عباس محمود العقاد - باريتو (1848-1923)

ڨلفريدو فردريكو داماسو باريتو هو وريث أسرة إيطالية نبيلة، كان أبوه من أنصار « ماتسيني» إمام الوطنية الإيطالية، وأقام زمنًا في فرنسا فتجنَّس بالجنسية الفرنسية، وقضى حياته منتصرًا للمبادئ السياسية المتطرفة، ووُلد له ابنه «باريتو» صاحب المذهب الذي نحن بصدده في باريس، حيث نشأ وتعلَّم وتخرَّج من مدارسها ومدارس تورين.
وقد خلف باريتو أباه في هندسة السكة الحديد الإيطالية، ثم اشتغل بهندسة المناجم، وعكف في أثناء ذلك على مذاهب الفلسفة الحديثة، وأهمها في إبان نشأته مذاهب أوجست كونت إمام المدرسة الوضعية، وقد خرج من دراساته وتجاربه مناقضًا لرأي أبيه في إيمانه بمبادئ الحرية المتطرفة، فكان من أنصار حرية التجارة، ولكنه كان يشعر بخيبة الأمل من جراء إخفاق الحكم الديمقراطي في بلاده وفي بعض الأمم الأوروبية الأخرى، ولمَّا أعياه تقرير مذهبه في الاقتصاد وفي السياسة بين أبناء وطنه تحفز للهجرة منه، ولبى أول دعوة وصلت إليه من سويسرة لتعليم الاقتصاد السياسي بجامعة لوزان، وهناك توفر على بحوث الاقتصاد، ثم على التوسع في دروس الحكم واستخلاص القواعد التي تقوم عليها النظم الحكومية، وانتهى منها بالرأي المفصل الذي شرحه في كتابه الضخم المترجَم إلى اللغة الإنجليزية باسم العقل والمجتمع Mind and Society، ويُعتبر باريتو أعلم هذه الزمرة من فلاسفة الحكم في العصر الحديث، فهو على علمه بالرياضة صاحب نظريات وتعريفات في علم الاقتصاد عن القيمة والدخل والطلب ورأس المال والسعر يعول عليها الاقتصاديون، ويحلها الموافقون لها والمتشككون فيها محل الاعتبار، وكتابه الذي تقدَّم ذكره أوفى الكتب مراجع من أمهات التواريخ والثقافات الغابرة والحاضرة، وأحفلها بالأسانيد والأمثلة والقرائن التي عني بتقسيمها وتبويبها على نهج المناطقة والعلماء التجريبيين، فهو في مجلداته الأربعة الضخام أوفى كتب الفلسفة السياسية التي وضعها الأقدمون أو المحدثون إلى اليوم.
ومع شغف الرجل بوضع القوانين وتسمية النظريات لم تغرر به الثقة إلى الجزم بعصمة القوانين التي تتعلق بأطوار المجتمعات الإنسانية، ففي وسعك أن تقول إن التاريخ يكرِّر نفسه كما في وسعك أن تقول إنه لم يكرِّر نفسه قط على حسب الواجهة التي أنت ناظر إليها، فإذا نظرت إلى جوهر العوامل التاريخية فهناك تكرار لا شك فيه، وإذا نظرت إلى العوارض الظاهرة فليست هناك عارضة تشبه غيرها كما تشبه النسخة من الكتاب نسخة أخرى، ومن كلامه في تقديم نظرياته: «إن القوانين التي تسمى بقوانين العرض والطلب لا يمكن أن تُستخلص من الإحصاءات وفاقًا للمقادير والأثمان التي ترصد لبضاعة ما مجلوبة إلى السوق، فإذا قال الاقتصاديون: إن زيادة العرض تؤدي إلى هبوط الثمن، فهم يقررون قانونًا عن حالة مثالية يندر أن تشاهد في عالم الواقع، ويجب أن نلاحظ في تطبيق نظريات الاقتصاد أنه من الوهم أن نعتقد أننا أقرب إلى الواقع حين نبدأ بقانون العرض والطلب مما نكون حين البدء بقانون الاستعمال والمنفعة الذي ذهب إليه الاقتصاديون الأولون أو قانون هامش المنفعة أو الندرة أو المحدودية وغيرها من قوانين الاقتصاديين المتأخرين، ومهما نصنع فنحن في النهاية راجعون إلى التجريدات العامة، ولا يسعنا أن نصنع غير ذلك.»
