إهداء
إلى أصدقاء قدامى، ذاكرة عتيقة.. وبوح قديم
(1)
أين تبدأ الذكريات و الأحلام، وأين ينتهي الواقع؟! وكيف ينهض كل هذا الشجن من بين ركام الماضي واللحظات الحائرة، في الراهن الملتبس؟
يتفرس عجبين خشم الموس الوجوه الأربعة التي يمر بها كل يوم في طريقه.. يتفرس موقعها في ذاكرته. يبحث عن هذا الموقع ليجده مقصيا بعيدا. أقصى تلافيف ذاكرته، فينقب في كل وجه.. كأنهم هم.. اصدقاؤه القدامى، وربما ليسوا هم!!.. يدخل الحمام. يأخذ دشا باردا. يضع براد الشاي على البوتجاز. يرتدي ملابسه. يرتشف الشاي بتلذذ. يحمل المطرقة، ويحاول غرس المسمار على الجدار المقابل، ليعلق مرآة الكرسني المشروخة، أعلا تمثال "نوار" الرخامي المتآكل.. ينثني المسمار من الطرق المتواصل، دون أن ينغرس عميقا في الجدار الصلب.. يخرج شاقا الدروب الحائرة. النعسانة. المصابة بالوسن.
يسحب نفسا عميقا من هواء الصباح المشبع بالبرودة والندى.. ويسند رأسه على ذكريات رطبة، لكنها قديمة، مشبعة برائحة العطن.. ربما هي أحلام يقظة، تخرج من أعماق الماضي، أو أوهام تنبثق من فضاء الذاكرة، تحمل على سواعدها المتشعبة وجوه أصدقاءه القدامى: الأربعة ذاتهم، المعجونين في المشاعر المتناقضة، والإنكسارات والتشظي. يراهم كأنه يجلس جوار نافذة لقطار مسرع، تمر وجوههم على رصيفه، كمحطات فارقة في مسيرة حياته العامرة بالشجن، في اللحظات التي يخيم فيها صمت عابر على فضاء ذكرياته، كانوا بوجوههم الأربعة: عاصم، أيمن، عثمان وحسنين التائه، ينقبون في هذه الذاكرة المنهوبة. يتركهم غارقين في هذا الصمت، يراقبون المارة بين آن وآخر من مكانهم الذي أعتادوا الجلوس فيه، في هذا الجزء من أطلال البلدة القديمة. تحت الجدار الخارجي للبيت العتيق. يتبادلون أحاديث الحزن والأسى في الامسيات التي تلت جنون صديق عمرهم. شريك ذكرياتهم. نديم كأسهم: عجبين خشم الموس، الذي منذ عاد من غربته الطويلة، لم يكن بحالته التي فارقهم عليها آخر مرة، قبل سنوات طويلة.. قبل أن يختار الغربة ملاذا.
كانوا كلما جلسوا يتساءلون عما آل اليه حاله: هل كان جنونه أثر رجعي لتجربة الاعتقال والتعذيب؟ أم أنه خيار شخصي أتخذه من عالم الواقع؟.. هذا العالم المليء بالحروب الأهلية والفقر والتهميش، أم بسبب مأزق وجودي نسجته حوله أفكاره المثالية، فتاه بين ماهو متحقق فعليا وبين ما يريده هو أن يكون!.. أم كان جنونه بسبب كل هذه المخاوف والظنون، إزاء سرطانات العصر والامراض المصنعة، التي أحالت حياة الناس إلى رعب مزمن؟ أم أن جنونه كان بسبب كل تلك الحكايات العجيبة، التي نسجت حول آل خشم الموس؟!
في إعتزالات عجبين المتكررة للناس، كانت تخطر على باله دائما، الحكايا التي حكمت حياة جده الكرسني، فيتساءل ذات الاسئلة في كل مرة: هل غرابة الأطوار هي جزء من جينات آل خشم الموس؟ أم أن الجنون كالقدر "مكتوب"؟! عبر عجبين خشم الموس أمام أربعتهم. وقف قبالتهم. حدق فيهم مليا، ومضى غارقا في تخيلاته وأفكاره الممعنة في الرهق.. حيث يجيئه الآن ناهضا من قلب العبور صوت موظف الامم المتحدة لشئون اللاجئين من بعيد كأنه يخرج من غياهب غابة خشم الموس الكبير. خلف حديقته مترامية الأطراف. من قلب عتمتها، التي ظلت تحاصر حياته وتهيمن عليها بالأخيلة وأشباح اليقظة.
ـ أستاذ عجبين حدثنا عن الأسباب التي دفعتك للجؤ؟!
أطرق عجبين وهو يحسر بصره عن جهاز الكومبيوتر الذي كف الموظف البدين عن التلاعب بمفاتيحه.
ـ تعرضت للاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي والتهديد بالقتل.
ـ لماذا؟.
ـ لأنشطتي المعارضة.
ـ لكنك ذكرت في طلبك بالتحديد عبارة "أشعاري الثورية هي السبب"؟!
ـ ذكرت أنها أحد الاسباب.
ـ صف لنا أول إعتقال لك.
ـ تم إعتقالي للمرة الاولى لمدة اسبوع من ظهيرة 27 سبتمبر حتى العاشر مساء 3 أكتوبر 1989. قاموا بتفتيش مسكني ومصادرة كل كتبي ودفاتري. ضربوني بالأيدي والأرجل وخراطيم المياه.
ـ ماهي الأسئلة التي وجهت إليك؟
ـ حققوا معي حول نشاطاتي وانتمائي السياسي، وسألوني عن بعض الشخصيات التي أعرف بعضها وبعضها الآخر لا أعرفه. تعرضت للضرب المبرح وإذلال لا مثيل له. تعرضت لارهاب نفسي حاد، وحرمان من النوم.
البلدة القديمة مثل جرح "ينقح" في داخله. يخز وجدانه. يتفتح على كل العوالم التي لطالما حلم بنسيانها. سماء البلدة القديمة مرآة كبيرة، صاغ منها خشم الموس الكبير مرآته السحرية، التي انتشرت شظاياها في ملامح الناس والأمكنة.. مرآة تعكس ما يمور به عالم الأفكار خلفها، ليتبدى انعكاس فكرة البلدة القديمة.. هذه الفكرة الهائمة.. تتبدى آخذة وجودها الحسي الملموس هنا في هذه الجغرافيا، عند مقرن النيلين، حيث تبدو واضحة المعالم بناسها وحواريها وأزقتها وجغرافيتها وكل ما تشتمل عليه من وقائع وأحداث عبر الزمان والمكان.. تخرج البلدة القديمة عبر الانعكاس من واقع الفكرة التي كانتها في عالم الأفكار، لتستمد أحاسيس النهوض من المشاعر الحبيسة في البرزخ، لتحل في وجه (هناء ـ نوار) و (ليلى ـ العينة) كطاقة حب فياضة تجب كل ما عداها. طاقة تجرف أمامها الحزن وذكرى سنوات الجراحات التي ظن أنها لن تنقضي.
راقته وقتها فكرة جندي القداحة كثيرا، فتمناها وهو يتصور "كلاب القداحة السحرية" بعد أن تقتل الحراس، فيتزوج هناء ويصبح عمدة البلدة القديمة، بدلا عن والدها العمدة الكبير. لكن الأمور مضت بصورة أكثر يسرا، فبعد طول انتظار، بدأت هناء ترد على رسائله الحارة، ثم أصبحا يلتقيان خلسة، ولم تمض سوى أشهر معدودة حتى أصبح يجيء بها إلى غرفته التي أجرها في ذات البيت الذي أجر فيه عاصم و أيمن غرفة لهما.
كان انتحار هناء أحد أكثر انعطافات حياته حدة، إذ تملكه إحساس شديد بالحزن، واغتم غما شديدا.. أصبح كشبح هامد.. شاحب لا يكاد يستطيع التنفس. كأن صخرة عتية تجثم على صدره. أصبحت أحلام يقظته محاصرة بشبح الموت، كأن الموت يتقدم تجاهه بسيف من النار، حوله رؤوس مشوهة، تتفحصه بنظرات غاضبة. وهكذا مضت حياته تتقلب في الحزن والوهن، إلى أن أطل تغريد طائر الجنة الملون من نافذة غرفته.. يتسلل لحنه العذب هادئا، يستعيد إلى ذاكرته كل عوالم البلدة القديمة، في ذلك الزمن المنسي منذ عشرات السنين. لأول مرة يسمعه منذ تلك السنوات البعيدة، عندما كان هنا في هذا المكان، بيت خشم الموس الكبير، وغابته وحديقته المميزة.. عندما كان المقرن هو المقرن وليس شيئا آخرا.
كان طائر الجنة الملون حاطا على شجرة السنط خارج الدار، ينظر إليه عبر النافذة المواربة، يتحسس بلحنه المميز عذاباته وآلامه وأحزانه.. يمزجها في لحن طويل، فيمتص عجبين اللحن العذب بكل جوارحه. يسري عنه. يبعث فيه الأمل من جديد، تذوي صور الأشباح التي تهيمن على أحلام يقظته، وتسري في جسمه حيوية لم يشعر بها منذ زمن بعيد. غناء طائر الجنة الملون يبعث الحياة حتى في فناء الدار المجدب، فتخضر حديقتها، وتنتاب المكان.. كل المكان، حالة من الصفو، فيشعر بإشراقة الشمس وضوءها، الذي يتسلل النافذة، لأول مرة منذ انتحار هناء شعورا مختلفا.
كان كأنه يفيق من نوم عميق، هذه اللحظة من التجدد والإحساس بالحياة من جديد، لم يشعر بها مرة أخرى إلا عندما التقى (ليلى العينة) في ذلك اليوم في جراج العتبة. كان وقتها في طريقه إلى مفوضية اللاجئين، عندما جلست إلى جواره في الميني بص. تبادلا أطراف الحديث.. كانت بطريقها أيضا إلى مكتب المفوضية.
ـ لكنني لا أعرف في المهندسين موقعه بالتحديد.
ـ لا تخش شيئا، انا اعرف موقعه.
وعندما وصلا إلى المكتب، انتحيا قريبا من المدخل، إلى أن يقل زحام اللاجئين.. أحس بها تستعيد في داخله ذكرى منصرمة. ذكرى هناء التي أحب من كل قلبه. بدت له مألوفة مثلها. هادئة وعذبة ووحيدة كشجرة نخيل في مهب الريح. لم يشعر بالزمن يمضي، وهما يتعرفان إلى بعضهما أكثر فأكثر، كأنهما صديقين قديمين. التقيا بعد طول بعاد، وأخذا يستعيدان كل ما كان بينهما ذات يوم، بحميمية وشغف الذكريات التي لا تخلو من ندم شفيف، كجرح هاديء العذاب. نبهه موظف الأمن:
ـ دورك يا أستاذ.
ـ آه، نعم. أرغب في ملء استمارة تحديد وضع اللاجيء.
ـ وأنت؟
ـ لدي مقابلة اليوم.
وعندما حان وقت مقابلته لموظف المكتب، للبت في قضيته التي تقدم بها، للحصول على حق الحماية الدولية، قادوه إلى الطابق الأعلى، حيث تجرى المقابلات، أدخلوه مكتب واسع. جلس إلى الموظف الذي كان منشغلا بجهاز الكومبيوتر أمامه. باغته الموظف:
ـ إسمك؟
ـ عجبين خشم الموس؟
ـ الديانة؟
ـ مسلم. لكن..
قاطعه:
ـ مكان وتاريخ الميلاد؟
ـ الأول من نوفمبر 1960 البلدة القديمة.
ـ الحالة الاجتماعية؟
ـ عازب ولا أنوي الزواج على الإطلاق.
ـ عنوانك في مصر؟
ـ 27 ش قولة مع محمد فريد عابدين
ـ رقم الهاتف 01239490
ـ رقم وثيقة السفر ونوعها؟
ـ 00489460 باسبورت.
ـ وضعك الحالي، كيف تصفه؟.
ـ لاجيء
ـ هل تتحدث الإنجليزية وتكتبها بسهولة أم بصعوبة؟
ـ بسهولة
ـ اللغة التي تفضلها لإجراء المقابلة معك. العربية أم لغتك المحلية أم الانجليزية؟.
ـ لغتي المحلية أو الانجليزية.
ـ خذ إملأ هذه الإستمارة ووقع عليها، وتذكر أن أي معلومة بغرض التضليل ستعرضك للمساءلة، وثق تماما أن كل ما تذكره سيتم الحفاظ عليه بسرية تامة.
تأمل عجبين استمارة التماس اللجوء من تحت الضباب الذي يتبدى عن الملامح الغامضة للبلدة القديمة.. كان الزمن يتسحب في هذا الضباب مثل ظل الضحى، لا يمكنك الشعور بتسحبه. الا عندما تجد نفسك فجأة في "الحر". تتلفت خلفك. ترى الظل. مجرد شريط ضيق. شريط لا يزال يتسحب هو الآخر مفسحا لما يطلق عليه "الذكريات".. دون أن تكون واثقا أهي ذكريات حقا أم وقائع وأحداث ستأتي، أم هي ذكريات لشخوص آخرين، ربما لاتعرفهم تماما.
كل شيء يختلط في ذهن عجبين خشم الموس، كأنه يرى وجه في الطريق العام ويظن أنه يعرفه على الرغم من أنه لم يره من قبل.. للمرة الأولى يراه، هذه هي "لعبة الذكريات" في ذاكرة عجبين خشم الموس،. كل ما مضى يختلط بما يجري وبما هو آت، ليتشكل في هذا المزيج وجهين: وجه هناء ـ نوار، و ليلى ـ العينة. الحكايات التي لازمت حياة الأجيال المختلفة من أسرة آل خشم الموس،هي حكايات البلدة القديمة حولهم. فهناك عند الضفة الشرقية للنيل، وجوار مقرن النيلين تماما، تنهض البلدة القديمة، حيث الماء سماوي اللون، لا تشوبه عكرة اندفاع النيل الأزرق، وحيث يقل عمق النهر كلما اقترب من الضفاف، وحيث كلما أقترب أحدهم من المقرن تتضح لرؤيته تلك الملامح الغائبة خلف ضباب المغيب.. ملامح البيت الكبير الشبيه بقصر اسطوري. ذلك البيت الذي شيده خشم الموس الكبير، من الطين اللبن والطوب المحروق، دون أن يبدو عليه أنه كذلك. اذ صاغ جدرانه من المرجان الزائف، والزجاج الملون، وصنع نوافذه العالية من الأبنوس والعاج، وجعل لحجراته أسقفا من تيك الجنوب الحر، الذي تخللته أصداف البحر الأحمر البعيد. عندما تمر تيارات الهواء الباردة أو أشعة الشمس الهادئة، كانت كوات المنزل الملونة تفتح لوحدها. النظام الهندسي الدقيق، الذي شيد عليه خشم الموس بيته الكبير، ظل غامضا. وأكثر ما كان يثير التساؤل هو: كيف يضيء هذا المنزل الذي شيدت جدرانه الداخلية من المرايا. من أين ينبعث هذا الضوء الذي يملأ حجراته وأبهاؤه الفسيحة.
أمام هذا البيت الكبير كانت هناك حديقة كبيرة، حافلة بأشجار حمراء بلون النار، وزرقاء ممعنة في زرقتها، تتألق أوراقها مثل الذهب، وتشبه أزهارها شمسا ساطعة ملتهبة. وكان تراب الحديقة ذا لون أزرق براق. لون لا مثيل له، في كل أنحاء البلاد الكبيرة. وعندما تكون مياه مقرن النيلين ساكنة تماما، تصبح الشمس أشبه بزهرة أرجوانية اللون، يتدفق من كأسها ضوء العالم. هذه الحديقة هي إمتداد كبير، يصل حتى الغابة، عند التخوم التي تفصل "الفتيحاب" بالنيل. في هذه الحديقة كان خشم الموس يجلس لفترات طويلة، كأنه يغرق في تأملات أو صلوات سرية عميقة. يفعل ذلك كل يوم، قبل أن يواصل سيره إلى الغابة، حيث يقف تحت شجرة السنط العجوز، ليروي مسامعه بغناء طائر الجنة الملون.
شاع بين سكان البلدة القديمة، ان كل من يتجاوز نهاية حديقة خشم الموس، يصل إلى هذه الغابة الجميلة، ذات الأشجار العالية التي تتدلى إلى حافة النيل، الذي يتضاءل عمقه عندها، وتصبح مياهه شديدة الزرقة، حيث تبحر المراكب الشراعية وهي تكاد تلامس الأغصان.
في قلب هذه الغابة نهضت شجرة السنط الوحيدة، التي سكنها طائر الجنة الملون، بجسمه الضئيل وصوته الرخيم العذب، الذي يترع القلوب بالحنين. حتى أن الصيادين الذين يطرحون شباكهم ليلا في النيل، كانوا عندما يسمعونه، يقفون بخشوع، وما أن يجذبوا شباكهم، حتى يجدونها أمتلأت بالسمك الضاحك، الذي يبدو كأن الابتسامة لم تفارق وجهه أبدا!!
