاع الأرض؟!
وهل عبرت كل هذا الطريق من أجل العودة إلى بغداد بعظمتين؟ وما أدراني أن المهدي سيصدقني ولا يقتلني! إن كنت أنا نفسي لا أصدق!
مكثت وصالحا نتشاور في أمر أنفسنا.
واهتدينا إلى أمرنا!
* * *
ما وصلنا إلى بغداد إلا ودخلنا باب الخليفة، فليس من الكياسة أن ننام دون لقيا الخليفة، أمرونا بالاغتسال وجهزوا لنا حماما كي نلقاه بما يليق به، وصالح كاد ينام لولا الروع من لقيا الخليفة، على أي حال بعدما اغتسل قالوا له أنه سيمكث خارجا وأنني وحدي من أدخل، ودخلت.
ابتهج الخليفة برؤية الصندوق، وابتهج أكثر برؤية الجمجمة والعظام تبرق وسط القطيفة الحمراء. سألني عن مسيري وكيف لقيت هذا، فأخبرته، وقطعت آخر الحكاية.
أمر الخليفة وزيره أبا يعقوب أن يرافقني وأن يصرف لي مقدار وزن العظام ذهبا، فخرجت من عنده سعيدا هنيء البال، لملمت ذهبي وأنا أسمع في الخارج دمدمة ولغطا وضحكا، وإذا بالوزير يمطمط شفتيه وينادي جنده: أدخلوه كي يصمت ونخلص ونذهب إلى أعمالنا، فدخل الجند يحيطون برجل له هيبة، سمعت الوزير يسأله: “أنت نبي؟”. قال: “نعم!”، فنظرت فإذا به عمار البهلول، بهلول سوقنا في البصرة، ما جاء به؟ قلت للوزير أني أعرفه، قال: فاسأله ما جاء به فإنا قوم مسلمون. قلت له: يا عمار يا ابن أخي، أأنت نبي؟ قال: نعم! قلت: وإلى من بعثت؟”. قال: “أوتركتموني أُبعث إلى أحد؟! بُعثتُ بالغداة، وحُبستُ بالعشي.
وعطس عطسة عظيمة في وجهي!
* * *
مررت على قبور بغداد وسألت عن قبر لرجل يدعى المثنى، وعلى قبره شاهدة عليها نحت كلاب! ما أكاد اسأل حتى يصرخ علي محدثي: يا رجل، استغفر الله. وهكذا آخذ بعضي وأمضي.
المهم أني أخذت ذهبي، وبقيت زمنا أحلم بالخليفة يعاقبني على كذبي، وأرى من سرقت جمجمته يقلق علي منامي، وما أسمع أي صيحة إلا أحسبها علي، وكل قرع على بابي أظنه جند الخليفة قد قدموا في طلب رأسي، فما مر علي الحول، حتى طلقت نسائي، وأخذت ذهبي، وشددت رحلي إلى ما وراء خراسان. هناك ادعيت لنفسي نسبا لا يهتدي إليه الخليفة ولا يخطر على قلب بشر: ادعيت أني يهودي من بقايا خيبر أسلم للتو!
.
النويري، “نهاية الأرب في فنون الأدب”
أما أني كذاب فذاك حق، وأما أني سرّاق فو الله أني كذلك، وأما أني قد ادعيت النبوة فإنه افتراء وإفك! وإن حسادي وكارهيَّ كثر، فأنىّ لي أن أعلم أنه بعد حين من الدهر سيتقولون علي الأقاويل؟
غاية الأمر أني كنت رجلا أبيع المؤمنين ما يريدون، يقصدني أهل التقوى من المسلمين والنصارى على حد سواء، جاءني تاجر من حلب يقصدني لشراء خرقة من ثوب الرسول، فأتيت له بما يريد، وجاءني راهب من بغداد ذو إرث عظيم! أراد قطعة من الصليب الذي صلب عليه المسيح، فمكثتُ دهرا لكنه حصل على ما أراد. في خزانتي ملكت يوما قصعتين من قصاع العشاء الأخير، ونعال عثمان، وغير ذلك مما تعدّون.
أما كيف جاءتني فذا مما ليس لكم أن تعرفوه!
كان المهدي هو من به لوثة لا أنا، استدعاني وجاء بي من طريق طويل، انتظرت أن يقول أنه يريد أثرا من آثار الرسول الكريم، أو متاعا من متاع أحد أجداده الغابرين، أو ربما جوهرة نفيسة لإحدى جواريه. مضيت أتحزر ما يريد وأنا على ظهر جملي في مسيري الطويل إليه، أخذت معي صالحا في سفري كي يغني لي أغاني الفساق، غناء ليس فيه أغاني الفساق ليس بغناء.