فلا محيص إذن من التفرقة بين القوانين التي يثبتها التطبيق طردًا وعكسًا كقانون الجاذبية في الفلك مثلًا، وبين القوانين التي تبنى على حشد الأمثلة والمقارنات، وتلجئنا إلى الخوض في كثير من المشابهات والمفارقات، ثم تؤخذ الحقائق فيها بالتغليب في غيبة ما هو أولى منها بالاعتماد عليه، وأصدق منها في تفسير العدد الأكبر من الوقائع والأطوار.
بذلك الاطلاع وبهذا التحفظ، تقدَّم «باريتو» إلى شرح نظريته المستفيضة في نظم الحكومة، وهذه خلاصة منها كأوجز ما يمكن أن تلخَّص ألوف الصفحات في بعض صفحات صغار.
•••
أول ما يقرره باريتو أن أعمال الإنسان لا تَقترن كلها بالتعقل ولا بمعرفة الأسباب، ولا تكون الأسباب التي تعزى إليها هي الأسباب التي توحيها، ولا سيما الأعمال التي تدور عليها سياسة المجتمعات.
فهناك أعمال تعقلية أو منطقية، وهي الأعمال التي لها غايات معلومة ووسائل مرسومة، كالمنضدة يصنعها النجار، والكتاب يصنفه المؤلف، والقصر يشيده البناء، والصورة ينقشها الرسام.
وهناك أعمال لا تخضع للتعقل ولا يتابعها التعقل إلى نهاياتها، ومنها السعي إلى الأمثلة العليا، أو أحلام السعادة الأبدية، أو الأنظمة المثالية في المجتمعات، أو ما شاكلها من المطالب التي لا تتضح غاياتها، ولا تتفق العقول على وسائلها.
ونحن في الاصطلاح نسمي الأعمال الأولى بالمنطقية ونسمي الأعمال الثانية باللدنية أو الغريزية، ونفضل اللدنية؛ لأن الغريزة قد تتصل كثيرًا بالمعقولات.
ولهذه الأعمال جميعًا من النفس البشرية مصدران: مصدر الجذور، ومصدر المشتقات.
فالجذور قلما تتغير من زمن إلى زمن، والمشتقات هي التي تتغير بالأسماء والتعبيرات الكلامية والفنية، ويكثر تغييرها عندما يزول نظام من أنظمة الحكم ويخلفه نظام آخر، فلا بد لكل نظام من مشتقاته ومصطلحاته، مع بقاء الجذور في الغالب على ما كانت عليه.
والجذور على الدوام هي المصدر الأكبر للأحداث السياسية، فإنما المشتقات تفسيرات لا يهم كثيرًا أن تتفق أو تختلف ما دامت الجذور هي الأساس المكين.
لهذا يتفق في التاريخ أن تَعترف الأمم بغاية واحدة ودِين واحد، ولكنها تتناحر فيما بينها كأنها متشعبة المقاصد متناقضة الآمال؛ لأن مقاصدها وآمالها هي المشتقات العرضية، ومن ورائها الجذور الكامنة على الدوام بغير تبديل.
وكذلك يتفق أن تتفرق الأمم شعارًا ومقصدًا، وتجتمع في صف واحد أمام عدو واحد؛ لأن حركاتها تَصدر من جذورها، وجذورها على وفاق عند انقسام الأصدقاء والأعداء.
وقد عرض باريتو ألوف الحوادث والصروف التاريخية والدوافع النفسية، ثم ردها جميعًا إلى ستة أنواع من الجذور.