حول بيت خشم الموس وحديقته والغابة الكبيرة التي يفصلها النيل عن الفتيحاب، نسج أهالي البلدة القديمة حكايات عديدة. تناقل بعضها أحفاد خشم الموس الكبير بعد عشرات السنين.. تزعم هذه الحكايات، أن آل خشم الموس من سلالة حوريات النيل، اللائي كان أهلهن يرمون بهن إلى النيل قربانا للخصب والنماء. خرجت من بينهن الحورية نوار، ذات ليلة مقمرة، ووجدت خشم الموس جالسا عند قيف المقرن. من نوار أنجب خشم الموس الكبير إبنه الوحيد "الكرسني" الذي تحدرت من صلبه ذرية بعدد الرمل في قبضة الجاروف!!
تضاربت الحكايات حول نوار، لكنها أتفقت جميعها،على أنها ماتت بعد ولادة الكرسني بقليل. ومثل موتها المفاجيء كارثة على حياة خشم الموس، إذ أغلق بيته دون الناس، وأصبح معزولا عن البلدة، حيث أصبحت حياته، كل حياته تتمحور بين رعاية الكرسني، وغرفة مخطوطاته وأوراقه حائلة اللون، التي يحبس فيها نفسه لوقت طويل.
عندما كبر الكرسني قليلا. لم يكن خشم الموس يسمح له بالخروج بعيدا،عن حدود البيت والحديقة، وكان الكرسني يتوق لأن يكبر سريعا، ليفلت نفسه من حصار هذه الوحدة والوحشة، التي لا أنيس له فيها، سوى صوت طائر الجنة الملون، الذي يأتيه تغريده هادئا في المساءات والصباحات الباكرة. كان تغريده ساحرا يأتي من البعيد. من أعماق الغابة التي تمتد أمام الحديقة. وعندما يسمع صوته العذب، تترقرق دموعه حتى تسيل على خديه، إذ يمس صوت طائر الجنة الملون شغاف قلبه، مستعيدا إلى مسامعه غناء والدته، عندما كان بعد لا يزال في رحمها وهدهدتها له عندما كان وليدا في المهد. وعندما يصمت طائر الجنة الملون في الصباحات مع إطلالة الشمس، ينهض من سريره ويمضي إلى الحديقة ليلهو برعاية الورود والأزهار..
في لحظات نادرة يهتم خشم الموس بمحادثته،عن العالم حوله في البلدة القديمة، ثم لا يلبث أن ينسحب إلى غرفة المخطوطات، ليحبس نفسه فيها حتى إنقضاء اليوم، تاركا الكرسني لوحدته المعذبة مرة أخرى، فلا يجد الكرسني أمامه سوى أن يشغل نفسه بالأزهار والورود التي حوله، محاولا زرعها في كل مكان من ارض الحديقة الكبيرة. ذات صباح بعيد وبينما كان يحفر في أرض الحديقة، أصطدم معوله الصغير بشيء صلب، فنبش المكان حوله.. كشف عن تمثال صغير.. تمثال رخامي لإمراة جميلة، أحس بها تشبه أمه نوار، التي تركته وراءها لليتم. وضع الكرسني التمثال في قلب الحديقة وزرع جواره "شتلة" نيم. نمت شتلة النيم إلى شجرة كبيرة. نمت بسرعة، متكاثفة الأغصان، متدلية بالوان قوس قزح. نشات بينه وبين الشجرة علاقة حميمة. كان كثيرا ما يشعر بها، كأنها تتحدث بلسان التمثال الرخامي، عبر همسات أغصانها وحفيف أوراقها. كأن الأفكار والصور والأخيلة، تنبعث منها إلى رأسه مباشرة، تحدثه عن الغابات والنيل والصحراء الشاسعة، والبحر البعيد:
«عندما تصل سن البلوغ، سيسمح لك خشم الموس بالإقتراب من عالم البلدة، وعندئذ ستجلس تحت ضوء القمر على ضفة المقرن، تنتظر حبيبتك الجميلة، وترى كل شيء يسير إلى جوارك، وتتعلم كيف تميز بين الناس والناس»
تقول له أمه الشجرة.. فيزداد توقه إلى التحرر من عالم البيت الكبير، والحديقة وغابة خشم الموس، وإلى عالم البلدة الغارقة في الوسن يرحل بخياله.. في الليالي شديدة الحلكة كان يقف، خلف نافذة حجرته، يرمي ببصره إلى البعيد، ويفكر فيما ينتظره، عندما يخرج من قلب بيت خشم الموس إلى عالم البلدة القديمة مر الزمن بطيئا ومتثاقلا، إلى أن وصل إلى السن التي تمكنه من التحرر من عالم خشم الموس، فخرج في ليلة مقمرة، يتجول على ضفاف المقرن. جلس على الشاطيء، وتطلع إلى البلدة التي تقع على الساحل، حيث كانت أضواء القناديل تلمع مثل نجوم تتناهش ذؤاباتها الريح الهادئة. والموسيقى تعزف في "ريفيرا" الموردة و "القراقير" يضجون بالغناء. كانت الضجة التي يصدرها الناس والعربات تبدو له بعيدة، كانها تتناهى إليه من حدود الكون. تردد في الاقتراب من ذلك العالم. حسم قراره، وعاد إلى البيت الكبير. كان بعد لا يزال أسيرا لعالم خشم الموس، الموحش بوحدته المعذبة، وغموضه الذي لا حد له، غموضه الذي يبعث على الأحاسيس المتضاربة. عندما دخل البيت وجد خشم الموس ينتظره بقلق في البهو الواسع. نظرا إلى بعضهما في صمت. لم يجرؤ أحدهما على قطعه. ثم أنسحب كل منهما إلى حجرته.
ثمة حكايات عديدة حاصرت آل خشم الموس، بعد عشرات السنين. تزعم أحداها أن الجد الكبير "خشم الموس" إنما هو ابن أحد أمراء المهدية الذين نبذوا في عهد الخليفة التعايشي، بعد نجاته من معركة توشكي. بسبب جرأته التي كان يبديها ضد الخليفة. هذه الجرأة التي لازمت حياة خشم الموس من دون كل الأمراء، إذ لم يكن يطيع للخليفة أمرا، وقد سيطرت عليه ذكرى رفاقه الذين قضوا في توشكي. كان اقصاءه عن الحياة العامة جندا أساسيا للخليفة وأعوانه من الغرابة، لكن ليس لهذه الرواية أي سند تاريخي موثوق، مثل كل الروايات التي تم تأليفها من قبل أولاد البحر، لإضعاف إرادة الحكم الرشيد في الخليفة، تمهيدا لإستيلاءهم على سلطة الدولة، لإدارتها لصالح مجموعتهم الشريفة، التي جاءت على ظهر النوق من جزيرة الربع الخالي، كما يزعم مؤرخي آخرؤ الزمان. الحكاية الرسمية التي تناقلتها أجيال الأسرة، حول إنقطاع خشم الموس للعبادة، بعد تكوينه لثروة كبيرة من الإتجار في الرقيق، أكثر معقولية، لكن ثغرتها الأساسية تكمن في أن خشم الموس لم يكن "فقيرا" بالمعنى الفقهي، إذ كان جل اهتمامه منصبا على السحر والخيمياء، وهكذا يصعب التأكيد على أن انقطاعه كان للعبادة، كما أشاع أولاد البحر.
تمكن خشم الموس من صنع مرآة سحرية يمكنها أن تجعل كل ما هو جميل يتضاءل إلى لا شيء. بينما كانت الأشياء القبيحة عندما تنعكس على سطحها تتضاعف وتتمدد، بصورة مرعبة، كما أن كل جميل على سطحها يبدو مسخا مشوها ومرعبا. كما لو كان واقفا على رأسه دون جسد، بملامح مبتسرة، حتى أن أقرب الأقربين إليه لا يمكنه التعرف عليه. وظلت هذه المرآة أحد أسرار خشم الموس، التي لم يفصح عنها أبدا، إلى أن اكتشفت نوار سرها مصادفة عندما نسى خشم الموس، تخبئتها كالعادة قبل مغادرته إلى الغابة، للإستماع إلى طائر الجنة الملون. نظرت نوار إلى المرآة فرأت شكلا غير شكلها، فدهشت وكررت الأمر أكثر من مرة، فتعاظمت دهشتها.. وضعت المرآة أمام وجه الكرسني، فرأت شكلا غير شكله الطفولي، أصيبت برعب حقن حلقها بالجفاف.. ومرت في لحظة خاطفة كل وقائع حياتها القصيرة مع خشم الموس.. منذ تزوجا حتى تلك اللحظة المباغتة التي كررت فيها عرض وجه الكرسني أمام المرآة.. فبدت المرآة "كشيء" حي.. بشع. يلتهم الوجوه ويبصقها حيّة. مشوّهة!
وهي تستعيد حياتها مع خشم الموس في تلك اللحظة المتوحشة، الكاسرة. توقفت وقائع حياتها عند لحظات معينة: وهي ترى خشم الموس يلملم أوراقه بسرعة، كلما فاجأته خلسة في غرفته السرية، المليئة بالمخطوطات. المعبأة بروائح التاريخ والاسرار والمعارك، التي لا تخلو من إنتصارات شحيحة، لكن لا تشم سوى عطن الهزائم والمرارات كلما دخلتها. وتراه ـ خشم الموس ـ في تلك اللحظات التي تختلسها لتفاجئه في الهزيع الأول من الليل أو على عتبات الفجر، متسحبا يمضي إلى غرفته السرية ـ قبلها ـ تكون قد بحثت عنه طويلا في أرجاء البيت الكبير، دون أن تعثر له على أثر. كل الأشياء المريبة في حياة خشم الموس، بدأت تخطر لحظتها، محاصرة وقائع حياتها، التي تمر الآن بسرعة، كشهاب منزلق في رئة السماء.. شهاب يتجه نحوها، فيختلط رعبها بناره المحرقة، التي تصيب المرآة، فتتحطم إلى شظايا صغيرة، تتبعثر في الهواء كالقش الجاف، تخطفه ريح عاصفة، كذرات.. ذرات تذروها لعنة خفية فتملأ فضاء البلدة، المقموعة في ذاكرة التاريخ الاجتماعي الفعلي للبلدة القديمة.
أصابت الشظايا بعض الناس في عيونهم، وجعلتهم يرون كل شيء في صورة شائهة، وجعلت بعضهم لا يرون سوى الجانب السيء في كل ما ينظرون إليه، سيان إن نظروا إلى بعضهم البعض أو إلى الحيوانات والنيل، وهذه الأرض التي نبتوا فيها! والذين أصيبوا بشظية في قلوبهم، أصبحوا باردي القلوب، تيبست مشاعرهم وأحساساتهم التي كانت ندية ذات يوم.. صاروا لا يشعرون بآلام وأحزان غيرهم، إلى غير رجعة.
في اليوم التالي لتحطم المرآة ماتت نوار. فتغيرت حياة خشم الموس والكرسني إلى الابد. لم يعد خشم الموس يمضي إلى الغابة، ليستمع إلى غناء طائر الجنة الملون، وغرق الكرسني في وحدة اليتم الموحشة. هذه الوحدة التي حكمت حياته، ولم تتحطم إلا بعد أن أصبح يغادر البيت، ويتجول في البلدة القديمة ومقرن النيلين. حيث يجلس في مكان أثير، منخفض. عند الضفة.. يحجبه هذا المكان عن عيون الناس، فيتمكن من رؤيتهم دون ان يتمكنوا من رؤيته. ودون ان ينتبهوا للعيون المجهولة التي ربما خالجهم إحساس غامض ذات مرة بأنها تراقبهم.
وكان ذلك اليوم الذي أنقذ فيه "العينة" إبنة العمدة من الغرق.. كان عمدة البلدة القديمة، رجلا واسع النفوذ. اشاع الخبثاء أنه يستمد نفوذه من انتماءه لسلالة الاتراك، بل وأكدوا أنه هو نفسه بلحمه وشحمه، أكد أكثر من مرة في مجالسه الخاصة، أنه يتحدر من بيت محمد علي باشا، وذلك كي يقطع الطريق على أي روايات محتملة، تزعم نسبته للاتراك الذين أختلطوا ببعض سكان الشمال ـ اذ كان الرجل حريصا على تأكيد، أنه ليس من سلالة الاتراك الذين أختلطوا ببعض سكان الشمال. ولم تكن هذه مزاعمه هو وحده بل مزاعم كل عائلته الكبيرة، التي ظلت تتمتع بنفوذ كبيير بإسم هذه المزاعم. لكن عندما ولى عهد الأتراك تحت ضربات معاول المهدية، فقد آل للعمدة نفوذهم، الذي لم يتمكنوا من إسترداده مرة أخرى أبدا، الا بمجيء الإنجليز، اذ حرصوا على التعاون مع الجيش الغازي، علهم يستردون شيئا من المجد والنفوذ القديم ـ كما أعتقدوا دائما ـ ولم يبخل عليهم جيش الغزو، فكانت لهم حظوة ليس لها مثيل في ماضيهم الغابر.
إذ هيمنوا على زراعة القطن وتجارة الخشب، بعد أن كسدت تجارة الرقيق التي برعوا فيها. أشرع لهم الانجليز كل المنافذ، وهكذا تحولوا إلى طائفة ثرية، لكن ترتدي مسوح الدين، اذ استخدموا براعتهم السابقة في تجارة الرقيق، والخبرة التي اكتسبوها من تصدير القطن والخشب، في التسويق لانفسهم كأولياء صالحين، وهكذا بدأوا يركزون على نسبهم لآل البيت النبوي، موثقا بختم الآستانة، وهكذا بدأو يلعبون دورهم الاجتماعي السياسي في البلدة القديمة، بطريقة مختلفة، تعتمد استدرار العواطف الدينية، و "الضحك على الذقون"! وهكذا تعاقب كل عمد البلد من سلالتهم ذات التاريخ المجيد! ولم يقف الأمر عند هذا الحد فبعد خروج الإنجليز كان المرشحين في الانتخابات، معظمهم ينتمون بطريقة أو أخرى لآل عمدة البلدة القديمة، وان لم تربطهم بهم صلة رحم مزعومة، فهم من رعايا طائفتهم النافذة.
يذهب البعض إلى أن الدماء التي تجري في عروق آل عمدة البلدة القديمة، ليست نبوية مقدسة أوتركية متسامية فحسب، بل ثمة دماء انجليزية نبيلة أيضا.. ويدعي هؤلاء أن فتيات آل عمدة البلدة القديمة الجميلات عشقن بعض اللوردات الانجليز، الذين تعاقبوا منذ حملة غوردن مرورا بكتشنر وانتهاء بكرومر وسير لي ستاك، وأثمر هذا العشق ثمارا لا تقل وسامة وجمال عما تصفه الحكايا عن جمال الحوريات والجن. فآل العمدة هم أنسباء الحاكم العام، الذي كان قد رأى إحدى بناتهم، فتدله بحبها، وطلب يدها في التو واللحظة التي رآها فيها، فوافق آل العمدة دون أن يأبهو لموقف رجال الدين، الذين تبقوا من الفيالق المقاتلة للإنجليز.
وافقوا.
فمضى الحاكم العام يخاطب من عاصمة المستعمرة، التي "ضحك فيها القدر" زوجته في عاصمة الأمبراطورية التي "لا تغيب عنها الشمس"، طالبا منها الشروع في الموافقة، على إجراءات طلاقه منها، ضاربا عرض الحائط بثورة الكنيسة ضده وضد موظفي جلالة الملكة، في مستعمرات أفريقيا العجيبة. الذين كانوا بسبب الطقس الحار مستثارون إلى أقصى حد، مما جعل لحياتهم السرية نكهة قوية تخطت حدود الاستواء، فلامست الضباب! وهكذا أصبح كل ما هو سر حاولوا إخفاءه، معلنا. تفوح رائحته القوية في تقارير رجال البريد والسرك، والحقيبة الدبلوماسية، عليه بصمات كتبة التقارير الشوام الواضحة، والتي لاتخطئها عين أو استنتاج، مهما كانت العين حولاء، او الاستنتاج ضعيفا!
يحكي أهالي البلدة القديمة في هذا السياق،حكايات لا أول لها ولا آخر، تفضي كلها إلى نسيج محكم عن سيرة آل خشم الموس، إذ تفيد بعض هذه الحكايات، أن الكرسني بعد أن خرج من عزلته البديعة، وأصبح يتجول في انحاء البلدة القديمة، لفت إنتباهه احد البيوت الكبيرة، التي تضاهي بيت والده فخامة وجمالا. كان ذلك البيت الفخم الذي نهض عند مشارف "الفتيحاب" هو بيت عمدة البلدة القديمة، الذي بعد أن ماتت زوجته، مخلفة وراءها طفلته الصغيرة "العينة"، أخذت والدته العجوز تتعهدها بالرعاية، وتدير شئوون البيت الكبير، وتحكمه كملكة خارجة للتو من قلب "اسطنبول" في لحظات مجدها الغاربة. كانت الجدة العجوز تبدي لحفيدتها "العينة" محبة دونها يهون كل شيء. ولم تكن تسمح لها بالخروج عن حدود الدار الكبيرة، دون رفقة آمنة من الخدم والحشم.
