طه جعفر الخليفة - حَنْبَلُ المَطَر

عندما هطلت أمطارُ مجيئِها نبتت في المجدب من نواحي روحي الأزاهرُ و أشرقت..أشرقت إشراقاً مؤكداً. تويجات الأزاهر هادئة الألوان تلك، قد ملأت المكان بالفرح و أرسلت من إنعكاس ضوء الشمس عنها إبتسامات قد سافرت بالفعل لتهدي للسحاب ألوان قوس قزح. يعبر خطوُها المُطْرِب الدربَ المتموج بالجمال كظهر الحبيبة إلي جوارك و أنتما علي فراش العشق. تمشي علي روحي و في الدرب الذي يتيمم الغربَ جوار بيتنا. تعبر بأناقتها سماوية الزُرْقة شوراع قلبي كل صباح من أيام الأسبوع. كنت في تلك الصباحات ببنطال بنيِّ اللون و قميص أبيض، كنت متسع الأحلام و مستعد لأمتحانات الشهادة السودانية. أذكر أن الخريف في ذلك العام قد تمرد علي الفصول و إستمر راسخاً تسيطر عِينَة الطَرْفة1 منه علي كل العام، لم نعش في ذلك العام صيفاً و لم يعذبنا حرٌ و لا بردٌ. سيطر الخريف علي العام حاكماً كما سيطرت ملامحمها و ذكري مرورها علي روحي فلم يعدْ يتردد في قلبي غير اسمها فهي زينب. زينب كما عرفت من القاموس هي الشجرة الجميلة حسنة الرائحة. بالفعل كانت نبتة متوردة.
في ذلك الصباح صحوت قبل أمّي، وضعْت الفحم علي الكانون2، حشْرت أوراق الجرائد القديمة في نافذة الكانون، قدحت عود الكبريت لينطلق اللهب أسفل الفحم فيشتعل بهدوء أكيد. سكبت الزيت علي الصاجّ3 ليغلي و يفرض بحرارته لاحقاً علي لُقَم عجينة الزلابية4 إستدارة الإنضاج البنية.صحت أمي فأنارت صباحُ خيْرِها عتمة الفجر الجميلة. أشعلت أمي بعد قليل نارَ موقد الكيروسين بعد توضيب شرائطه المفتولة من خرق ملابسنا و ضبَتْها لتزيل عنها جفاف بقية الإحتراق السابق.وضعَت علي موقد الكيروسين حلّة5 الشاي، سكبت اللبن المبرد في الثلاجة أولاً فسمعنا "تشتشة التقنين"6 و شمننا رائحة اللبن المحروق ثم أضافت إليه الماء و نثرت حبيبات الشاي علي بياض اللبن . في زمان انتظار أمّي الشاي لينضج رَمَت قطع عجين الزلابية المخمّر بالليلة الفائتة علي الزيت المسخن طَفَت لُقَم الزلابية لينضج أسفلها فتنقسم لونياً إلي نطاقين نطاق بني بالأسفل و نطاق أصفر آفل لا محالة بالأعلي.كنت أحب اللونين و أحب صراعهما الذي تحسمه النار. شربت الشاي و أكلت الزلابية أبللها في فمي برشفاتٍ من الشاي، استمرت أحاديث الصباح المستريحة علي هامة اليوم و لم تكن تزعج أفكاري و لا تشتتها بل كانت تؤكد عزيمتي. و لقد حزمت أمري