لا أكتمكم أن الأمر كان خطيرا على رأسي، فما توقعت أن يبعث إلي يوما، فإن كنت أكذب على البشر وأقول أن هذا يعود لذا، فما قد يحل بي إن علم الخليفة أني كذاب أشر؟ كيف أبيعه كذبا وخداعا؟ وهل الآن هو وقت الحساب والعقاب؟
لما وصلته، تبين أن الخليفة لا تقوى ولا مخافة! دخلت عليه أرجف رجفا، يبس حلقي وما استطعت سوق عبارات “يا أمير المؤمنين” و”أعز الله الأمير” و يا أميرنا”، أما هو فخاطبني باسمي وحده وكأنه يعرفني من أول الخليقة: “يا جابر إنا نعلم أنك لا يعوزك الإتيان بأي نفيس من نفائس الأولين، أليس الأمر كذلك يا جابر؟”، “المعذرة يا مولاي، ذات مرة أرادني أحدهم أن آتي له بكيس نقود يوحنا المعمدان، كان هذا والله طلبا معجزا، من أين ليوحنا طيب الله ثراه بكيس نقود أصلا؟ صاحبنا أقام لي لأجل ذلك قناطير مقنطرة من الذهب، ولكن كيف لي..” قاطعني: “قد علمنا يا جابر، قد علمنا، غير أني أريد حفنة عظام” “عظام من؟ أيد الله الأمير!” فكرت حينها أنه ربما أراد عظام المقنع الذي ثار عليه وادعى النبوة، لكن جنده كفيلين بهذه العظام، أما أنا فلا يقصدني إلا من أراد متاعا يزيد عن سنوات طويلة. “إن جدي قصي بن كلاب سرق منه رجل اسمه المثنى بن ضارية قصيدة وادعاها لنفسه، يقولون إنه علقها على أستار الكعبة، لكن رجال جدي الأعظم العظماء ما تركوها له يراها الأشهاد، جدي ليس من عادته الغدر ولا القتل، ولكنه أوصى ألا تترك عظامه وأن تدق دقا عقابا وفاقا له على ما فعل ولو مر على موته بضع سنين، المثنى مات في أرض بعيدة، قيل في اليمن وقيل أبعد، وليس منا من توصل إلى عظامه، فما قولك يا جابر؟”
“أو تريد القصيدة يا أمير المؤمنين؟”
“قلت أريد العظام يا جابر”
“عظام من؟”
“عظام المثنى يا جابر”
“لمن يا أمير المؤمنين؟”
“هل تود أن أقطع رأسك يا جابر؟”
“ساحني يا أمير المؤمنين، مثلك يعذر مثلنا” مجنون أنا؟ من أنا لا أبا لي كي أسأل الخليفة عن سبب بحثه عمن ادعى لنفسه قصيدة جده! لأصمت لا أبا لي!
وهكذا ابتدأت المسير للبحث عن عظام عدو الله والمؤمنين، سارق القصيدة وناهب سعادة الخليفة!
ماذا لو أتيت ببقايا عظام كلب؟! تلك فكرة كانت تتقلب في أحشائي على مهل.
قررت أن لا أكذب وأن أذهب في مسير للبحث عن عظام المثنى لا بارك الله في فعلته. قررت أن الرواية التي تقول إنه مدفون في اليمن هي الرواية الصواب “وهل أنا أعلم من الأمير؟”، وإن لم يكن في اليمن ففي مكان أبعد خلف اليمن.
على جملي تمنيت لو تطلع لي تلك المدينة ذات العماد، مدينة الذهب التي تطلع مرة كل ألف سنة، لكني ما لقيت مدينة ضائعة ولا عداها، ما لقيت غير الغبار يلطم وجهي.
لما وصلت اليمن أكثرت السؤال عن قبر المثنى، لا يجوز أن أذهب لنبش القبور كيفما شئت! للمقابر أهل وأولاد، وأهل المقابر هم أجداد الباعة والمعلمين، والنسوة! لا طاقة لي بعصي النسوة!
انتهيت من السؤال إلى أن القبر كائن عند شجرة عظيمة علامتها أنّ تأوي إليها الكلاب ليلا! وقال لي أحدهم أن الشمس تزاور عن قبر المثنى ذات الشمال! ما عرفت مقصد هذا الرجل، فقررت البحث عن شجرة الكلاب!