كانت العينة تواقة منذ طفولتها وصباها للخروج من عالم الجدة العجوز وابنها العمدة، إلى عالم البلدة القديمة الرحب. إلى أن سنحت لها الفرصة ذات يوم، فانسلت خلسة يتآكلها الفضول، فخرجت لا تلوي على شيء، إلى ان اقتربت من النهر، ورأت على ضفته تلا أخضرا، وغابة خلفها بيت مميز كبيتهم. كانت اضواء البيت تبدو من بعيد خافتة مترقرقة كندى، وأصوات العصافير التي تزقزق خلف تغريد طائر الجنة الملون هادئة، تبعث على الإحساس بالسلام والصفو. وقتها كانت الشمس قد بدأت تغوص في الأفق والسحب تضيء بألوان ذهبية زاهية. براقة. تتألق في سماء شاحبة اللون، وقد بدا الهواء عليلا، والنهر أملسا كمرآة صافية، أو كسيف العمدة الصقيل، والقوارب الشراعية تمخر في هدوء يثير غناء الصيادين العذب، فيترعون كلماتهم بحنين وأنين.
أقتربت العينة من النهر أكثر فأكثر، حتى لامست بقدميها الصغيرتين المياه، التي تلامس ضفة النهر في شغف مثير.. اقتربت من احد المراكب الشراعية الصغيرة، حلّت رباطه عن الضفة، وأمسكت المجذاف تحاول أن تنطلق.. كانت رغبتها العارمة في ركوب النهر تهيمن عليها، وتدفعها دفعا كقوى قاهرة لا قبل لها بها. كانت كالغائبة عن الوعي، و كأن قوى أخرى خارجة عن إرادتها، تسيرها وتتحكم فيها. تغير الجو فجأة، وعلى نحو مباغت أصبحت أمواج النهر تهدر، وشيئا فشيئا أخذت تعلو مزبدة، ونذر عاصفة ساحقة تلوح في الأفق. عندما حركت العينة المجذاف، وقع بصر الكرسني عليها، من موقعه المنخفض على ضفة النهر. شعر بقلبه يخفق بشدة.
أخذت المراكب الشراعية ترسو على ضفتي النهر، وبدا الضباب الذي يسبق العاصفة ينتشر. وبدت العينة للكرسني بعيدة، مذعورة. نهض من مكانه ودخل إلى الماء، يسبح محاولا اللحاق بمركبها المتأرجحة، التي تبحر دون هدى.. بعيدا، بعيدا.. بدت له الرؤية صعبة مع انتشار الغيم. حاول ببصره المدفوع بضربات قلبه المرتفعة، اختراق الغيم للإمساك بالموقع الذي أبحرت فيه العينة. غاص تجاهها، بعيدا بعيدا في النهر. ووجيب قلبه يشتد، والموج هادر، ورأسه يدور كحجر الطاحون.. بدأ الموج يتلاعب بمركب عينة أكثر فأكثر جيئة وذهابا. والزبد الذي في أعماقه، كأنه يخرج ليدفع الموج إلى أعلى، فتندفع مركب العينة بعيدا عنه. يحاول جاهدا تحديد مكانها. يتتبع صراخ العينة المتقطع. كانت مركبها تتحرك بسرعة مع أرتفاع الموج عاليا كالزفير. وكانت السحب الكثيفة قد تجمعت في السماء، وأخذ الرعد يدوي بشدة.
أدرك الكرسني أن هذه العاصفة التي توشك على الهبوب، لا محالة ستقضي على العينة، وقد تقضي عليه معها، لكنه أستمر في السباحة خلفها.. على نحوٍ مباغت إندفعت موجة كبيرة، قلبت المركب، فانكفأ مرتجا، بصوت مكتوم في هدير الموج. الممزوج بصراخ العينة الحاد. اقترب منها الكرسني، مخترقا حصارات الخطر الذي يحاصرهما. سبح تجاهها مغالبا المخاوف والهواجس وقواه التي بدات تخور، جمع كل طاقة سلالته ذات النسب المقدس، والتركي النبيل في دفعة واحدة، محاولا قهر الامواج المتصاعدة، والحلكة التي بدأت تخيم على النهر. لمع ضوء البرق الخاطف، فوجد نفسه قد أقترب منها. سبح تجاهها وأمسك بها. كانت منهكة. خائرة القوى. لا تستطيع رفع رأسها المسكون بالخوف والرعب، كأن كل كوابيس البلدة القديمة، تتوغل لحظتها في إحساساتها ومشاعرها، وتدفعها دفعا للغياب،الذي يشد رأسها بقوة، خارجا بها إلى اللحظة الفاصلة بين الوعي واللاوعي، دون ان تتمكن من رفع رأسها لرؤية هذا الفارس المنقذ، الذي تخاله وهما حميما، يتخلل كوابيسها الممتدة في ذاكرة البلدة القديمة. كان الكرسني قد أمسك بها بقوة، وأخذ يدفعها إلى الشط.
من صلب الكرسني والعينة تحدر أبناء وأحفاد لا حصر لهم، انتشروا في كل أنحاء البلاد الكبيرة إنتشار النار في الهشيم، لكن لم يبق منهم سوى إبن واحد، هو الجد الذي ينحدر من صلبه عجبين خشم الموس. الذي لطالما كان في ليالي السمر العائلية، يحكي لأبناءه وأحفاده، عن جده خشم الموس الكبير، وعن جدته نوار وعن البيت الكبير في البلدة القديمة، عند ضفة النهر. وهذا البيت الذي لم يتبق منه سوى أطلال تحكي ذاكراتها،عن أمجاد ذوت في تقلبات الزمان وتحولات المكان. هذه الحكايات العائلية مثلت محورا لعالم عجبين، الذي كان مسكونا بها منذ طفولته الباكرة، إلى درجة أنه يخال نفسه أحيانا خشم الموس الكبير، أو إبنه الكرسني، ويتصور حبيباته كنوار والعينة، فينظرون إليه بغرابة كأنهن يتهمنه بالجنون، فيبتلع ريقه ويحسر عينيه الجاحظتين، ويكظم غيظه، محاولا إخفاء تورماته، ثم لا يلبث أن ينسى كل شيء،إذ يدهمه حسنين التائه.. حسنين التائه؟!
(5)
خلعت هناء فستانها. خلعت جونلتها الشفافة، أبقت فقط على الكلوت والمنهدة، وأخذت ترقص بجنون على إيقاعات الجاز المحمومة، المنبعثة من جهاز الستريو الصغير.. رقص عجبين معها بذات الجنون.. رقصا معا في لهفة وشغف حتى نال منهما التعب، فارتميا على السرير منهكين، لاهثي الانفاس. هدأت أنفاسهما قليلا فدفعت هناء برأسها إلى صدره، واخذت تداعب أصابعه التي أخذت تتسلل وتغوص بعيدا، وتتنقل لتعبث بأزرار منهدتها، وتعاود الغوص مرة أخرى، وبصره يتعمق في الذاكرة، مع تسحبات أنامله إلى مواطن الدفء المنتفخة. يتعمق في ذاكرة نائية، حيث الهواء منعش وأشعة الشمس دافئة، تغمر فناء البيت الصغير وتتخلل شجرة السنط العجوز والورود والأزهار، في الأصص المنتشرة في كل مكان من الفناء.
كانت الشجرة العجوز تجف، تصفر أوراقها، تيبس. تتهاوى إلى قطع صغيرة، تشتعل فيها النار فتئن أنينا شديدا، كأنه إنفجار مكتوم. ثم لا يلبث رمادها يتبدى عن جذع ناهض بأغصانه المتشابكة، التي تخضر وتخضر، حتى لتبدو ريانة بالحنين، الذي لا تخلو منه وجوه الأربعة الذين لا يزالون جالسين، على أعتاب الليل، الذي يمضي بخطى متثاقلة، والصمت الذي قطعته آخر زفرة، لا يزال يخيم دون أن يتجرأ أحدهم على قطعه. هذا العواء الذي يشق قلب الليل، ساريا في فضاءات البلدة القديمة، مخترقا نافذة غرفة عجبين، مارقا مروق السهم من الرمية. هذا العواء الموحش، الموجع، يخرج من قلب حواري البلدة القديمة، ليلامس مسامعه دون أن يثير داخله أي استجابة.. إنها لعنة الحياد. أن تكون محايدا في مشاعرك تجاه الناس، الذين فقدتهم أو فقدوك، أو أيا كانت التسمية: لا كره، لا حب ولا أي شيء سوى نظرة ثلجية باردة، ترميها خلفك بين آن وآخر، فهكذا يصبح للذكريات دلالة مختلفة، دلالة لا علاقة لها بالذكريات أو الحنين.
على الجدار الصلد لا يزال عجبين يحاول تعليق مرآته المشروخة، ينظر إليها فلا يرى ذاته. يتجسد أمامه حسنين التائه، مخرجا لسانه. محركا إبهاميه على أذنيه، يغطي المرآة المشروخة بملاءة رمادية، وهو يحاول طرد شبح حسنين التائه من خواطره الكثيفة. في الأيام الخوالي لإتخاذه موقفا من صداقتهما وتأكيده القطيعة بالقول والفعل، حصل عجبين على حصته من الشعور بالحزن والألم، إلى حد إستنزاف كل مشاعره، لم يبق له حتى ما يحزن به على مرارات أيام قادمات ـ ربما ـ لشدة لوعته وأساه شعر بأنه أهدر كل طاقة الإحساس بالفقد، وهكذا لم يعد عجبين هو الشخص ذاته ذاك الذي يهتم بتكوين صداقات. جلس عجبين في مقهاه الإثير. أخيرا مضى كلاهما في إتجاهين متعاكسين.. هكذا افترقا دون ندم. دون مرارات معلنة. دون حزن مباشر، كما تمنى منذ أن بدأ يلاحظ التغيرات،التي طرأت على شخصية حسنين. لم يكن ثمة أحد يتصوَر أن تأتي هذه اللحظة، على الرغم من أن الجميع كانوا يتوقعونها منذ وقت طويل، بسبب الإختلاف الواضح بين الشخصيتين، وعدم تكافؤ علاقتهما ـ حدث عجبين نفسه.
فعجبين بقدر ما كان لطيفا ومهذبا، بقدر ما كان منطويا.. كانت حياته متشابكة مع ذاكرة البلدة القديمة. معقدة تعقد دروب البلدة وحواريها وأزقتها الضيقة. ليست ببساطة حياة حسنين، التي نهضت في الجرأة حد الوقاحة والإختلاط. لا يجد نفسه إلا في ضجيج المجتمع والمرح وتزيين عنقه ومعصميه بتلك العقود الخرزية الملوّنة. كان نموذجا للبرجوازي الصغير المتمرد على قوانين الطبقة الوسطى التي أنتجته، الطبقة الوسطى المسكونة بخزعبلات التمدين.
كان حسنين إذن يهتم بقشور الحياة وسقط أفكارها، دون أن يتمكن من عبور الخط الفاصل بين جوهرها والشاطيء الآخر لحياته، التي تتجلى فقط في المرآة المشروخة. حياته المفترضة غير المتحققة في الواقع. كيف كان حسنين ينظر إلى عجبين قبيل إفتراقهما الوشيك. كان يراه كجاحد وناكر للجميل. نسى كل تلك الأيام، التي كان يلتقيه فيها، منهكا مكدود الوجه والخاطر بسبب الإرهاق والجوع والتفكير الممض، فيطعمه ويواسيه. الوحيد الذي وقف معه مخففا عنه متاعب الحياة وهمومها.. لم يسأله شيئا إلا وأجابه. منحه من الحب ما لم يحلم به يوما. وبعد كل هذا يتنكر له الآن، ناسيا كل شيء "ياله من وغد!". يتنهد حسنين التائه في أسى، وهو يؤكد لنفسه "ليس ثمة سبب يجبرني على إحتماله. فلينتهي كل ما بيننا، وليذهب كل شيء إلى الجحيم". كان حسنين يكرر لنفسه.
في هذه اللحظة ذاتها كان عجبين يتساءل: لماذا يجهد حسنين نفسه كل هذا الجهد، ليقلل من إحترام عجبين في نظر الناس، بهذه الطريقة الملتوية، والاساليب المراوغة الماكرة. هل من المعقول أنه يكرهه إلى هذا الحد المدمر؟!.. وظل هذا السؤال على وجه الخصوص معلقا في فضاء ذاكرة عجبين خشم الموس، دون إجابة محددة. في كثير من النقاشات التي دارت بينهما، كان رد حسنين معلنا وجاهزا:
ـ أنت تتخيل ذلك، لأنك تتصور نفسك كإله.. أنت مجنون.. أقسم أنني لم أقصد الإساءة إليك..
الرد ذاته إثر كل خلاف، حول أساليب حسنين الملتوية، المراوغة.. يئس عجبين ولم يعد يهتم لأي حوار، مع حسنين حول سلوكه العدائي تجاهه. كان قد بدأ يشعر بأنه لم يعد للأمر أهمية على الإطلاق، فحسنين لم يعد يعنيه كما مضى، بالتالي لا أهمية أو جدوى من خوض أي حوار معه. وهكذا أفترق عنه في صمت.
نشأ عجبين في أسرة ظلت تتقلب في ذاكرة البلدة القديمة، وحكاياها عن آل خشم الموس، كآخر أساطير الغرباء. الأمر الذي كان كافيا لأن يمنحه الإرادة اللازمة لصياغة قدر مختلف. أمام مقهاه الاثير، يمر الماضي في أشكال الناس وملامحهم. يغذي فيه الإحساس بالكرب كشاعر مسكون بحمى الذكريات، وآلام الصراعات التي رغم تقادم العهد، لا تزال تخز دواخله كالشوك القتاد، وهو يتوغل عميقا، عميقا أقصى ثمرة الفؤاد، مخلفا وراءه مزقا ودّم، يتشكل منهما طيف صديقه القريب/ البعيد.. حسنين وهو ينحسر كموجة، موجة عاتية تأخذ معها بنايات البلدة القديمة، والناس وملامح الزمن الغابر، فلا يعود لطيف حسنين الذي أحب ذات يوم، من وجود سوى فيما تبقى من ألم، يحاول أن يتخطاه بكل ما وسعه. اللحظات الجميلة التي عاشاها معا، كانت في إحساساتها أشبه بمشاعر المحبين، كأخوين، أكثر من صديقين. كرسا لعلاقتهما، التي صارت حديث البلدة القديمة في المحبة والوفاء. كانا لا يفترقان إلا للنوم، وأحيانا ينامان معا في بيت أحدهما، أو بيت صديق مشترك. يشعر كل منهما بألم الآخر. هواجسه، همومه حتى دون أن ينبس ببنت شفه، فما الذي حدث لتتعرض علاقتهما بعد كل هذه السنوات للشروخ والتصدعات، وتتلاشى شخصيتيهما القديمتين، لتحل داخل كل منهما شخصية أخرى، لم تكن موجودة من قبل، على أنقاض الشخصية القديمة.
زفر عجبين وهو يعالج في ذهنه تحولات حسنين، التي أطلق عليها "الأزمة التاريخية للصديق المدعو حسنين". انه لا يعرف بالضبط متى بدأت التحولات تعتري شخصية حسنين، لكن ثمة محطات فارقة كانت تؤكد، أن ثمة شخص جديد يتشكل. في لحظات صفوّه يحاول أن يتغلب على ألمه، ويستعيد تلك المحطات الغارقة في شفق المغيب، فتقفز إلى ذهنه تلك اللحظة قبل سنوات، في قلب المحطة الوسطى للبلدة القديمة، حين أحتدم بينهما سجال عقيم حول "الوجود والعدم"، فانفجر حسنين في وجهه، متهما إياه بالإلحاد. كان سجالهما هادئا عندما بدأ. لا يشي أبدا بالإنفجار الذي يطويه داخله، حتى فاجأه حسنين بتنمره عليه دون سابق إنذار. لا يدري حتى الآن ما السبب الحقيقي، الذي جعل حسنين ـ لحظتها ـ يمتليء بكل هذه الروح العدائية.. ربما لأنه بدأ مؤخرا، يهتم لأمر "الديانات الجديدة" التي أفرزتها "العولمة"، هذه الديانات العجيبة التي تسللت عابرة القارات، كأن العالم تنقصه مزيد من الديانات، أو بحاجة لأنبياء جدد!.. ربما أن لإنفجاره المباغت علاقة بتلك الطائفة السرِّية، التي أصبح أحد مريديها، فقط ليثبت لنفسه أنه شخص "مميز"، أو "مثقف" لا يمت للرجرجة والدهماء بصلة، أو أي شيء آخر من هذا القبيل. كان مزاجه قد تبدل فصرخ في وجهه، بطريقة بشعة في هذه اللحظة بالذات: بين زحام الناس والعربات.