النوع الأول: سليقة التوفيق Combination، وهي السليقة التي توحي إلى الإنسان أن يوفق بين كيانه وبين مؤثرات الكون الذي يعيش فيه، ويَصدر عنها السحر والاعتقاد في بعض النجوم أو الأرقام أو الطوالع والبخوت، كما يَصدر منها ربط الوقائع العلمية وربط المشروعات الكبرى، وكل محاولة لتقرير مركز الإنسان بين ما يحيط به من المؤثرات والآثار.
والنوع الثاني: سليقة المثابرة والصيانة Group Persistences، وهي الكفيلة بحفظ تلك التوفيقات والغيرة عليها والدفاع عنها، وإليها تَرجع المحافظة على تقاليد الأسرة والأمة، وضروب العقائد والعادات.
والنوع الثالث: سليقة التعبير بالكلام والعمل، وإليها يَرجع الإعراب عن شكايات المجتمع ومقترحات الإصلاح والنقمة من خروج بعض الناس على التوفيقات والتقاليد والاجتهاد في ردهم إلى ما يعتبره العرف سواء السبيل.
والنوع الرابع: سليقة العلاقات الاجتماعية، وإليها يَرجع عُرف الناس في صلات بعضهم ببعض آحادًا وأسرًا وطوائف وطبقات، وهي سليقة وثيقة الارتباط بالنوعين الأولين.
والنوع الخامس: سليقة السلامة، وهي تتعلق بفرد فرد من آحاد المجتمع، ثم هي سليقة يحكمها العرف والعادات، ولأجلها يتشبث كل عضو من أعضاء المجتمع بسلامة حوزته ويعقد الصلة بينها وبين معالم الحياة الاجتماعية خشية ما يصيبه في سلامته من جراء المساس بتلك المعالم، عدا ما يساوره من الغيرة على معالم الاجتماع بغير نظر إلى سلامته «الشخصية».
والنوع السادس: سليقة الجنس، والمقصود بها عرف السليقة الجنسية لا مجرد الرغبة المتبادلة بين الجنسين، وعن هذه السليقة تصدر الطواطم الاجتماعية والمحظورات وقضايا الأخلاق، وما يصح أن يسمى بالعقد النفسية في الجماعات والآحاد، وخرافات الحمل والولادة، وخصائص الذكور والإناث والأبناء والبنات.
تتجمع هذه الجذور — متحدة أو منفصلة — في أساس كل حركة سياسية تشمل المجتمع في حالتي المحافظة أو التجديد، وهي كما تقدَّم لا تتغير من جيل إلى جيل إلا في صورها وتعبيراتها الظاهرة، وهي المشتقات والفروع.
وقد أحصى باريتو هذه المشتقات فأدخلها في أربعة أنواع: أولها: هو مرجع الحكم الاجتماعية والقواعد السياسية التي يتخذها الناس قضايا مسلَّمة يرددونها أحيانًا بغير بحث عميق في معانيها، وقد تكون صحيحة أو غير صحيحة، وقد تكون صحيحة في أوقات وغير صحيحة في أوقات أخرى، ولكن المهم هو سريانها في العُرف لا مقدار ما يتحراه القائلون بها من الصحة والتحقيق، ومن أمثلتها قولهم: «في التأني السلامة وفي العجلة الندامة»، و«الظلم مرتعه وخيم»، و«عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به»، و«الناس أكفاء أبوهم آدم وأمهم حواء»، و«صوت الشعب من صوت الله»، و«الإحسان منجاة من السوء»، و«رأيان أفضل من واحد، ورأي ثلاثة لا يخطئ»، و«خير لك أن تصاب مظلومًا من أن تصيب ظالمًا»، وما نحا هذا النحو من حكم الأخلاق الاجتماعية التي يُستشهد بها في المواقف السياسية، وأقواها وأنفذها ما كان موجزًا يسهل تكريره على صيغة واحدة.
والنوع الثاني من المشتقات: هو الذي يوحي إلى النفس الاطمئنان إلى المصادر والأسانيد التي تُستمد من أقوال المشهورين الموصوفين بالثقات، فما قيل قديمًا يتلقاه الخلف بالتسليم ولو لم يكن هناك برهان في الحاضر أو الماضي على صدقه ونجاح المعتمدين عليه.