أرسلت صالحا، رفيق مسيري العظيم كي يسأل الباعة عن أرض هذه الشجرة، اتفق الباعة على أنها تبعد عن شمال مدينة؟ مسيرة يوم وليلة، لكن بائعا قال أنا إن طلعنا صباحا وصلناها ظهرا!
كثرت الأقاويل على رأسي، غير أني عرفت المدينة القرية فآثرت الذهاب ثم السؤال هناك.
في مدينة “الصلعوم”، تكأكأ الناس علينا، يقولون أن آخر رجل وفد عليهم من العراق كان قبل ثلاثين عاما، وما خرج من عندهم! قضى نحبه بعد مقامه عندهم بثلاث ليال! لا أدري أكانوا يتوعدونني أم يشفقون علي من نحسهم وسوء طالعهم! قلت أني لا أطيل ثلاثة أيام، وإني مغادر قبلها إن شاء الله.
لما سألونا أخبرناهم أنت في مهمة لأجل أمير المؤمنين، ولا أكتم أني خشيت في تلك اللحظة أن يكونوا من كارهي الأمير فيقتصون مني، ولكن تبدى لي أن الأمير لم يكن يعنيهم، وأن لون عباءتي الحائل والذي بقي حائلا بعدما نفضت الغبار عني كان أدعى لتساؤلهم.
أشار لي جد المدينة الأكبر بإصبعه الكبير باتجاه الشمال، أن شجرة المثنى، أو شجرة الكلاب في هذا الاتجاه، فقلت نغادر نحوها بعد صلاة الفجر بحول الله.
لكنا جعلت وصالحا نراقب الليل هل تأتي الكلاب؟ وقتها جعلت أفكر ما الذي يجلب الكلاب لكني لا وقت عندي، وكان النعاس يأخذ مني كل مأخذ، أول الليل نمت أنا، وقمت آخره، كان صالح الآخر أيضا نائم، لكنه وسط نومه أشار لي إلى كلبين نائمين عند الشجرة! سحبته وذلك إلى البيت الذي أعد لنا كي نكمل نومنا فيه.
قمت لأصلي الفجر وأيقظت صالحا، ما كنا نصلي أنا وصالح كثيرا، لم نكن بحريصين دوما على الصلاة، ولكن ليس لنا ألا نصلي وقد قام للصلاة كل أهل القرية. عند الباب خرجت اتلمس نعالي بنصف عين فما وجدته! ولا وجدت نعال صالح!
من سرق نعالي؟
عندما سمعنا إقامة الصلاة اضطررنا للإسراع نحو المسجد حافيين! ليست هذه هيئة محتشمة تليق بمبعوثي الخليفة، بعد الصلاة شكونا أمرنا إلى كبير القرية، فنظر إلينا بريبة وارتياب، فإنا بهذا الادعاء الكذاب حول نعلينا نتهم أهل القرية بذهاب الأمانة وقلة الحياء، وهم أهل شيمة وكرم لا يسرقون نعال ضيوفهم.
ما كادت الشمس تطلع حتى اشترينا نعالين جديدين محفوفين بالاحتقار؟ وأخذنا متاعنا واتجهنا صوب الشجرة. وقفنا لا نعرف من أي منزل نبدأ! بمحاذاة الشجرة أم بعيدا عنها؟! صالح اقترح لفراسة المؤمن غير التقي أن نبدأ الحفر حيث كانت الكلاب نائمة بالضبط. وبدأنا الحفر. أول ما بدأنا الحفر كان بي من الهمة أني أود حفر كل أرض اليمن، وبعد بضع ضربات شعرت أي أريد أن أضرب رأس الخليفة بالفأس.
لكنني عند هذه اللحظة ضربت سطحا، ألححت بالحفر، فظهر صندوق، ألححت اكثر، فاستطعنا إخراجه، وبضربة من أقدامنا انفتح، ولقينا فيه عظمتين.
أين بقية العظام المأفونة قاتلها الله؟ أين الجمجمة؟
صالح صار يتفحص العظام: ليست عظام كلب، فهي أطول من أن تكون عظام كلب، ولا عظام دابة فهي أقصر.
صرخت فيه: “انبش القبر جيدا جعلك الله فدائي يا ابن اللكيعة!” فأثار نقع التراب في وجهي! كتمت ما بي، فليس لي في هذه القفر سوى صالح، وإن فتك بي لا ينجدني أحد.
جلست تحت الشمس تحرقني، قلبت العظمتين برقة خشية أن تفتتا، وهما عظمتان رقيقتان خفيفتان لا تستحقان كل هذا الحقد القديم الذي أورثه قصي للمهدي أخزاه الله!