بعد سنوات طويلة، عندما يستعيد عجبين هذه اللحظة، يستوثق أن حسنين كان يتطلع إلى المعرفة، ولم يكن راضيا بأداء دور المستمع الذي ظل يلعبه، منذ نجح عجبين في ترويضه. وحاول مساعدته بأن مده بالكتب المنتقاة بعناية، وعمل على توجيه قراءاته. كان يحاول بذلك ان يؤسس فيه أرضية مشتركة بينهما، لكن حسنين سرعان ما ملّ القراءة، فالقراءة عزلة، وهو لم يعتد ـ في كل حياته التي لا تخلو من شجن ـ على العزلة.. فكل حياته التي تبدأ في الصباح الباكر، ولا تنتهي آخر المساء، تنهض في الحركة تجاه الناس، ولقاء الأصدقاء الجدد ـ دائما لديه أصدقاء جدد ـ الذين سيصبحون "قدامى" قريبا. وشباب الحي السطحيين الذين يحبهم ـ لأنهم يشعرونه بأهميته ـ اذن كان لا يجد نفسه إلا في هذه الحركة النشطة في قلب مجتمعه، المتنوِّع بكل فئاته. بعد سنوات عدة، ستبدأ تتكون في داخل حسنين مشاعر عدائية تجاه هذه الفئات، إذا يبدأ في "الظن" أن الآخرين يستغلونه لتحقيق أهدافهم، ويتنامى داخله هذا "الظن" بصورة مرعبة، ويتحوّل إلى هاجس، يشعل فيه روح العداء ـ غير المعلن ـ أكثر فأكثر، تجاه مشاريع الآخرين!!.. هذه المشاريع التي يتصور ـ لا يدري أحد من أين جاء بهذا التصوّر ـ أن الفضل في نجاحها، إنما يعود له وحده، هو شخصيا!!..
أول مرة تعرف فيها عجبين على حسنين، لم يرقه أبدا، إذ بدا له وقحا، فنفر منه. لكن حسنين ظل يلاحقه دون أن يدري لماذا؟!.. فيما بعد أدرك عجبين أن حسنين يحاول دائما أن يكون مقربا من الأشخاص الذين يعتقد أنهم مميزين. لا يزال عجبين يذكر أول لقاء فعلي لهما بعد أن تمكن من ترويضه، محولا إياه إلى تلميذ نجيب، كما قرر في نفسه وقتها. كان يجلس لحظتها في أحد البنشات الخارجية لكلية الإقتصاد والعلوم الإجتماعية، يقرأ جورج أمادو في (الدونا فلورا وزوجاها الاثنان). لا يزال يذكر ذلك بوضوح حتى الآن ـ عندما أقترب منه حسنين يحييِّه، فلم يجد بدا من دعوته للجلوس. مدّ حسنين يده يأخذ الكتاب. قلبه بين يديه وأعاده إليه. وهكذا بدأ بينهما الحوار الذي أفضى إلى صداقة متينة، استمرت لسنوات طويلة.
(6)
كان عجبين منهكا من جدالات السياسة، وأركان النقاش والسجالات التي تفسر الماء بعد الجهد بالماء. يشتهي حوارات أخرى. حوارات حقيقية في الأدب والشعر وأحوال المجتمع، وذاكرة الناس والأشياء والأماكن، وشظايا مرايا خشم الموس الكبير، التي أصابت الجميع حتى طيور الشجر، وأعشاب البرية التي تحيط أطراف البلدة القديمة.. كان يتكلم وحسنين يستمع باهتمام، وذاكرته تمتص الحديث، تحاول إعادة صياغته مرة أخرى بلغة أخرى، كان حوارا من طرف واحد، لكنه كان مميزا ـ لا يزال يذكر محاوره حتى الآن ـ.. بعدها بأيام دعاه حسنين التائه للمبيت معه، و أخبره رسميا أنه أصطفاه ليكون أستاذه.. وهكذا أصبحا ينامان في وقت متأخر من كل ليلة، بعد أن يكون عجبين قد إستفرغ في وجه حسنين، كل قراءاته في المعرفة والأيديولوجيا والأدب والفن. وذاكرة حسنين كالفلين تمتص كل شيء..
أول ليلة قضاها عجبين مع حسنين كان دهشا: كيف تخطر مثل هذه الأفكار الغريبة، على بال حسنين؟!.. ففكرة أن يكون أستاذا لشخص في مثل سنه لم تكن تروقه. بدت له غريبة، والأغرب منها "تعليم الشعر" لحظتها تلاشت كل ريبه وظنونه، حول معنى علاقتهما الوليدة، وأدرك أن حسنين يعاني في داخله صراعا حادا. يريد أن يكون شخصا بإمكانه، أن يصنع فرقا في الحياة.. ويتصور أن السبيل الوحيد إلى ذلك، هو أن يكون شاعرا أو كاتبا، إلى آخره من إهتمامات رهيبة، تحيل حياة الإنسان إلى عذاب وألم مقيم. لم يكن يدري أن بإمكان أي شخص، في أي مجال من المجالات أن يصنع فرقا. وحاول أن يقوده إلى هذه الفكرة بصبر وتؤدة.
(7)
تتضاءل ملامح البلدة القديمة. تتضاءل حتى تغيب لتحل محلها معسكرات "الدفاع الشعبي" و "أخوات نسيبة" و "المجاهدين الدبابين" و "شرطة النظام العام" و "هيئة الدفاع عن العقيدة والوطن" ـ تخرج داحس والغبراء من قلب تاريخ مقيت، ـ فينتشر الأيدز والحروب الأهلية في أطراف البلاد الكبيرة، ويصبح لكل شيء طعم آخر. طعم أي شيء سوى الذكريات الحميمة.. من قلب أطلال البلدة القديمة. على أنقاضها، تنهض المعتقلات السرية و"بيوت الأشباح" ومخابيء "الإرهابيين العرب" و "الجمعيات الإسلامية العالمية المتطرفة" فيصبح المكان. كل المكان، محض زنزانة ضيقة. حفرة مليئة بالبراغيث والهوام، يتمزق فيها الإنسان، ويتحوّل إلى أشلاء وبقايا من المشاعر والأحاسيس التي كانها.. هذه المشاعر التي يسقطها الهروب من مكان لآخر، والتخفي من الملاحقة والإعتقال.. هذه الأحاسيس التي تسقط في رحلة الهروب المستمرة. الهروب المحفوف بالمخاوف والتصورات المرعبة، التي ينبثق منها السجانين ومتعهدي التعذيب، في غرفهم ذات الإضاءات الخافتة.. غرفهم الجرداء إلا من أدوات التعذيب ومقعد خشبي قاس، يقيدونك إليه. يحرقون في جسمك العاري أعقاب السجائر، يلسعونك بالكهرباء ويجرحون باطن قدميك بالموس.
مع كل إنتفاضة من لسعة الكهرباء تفقد شيئا جميلا، أحسست به ذات يوم. مع كل حرقة نار، تفقد جزء من مشاعرك النبيلة تجاه البشر ـ هكذا هم ـ التي كنت تكنها لهم بحماس، لهم ولاشياؤهم وأماكنهم.. لهم وللمطر والشجر وطائر الجنّة الملوّن وتراب البلدة القديمة. مع كل ركلة أو ضربة حذاء أو خرطوم مياه، أو قبضة يد، تتلاشى داخلك الذكريات التي كنت تكنها للناس، حتى الناس الحقيقيين.. فلا تعود تتذكر من أنت، وماذا تريد أو كيف جئت إلى هنا.. كل ما تذكره هو هذه اللحظة التي تعيشها ككلب أجرب، إمتلأ جسده بالقروح والتمزقات والألم.. الزنزانة تنهض داخلك، تفتح أبوابها كلما أستدعاك أحد الوجوه الشائهة، للتحقيق أو التوقيع على إعتراف مزعوم، بتفاصيل ليست لديك فكرة عنها. يهددونك بكل شيء حتى الاغتصاب، أو حشر زجاجات المياه الغازية ذات الحجم العائلي في مؤخرتك، وتبدأ تتصور صعوبة الوضع: هل يا ترى سيتمكنون من إنتزاعها إذا كبست بالهواء.. كيف يمكنهم تنفيسها ليخروجونها من مؤخرتك المسكينة، المهددة بالهتك، وتتساءل ـ أهؤلاء هم الاسلاميين خبراء التعذيب هؤلاء؟ ـ وأنت تتمنى في هذه اللحظات المؤلمة لو ينتهي كل شيء، حتى حياتك نفسها.. تتذكر ندوة دكتور الباقر العفيف عن الهوية عندما أكد: بعد التوصل لإتفاق سلام، لم يكن لدى الجيش"الوطني" أسرى يبادلهم مع جيش الحركة الشعبية، ذلك لأن الجيش "الوطني" كان يقتل الأسرى..
لم يكتفوا بحرق الكنائس وقتل الأطفال والنساء والإغتصاب الجماعي. لم يكتفوا بإنتهاك كافة حقوق الإنسان، فاستحدثوا أساليب جديدة، مستلهمة من تراثهم الجاهلي ومن تراث نسبهم التركي المليء بالخوازيق!.. وعندما يعيدونك إلى زنزانتك القذرة مرة أخرى، تتمنى لو أخرجوك من معتقل التعذيب، وأخذوك إلى السجن مباشرة لترتاح.. تتمنى السجن لترتاح؟!.. تحاول التغلب على الألم، تجر جسدك لتتكيء على جدار الزنزانة، تبذل جهدا كبيرا لإستعادة ذاكرتك، فتطل بعض الوجوه: وجوه لنساء. وجوه لرجال. وجوه لفتيات شابات وشبان. وجوه تشعرك بأنك تعرفها. كنت بينها ذات يوم. تحاول إستعادة تفاصيلها، فتغيب في الضباب.. وفي الضباب تحاول ان تتذكر تفاصيل البلدة القديمة دون جدوى، لا تذكر سوى اسمها، يربطونك إلى الشجرة، يسألونك.. يسألونك عن كل شيء.. يرهقونك بالأسئلة المتلاحقة:
ـ لا أدري، لا أدري..
فيشتد ضربهم لك بقسوة أكبر. يتلاشى الألم مع تكرار الضرب. لا. لا يتلاشى، فقط يتخدر الجسم، فلا تعود تشعر بالألم. تتساءل عن معنى الألم. الالم ليس مجرد كلمة مفردة. إنه هذا الضرب. هذه الشتائم المقذعة. هذا الإذلال.. "الألم".. من "الألم" كفكرة (ذات) في عالم الأفكار، إلى ألمه الآن.. هذا (الموضوع) ـ هو.. موضوع لمشروع تلك الذات البعيدة في سرمديتها، وعالمها الأرخبيلي السديمي، حيث البرزخ الذي يحيط عالم الأفكار.. مثلما كانت دائما وتكون فكرة البلدة القديمة ك(آخر) "موضوع" لمشاريع (ذات).. ذات هناك يتجلى موضوعها في البلدة القديمة. هذا الإنعكاس في شروخات مرآة خشم الموس السحرية. هذا الشرخ الذي يعوق ذاكرته ووجدانه الآن، فتتبدى ملامح هناء غامضة كغيرها من الملامح المترحلة في عالم الأفكار.. غموض ملامح هناء يأخذ طابعه من غموض معنى الألم. غموض سيلان النزيف في الجرح المتجدد. غموض إحتضارها وهي تجهض جنينهما وتموت، تمضي إلى الأبد، كأنها لم تكن يوما..
من الألم صاغ حسنين التائه عبارة "حتى الرمق الآخير" لتحكم عالمه الرث البائس، الذي يديره كإله. يتحكم في مؤامراته الخفية. في نبضاته وسكناته. في خفقاته وتشظياته. من الألم خرجت وها أنت تعود. لا تقوى على المشي بقدميك المجروحتين، فيحملك سجانوك إلى غرفة التعذيب، عند منتصف الليل من كل يوم. ولا يتركونك إلا كخرقة بالية عندما تتسلل خيوط الفجر الأولى الكوّة أعلا غرفة التعذيب..
ـ أستاذ عجبين، قلت أنك أسست مع آخرين جماعة "كستاليا للآداب والفنون" ما معنى كستاليا؟.
ـ النبع الصافي، في اللاتينية القديمة.
ـ كيف سمحوا لكم بتسجيلها وقد ذكرت في طلبك ان كل الجمعيات التي لا تنتمي إليها لا يمكن تسجيلها؟
ـ لم تكن مسجلة لديهم. قمنا بتسجيلها في اليونسكو، كأحد الأندية التابعة للمركز الدولي للعلوم والفنون. ولهذا السبب بالذات تم إتهامنا بالعمالة.
ـ صف لنا كيف تعرضت لحادث إغتيال.
ـ أنا استنتجت أنها محاولة إغتيال.
ـ صف لنا هذه المحاولة.
ـ تعرضت لثلاثة مرات في ثلاثة أيام على التوالي في مارس 1993 لمحاولة الدهس بعربة دبل كابينة تايوتا، لا تحمل لوحة أرقام، وأنا في طريقي من محطة المواصلات إلى البيت. حوالي الساعة الثانية عشرة ليلا. لا يمكن أن تكون هذه المحاولات الثلاثة مصادفة. الصدفة لا تتكرر.
ـ قلت أن الوقت كان ليلا. كيف رايت أنها بلا أرقام؟
ـ الميدان الذي تم فيه ذلك يفصل منزلنا عن محطة المواصلات. وهو ميدان مضاء.
ـ ماذا حدث لك في مايو؟
ـ تم استدعائي.
ـ لماذا؟
ـ لمشاركتي في ندوة حول "الديموقراطية والإثنية".. ذكرت ملاحظة عابرة حول أهالي هذه البلاد، بأنهم عندما يموت طفل في لبنان أو فلسطين أو العراق، ينهضون جميعهم بأطفالهم ونساؤهم في المظاهرات والمسيرات، يدينون العدوان الغاشم على شعب "عربي شقيق". بينما قواتهم تقتل الأطفال والنساء وتقوم بالإغتصاب الجماعي في دارفور، ولا أحد منهم يخرج ليهتف ضد ذلك. ففلسطين والعراق ولبنان أقرب إليهم من بني جلدتهم في الجنوب أو دارفور. بل ان كتابهم وقادة رأيهم العام يكتبون المراثي الطوال في الأوضاع الإنسانية المتردية في غزة وبيروت وبغداد، لكنهم لا يجرؤن على الكتابة عن مأساة الهامش الفادحة. قلت أن الجميع متورطون، وأنهم لا يرغبون في إدانة أنفسهم، فهم موافقون على ما يفعله جيشهم من إبادة للابرياء والعزل. قلت انهم بحاجة للمعالجة النفسية.
ـ شعب بكامله بحاجة لعلاج نفسي؟
ـ إذن كيف تنظر لمن ينكر هويته ويدعي هوية ليست له؟
ـ ما هي التهم التي وجهت إليك؟
ـ إثارة النزعات العنصرية، والإرتباط بجهات أجنبية والعلاقة بحركات مسلحة.
ـ هل انت كذلك؟
ـ لا.
ـ هل تم التحقيق معك بمجرد أن استجبت للإستدعاء؟
ـ لا. تم التحقيق معي بعد 6 أيام. إذ انني عندما حضرت في اليوم الأول، أبقوني منتظرا في الاستقبال 5 ساعات. صرفوني بعدها دون أن يوجهوا لي سؤالا واحدا. فكل ما ذكروه لي ان الضابط المسئول عن التحقيق معي، غير موجود الآن. وأمروني بالعودة صباح اليوم التالي، حيث تعاملوا معي بذات الطريقة، وهكذا تكرر هذا الأمر لخمسة أيام، وفي اليوم السادس أدخلوني إلى أحد مكاتبهم، حيث تم التحقيق معي. بعد ذلك قاموا بضربي في الفناء، الذي يفصل الإستقبال عن المكاتب والزنازين. وهددوني بالقتل، ومن ثم أطلقوا سراحي.
ـ حدثنا عن آخر إعتقال لك؟
ـ في 30 يونيو 1996 وبعد أن شاركت في منتدى سياسي عن "بروز النزعات الجهوية في الجامعات" تم إعتقالي وأنا في طريقي إلى البيت حوالي منتصف الليل أو بعد ذلك بقليل. إعتقلوني من الشارع، إذ توقفت عربة دبل كابينة لاندكروزر قربي على نحو مفاجيء. خرج منها ثلاثة أشخاص. دفعوني إلى داخلها. لا أعرف المكان الذي أخذوني إليه، إذ تعمدوا إجلاسي منحنيا ويد أحدهم تقبض على عنقي من الخلف. أخذوني إلى مكان لا أعرفه. وبعد أن تم ضربي بخراطيم المياه وتوجيه أقذع الشتائم والركلات والتهديدات بالقتل، اطلقوا سراحي وأنا في حالة يرثى لها، مساء اليوم التالي. حملوني غائب الوعي. ورموني في المزارع عند أطراف البلدة القديمة.
ـ كيف تصرفت بعد ذلك؟
ـ شعرت بأنهم جادون في تهديداتهم، وأنهم لا محالة سيقتلونني. فتعاظم في داخلي الإحساس بالخطر، الأمر الذي دفعني إلى تغيير محل إقامتي، والإختفاء والتخطيط لمغادرة لا البلدة القديمة فحسب، بل كل البلاد الكبيرة.