لبست زي المدرسة و علقت علي كتفي حقيبة القماش المصنوعة من الدمورية7، تأكدت من نظافة الحقيبة و إنضباط الزي؛ البنطال البني و القميص الأبيض مكويان ، لم أحب بقعة الحبر العنيدة في أسفل الحقيبة التي لم يزيلها حتي غسيل الخادم المنزلي الذي درّب الشقاء يداه علي دعك الملابس و فركها. خفّ لون الحبر فصار سماوي الزرقة جلب ذلك اللون إلي خاطري ذكراها فترطب جبيني بعرق حفيف و خفي. غادرت مبكراً و كنت أعرف أن أمّي ستتطلّع علي عبر فرجات الصريف16 لتتأكد من عدم تدخيني أو سفّي للسعوط8 أو مرافقة أولاد الحرام كما كانت تقول. أولاد الحرام عند أمي هم الأصدقاء الذين يجرجرونني نحو المشاكل بشقاواتهم التي لا تنتهي. خرجت و في صدري تشتعل نار الإستعداد للكلام مع زينب و مرافقتها إلي المدرسة. انتظرت مجيئها و كان الإنتظار طويلاً خلاله فكرت كثيراً حول مترتبات الكلام معها في الطريق فالجيران يعرفوننا و يعرفون أهلها و أهلي.ربما سيعتبر أهلها إيقافي لها و هي في طريقها للمدرسة تعديّاً علي شرف أسرتهم.أعتراني خوف شديد نشر في داخلي تردداً قررت ألّا أستجيب لنداءه الزاجر. تشاغلت بمراقبة بكورة الصباح و تلك النداوة التي تركتها أمطار ليل البارحة، راقبت تقافزالطيور؛ عصافير الجنّة9 بحمرة ريشها البنية و مناقيرها الحمراء الرقيقة ، ودْ أبْرَق10 و عَشوشَة11 هما يمارسان حباً سريعا تعقبه إنتفاضات يتعري خلالها باطن ريشهما بألوانه الغبراء و البنية و السوداء .دخان عزبات12 بلون يتدرج من البني الداكن للأصفر الفاقع الملتمع و ضبح الرسول13 بذلك الخط الأحمر في عنقه ، خط أحمر يجلو بقية لونه الرمادي و يؤكده، و حوا زريقة14 بلونها الأزرق الداكن العميق وبرفرفة جناحيها السريعة، تقافزت الطيور كإبتسامات حول بركة صغيرة من ماء المطر.كلب الدَشَر15 و كلبة يتشممان عرييهما. عندما بدأ كلب الدّشَر ميت القلب ذاك في لعق عضو كلبته قذفتهما بحجر غاضب حتي لا يخدش سفادهما حياء الشارع و لا يزعج مرورها بالطريق.
عندما جاءت أو ظهرت تدفق ضوءُ شمسٍ صباحي بين السحب ليعانق الأرض خاصة قمم أشجار النِيم. مشت متتبعة الدرب الذي مهّدَته أقدامُ العابرين ليتجنبوا لزوجة الطين أو هشاشة التربة، مشتت متقافزة بإختصار علي قطع الطوب و الإحجار وكُتَل الخرسانة التي وضعها العابرون ليتجنبوا برك الماء الصغيرة علي الدرب، لتقافزها المختصر الجميل إهتز صدرها النافر بإيقاع يخلب الأبصار. في مشيها و هيئتها جمالٌ متميّزٌ كانت زينب أجمل من جميع الفتيات في مجلّة سَمَر16. الفتياتُ في مجلّة سَمَر كن جميلات و بعيدات و أجنبيات لا يقربهن إلي نفسي إلا الإستمناء و عربدة الخيال الجنسي. أما زينب فهي سيّدة المكان و الممسكة بزمام قلبي الجامح. إبتسمت بوجهها عندما تصادفت عينانا في مسافة أو برهة، لا أعرف!. تصادفت عينانا فبرَق في داخلي