أنحفر حول الشجرة دائرة كي نتحقق ألا عظام أخرى؟ وهل يعقل أن يضعوا بعض العظام في صندوق وعظام أخريات خارجه؟
قلت له: تعال نرجع.
ورجعنا.
وفي القرية ألحفنا بالسؤال، أحدهم قال أن في ناحية أخرى قرية ذات كير، وفيها رجل كبير يعرف كل خير قديم، أبا العريّف.
لففنا صندوقنا الذي أثار الريبة وذهبنا باتجاه ذات كير.
في ذات كير اهتدينا إلى أبي العريف سريعا، أخبرناه عن ثأر قديم بين جد المهدي والمثنى، فأخبرنا أن ثمة من يقول إنهم يومذاك قرروا أن ينثروا عظامه ما بين أقصى الشمال وأقصى الجنوب، وأما أقصى الجنوب فقد لقيتموها، وأما أقصى الشمال ففي قبر من قبور بغداد، على شاهدته نحت كلاب، والله أعلم!
قبر من قبور بغداد؟! أقطعنا الفيافي والقفار من أجل عظمتين فيما بقية العظام عند أنوفنا تتشمس؟! ماذا فعل لا غفر الله له كي يصيب منهم كل هذا الحقد ويفرقوا عظامه وينثروها في أقصى أصقاع الأرض؟!
وهل عبرت كل هذا الطريق من أجل العودة إلى بغداد بعظمتين؟ وما أدراني أن المهدي سيصدقني ولا يقتلني! إن كنت أنا نفسي لا أصدق!
مكثت وصالحا نتشاور في أمر أنفسنا.
واهتدينا إلى أمرنا!
* * *
ما وصلنا إلى بغداد إلا ودخلنا باب الخليفة، فليس من الكياسة أن ننام دون لقيا الخليفة، أمرونا بالاغتسال وجهزوا لنا حماما كي نلقاه بما يليق به، وصالح كاد ينام لولا الروع من لقيا الخليفة، على أي حال بعدما اغتسل قالوا له أنه سيمكث خارجا وأنني وحدي من أدخل، ودخلت.
ابتهج الخليفة برؤية الصندوق، وابتهج أكثر برؤية الجمجمة والعظام تبرق وسط القطيفة الحمراء. سألني عن مسيري وكيف لقيت هذا، فأخبرته، وقطعت آخر الحكاية.
أمر الخليفة وزيره أبا يعقوب أن يرافقني وأن يصرف لي مقدار وزن العظام ذهبا، فخرجت من عنده سعيدا هنيء البال، لملمت ذهبي وأنا أسمع في الخارج دمدمة ولغطا وضحكا، وإذا بالوزير يمطمط شفتيه وينادي جنده: أدخلوه كي يصمت ونخلص ونذهب إلى أعمالنا، فدخل الجند يحيطون برجل له هيبة، سمعت الوزير يسأله: “أنت نبي؟”. قال: “نعم!”، فنظرت فإذا به عمار البهلول، بهلول سوقنا في البصرة، ما جاء به؟ قلت للوزير أني أعرفه، قال: فاسأله ما جاء به فإنا قوم مسلمون. قلت له: يا عمار يا ابن أخي، أأنت نبي؟ قال: نعم! قلت: وإلى من بعثت؟”. قال: “أوتركتموني أُبعث إلى أحد؟! بُعثتُ بالغداة، وحُبستُ بالعشي.
وعطس عطسة عظيمة في وجهي!
* * *
مررت على قبور بغداد وسألت عن قبر لرجل يدعى المثنى، وعلى قبره شاهدة عليها نحت كلاب! ما أكاد اسأل حتى يصرخ علي محدثي: يا رجل، استغفر الله. وهكذا آخذ بعضي وأمضي.
المهم أني أخذت ذهبي، وبقيت زمنا أحلم بالخليفة يعاقبني على كذبي، وأرى من سرقت جمجمته يقلق علي منامي، وما أسمع أي صيحة إلا أحسبها علي، وكل قرع على بابي أظنه جند الخليفة قد قدموا في طلب رأسي، فما مر علي الحول، حتى طلقت نسائي، وأخذت ذهبي، وشددت رحلي إلى ما وراء خراسان. هناك ادعيت لنفسي نسبا لا يهتدي إليه الخليفة ولا يخطر على قلب بشر: ادعيت أني يهودي من بقايا خيبر أسلم للتو!
.