إلى أصدقاء قدامى، ذاكرة عتيقة.. وبوح قديم
(1)
أين تبدأ الذكريات و الأحلام، وأين ينتهي الواقع؟! وكيف ينهض كل هذا الشجن من بين ركام الماضي واللحظات الحائرة، في الراهن الملتبس؟
يتفرس عجبين خشم الموس الوجوه الأربعة التي يمر بها كل يوم في طريقه.. يتفرس موقعها في ذاكرته. يبحث عن هذا الموقع ليجده مقصيا بعيدا. أقصى تلافيف ذاكرته، فينقب في كل وجه.. كأنهم هم.. اصدقاؤه القدامى، وربما ليسوا هم!!.. يدخل الحمام. يأخذ دشا باردا. يضع براد الشاي على البوتجاز. يرتدي ملابسه. يرتشف الشاي بتلذذ. يحمل المطرقة، ويحاول غرس المسمار على الجدار المقابل، ليعلق مرآة الكرسني المشروخة، أعلا تمثال "نوار" الرخامي المتآكل.. ينثني المسمار من الطرق المتواصل، دون أن ينغرس عميقا في الجدار الصلب.. يخرج شاقا الدروب الحائرة. النعسانة. المصابة بالوسن.
يسحب نفسا عميقا من هواء الصباح المشبع بالبرودة والندى.. ويسند رأسه على ذكريات رطبة، لكنها قديمة، مشبعة برائحة العطن.. ربما هي أحلام يقظة، تخرج من أعماق الماضي، أو أوهام تنبثق من فضاء الذاكرة، تحمل على سواعدها المتشعبة وجوه أصدقاءه القدامى: الأربعة ذاتهم، المعجونين في المشاعر المتناقضة، والإنكسارات والتشظي. يراهم كأنه يجلس جوار نافذة لقطار مسرع، تمر وجوههم على رصيفه، كمحطات فارقة في مسيرة حياته العامرة بالشجن، في اللحظات التي يخيم فيها صمت عابر على فضاء ذكرياته، كانوا بوجوههم الأربعة: عاصم، أيمن، عثمان وحسنين التائه، ينقبون في هذه الذاكرة المنهوبة. يتركهم غارقين في هذا الصمت، يراقبون المارة بين آن وآخر من مكانهم الذي أعتادوا الجلوس فيه، في هذا الجزء من أطلال البلدة القديمة. تحت الجدار الخارجي للبيت العتيق. يتبادلون أحاديث الحزن والأسى في الامسيات التي تلت جنون صديق عمرهم. شريك ذكرياتهم. نديم كأسهم: عجبين خشم الموس، الذي منذ عاد من غربته الطويلة، لم يكن بحالته التي فارقهم عليها آخر مرة، قبل سنوات طويلة.. قبل أن يختار الغربة ملاذا.
كانوا كلما جلسوا يتساءلون عما آل اليه حاله: هل كان جنونه أثر رجعي لتجربة الاعتقال والتعذيب؟ أم أنه خيار شخصي أتخذه من عالم الواقع؟.. هذا العالم المليء بالحروب الأهلية والفقر والتهميش، أم بسبب مأزق وجودي نسجته حوله أفكاره المثالية، فتاه بين ماهو متحقق فعليا وبين ما يريده هو أن يكون!.. أم كان جنونه بسبب كل هذه المخاوف والظنون، إزاء سرطانات العصر والامراض المصنعة، التي أحالت حياة الناس إلى رعب مزمن؟ أم أن جنونه كان بسبب كل تلك الحكايات العجيبة، التي نسجت حول آل خشم الموس؟!
في إعتزالات عجبين المتكررة للناس، كانت تخطر على باله دائما، الحكايا التي حكمت حياة جده الكرسني، فيتساءل ذات الاسئلة في كل مرة: هل غرابة الأطوار هي جزء من جينات آل خشم الموس؟ أم أن الجنون كالقدر "مكتوب"؟! عبر عجبين خشم الموس أمام أربعتهم. وقف قبالتهم. حدق فيهم مليا، ومضى غارقا في تخيلاته وأفكاره الممعنة في الرهق.. حيث يجيئه الآن ناهضا من قلب العبور صوت موظف الامم المتحدة لشئون اللاجئين من بعيد كأنه يخرج من غياهب غابة خشم الموس الكبير. خلف حديقته مترامية الأطراف. من قلب عتمتها، التي ظلت تحاصر حياته وتهيمن عليها بالأخيلة وأشباح اليقظة.
ـ أستاذ عجبين حدثنا عن الأسباب التي دفعتك للجؤ؟!
أطرق عجبين وهو يحسر بصره عن جهاز الكومبيوتر الذي كف الموظف البدين عن التلاعب بمفاتيحه.
ـ تعرضت للاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي والتهديد بالقتل.
ـ لماذا؟.
ـ لأنشطتي المعارضة.
ـ لكنك ذكرت في طلبك بالتحديد عبارة "أشعاري الثورية هي السبب"؟!
ـ ذكرت أنها أحد الاسباب.
ـ صف لنا أول إعتقال لك.
ـ تم إعتقالي للمرة الاولى لمدة اسبوع من ظهيرة 27 سبتمبر حتى العاشر مساء 3 أكتوبر 1989. قاموا بتفتيش مسكني ومصادرة كل كتبي ودفاتري. ضربوني بالأيدي والأرجل وخراطيم المياه.
ـ ماهي الأسئلة التي وجهت إليك؟
ـ حققوا معي حول نشاطاتي وانتمائي السياسي، وسألوني عن بعض الشخصيات التي أعرف بعضها وبعضها الآخر لا أعرفه. تعرضت للضرب المبرح وإذلال لا مثيل له. تعرضت لارهاب نفسي حاد، وحرمان من النوم.
البلدة القديمة مثل جرح "ينقح" في داخله. يخز وجدانه. يتفتح على كل العوالم التي لطالما حلم بنسيانها. سماء البلدة القديمة مرآة كبيرة، صاغ منها خشم الموس الكبير مرآته السحرية، التي انتشرت شظاياها في ملامح الناس والأمكنة.. مرآة تعكس ما يمور به عالم الأفكار خلفها، ليتبدى انعكاس فكرة البلدة القديمة.. هذه الفكرة الهائمة.. تتبدى آخذة وجودها الحسي الملموس هنا في هذه الجغرافيا، عند مقرن النيلين، حيث تبدو واضحة المعالم بناسها وحواريها وأزقتها وجغرافيتها وكل ما تشتمل عليه من وقائع وأحداث عبر الزمان والمكان.. تخرج البلدة القديمة عبر الانعكاس من واقع الفكرة التي كانتها في عالم الأفكار، لتستمد أحاسيس النهوض من المشاعر الحبيسة في البرزخ، لتحل في وجه (هناء ـ نوار) و (ليلى ـ العينة) كطاقة حب فياضة تجب كل ما عداها. طاقة تجرف أمامها الحزن وذكرى سنوات الجراحات التي ظن أنها لن تنقضي.
راقته وقتها فكرة جندي القداحة كثيرا، فتمناها وهو يتصور "كلاب القداحة السحرية" بعد أن تقتل الحراس، فيتزوج هناء ويصبح عمدة البلدة القديمة، بدلا عن والدها العمدة الكبير. لكن الأمور مضت بصورة أكثر يسرا، فبعد طول انتظار، بدأت هناء ترد على رسائله الحارة، ثم أصبحا يلتقيان خلسة، ولم تمض سوى أشهر معدودة حتى أصبح يجيء بها إلى غرفته التي أجرها في ذات البيت الذي أجر فيه عاصم و أيمن غرفة لهما.
كان انتحار هناء أحد أكثر انعطافات حياته حدة، إذ تملكه إحساس شديد بالحزن، واغتم غما شديدا.. أصبح كشبح هامد.. شاحب لا يكاد يستطيع التنفس. كأن صخرة عتية تجثم على صدره. أصبحت أحلام يقظته محاصرة بشبح الموت، كأن الموت يتقدم تجاهه بسيف من النار، حوله رؤوس مشوهة، تتفحصه بنظرات غاضبة. وهكذا مضت حياته تتقلب في الحزن والوهن، إلى أن أطل تغريد طائر الجنة الملون من نافذة غرفته.. يتسلل لحنه العذب هادئا، يستعيد إلى ذاكرته كل عوالم البلدة القديمة، في ذلك الزمن المنسي منذ عشرات السنين. لأول مرة يسمعه منذ تلك السنوات البعيدة، عندما كان هنا في هذا المكان، بيت خشم الموس الكبير، وغابته وحديقته المميزة.. عندما كان المقرن هو المقرن وليس شيئا آخرا.
كان طائر الجنة الملون حاطا على شجرة السنط خارج الدار، ينظر إليه عبر النافذة المواربة، يتحسس بلحنه المميز عذاباته وآلامه وأحزانه.. يمزجها في لحن طويل، فيمتص عجبين اللحن العذب بكل جوارحه. يسري عنه. يبعث فيه الأمل من جديد، تذوي صور الأشباح التي تهيمن على أحلام يقظته، وتسري في جسمه حيوية لم يشعر بها منذ زمن بعيد. غناء طائر الجنة الملون يبعث الحياة حتى في فناء الدار المجدب، فتخضر حديقتها، وتنتاب المكان.. كل المكان، حالة من الصفو، فيشعر بإشراقة الشمس وضوءها، الذي يتسلل النافذة، لأول مرة منذ انتحار هناء شعورا مختلفا.
كان كأنه يفيق من نوم عميق، هذه اللحظة من التجدد والإحساس بالحياة من جديد، لم يشعر بها مرة أخرى إلا عندما التقى (ليلى العينة) في ذلك اليوم في جراج العتبة. كان وقتها في طريقه إلى مفوضية اللاجئين، عندما جلست إلى جواره في الميني بص. تبادلا أطراف الحديث.. كانت بطريقها أيضا إلى مكتب المفوضية.
ـ لكنني لا أعرف في المهندسين موقعه بالتحديد.
ـ لا تخش شيئا، انا اعرف موقعه.
وعندما وصلا إلى المكتب، انتحيا قريبا من المدخل، إلى أن يقل زحام اللاجئين.. أحس بها تستعيد في داخله ذكرى منصرمة. ذكرى هناء التي أحب من كل قلبه. بدت له مألوفة مثلها. هادئة وعذبة ووحيدة كشجرة نخيل في مهب الريح. لم يشعر بالزمن يمضي، وهما يتعرفان إلى بعضهما أكثر فأكثر، كأنهما صديقين قديمين. التقيا بعد طول بعاد، وأخذا يستعيدان كل ما كان بينهما ذات يوم، بحميمية وشغف الذكريات التي لا تخلو من ندم شفيف، كجرح هاديء العذاب. نبهه موظف الأمن:
ـ دورك يا أستاذ.
ـ آه، نعم. أرغب في ملء استمارة تحديد وضع اللاجيء.
ـ وأنت؟
ـ لدي مقابلة اليوم.
وعندما حان وقت مقابلته لموظف المكتب، للبت في قضيته التي تقدم بها، للحصول على حق الحماية الدولية، قادوه إلى الطابق الأعلى، حيث تجرى المقابلات، أدخلوه مكتب واسع. جلس إلى الموظف الذي كان منشغلا بجهاز الكومبيوتر أمامه. باغته الموظف:
ـ إسمك؟
ـ عجبين خشم الموس؟
ـ الديانة؟
ـ مسلم. لكن..
قاطعه:
ـ مكان وتاريخ الميلاد؟
ـ الأول من نوفمبر 1960 البلدة القديمة.
ـ الحالة الاجتماعية؟
ـ عازب ولا أنوي الزواج على الإطلاق.
ـ عنوانك في مصر؟
ـ 27 ش قولة مع محمد فريد عابدين
ـ رقم الهاتف 01239490
ـ رقم وثيقة السفر ونوعها؟
ـ 00489460 باسبورت.
ـ وضعك الحالي، كيف تصفه؟.
ـ لاجيء
ـ هل تتحدث الإنجليزية وتكتبها بسهولة أم بصعوبة؟
ـ بسهولة
ـ اللغة التي تفضلها لإجراء المقابلة معك. العربية أم لغتك المحلية أم الانجليزية؟.
ـ لغتي المحلية أو الانجليزية.
ـ خذ إملأ هذه الإستمارة ووقع عليها، وتذكر أن أي معلومة بغرض التضليل ستعرضك للمساءلة، وثق تماما أن كل ما تذكره سيتم الحفاظ عليه بسرية تامة.
تأمل عجبين استمارة التماس اللجوء من تحت الضباب الذي يتبدى عن الملامح الغامضة للبلدة القديمة.. كان الزمن يتسحب في هذا الضباب مثل ظل الضحى، لا يمكنك الشعور بتسحبه. الا عندما تجد نفسك فجأة في "الحر". تتلفت خلفك. ترى الظل. مجرد شريط ضيق. شريط لا يزال يتسحب هو الآخر مفسحا لما يطلق عليه "الذكريات".. دون أن تكون واثقا أهي ذكريات حقا أم وقائع وأحداث ستأتي، أم هي ذكريات لشخوص آخرين، ربما لاتعرفهم تماما.
كل شيء يختلط في ذهن عجبين خشم الموس، كأنه يرى وجه في الطريق العام ويظن أنه يعرفه على الرغم من أنه لم يره من قبل.. للمرة الأولى يراه، هذه هي "لعبة الذكريات" في ذاكرة عجبين خشم الموس،. كل ما مضى يختلط بما يجري وبما هو آت، ليتشكل في هذا المزيج وجهين: وجه هناء ـ نوار، و ليلى ـ العينة. الحكايات التي لازمت حياة الأجيال المختلفة من أسرة آل خشم الموس،هي حكايات البلدة القديمة حولهم. فهناك عند الضفة الشرقية للنيل، وجوار مقرن النيلين تماما، تنهض البلدة القديمة، حيث الماء سماوي اللون، لا تشوبه عكرة اندفاع النيل الأزرق، وحيث يقل عمق النهر كلما اقترب من الضفاف، وحيث كلما أقترب أحدهم من المقرن تتضح لرؤيته تلك الملامح الغائبة خلف ضباب المغيب.. ملامح البيت الكبير الشبيه بقصر اسطوري. ذلك البيت الذي شيده خشم الموس الكبير، من الطين اللبن والطوب المحروق، دون أن يبدو عليه أنه كذلك. اذ صاغ جدرانه من المرجان الزائف، والزجاج الملون، وصنع نوافذه العالية من الأبنوس والعاج، وجعل لحجراته أسقفا من تيك الجنوب الحر، الذي تخللته أصداف البحر الأحمر البعيد. عندما تمر تيارات الهواء الباردة أو أشعة الشمس الهادئة، كانت كوات المنزل الملونة تفتح لوحدها. النظام الهندسي الدقيق، الذي شيد عليه خشم الموس بيته الكبير، ظل غامضا. وأكثر ما كان يثير التساؤل هو: كيف يضيء هذا المنزل الذي شيدت جدرانه الداخلية من المرايا. من أين ينبعث هذا الضوء الذي يملأ حجراته وأبهاؤه الفسيحة.
أمام هذا البيت الكبير كانت هناك حديقة كبيرة، حافلة بأشجار حمراء بلون النار، وزرقاء ممعنة في زرقتها، تتألق أوراقها مثل الذهب، وتشبه أزهارها شمسا ساطعة ملتهبة. وكان تراب الحديقة ذا لون أزرق براق. لون لا مثيل له، في كل أنحاء البلاد الكبيرة. وعندما تكون مياه مقرن النيلين ساكنة تماما، تصبح الشمس أشبه بزهرة أرجوانية اللون، يتدفق من كأسها ضوء العالم. هذه الحديقة هي إمتداد كبير، يصل حتى الغابة، عند التخوم التي تفصل "الفتيحاب" بالنيل. في هذه الحديقة كان خشم الموس يجلس لفترات طويلة، كأنه يغرق في تأملات أو صلوات سرية عميقة. يفعل ذلك كل يوم، قبل أن يواصل سيره إلى الغابة، حيث يقف تحت شجرة السنط العجوز، ليروي مسامعه بغناء طائر الجنة الملون.
شاع بين سكان البلدة القديمة، ان كل من يتجاوز نهاية حديقة خشم الموس، يصل إلى هذه الغابة الجميلة، ذات الأشجار العالية التي تتدلى إلى حافة النيل، الذي يتضاءل عمقه عندها، وتصبح مياهه شديدة الزرقة، حيث تبحر المراكب الشراعية وهي تكاد تلامس الأغصان.
في قلب هذه الغابة نهضت شجرة السنط الوحيدة، التي سكنها طائر الجنة الملون، بجسمه الضئيل وصوته الرخيم العذب، الذي يترع القلوب بالحنين. حتى أن الصيادين الذين يطرحون شباكهم ليلا في النيل، كانوا عندما يسمعونه، يقفون بخشوع، وما أن يجذبوا شباكهم، حتى يجدونها أمتلأت بالسمك الضاحك، الذي يبدو كأن الابتسامة لم تفارق وجهه أبدا!!