والنوع الثالث: هو المبادئ التي يحسن وقعها في الشعور أو تُوافِق المقررات الشائعة في زمن من الأزمان، وبهذا النوع من المشتقات يتمكن الدعاة من ترويج أقوالهم بما يسمونه: «إرادة الشعب» أو «المصلحة العامة» أو «حرمة الوطن» أو «حقوق الإنسان» أو «التضامن الاجتماعي»، وما إليها من العبارات التي يصحبها شعور مبهم بالموافقة والحماسة.
ورابع الأنواع: هو المجازات والكنايات التي يختلط فيها الواقع بالتخيل، والتقرير بالتشبيه والتمثيل.
وهذه المشتقات جميعًا يطرأ عليها التغيير بين نظام ونظام من سلسلة الأنظمة الحكومية المتعددة، والداعون إلى النظم الجديدة يعنون باستبدال مشتقات جديدة بالمشتقات القديمة التي يخشون أن تصدمهم وتعرقل حركاتهم كلما هجموا على تراث غابر طالت مدته، وتسلل إلى الوعي الباطن في نفوس الجماهير، ويعينهم في معظم الأحوال على تغيير المشتقات أن تقترن بالنظم الحكومية التي تُتابع سخط الرعية عليها، وما زالوا يتبرمون بها حتى فقدوا الثقة بأقوال دعاتها أو سئموها، وكرهوا تردادها ولو لم يفهموا بطلانها، إلا أن المشتقات الجديدة لن تخرج عن كونها صورًا وتعبيرات لتلك الجذور الخالدة التي كمنت في الطبيعة البشرية ولازمتها على تعاقب الحكام والحكومات.
ويسأل السائلون: لماذا تحدث الثورات وتتجدد الحكومات إذا كانت تقوم دائمًا على الجذور الكامنة في الطبيعة البشرية؟
وجواب باريتو عن ذلك في كلمات معدودات: هو قانون «تناوُب الصفوة الممتازة لمقاليد الحكم بين الأجيال المتوالية».
فمن الخطأ أن نتخيل أن الجماعة البشرية تظل على حالة واحدة؛ لأنها لا تخرج عن طبيعتها البشرية.
فالجماعة البشرية خليط من الأنساب والأجناس والأمزجة والمدارك والمنافع والصناعات، وقد تكون شروط بقائها معروفة بالنسبة إلى الجماعات الأجنبية التي تزاحمها، ولكن الشروط الداخلية لا تستقر على حال، ولا تطرد على نسق واحد بين جميع الأجيال.
فشرط البقاء في معترك الأمم يتلخص في المناعة والقوة، وبغير مناعة ولا قوة لا أمان على الدولة من الضياع أو الخضوع لمن ينازعونها.
أما شروط البقاء للمجتمع في حياته الداخلية فهي متقلبة متجددة، وفقًا للتقلب والتجدد في تركيب عناصره، وزيادة بعضها ونقص بعضها، ونشاط فئة منها وانقباض فئة غيرها.
وقد كان من السهل أن نتوهم مصلحة واحدة للمجتمع الصغير في الأزمنة الغابرة، وأن نتوهم أن كل مواطن في ذلك المجتمع يعمل مع إخوانه في اتجاه واحد، هو الاتجاه القومي الشامل للمواطنين أجمعين.
أما المجتمعات الحديثة: فربما كانت لبعض أبنائها مصلحة تُناقض مصلحتها في أشد الأزمات التي تُهدِّد كيانها، كما يحدث في إبان الحروب من التناقض بين أنصار التضخم والغلاء وأنصار الحرب على العموم وبين سواد الرعية الذين يقع عليهم عبء الغلاء وعبء القتال.