برقٌ لا يعرف خِلابة برغم ما شوّحته ملامحُها لإبتسامتي. تشجعت و خطوت نحوها فقالت روحي ثم جسدي و بالآخر لساني "صباح الخير يا زينب" و ردت بالقول "صباح النور يا أحمد". لم أعرف ما حدث بعدها لكنني وعيت بنفسي في غمار الركض... الركض نحو مدرسة تبتعد .. تبتعد و تبتعد. وجدت نفسي بداخل الصف متعرقاً راكض الروح متدافع الأنفاس و مسروق السكينة لكنني سعيد. خلعت قميصي ثم خلعت المِجْسد القطني تحته و مَصَرْت العرقَ عنه فتقطر ثم نفضته فإحتشد الهواء قرب وجهي بالرذاذ المعبأ برائحة الصابون و الكلونيا التي تعالجها أمي بالمِسْك، نفضت القميص و المِجْسد إلي أن بدءآ في الجفاف في ذلك الحين جفّ العرق في رأسي و أعلي جسدي و لم يجف العرق بأسفل جسدي. لبست المِجْسَد ثم القميص و إنصرفت عن التفكير حول البنطال لتستغرق روحي فيما حدث ذلك الصباح. قررت أن أكتب لها رسالة فذهبت للمكتبة بالمدرسة. كنت أعرف أن المدرس المشرف علي المكتبة يحضر قبل جميع المدرسين. عندما وصلت كان باب المكتبة مقفولاً. لم يكن عندي وقت أضيعه فبدأت بالكتابة مغمض العينيين،كتبت علي صفحة أخيلتي الحالمة فقلت: يا زينب أنت حبيبة روحي و عمارة مستقبلي و بنايته، بك تستوي أحلامي علي جادّة التحقق. أحبك، أحب نفسي التي تحبك، لا أحب فيك عيناً أو خصلات شعر أو ملمح أو نعومة جسد، لا ، بل أحبك روحاً و جسداً، فأنتِ الحاكمةُ علي قلبي بسلطة الحب و أنت الآمرةُ علي روحي بهيبة الجمال و سلطانه القاهر. لقد كان ردك عليّ بصباح النور كفتح الباب للغريب و إيواءه و إكرامه إكراماً يزجر الشرَعنده إن وُجِد و لا يترك له فرصةً لغيْر فعْلِ الخير.
عندما جاء المدرس المشرف علي المكتبة كان المكان قد يممّ صوب حيْثٌ لا صلة له بما أعرف من أمكنة أو تواريخ. وجدت نفسي بداخل المكتبة جالساً علي كرسي الخيزران الحكومي و أمامي طاولة زرقاء حكومية الأناقة. أخذت ورقة رسم شاحبة البياض و رسمت خريطة للوطن من حلايب إلي جبل عوينات، من حلايب إلي الجنوب الشرقي من طوكر إلي راجا و نمولي ثمّ إلي الجنينة ليلتقي خط الحدود بموقع جبل عوينات . علي تلك الخريطة كتبت: "يا زينب أنت حبيبة روحي و عمارة مستقبلي و بنايته، بك تستوي أحلامي علي جادّة التحقق. أحبك، أحب نفسي التي تحبك، لا أحب فيك عيناً أو خصلات شعر أو ملمح أو نعومة جسد، لا بل أحبك روحاً و جسداً، فانت الحاكمة علي قلبي بسلطة الحب و أنت الآمرة علي روحي بهيبة الجمال و سلطانه القاهر. لقد كان ردك عليّ بصباح النور كفتح الباب للغريب و إيواءه و إكرامه إكراماً يزجر الشرعنده إن وُجِد و لا يترك له فرصةً لفعلٍ غير الخير."