حول بيت خشم الموس وحديقته والغابة الكبيرة التي يفصلها النيل عن الفتيحاب، نسج أهالي البلدة القديمة حكايات عديدة. تناقل بعضها أحفاد خشم الموس الكبير بعد عشرات السنين.. تزعم هذه الحكايات، أن آل خشم الموس من سلالة حوريات النيل، اللائي كان أهلهن يرمون بهن إلى النيل قربانا للخصب والنماء. خرجت من بينهن الحورية نوار، ذات ليلة مقمرة، ووجدت خشم الموس جالسا عند قيف المقرن. من نوار أنجب خشم الموس الكبير إبنه الوحيد "الكرسني" الذي تحدرت من صلبه ذرية بعدد الرمل في قبضة الجاروف!!
تضاربت الحكايات حول نوار، لكنها أتفقت جميعها،على أنها ماتت بعد ولادة الكرسني بقليل. ومثل موتها المفاجيء كارثة على حياة خشم الموس، إذ أغلق بيته دون الناس، وأصبح معزولا عن البلدة، حيث أصبحت حياته، كل حياته تتمحور بين رعاية الكرسني، وغرفة مخطوطاته وأوراقه حائلة اللون، التي يحبس فيها نفسه لوقت طويل.
عندما كبر الكرسني قليلا. لم يكن خشم الموس يسمح له بالخروج بعيدا،عن حدود البيت والحديقة، وكان الكرسني يتوق لأن يكبر سريعا، ليفلت نفسه من حصار هذه الوحدة والوحشة، التي لا أنيس له فيها، سوى صوت طائر الجنة الملون، الذي يأتيه تغريده هادئا في المساءات والصباحات الباكرة. كان تغريده ساحرا يأتي من البعيد. من أعماق الغابة التي تمتد أمام الحديقة. وعندما يسمع صوته العذب، تترقرق دموعه حتى تسيل على خديه، إذ يمس صوت طائر الجنة الملون شغاف قلبه، مستعيدا إلى مسامعه غناء والدته، عندما كان بعد لا يزال في رحمها وهدهدتها له عندما كان وليدا في المهد. وعندما يصمت طائر الجنة الملون في الصباحات مع إطلالة الشمس، ينهض من سريره ويمضي إلى الحديقة ليلهو برعاية الورود والأزهار..
في لحظات نادرة يهتم خشم الموس بمحادثته،عن العالم حوله في البلدة القديمة، ثم لا يلبث أن ينسحب إلى غرفة المخطوطات، ليحبس نفسه فيها حتى إنقضاء اليوم، تاركا الكرسني لوحدته المعذبة مرة أخرى، فلا يجد الكرسني أمامه سوى أن يشغل نفسه بالأزهار والورود التي حوله، محاولا زرعها في كل مكان من ارض الحديقة الكبيرة. ذات صباح بعيد وبينما كان يحفر في أرض الحديقة، أصطدم معوله الصغير بشيء صلب، فنبش المكان حوله.. كشف عن تمثال صغير.. تمثال رخامي لإمراة جميلة، أحس بها تشبه أمه نوار، التي تركته وراءها لليتم. وضع الكرسني التمثال في قلب الحديقة وزرع جواره "شتلة" نيم. نمت شتلة النيم إلى شجرة كبيرة. نمت بسرعة، متكاثفة الأغصان، متدلية بالوان قوس قزح. نشات بينه وبين الشجرة علاقة حميمة. كان كثيرا ما يشعر بها، كأنها تتحدث بلسان التمثال الرخامي، عبر همسات أغصانها وحفيف أوراقها. كأن الأفكار والصور والأخيلة، تنبعث منها إلى رأسه مباشرة، تحدثه عن الغابات والنيل والصحراء الشاسعة، والبحر البعيد:
«عندما تصل سن البلوغ، سيسمح لك خشم الموس بالإقتراب من عالم البلدة، وعندئذ ستجلس تحت ضوء القمر على ضفة المقرن، تنتظر حبيبتك الجميلة، وترى كل شيء يسير إلى جوارك، وتتعلم كيف تميز بين الناس والناس»
تقول له أمه الشجرة.. فيزداد توقه إلى التحرر من عالم البيت الكبير، والحديقة وغابة خشم الموس، وإلى عالم البلدة الغارقة في الوسن يرحل بخياله.. في الليالي شديدة الحلكة كان يقف، خلف نافذة حجرته، يرمي ببصره إلى البعيد، ويفكر فيما ينتظره، عندما يخرج من قلب بيت خشم الموس إلى عالم البلدة القديمة مر الزمن بطيئا ومتثاقلا، إلى أن وصل إلى السن التي تمكنه من التحرر من عالم خشم الموس، فخرج في ليلة مقمرة، يتجول على ضفاف المقرن. جلس على الشاطيء، وتطلع إلى البلدة التي تقع على الساحل، حيث كانت أضواء القناديل تلمع مثل نجوم تتناهش ذؤاباتها الريح الهادئة. والموسيقى تعزف في "ريفيرا" الموردة و "القراقير" يضجون بالغناء. كانت الضجة التي يصدرها الناس والعربات تبدو له بعيدة، كانها تتناهى إليه من حدود الكون. تردد في الاقتراب من ذلك العالم. حسم قراره، وعاد إلى البيت الكبير. كان بعد لا يزال أسيرا لعالم خشم الموس، الموحش بوحدته المعذبة، وغموضه الذي لا حد له، غموضه الذي يبعث على الأحاسيس المتضاربة. عندما دخل البيت وجد خشم الموس ينتظره بقلق في البهو الواسع. نظرا إلى بعضهما في صمت. لم يجرؤ أحدهما على قطعه. ثم أنسحب كل منهما إلى حجرته.
ثمة حكايات عديدة حاصرت آل خشم الموس، بعد عشرات السنين. تزعم أحداها أن الجد الكبير "خشم الموس" إنما هو ابن أحد أمراء المهدية الذين نبذوا في عهد الخليفة التعايشي، بعد نجاته من معركة توشكي. بسبب جرأته التي كان يبديها ضد الخليفة. هذه الجرأة التي لازمت حياة خشم الموس من دون كل الأمراء، إذ لم يكن يطيع للخليفة أمرا، وقد سيطرت عليه ذكرى رفاقه الذين قضوا في توشكي. كان اقصاءه عن الحياة العامة جندا أساسيا للخليفة وأعوانه من الغرابة، لكن ليس لهذه الرواية أي سند تاريخي موثوق، مثل كل الروايات التي تم تأليفها من قبل أولاد البحر، لإضعاف إرادة الحكم الرشيد في الخليفة، تمهيدا لإستيلاءهم على سلطة الدولة، لإدارتها لصالح مجموعتهم الشريفة، التي جاءت على ظهر النوق من جزيرة الربع الخالي، كما يزعم مؤرخي آخرؤ الزمان. الحكاية الرسمية التي تناقلتها أجيال الأسرة، حول إنقطاع خشم الموس للعبادة، بعد تكوينه لثروة كبيرة من الإتجار في الرقيق، أكثر معقولية، لكن ثغرتها الأساسية تكمن في أن خشم الموس لم يكن "فقيرا" بالمعنى الفقهي، إذ كان جل اهتمامه منصبا على السحر والخيمياء، وهكذا يصعب التأكيد على أن انقطاعه كان للعبادة، كما أشاع أولاد البحر.
تمكن خشم الموس من صنع مرآة سحرية يمكنها أن تجعل كل ما هو جميل يتضاءل إلى لا شيء. بينما كانت الأشياء القبيحة عندما تنعكس على سطحها تتضاعف وتتمدد، بصورة مرعبة، كما أن كل جميل على سطحها يبدو مسخا مشوها ومرعبا. كما لو كان واقفا على رأسه دون جسد، بملامح مبتسرة، حتى أن أقرب الأقربين إليه لا يمكنه التعرف عليه. وظلت هذه المرآة أحد أسرار خشم الموس، التي لم يفصح عنها أبدا، إلى أن اكتشفت نوار سرها مصادفة عندما نسى خشم الموس، تخبئتها كالعادة قبل مغادرته إلى الغابة، للإستماع إلى طائر الجنة الملون. نظرت نوار إلى المرآة فرأت شكلا غير شكلها، فدهشت وكررت الأمر أكثر من مرة، فتعاظمت دهشتها.. وضعت المرآة أمام وجه الكرسني، فرأت شكلا غير شكله الطفولي، أصيبت برعب حقن حلقها بالجفاف.. ومرت في لحظة خاطفة كل وقائع حياتها القصيرة مع خشم الموس.. منذ تزوجا حتى تلك اللحظة المباغتة التي كررت فيها عرض وجه الكرسني أمام المرآة.. فبدت المرآة "كشيء" حي.. بشع. يلتهم الوجوه ويبصقها حيّة. مشوّهة!
وهي تستعيد حياتها مع خشم الموس في تلك اللحظة المتوحشة، الكاسرة. توقفت وقائع حياتها عند لحظات معينة: وهي ترى خشم الموس يلملم أوراقه بسرعة، كلما فاجأته خلسة في غرفته السرية، المليئة بالمخطوطات. المعبأة بروائح التاريخ والاسرار والمعارك، التي لا تخلو من إنتصارات شحيحة، لكن لا تشم سوى عطن الهزائم والمرارات كلما دخلتها. وتراه ـ خشم الموس ـ في تلك اللحظات التي تختلسها لتفاجئه في الهزيع الأول من الليل أو على عتبات الفجر، متسحبا يمضي إلى غرفته السرية ـ قبلها ـ تكون قد بحثت عنه طويلا في أرجاء البيت الكبير، دون أن تعثر له على أثر. كل الأشياء المريبة في حياة خشم الموس، بدأت تخطر لحظتها، محاصرة وقائع حياتها، التي تمر الآن بسرعة، كشهاب منزلق في رئة السماء.. شهاب يتجه نحوها، فيختلط رعبها بناره المحرقة، التي تصيب المرآة، فتتحطم إلى شظايا صغيرة، تتبعثر في الهواء كالقش الجاف، تخطفه ريح عاصفة، كذرات.. ذرات تذروها لعنة خفية فتملأ فضاء البلدة، المقموعة في ذاكرة التاريخ الاجتماعي الفعلي للبلدة القديمة.
أصابت الشظايا بعض الناس في عيونهم، وجعلتهم يرون كل شيء في صورة شائهة، وجعلت بعضهم لا يرون سوى الجانب السيء في كل ما ينظرون إليه، سيان إن نظروا إلى بعضهم البعض أو إلى الحيوانات والنيل، وهذه الأرض التي نبتوا فيها! والذين أصيبوا بشظية في قلوبهم، أصبحوا باردي القلوب، تيبست مشاعرهم وأحساساتهم التي كانت ندية ذات يوم.. صاروا لا يشعرون بآلام وأحزان غيرهم، إلى غير رجعة.
في اليوم التالي لتحطم المرآة ماتت نوار. فتغيرت حياة خشم الموس والكرسني إلى الابد. لم يعد خشم الموس يمضي إلى الغابة، ليستمع إلى غناء طائر الجنة الملون، وغرق الكرسني في وحدة اليتم الموحشة. هذه الوحدة التي حكمت حياته، ولم تتحطم إلا بعد أن أصبح يغادر البيت، ويتجول في البلدة القديمة ومقرن النيلين. حيث يجلس في مكان أثير، منخفض. عند الضفة.. يحجبه هذا المكان عن عيون الناس، فيتمكن من رؤيتهم دون ان يتمكنوا من رؤيته. ودون ان ينتبهوا للعيون المجهولة التي ربما خالجهم إحساس غامض ذات مرة بأنها تراقبهم.
وكان ذلك اليوم الذي أنقذ فيه "العينة" إبنة العمدة من الغرق.. كان عمدة البلدة القديمة، رجلا واسع النفوذ. اشاع الخبثاء أنه يستمد نفوذه من انتماءه لسلالة الاتراك، بل وأكدوا أنه هو نفسه بلحمه وشحمه، أكد أكثر من مرة في مجالسه الخاصة، أنه يتحدر من بيت محمد علي باشا، وذلك كي يقطع الطريق على أي روايات محتملة، تزعم نسبته للاتراك الذين أختلطوا ببعض سكان الشمال ـ اذ كان الرجل حريصا على تأكيد، أنه ليس من سلالة الاتراك الذين أختلطوا ببعض سكان الشمال. ولم تكن هذه مزاعمه هو وحده بل مزاعم كل عائلته الكبيرة، التي ظلت تتمتع بنفوذ كبيير بإسم هذه المزاعم. لكن عندما ولى عهد الأتراك تحت ضربات معاول المهدية، فقد آل للعمدة نفوذهم، الذي لم يتمكنوا من إسترداده مرة أخرى أبدا، الا بمجيء الإنجليز، اذ حرصوا على التعاون مع الجيش الغازي، علهم يستردون شيئا من المجد والنفوذ القديم ـ كما أعتقدوا دائما ـ ولم يبخل عليهم جيش الغزو، فكانت لهم حظوة ليس لها مثيل في ماضيهم الغابر.
إذ هيمنوا على زراعة القطن وتجارة الخشب، بعد أن كسدت تجارة الرقيق التي برعوا فيها. أشرع لهم الانجليز كل المنافذ، وهكذا تحولوا إلى طائفة ثرية، لكن ترتدي مسوح الدين، اذ استخدموا براعتهم السابقة في تجارة الرقيق، والخبرة التي اكتسبوها من تصدير القطن والخشب، في التسويق لانفسهم كأولياء صالحين، وهكذا بدأوا يركزون على نسبهم لآل البيت النبوي، موثقا بختم الآستانة، وهكذا بدأو يلعبون دورهم الاجتماعي السياسي في البلدة القديمة، بطريقة مختلفة، تعتمد استدرار العواطف الدينية، و "الضحك على الذقون"! وهكذا تعاقب كل عمد البلد من سلالتهم ذات التاريخ المجيد! ولم يقف الأمر عند هذا الحد فبعد خروج الإنجليز كان المرشحين في الانتخابات، معظمهم ينتمون بطريقة أو أخرى لآل عمدة البلدة القديمة، وان لم تربطهم بهم صلة رحم مزعومة، فهم من رعايا طائفتهم النافذة.
يذهب البعض إلى أن الدماء التي تجري في عروق آل عمدة البلدة القديمة، ليست نبوية مقدسة أوتركية متسامية فحسب، بل ثمة دماء انجليزية نبيلة أيضا.. ويدعي هؤلاء أن فتيات آل عمدة البلدة القديمة الجميلات عشقن بعض اللوردات الانجليز، الذين تعاقبوا منذ حملة غوردن مرورا بكتشنر وانتهاء بكرومر وسير لي ستاك، وأثمر هذا العشق ثمارا لا تقل وسامة وجمال عما تصفه الحكايا عن جمال الحوريات والجن. فآل العمدة هم أنسباء الحاكم العام، الذي كان قد رأى إحدى بناتهم، فتدله بحبها، وطلب يدها في التو واللحظة التي رآها فيها، فوافق آل العمدة دون أن يأبهو لموقف رجال الدين، الذين تبقوا من الفيالق المقاتلة للإنجليز.
وافقوا.
فمضى الحاكم العام يخاطب من عاصمة المستعمرة، التي "ضحك فيها القدر" زوجته في عاصمة الأمبراطورية التي "لا تغيب عنها الشمس"، طالبا منها الشروع في الموافقة، على إجراءات طلاقه منها، ضاربا عرض الحائط بثورة الكنيسة ضده وضد موظفي جلالة الملكة، في مستعمرات أفريقيا العجيبة. الذين كانوا بسبب الطقس الحار مستثارون إلى أقصى حد، مما جعل لحياتهم السرية نكهة قوية تخطت حدود الاستواء، فلامست الضباب! وهكذا أصبح كل ما هو سر حاولوا إخفاءه، معلنا. تفوح رائحته القوية في تقارير رجال البريد والسرك، والحقيبة الدبلوماسية، عليه بصمات كتبة التقارير الشوام الواضحة، والتي لاتخطئها عين أو استنتاج، مهما كانت العين حولاء، او الاستنتاج ضعيفا!
يحكي أهالي البلدة القديمة في هذا السياق،حكايات لا أول لها ولا آخر، تفضي كلها إلى نسيج محكم عن سيرة آل خشم الموس، إذ تفيد بعض هذه الحكايات، أن الكرسني بعد أن خرج من عزلته البديعة، وأصبح يتجول في انحاء البلدة القديمة، لفت إنتباهه احد البيوت الكبيرة، التي تضاهي بيت والده فخامة وجمالا. كان ذلك البيت الفخم الذي نهض عند مشارف "الفتيحاب" هو بيت عمدة البلدة القديمة، الذي بعد أن ماتت زوجته، مخلفة وراءها طفلته الصغيرة "العينة"، أخذت والدته العجوز تتعهدها بالرعاية، وتدير شئوون البيت الكبير، وتحكمه كملكة خارجة للتو من قلب "اسطنبول" في لحظات مجدها الغاربة. كانت الجدة العجوز تبدي لحفيدتها "العينة" محبة دونها يهون كل شيء. ولم تكن تسمح لها بالخروج عن حدود الدار الكبيرة، دون رفقة آمنة من الخدم والحشم.