ففي مجتمعات كهذه تتصارع القوى وتتدافع المطامع، ولا ينقطع التنافس على مراكز الحكم بين ذوي الحول والحيلة، وهم لا يصعدون إليها جميعًا في كل آونة؛ بل يحدث على الدوام أن يكون هناك أناس مقصون عن الحكم وهم قادرون عليه، ولا يقلون قدرة عليه عمن تولوه بالحول أو بالحيلة.
وفي كل مجتمع فئات من العسكريين ورجال الدين وكبار الأغنياء والمفكرين والمغامرين والمحتالين على قلة أو كثرة في العدد، وعلى رجاحة أو نقص في المزايا الخلقية والعقلية، ومن صفوة هؤلاء كلهم تتألف الحكومة، وتستأثر بسلطان الحكم حتى تفقد مزاياها الأولى، وتضعف عن حماية سلطانها، فتخلفها على المهل أو على العجل صفوة أخرى يصيبها مع الزمن ما أصاب سابقاتها.
والأمثلة التاريخية التي يرى باريتو أنها تعزِّز رأيه تستغرق المئات من الصفحات، وقد تلخص في مثل عام يغني عن الإسهاب في السرد والتفصيل.
فئة من الأقوياء يثبون إلى مراكز الحكم في حقبة مؤاتية، يستعينون بأعوان من الدهاة وأصحاب الحيلة على توطيده وحل مشكلاته، ويضعف الأقوياء كلما استسلموا للطمأنينة والمعيشة الرتيبة، ويتهاون الدهاة كلما جازت الحيلة، واستقرت عليها العقائد والعادات فلا يكلفون أنفسهم عناء التدبير والتفكير، ومع ضعف الأقوياء والدهاة يسوء الحكم وتضطرب الحال وتتشعب مصالح الأشياع والخصوم، ويتطلع إلى الحكم طراز آخر من الأقوياء والدهاة طال بهم التربص وانتظار الفرصة، فما هي إلا أن تسنح لهم حتى يثبوا وثبتهم، ويعيدوا تمثيل الدور السابق كرة أخرى.
وبين الجذور الستة التي لخصناها فيما تقدم نوعان يرشحهما باريتو لولاية الحكم في جميع الأدوار، وهما: النوع الأول الذي يشتغل بالتوفيق من سحرة وكهان، ومفكرين وذوي احتيال وتصرُّف، ويسميهم كما سماهم مكيافلي بالثعالب، والنوع الثاني الذي يشتغل بالمثابرة والصيانة، ويركن إلى القوة والإقدام والطبع الغيور، ويسميهم مثله بالأسود، ولا خوف على الحكم ما دام له حماة من ذوي الحول والحيلة، ولكنه شرط لا يتوافر على توالي الزمن، فلا يَسلم المقتدر بحوله أو بحيلته من جرائر التواكل والإهمال، ومِن دأبِ أصحاب الحيلة أن يفقدوا الصفات العسكرية، ومن دأب أصحاب الحول أن يفقدوا صفات الدهاء والمداورة، وبمرصد لهم أناس يزيدهم التطلع همة، ويزيدهم الأمل بأسًا وشدة، لا يقلون عنهم قدرة وقد يزيدون عليهم، فتسنح لهم الفرصة لا محالة بعد انتظار يطول أو يقصر ولكنه لا يدوم إلى غير انتهاء.
«وهب أمة من الأمم لها صفوة حاكمة من النوع الأول الذي يشتمل على أوفر العناصر في الرعية قاطبة حظًّا من الحنكة والذكاء، ففي هذه الحالة تتجرد الرعية على الأغلب الأعم من هذه المزية، ويضعف أملها في الانتصار على الصفوة الحاكمة ما دام المرجع إلى الذكاء والحصافة … غير أن المعهود على الأغلب الأعم أيضًا أن أصحاب الحيلة والذكاء يَفقدون الميل شيئًا فشيئًا إلى استخدام العنف والقوة، والعكس بالعكس في أمر أصحاب العنف والقوة، ومن ثَم يؤدي تركيز الذكاء في الأولين إلى تركيز العنف والإقدام في الآخرين، ويختل التوازن بين الفريقين مع الاستمرار؛ لأن أحدهما زاد حظه من الحيلة ونقص حظه من الجرأة والإقدام، والثاني: زاد حظه من الجرأة والإقدام ونقص حظه من الحيلة، فإذا حصل مصادفة أن ذوي الإقدام وجدوا لهم زعيمًا يُحسن الاحتيال وتصريف الأمور — وقد ظهر من المصادفات المتكررة في التاريخ أنهم لا يَعدمون هذا الزعيم من بين الطائفة المتذمرة في صفوف الدهاة أنفسهم — فيومئذٍ يتهيأ لهم كل ما يلزمهم لإقصاء الحاكمين عن الحكم، وهي الدورة التي لا عداد لتكرارها منذ فجر التاريخ إلى أوقاتنا الحاضرة.»