قطع سيل أفكاري إنتهار المدرس لي قائلاً: يا ولد إنت موش سامع الجرَس. ركضت خارج المكتبة فوجدت الصول بزيّه شبه العسكري و بكرباجه خلف الطلّاب الذين أُهْرِعوا للإصطفاف في طابور الصباح غير اليومي و غير الأسبوعي حتى، لم يكن يتم الإعلان عن هذا النوع غير المتواتر من طابور و كنّا نستدل عليه بكرباج الصول و وقوف المدير و جمعٍ من المدرسين بوسط فناء المدرسة.لم أسمع شيئاً مما قيل فقد كنت منشغلاً و بعيداً، إنتبهت فقط لنزول السياط علي ظهور بعض الأشقياء. صُرِف الطابور. في طريقي إلي الصف إلتمعت قطعة ورقة الرسم التي تشبه خريطة السودان و تلونت الكلمات بها، لحَظَ بعضُ زملائي ذلك الإلتماع و تلك الألوان التي تشبه ألوان قوس قزح، تحلّقوا حولي فنزلت ضربات كرباج الصول علي كتوفنا، زجر الكرباج التحولات في الورقة فإختفت الألوان و غرب الإلتماع فخبّأت الورقة بين كتبي في شنطة الدمورية و انصرفت لليوم الدراسي الطويل. لم يصبِّرني علي طول اليوم غير انتظاري لها.مدرستها ليست بعيدة من مدرستي و لقد قررت أن أعطيها تلك الورقة بنهاية اليوم الدراسي ، ما كان يشغلني بالحقيقة هو أنها لن تكون وحدها و سيكون إعطائي لها تلك الورقة مثار أقاويل لا تنتهي. الذهاب للطريق الذي تسلكه بنات المدرسة الثانوية المجاورة أحد أسباب الجلد في ذلك النوع من الطابور هذا إذا تمت شكوي عرف خلالها المدير أو أحد المدرسين عن الحادثة، لم أهتم. أنتهي اليوم و ذهبت ليس في إتجاه البيت إنما صوب دربها نحو البيت. مشيت سريعاً، ربما ركضت ، لا أعرف. كانت بينهن فاظهرت نفسي لها،لم تهتم فتبعتهن. حانت لحظة مناسبة عندما كانت برفقة واحدة من بنات الجيران أعرفها فلقد فرّق الدرب جمعهن أي واحدة لبيت أهلها، ركضت لألحق بهما و قلت: يا زينب لحظة. وقفت، بحثت في حقيبتي فوجدت الورقة ملتمعة و بارقة بألوان قوس قزح، مددتها لها بيدٍ مرقت من قلبي،لم تمانع، أخذت الورقة، لم انتظر، مشيت علي الهواء فوق الدرب،كمشي من أعطِيَ طىُّ الأرض. كنت بالبيت و هدوء العالم كله و سكينته إلي جواري و فيّ و علي رأسي. بذلك أكون قد أعطيتها حَنْبَلَ المَطَر.


الهوامش:
1- العِينة: هي منزلة الخريف و للخريف في القضارف سبعة عينات و هن النَتْرة، الضُراع، الخَرَسان، الطَرْفة، العِوا، السِماك و مطر البُخَات. تستمر العِينة الواحدة ثلاثة عشرة أيام
2- الكانون أو الكانونة: كلمة فصيحة و معناها المَوقِد، راجع لسان العرب تحت مادة كنن.
3- الصاجّ: وعاء للتحمير بالزيت و هو أيضاً البديل المعدني للدوكة الخزفية التي كانت تستخدم في إعداد الكسرة أو القرّاصة.
4- الزلابية: من خبائز الشعبية في السودان و هي كرات من عجين القمح المخمّر و المقلي بالزيت
5- حَلّة: الطنجرة
6- التقنين: غلي اللبن لدرجة الإحراق لإسباغ نكهة محببة عند السودانين للشاي و التشتشة هي صوت ذلك الإحراق.
7- الدمورية: البديل الصناعي الحديث للكتّان السوداني المصنوع يدويا بغزل و نسيج القطن.
8- السعوط: تبغ سوداني يزرع في أودية دارفور أجوده وارد زالنجي يبلل بعصارة العطرون و الأخير محلول بيكربونات الكالسيوم و أملاح أخري
9- من (9-13) طيور الجنّة، ود أبرق و أنثاه عشوشة، دخان عزبات، حوا زريقة، ضبح الرسول أسماء عصافير و زرازير بالقضارف.
14- كلب الدّشَر: كلب منزلي واسع الإنتشار في السوداني هاديء و طيب .
15- مجلّة سَمَر
16- الصريف: سور من سيقان الذررة أو القصب.
17- حَنْبَل المطر: قوس قزح


طه جعفر الخليفة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...