كانت العينة تواقة منذ طفولتها وصباها للخروج من عالم الجدة العجوز وابنها العمدة، إلى عالم البلدة القديمة الرحب. إلى أن سنحت لها الفرصة ذات يوم، فانسلت خلسة يتآكلها الفضول، فخرجت لا تلوي على شيء، إلى ان اقتربت من النهر، ورأت على ضفته تلا أخضرا، وغابة خلفها بيت مميز كبيتهم. كانت اضواء البيت تبدو من بعيد خافتة مترقرقة كندى، وأصوات العصافير التي تزقزق خلف تغريد طائر الجنة الملون هادئة، تبعث على الإحساس بالسلام والصفو. وقتها كانت الشمس قد بدأت تغوص في الأفق والسحب تضيء بألوان ذهبية زاهية. براقة. تتألق في سماء شاحبة اللون، وقد بدا الهواء عليلا، والنهر أملسا كمرآة صافية، أو كسيف العمدة الصقيل، والقوارب الشراعية تمخر في هدوء يثير غناء الصيادين العذب، فيترعون كلماتهم بحنين وأنين.
أقتربت العينة من النهر أكثر فأكثر، حتى لامست بقدميها الصغيرتين المياه، التي تلامس ضفة النهر في شغف مثير.. اقتربت من احد المراكب الشراعية الصغيرة، حلّت رباطه عن الضفة، وأمسكت المجذاف تحاول أن تنطلق.. كانت رغبتها العارمة في ركوب النهر تهيمن عليها، وتدفعها دفعا كقوى قاهرة لا قبل لها بها. كانت كالغائبة عن الوعي، و كأن قوى أخرى خارجة عن إرادتها، تسيرها وتتحكم فيها. تغير الجو فجأة، وعلى نحو مباغت أصبحت أمواج النهر تهدر، وشيئا فشيئا أخذت تعلو مزبدة، ونذر عاصفة ساحقة تلوح في الأفق. عندما حركت العينة المجذاف، وقع بصر الكرسني عليها، من موقعه المنخفض على ضفة النهر. شعر بقلبه يخفق بشدة.
أخذت المراكب الشراعية ترسو على ضفتي النهر، وبدا الضباب الذي يسبق العاصفة ينتشر. وبدت العينة للكرسني بعيدة، مذعورة. نهض من مكانه ودخل إلى الماء، يسبح محاولا اللحاق بمركبها المتأرجحة، التي تبحر دون هدى.. بعيدا، بعيدا.. بدت له الرؤية صعبة مع انتشار الغيم. حاول ببصره المدفوع بضربات قلبه المرتفعة، اختراق الغيم للإمساك بالموقع الذي أبحرت فيه العينة. غاص تجاهها، بعيدا بعيدا في النهر. ووجيب قلبه يشتد، والموج هادر، ورأسه يدور كحجر الطاحون.. بدأ الموج يتلاعب بمركب عينة أكثر فأكثر جيئة وذهابا. والزبد الذي في أعماقه، كأنه يخرج ليدفع الموج إلى أعلى، فتندفع مركب العينة بعيدا عنه. يحاول جاهدا تحديد مكانها. يتتبع صراخ العينة المتقطع. كانت مركبها تتحرك بسرعة مع أرتفاع الموج عاليا كالزفير. وكانت السحب الكثيفة قد تجمعت في السماء، وأخذ الرعد يدوي بشدة.
أدرك الكرسني أن هذه العاصفة التي توشك على الهبوب، لا محالة ستقضي على العينة، وقد تقضي عليه معها، لكنه أستمر في السباحة خلفها.. على نحوٍ مباغت إندفعت موجة كبيرة، قلبت المركب، فانكفأ مرتجا، بصوت مكتوم في هدير الموج. الممزوج بصراخ العينة الحاد. اقترب منها الكرسني، مخترقا حصارات الخطر الذي يحاصرهما. سبح تجاهها مغالبا المخاوف والهواجس وقواه التي بدات تخور، جمع كل طاقة سلالته ذات النسب المقدس، والتركي النبيل في دفعة واحدة، محاولا قهر الامواج المتصاعدة، والحلكة التي بدأت تخيم على النهر. لمع ضوء البرق الخاطف، فوجد نفسه قد أقترب منها. سبح تجاهها وأمسك بها. كانت منهكة. خائرة القوى. لا تستطيع رفع رأسها المسكون بالخوف والرعب، كأن كل كوابيس البلدة القديمة، تتوغل لحظتها في إحساساتها ومشاعرها، وتدفعها دفعا للغياب،الذي يشد رأسها بقوة، خارجا بها إلى اللحظة الفاصلة بين الوعي واللاوعي، دون ان تتمكن من رفع رأسها لرؤية هذا الفارس المنقذ، الذي تخاله وهما حميما، يتخلل كوابيسها الممتدة في ذاكرة البلدة القديمة. كان الكرسني قد أمسك بها بقوة، وأخذ يدفعها إلى الشط.
من صلب الكرسني والعينة تحدر أبناء وأحفاد لا حصر لهم، انتشروا في كل أنحاء البلاد الكبيرة إنتشار النار في الهشيم، لكن لم يبق منهم سوى إبن واحد، هو الجد الذي ينحدر من صلبه عجبين خشم الموس. الذي لطالما كان في ليالي السمر العائلية، يحكي لأبناءه وأحفاده، عن جده خشم الموس الكبير، وعن جدته نوار وعن البيت الكبير في البلدة القديمة، عند ضفة النهر. وهذا البيت الذي لم يتبق منه سوى أطلال تحكي ذاكراتها،عن أمجاد ذوت في تقلبات الزمان وتحولات المكان. هذه الحكايات العائلية مثلت محورا لعالم عجبين، الذي كان مسكونا بها منذ طفولته الباكرة، إلى درجة أنه يخال نفسه أحيانا خشم الموس الكبير، أو إبنه الكرسني، ويتصور حبيباته كنوار والعينة، فينظرون إليه بغرابة كأنهن يتهمنه بالجنون، فيبتلع ريقه ويحسر عينيه الجاحظتين، ويكظم غيظه، محاولا إخفاء تورماته، ثم لا يلبث أن ينسى كل شيء،إذ يدهمه حسنين التائه.. حسنين التائه؟!
(5)
خلعت هناء فستانها. خلعت جونلتها الشفافة، أبقت فقط على الكلوت والمنهدة، وأخذت ترقص بجنون على إيقاعات الجاز المحمومة، المنبعثة من جهاز الستريو الصغير.. رقص عجبين معها بذات الجنون.. رقصا معا في لهفة وشغف حتى نال منهما التعب، فارتميا على السرير منهكين، لاهثي الانفاس. هدأت أنفاسهما قليلا فدفعت هناء برأسها إلى صدره، واخذت تداعب أصابعه التي أخذت تتسلل وتغوص بعيدا، وتتنقل لتعبث بأزرار منهدتها، وتعاود الغوص مرة أخرى، وبصره يتعمق في الذاكرة، مع تسحبات أنامله إلى مواطن الدفء المنتفخة. يتعمق في ذاكرة نائية، حيث الهواء منعش وأشعة الشمس دافئة، تغمر فناء البيت الصغير وتتخلل شجرة السنط العجوز والورود والأزهار، في الأصص المنتشرة في كل مكان من الفناء.
كانت الشجرة العجوز تجف، تصفر أوراقها، تيبس. تتهاوى إلى قطع صغيرة، تشتعل فيها النار فتئن أنينا شديدا، كأنه إنفجار مكتوم. ثم لا يلبث رمادها يتبدى عن جذع ناهض بأغصانه المتشابكة، التي تخضر وتخضر، حتى لتبدو ريانة بالحنين، الذي لا تخلو منه وجوه الأربعة الذين لا يزالون جالسين، على أعتاب الليل، الذي يمضي بخطى متثاقلة، والصمت الذي قطعته آخر زفرة، لا يزال يخيم دون أن يتجرأ أحدهم على قطعه. هذا العواء الذي يشق قلب الليل، ساريا في فضاءات البلدة القديمة، مخترقا نافذة غرفة عجبين، مارقا مروق السهم من الرمية. هذا العواء الموحش، الموجع، يخرج من قلب حواري البلدة القديمة، ليلامس مسامعه دون أن يثير داخله أي استجابة.. إنها لعنة الحياد. أن تكون محايدا في مشاعرك تجاه الناس، الذين فقدتهم أو فقدوك، أو أيا كانت التسمية: لا كره، لا حب ولا أي شيء سوى نظرة ثلجية باردة، ترميها خلفك بين آن وآخر، فهكذا يصبح للذكريات دلالة مختلفة، دلالة لا علاقة لها بالذكريات أو الحنين.
على الجدار الصلد لا يزال عجبين يحاول تعليق مرآته المشروخة، ينظر إليها فلا يرى ذاته. يتجسد أمامه حسنين التائه، مخرجا لسانه. محركا إبهاميه على أذنيه، يغطي المرآة المشروخة بملاءة رمادية، وهو يحاول طرد شبح حسنين التائه من خواطره الكثيفة. في الأيام الخوالي لإتخاذه موقفا من صداقتهما وتأكيده القطيعة بالقول والفعل، حصل عجبين على حصته من الشعور بالحزن والألم، إلى حد إستنزاف كل مشاعره، لم يبق له حتى ما يحزن به على مرارات أيام قادمات ـ ربما ـ لشدة لوعته وأساه شعر بأنه أهدر كل طاقة الإحساس بالفقد، وهكذا لم يعد عجبين هو الشخص ذاته ذاك الذي يهتم بتكوين صداقات. جلس عجبين في مقهاه الإثير. أخيرا مضى كلاهما في إتجاهين متعاكسين.. هكذا افترقا دون ندم. دون مرارات معلنة. دون حزن مباشر، كما تمنى منذ أن بدأ يلاحظ التغيرات،التي طرأت على شخصية حسنين. لم يكن ثمة أحد يتصوَر أن تأتي هذه اللحظة، على الرغم من أن الجميع كانوا يتوقعونها منذ وقت طويل، بسبب الإختلاف الواضح بين الشخصيتين، وعدم تكافؤ علاقتهما ـ حدث عجبين نفسه.
فعجبين بقدر ما كان لطيفا ومهذبا، بقدر ما كان منطويا.. كانت حياته متشابكة مع ذاكرة البلدة القديمة. معقدة تعقد دروب البلدة وحواريها وأزقتها الضيقة. ليست ببساطة حياة حسنين، التي نهضت في الجرأة حد الوقاحة والإختلاط. لا يجد نفسه إلا في ضجيج المجتمع والمرح وتزيين عنقه ومعصميه بتلك العقود الخرزية الملوّنة. كان نموذجا للبرجوازي الصغير المتمرد على قوانين الطبقة الوسطى التي أنتجته، الطبقة الوسطى المسكونة بخزعبلات التمدين.
كان حسنين إذن يهتم بقشور الحياة وسقط أفكارها، دون أن يتمكن من عبور الخط الفاصل بين جوهرها والشاطيء الآخر لحياته، التي تتجلى فقط في المرآة المشروخة. حياته المفترضة غير المتحققة في الواقع. كيف كان حسنين ينظر إلى عجبين قبيل إفتراقهما الوشيك. كان يراه كجاحد وناكر للجميل. نسى كل تلك الأيام، التي كان يلتقيه فيها، منهكا مكدود الوجه والخاطر بسبب الإرهاق والجوع والتفكير الممض، فيطعمه ويواسيه. الوحيد الذي وقف معه مخففا عنه متاعب الحياة وهمومها.. لم يسأله شيئا إلا وأجابه. منحه من الحب ما لم يحلم به يوما. وبعد كل هذا يتنكر له الآن، ناسيا كل شيء "ياله من وغد!". يتنهد حسنين التائه في أسى، وهو يؤكد لنفسه "ليس ثمة سبب يجبرني على إحتماله. فلينتهي كل ما بيننا، وليذهب كل شيء إلى الجحيم". كان حسنين يكرر لنفسه.
في هذه اللحظة ذاتها كان عجبين يتساءل: لماذا يجهد حسنين نفسه كل هذا الجهد، ليقلل من إحترام عجبين في نظر الناس، بهذه الطريقة الملتوية، والاساليب المراوغة الماكرة. هل من المعقول أنه يكرهه إلى هذا الحد المدمر؟!.. وظل هذا السؤال على وجه الخصوص معلقا في فضاء ذاكرة عجبين خشم الموس، دون إجابة محددة. في كثير من النقاشات التي دارت بينهما، كان رد حسنين معلنا وجاهزا:
ـ أنت تتخيل ذلك، لأنك تتصور نفسك كإله.. أنت مجنون.. أقسم أنني لم أقصد الإساءة إليك..
الرد ذاته إثر كل خلاف، حول أساليب حسنين الملتوية، المراوغة.. يئس عجبين ولم يعد يهتم لأي حوار، مع حسنين حول سلوكه العدائي تجاهه. كان قد بدأ يشعر بأنه لم يعد للأمر أهمية على الإطلاق، فحسنين لم يعد يعنيه كما مضى، بالتالي لا أهمية أو جدوى من خوض أي حوار معه. وهكذا أفترق عنه في صمت.
نشأ عجبين في أسرة ظلت تتقلب في ذاكرة البلدة القديمة، وحكاياها عن آل خشم الموس، كآخر أساطير الغرباء. الأمر الذي كان كافيا لأن يمنحه الإرادة اللازمة لصياغة قدر مختلف. أمام مقهاه الاثير، يمر الماضي في أشكال الناس وملامحهم. يغذي فيه الإحساس بالكرب كشاعر مسكون بحمى الذكريات، وآلام الصراعات التي رغم تقادم العهد، لا تزال تخز دواخله كالشوك القتاد، وهو يتوغل عميقا، عميقا أقصى ثمرة الفؤاد، مخلفا وراءه مزقا ودّم، يتشكل منهما طيف صديقه القريب/ البعيد.. حسنين وهو ينحسر كموجة، موجة عاتية تأخذ معها بنايات البلدة القديمة، والناس وملامح الزمن الغابر، فلا يعود لطيف حسنين الذي أحب ذات يوم، من وجود سوى فيما تبقى من ألم، يحاول أن يتخطاه بكل ما وسعه. اللحظات الجميلة التي عاشاها معا، كانت في إحساساتها أشبه بمشاعر المحبين، كأخوين، أكثر من صديقين. كرسا لعلاقتهما، التي صارت حديث البلدة القديمة في المحبة والوفاء. كانا لا يفترقان إلا للنوم، وأحيانا ينامان معا في بيت أحدهما، أو بيت صديق مشترك. يشعر كل منهما بألم الآخر. هواجسه، همومه حتى دون أن ينبس ببنت شفه، فما الذي حدث لتتعرض علاقتهما بعد كل هذه السنوات للشروخ والتصدعات، وتتلاشى شخصيتيهما القديمتين، لتحل داخل كل منهما شخصية أخرى، لم تكن موجودة من قبل، على أنقاض الشخصية القديمة.
زفر عجبين وهو يعالج في ذهنه تحولات حسنين، التي أطلق عليها "الأزمة التاريخية للصديق المدعو حسنين". انه لا يعرف بالضبط متى بدأت التحولات تعتري شخصية حسنين، لكن ثمة محطات فارقة كانت تؤكد، أن ثمة شخص جديد يتشكل. في لحظات صفوّه يحاول أن يتغلب على ألمه، ويستعيد تلك المحطات الغارقة في شفق المغيب، فتقفز إلى ذهنه تلك اللحظة قبل سنوات، في قلب المحطة الوسطى للبلدة القديمة، حين أحتدم بينهما سجال عقيم حول "الوجود والعدم"، فانفجر حسنين في وجهه، متهما إياه بالإلحاد. كان سجالهما هادئا عندما بدأ. لا يشي أبدا بالإنفجار الذي يطويه داخله، حتى فاجأه حسنين بتنمره عليه دون سابق إنذار. لا يدري حتى الآن ما السبب الحقيقي، الذي جعل حسنين ـ لحظتها ـ يمتليء بكل هذه الروح العدائية.. ربما لأنه بدأ مؤخرا، يهتم لأمر "الديانات الجديدة" التي أفرزتها "العولمة"، هذه الديانات العجيبة التي تسللت عابرة القارات، كأن العالم تنقصه مزيد من الديانات، أو بحاجة لأنبياء جدد!.. ربما أن لإنفجاره المباغت علاقة بتلك الطائفة السرِّية، التي أصبح أحد مريديها، فقط ليثبت لنفسه أنه شخص "مميز"، أو "مثقف" لا يمت للرجرجة والدهماء بصلة، أو أي شيء آخر من هذا القبيل. كان مزاجه قد تبدل فصرخ في وجهه، بطريقة بشعة في هذه اللحظة بالذات: بين زحام الناس والعربات.