•••
تلك صورة تقريبية تتكرر على مدى الزمن، بيد أنها لا تتكرر على هذا الشكل دون غيره؛ بل تتبدل أشكالها، ويثبت منها شيء واحد من وراء تلك الأشكال المتبدلة، فلا تفتأ صفوة تعلو وصفوة تهبط بالحول وبالحيلة على أساليب شتى، تتراوح بين أسلوب سبرطة العسكرية وأسلوب أثينا الفلسفية، وفي كل منها مزيج من السطوة والحصافة.
ويَستخدم باريتو بعض مشتقاته أو مصطلحاته لتطبيقه على علم السياسة، كالحكمة التي يقابلها عندنا قول القائلين: «إن الناس على دِين ملوكهم.»
فإنه يقرر أن الآداب والأخلاق في كل مجتمع هي آداب الصفوة وأخلاقها، وأن الرعايا يتشبهون بحكامهم إن لم يماثلوهم طبعًا وعادة واستعدادًا للتخلق بالأخلاق الاجتماعية، ولا يزال المجتمع في أمان ما دام المحكومون يدينون بالآداب والعقائد التي يعلنها الحاكمون ويحافظون عليها، وقد يؤمِن الرعايا بوصايا المسيحية التي تُحرِّم القتل والسرقة والكذب، وتحث على الإيثار والرحمة، ويقعون في تلك الأوزار، ويتعدد بينهم مَن يعصون أوامر الدِّين وينتهكون وصاياه، فلا يكون العصيان خطرًا على النظام القائم كخطر الشك في وجوب تلك الأوامر والوصايا؛ إذ ليس العصيان هدمًا للأساس الذي يستقر عليه النظام، وإنما الكفر به هو الذي يَهدم النظام، ويعَرضه للتصدع والانهيار.
ولا خطر على المجتمع من الذين يتشاءمون بوقائع الأخلاق فيسخرون ممن يشيد بالفضيلة، وينكرون أن الصدق ينجي صاحبه والكذب يوقعه في المهالك كما يقال على ألسنة الوعاظ والمرشدين، فإن هذا التشاؤم يحمل أحيانًا محمل الغيرة على الصدق والسخط على الكذب والرثاء لمن يصابون في سبيل الحق والفضيلة، ولعل في ذلك متنفسًا للساخطين، وبابًا من أبواب الحض على إصلاح العيوب والتحريض على الآثمين.
وإنما الخطر على المجتمع ممن يُسقطون تلك الفضائل والواجبات إيمانًا بسقوطها ودعوة إلى عقيدة غير العقيدة التي توجبها، فهذه هي علامة الخطر والتصدع في البنية الاجتماعية، ولن تتماسك بنية تتزلزل فيها قواعد الأخلاق.
وقد ينجم في الأمة مصلحون ومجددون يخيل إليهم أن جلاء الحقيقة عن بعض الخرافات كافٍ لإزالة الآفات الاجتماعية وتقويم النظم والحكومات، ويجوز أن يصيبوا كما يجوز أن يخطئوا والمجتمع على صواب، غير أنهم مخطئون حتمًا إذا خيل إليهم أن الجهل وحده هو العامل الذي يَحول بين الناس وبين التصرف المنطقي المعقول، فهناك عوامل غير الجهل تبقى مسيطرة على أعمال الناس، ولو زالت من عقولهم جميع الخرافات والأباطيل، ولم يُعهد قط في مجتمع مضى أن الناس خلوا من جهالة أو خرافة، وصمدوا على التفكير المنطقي في شئون السياسة، ولا يُظن قياسًا على هذا أنهم يخلون يومًا من الجهالات والخرافات مهما يتقدم بهم العلم، وتنكشف أمامهم مجهولات الكون والطبيعة البشرية.
وذهابًا مع هذا الظن — بل نكاد نقول مع هذه اليقين — ينحى باريتو على من يخلقون الأديان المنطقية في زعمهم، ويحسبون أنهم يعوضون بها الناس عن أديانهم التي ألفوها، فليس أشد من إنحائه على جماعة المتدينين الذين يسمون أنفسهم بالإنسانيين Humanitarians، ويتوهمون أنهم يُصلحون الضمائر بدِين يخلقون قداسته بتدبيرهم، فإنه — على تقدير باريتو — دِين لا يَحسب للمجهول حسابه، وهو الجانب العميق الذي لا يتجاهله دِين من الأديان.
وبعدُ، فما هو النظام الذي يزكيه باريتو، ويوطئ له بمذهبه المستفيض الذي اضطلع بجهود الجبابرة لشرحه وتدوينه؟
إنه لا يتشيع لنظام على نظام، ولا يلقي بالًا إلى فروق الأسماء والقواعد الشائعة أو ما يسميه المشتقات، ويرى أنها فروع تُقتلع أحيانًا ولا تُقتلع معها الجذور.
إنما هو يبسط الوقائع التاريخية كما وعاها، ومن تلك الوقائع تبدو له حالة أفضل من حالات، ولا يجزم أنها ميسرة الوقوع بالطلب والاختيار.
فالحالة الفضلى: هي أن تتولى الحكم صفوة ممتازة من ذوي الحول والحيلة، وتتفتح الأبواب لتداول الصفوة كلما أخفقت طائفة منها، واستعدت طائفة أخرى للصعود إلى مكانها، وأن تكون آداب المجتمع معتقدة مرعية لا يتشكك فيها الرعاة ولا الرعايا، وتتفتح الأبواب هنا أيضًا لتجدد الآداب على التدريج بغير حسم بين القديم والجديد يستلزم الصدام بينها لتقويض دعام وإقامة دعام.
ولهذا يتطرف باريتو غاية التطرف في التوصية بحرية المعاملة وحرية التجارة، وينتقد الطبقات الحاكمة التي تَحجر على المعاملات، ويدخل في روعها أنها تستديم بذلك مصالحها ومصالح وارثيها، «فما من وسيلة لتوطيد السلم والأمان أنجع من أن تطلق الحرية للتجارة ويمتنع إتلاف الثروة»، وهو على طريقته في الحساب الاقتصادي يَفرض أن سنتيمًا واحدًا خُصص للتثمير في عهد ميلاد السيد المسيح، وجُعلت فائدته أربعة في المائة قد تنقص مع دوام السلم ووفرة الرخاء، ثم يُقدِّر: كم يبلغ هذا السنتيم في سنة ١٩٤٠ بعد الميلاد؟ إنه يبلغ على حسابه (٥٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ ريال).
كذلك يقرر من الوجهة الاقتصادية العملية، لا من الوجهة النفسية وحسب — «أن أوفر الأعمال نتاجًا هو العمل الذي يُقبِل عليه صاحبه برغبته، وأقلها نتاجًا ما يعمله لخشيته من العقاب».
ولو جرى الناس في مطالب حياتهم على سُنة التعقل لَما حجروا على المعاملات ولا حكموا في الأعمال أمرًا غير الرغبة والحرية، ولكنهم في رعايتهم للحرية والطلاقة ما كانوا قط أحرارًا مطلقين.


---------------
المصدر: فلاسفة الحكم في العصر الحديث، عباس محمود العقاد.

https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=3098926390137027&id=267925119903849
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...