بعد سنوات طويلة، عندما يستعيد عجبين هذه اللحظة، يستوثق أن حسنين كان يتطلع إلى المعرفة، ولم يكن راضيا بأداء دور المستمع الذي ظل يلعبه، منذ نجح عجبين في ترويضه. وحاول مساعدته بأن مده بالكتب المنتقاة بعناية، وعمل على توجيه قراءاته. كان يحاول بذلك ان يؤسس فيه أرضية مشتركة بينهما، لكن حسنين سرعان ما ملّ القراءة، فالقراءة عزلة، وهو لم يعتد ـ في كل حياته التي لا تخلو من شجن ـ على العزلة.. فكل حياته التي تبدأ في الصباح الباكر، ولا تنتهي آخر المساء، تنهض في الحركة تجاه الناس، ولقاء الأصدقاء الجدد ـ دائما لديه أصدقاء جدد ـ الذين سيصبحون "قدامى" قريبا. وشباب الحي السطحيين الذين يحبهم ـ لأنهم يشعرونه بأهميته ـ اذن كان لا يجد نفسه إلا في هذه الحركة النشطة في قلب مجتمعه، المتنوِّع بكل فئاته. بعد سنوات عدة، ستبدأ تتكون في داخل حسنين مشاعر عدائية تجاه هذه الفئات، إذا يبدأ في "الظن" أن الآخرين يستغلونه لتحقيق أهدافهم، ويتنامى داخله هذا "الظن" بصورة مرعبة، ويتحوّل إلى هاجس، يشعل فيه روح العداء ـ غير المعلن ـ أكثر فأكثر، تجاه مشاريع الآخرين!!.. هذه المشاريع التي يتصور ـ لا يدري أحد من أين جاء بهذا التصوّر ـ أن الفضل في نجاحها، إنما يعود له وحده، هو شخصيا!!..
أول مرة تعرف فيها عجبين على حسنين، لم يرقه أبدا، إذ بدا له وقحا، فنفر منه. لكن حسنين ظل يلاحقه دون أن يدري لماذا؟!.. فيما بعد أدرك عجبين أن حسنين يحاول دائما أن يكون مقربا من الأشخاص الذين يعتقد أنهم مميزين. لا يزال عجبين يذكر أول لقاء فعلي لهما بعد أن تمكن من ترويضه، محولا إياه إلى تلميذ نجيب، كما قرر في نفسه وقتها. كان يجلس لحظتها في أحد البنشات الخارجية لكلية الإقتصاد والعلوم الإجتماعية، يقرأ جورج أمادو في (الدونا فلورا وزوجاها الاثنان). لا يزال يذكر ذلك بوضوح حتى الآن ـ عندما أقترب منه حسنين يحييِّه، فلم يجد بدا من دعوته للجلوس. مدّ حسنين يده يأخذ الكتاب. قلبه بين يديه وأعاده إليه. وهكذا بدأ بينهما الحوار الذي أفضى إلى صداقة متينة، استمرت لسنوات طويلة.
(6)
كان عجبين منهكا من جدالات السياسة، وأركان النقاش والسجالات التي تفسر الماء بعد الجهد بالماء. يشتهي حوارات أخرى. حوارات حقيقية في الأدب والشعر وأحوال المجتمع، وذاكرة الناس والأشياء والأماكن، وشظايا مرايا خشم الموس الكبير، التي أصابت الجميع حتى طيور الشجر، وأعشاب البرية التي تحيط أطراف البلدة القديمة.. كان يتكلم وحسنين يستمع باهتمام، وذاكرته تمتص الحديث، تحاول إعادة صياغته مرة أخرى بلغة أخرى، كان حوارا من طرف واحد، لكنه كان مميزا ـ لا يزال يذكر محاوره حتى الآن ـ.. بعدها بأيام دعاه حسنين التائه للمبيت معه، و أخبره رسميا أنه أصطفاه ليكون أستاذه.. وهكذا أصبحا ينامان في وقت متأخر من كل ليلة، بعد أن يكون عجبين قد إستفرغ في وجه حسنين، كل قراءاته في المعرفة والأيديولوجيا والأدب والفن. وذاكرة حسنين كالفلين تمتص كل شيء..
أول ليلة قضاها عجبين مع حسنين كان دهشا: كيف تخطر مثل هذه الأفكار الغريبة، على بال حسنين؟!.. ففكرة أن يكون أستاذا لشخص في مثل سنه لم تكن تروقه. بدت له غريبة، والأغرب منها "تعليم الشعر" لحظتها تلاشت كل ريبه وظنونه، حول معنى علاقتهما الوليدة، وأدرك أن حسنين يعاني في داخله صراعا حادا. يريد أن يكون شخصا بإمكانه، أن يصنع فرقا في الحياة.. ويتصور أن السبيل الوحيد إلى ذلك، هو أن يكون شاعرا أو كاتبا، إلى آخره من إهتمامات رهيبة، تحيل حياة الإنسان إلى عذاب وألم مقيم. لم يكن يدري أن بإمكان أي شخص، في أي مجال من المجالات أن يصنع فرقا. وحاول أن يقوده إلى هذه الفكرة بصبر وتؤدة.
(7)
تتضاءل ملامح البلدة القديمة. تتضاءل حتى تغيب لتحل محلها معسكرات "الدفاع الشعبي" و "أخوات نسيبة" و "المجاهدين الدبابين" و "شرطة النظام العام" و "هيئة الدفاع عن العقيدة والوطن" ـ تخرج داحس والغبراء من قلب تاريخ مقيت، ـ فينتشر الأيدز والحروب الأهلية في أطراف البلاد الكبيرة، ويصبح لكل شيء طعم آخر. طعم أي شيء سوى الذكريات الحميمة.. من قلب أطلال البلدة القديمة. على أنقاضها، تنهض المعتقلات السرية و"بيوت الأشباح" ومخابيء "الإرهابيين العرب" و "الجمعيات الإسلامية العالمية المتطرفة" فيصبح المكان. كل المكان، محض زنزانة ضيقة. حفرة مليئة بالبراغيث والهوام، يتمزق فيها الإنسان، ويتحوّل إلى أشلاء وبقايا من المشاعر والأحاسيس التي كانها.. هذه المشاعر التي يسقطها الهروب من مكان لآخر، والتخفي من الملاحقة والإعتقال.. هذه الأحاسيس التي تسقط في رحلة الهروب المستمرة. الهروب المحفوف بالمخاوف والتصورات المرعبة، التي ينبثق منها السجانين ومتعهدي التعذيب، في غرفهم ذات الإضاءات الخافتة.. غرفهم الجرداء إلا من أدوات التعذيب ومقعد خشبي قاس، يقيدونك إليه. يحرقون في جسمك العاري أعقاب السجائر، يلسعونك بالكهرباء ويجرحون باطن قدميك بالموس.
مع كل إنتفاضة من لسعة الكهرباء تفقد شيئا جميلا، أحسست به ذات يوم. مع كل حرقة نار، تفقد جزء من مشاعرك النبيلة تجاه البشر ـ هكذا هم ـ التي كنت تكنها لهم بحماس، لهم ولاشياؤهم وأماكنهم.. لهم وللمطر والشجر وطائر الجنّة الملوّن وتراب البلدة القديمة. مع كل ركلة أو ضربة حذاء أو خرطوم مياه، أو قبضة يد، تتلاشى داخلك الذكريات التي كنت تكنها للناس، حتى الناس الحقيقيين.. فلا تعود تتذكر من أنت، وماذا تريد أو كيف جئت إلى هنا.. كل ما تذكره هو هذه اللحظة التي تعيشها ككلب أجرب، إمتلأ جسده بالقروح والتمزقات والألم.. الزنزانة تنهض داخلك، تفتح أبوابها كلما أستدعاك أحد الوجوه الشائهة، للتحقيق أو التوقيع على إعتراف مزعوم، بتفاصيل ليست لديك فكرة عنها. يهددونك بكل شيء حتى الاغتصاب، أو حشر زجاجات المياه الغازية ذات الحجم العائلي في مؤخرتك، وتبدأ تتصور صعوبة الوضع: هل يا ترى سيتمكنون من إنتزاعها إذا كبست بالهواء.. كيف يمكنهم تنفيسها ليخروجونها من مؤخرتك المسكينة، المهددة بالهتك، وتتساءل ـ أهؤلاء هم الاسلاميين خبراء التعذيب هؤلاء؟ ـ وأنت تتمنى في هذه اللحظات المؤلمة لو ينتهي كل شيء، حتى حياتك نفسها.. تتذكر ندوة دكتور الباقر العفيف عن الهوية عندما أكد: بعد التوصل لإتفاق سلام، لم يكن لدى الجيش"الوطني" أسرى يبادلهم مع جيش الحركة الشعبية، ذلك لأن الجيش "الوطني" كان يقتل الأسرى..
لم يكتفوا بحرق الكنائس وقتل الأطفال والنساء والإغتصاب الجماعي. لم يكتفوا بإنتهاك كافة حقوق الإنسان، فاستحدثوا أساليب جديدة، مستلهمة من تراثهم الجاهلي ومن تراث نسبهم التركي المليء بالخوازيق!.. وعندما يعيدونك إلى زنزانتك القذرة مرة أخرى، تتمنى لو أخرجوك من معتقل التعذيب، وأخذوك إلى السجن مباشرة لترتاح.. تتمنى السجن لترتاح؟!.. تحاول التغلب على الألم، تجر جسدك لتتكيء على جدار الزنزانة، تبذل جهدا كبيرا لإستعادة ذاكرتك، فتطل بعض الوجوه: وجوه لنساء. وجوه لرجال. وجوه لفتيات شابات وشبان. وجوه تشعرك بأنك تعرفها. كنت بينها ذات يوم. تحاول إستعادة تفاصيلها، فتغيب في الضباب.. وفي الضباب تحاول ان تتذكر تفاصيل البلدة القديمة دون جدوى، لا تذكر سوى اسمها، يربطونك إلى الشجرة، يسألونك.. يسألونك عن كل شيء.. يرهقونك بالأسئلة المتلاحقة:
ـ لا أدري، لا أدري..
فيشتد ضربهم لك بقسوة أكبر. يتلاشى الألم مع تكرار الضرب. لا. لا يتلاشى، فقط يتخدر الجسم، فلا تعود تشعر بالألم. تتساءل عن معنى الألم. الالم ليس مجرد كلمة مفردة. إنه هذا الضرب. هذه الشتائم المقذعة. هذا الإذلال.. "الألم".. من "الألم" كفكرة (ذات) في عالم الأفكار، إلى ألمه الآن.. هذا (الموضوع) ـ هو.. موضوع لمشروع تلك الذات البعيدة في سرمديتها، وعالمها الأرخبيلي السديمي، حيث البرزخ الذي يحيط عالم الأفكار.. مثلما كانت دائما وتكون فكرة البلدة القديمة ك(آخر) "موضوع" لمشاريع (ذات).. ذات هناك يتجلى موضوعها في البلدة القديمة. هذا الإنعكاس في شروخات مرآة خشم الموس السحرية. هذا الشرخ الذي يعوق ذاكرته ووجدانه الآن، فتتبدى ملامح هناء غامضة كغيرها من الملامح المترحلة في عالم الأفكار.. غموض ملامح هناء يأخذ طابعه من غموض معنى الألم. غموض سيلان النزيف في الجرح المتجدد. غموض إحتضارها وهي تجهض جنينهما وتموت، تمضي إلى الأبد، كأنها لم تكن يوما..
من الألم صاغ حسنين التائه عبارة "حتى الرمق الآخير" لتحكم عالمه الرث البائس، الذي يديره كإله. يتحكم في مؤامراته الخفية. في نبضاته وسكناته. في خفقاته وتشظياته. من الألم خرجت وها أنت تعود. لا تقوى على المشي بقدميك المجروحتين، فيحملك سجانوك إلى غرفة التعذيب، عند منتصف الليل من كل يوم. ولا يتركونك إلا كخرقة بالية عندما تتسلل خيوط الفجر الأولى الكوّة أعلا غرفة التعذيب..
ـ أستاذ عجبين، قلت أنك أسست مع آخرين جماعة "كستاليا للآداب والفنون" ما معنى كستاليا؟.
ـ النبع الصافي، في اللاتينية القديمة.
ـ كيف سمحوا لكم بتسجيلها وقد ذكرت في طلبك ان كل الجمعيات التي لا تنتمي إليها لا يمكن تسجيلها؟
ـ لم تكن مسجلة لديهم. قمنا بتسجيلها في اليونسكو، كأحد الأندية التابعة للمركز الدولي للعلوم والفنون. ولهذا السبب بالذات تم إتهامنا بالعمالة.
ـ صف لنا كيف تعرضت لحادث إغتيال.
ـ أنا استنتجت أنها محاولة إغتيال.
ـ صف لنا هذه المحاولة.
ـ تعرضت لثلاثة مرات في ثلاثة أيام على التوالي في مارس 1993 لمحاولة الدهس بعربة دبل كابينة تايوتا، لا تحمل لوحة أرقام، وأنا في طريقي من محطة المواصلات إلى البيت. حوالي الساعة الثانية عشرة ليلا. لا يمكن أن تكون هذه المحاولات الثلاثة مصادفة. الصدفة لا تتكرر.
ـ قلت أن الوقت كان ليلا. كيف رايت أنها بلا أرقام؟
ـ الميدان الذي تم فيه ذلك يفصل منزلنا عن محطة المواصلات. وهو ميدان مضاء.
ـ ماذا حدث لك في مايو؟
ـ تم استدعائي.
ـ لماذا؟
ـ لمشاركتي في ندوة حول "الديموقراطية والإثنية".. ذكرت ملاحظة عابرة حول أهالي هذه البلاد، بأنهم عندما يموت طفل في لبنان أو فلسطين أو العراق، ينهضون جميعهم بأطفالهم ونساؤهم في المظاهرات والمسيرات، يدينون العدوان الغاشم على شعب "عربي شقيق". بينما قواتهم تقتل الأطفال والنساء وتقوم بالإغتصاب الجماعي في دارفور، ولا أحد منهم يخرج ليهتف ضد ذلك. ففلسطين والعراق ولبنان أقرب إليهم من بني جلدتهم في الجنوب أو دارفور. بل ان كتابهم وقادة رأيهم العام يكتبون المراثي الطوال في الأوضاع الإنسانية المتردية في غزة وبيروت وبغداد، لكنهم لا يجرؤن على الكتابة عن مأساة الهامش الفادحة. قلت أن الجميع متورطون، وأنهم لا يرغبون في إدانة أنفسهم، فهم موافقون على ما يفعله جيشهم من إبادة للابرياء والعزل. قلت انهم بحاجة للمعالجة النفسية.
ـ شعب بكامله بحاجة لعلاج نفسي؟
ـ إذن كيف تنظر لمن ينكر هويته ويدعي هوية ليست له؟
ـ ما هي التهم التي وجهت إليك؟
ـ إثارة النزعات العنصرية، والإرتباط بجهات أجنبية والعلاقة بحركات مسلحة.
ـ هل انت كذلك؟
ـ لا.
ـ هل تم التحقيق معك بمجرد أن استجبت للإستدعاء؟
ـ لا. تم التحقيق معي بعد 6 أيام. إذ انني عندما حضرت في اليوم الأول، أبقوني منتظرا في الاستقبال 5 ساعات. صرفوني بعدها دون أن يوجهوا لي سؤالا واحدا. فكل ما ذكروه لي ان الضابط المسئول عن التحقيق معي، غير موجود الآن. وأمروني بالعودة صباح اليوم التالي، حيث تعاملوا معي بذات الطريقة، وهكذا تكرر هذا الأمر لخمسة أيام، وفي اليوم السادس أدخلوني إلى أحد مكاتبهم، حيث تم التحقيق معي. بعد ذلك قاموا بضربي في الفناء، الذي يفصل الإستقبال عن المكاتب والزنازين. وهددوني بالقتل، ومن ثم أطلقوا سراحي.
ـ حدثنا عن آخر إعتقال لك؟
ـ في 30 يونيو 1996 وبعد أن شاركت في منتدى سياسي عن "بروز النزعات الجهوية في الجامعات" تم إعتقالي وأنا في طريقي إلى البيت حوالي منتصف الليل أو بعد ذلك بقليل. إعتقلوني من الشارع، إذ توقفت عربة دبل كابينة لاندكروزر قربي على نحو مفاجيء. خرج منها ثلاثة أشخاص. دفعوني إلى داخلها. لا أعرف المكان الذي أخذوني إليه، إذ تعمدوا إجلاسي منحنيا ويد أحدهم تقبض على عنقي من الخلف. أخذوني إلى مكان لا أعرفه. وبعد أن تم ضربي بخراطيم المياه وتوجيه أقذع الشتائم والركلات والتهديدات بالقتل، اطلقوا سراحي وأنا في حالة يرثى لها، مساء اليوم التالي. حملوني غائب الوعي. ورموني في المزارع عند أطراف البلدة القديمة.
ـ كيف تصرفت بعد ذلك؟
ـ شعرت بأنهم جادون في تهديداتهم، وأنهم لا محالة سيقتلونني. فتعاظم في داخلي الإحساس بالخطر، الأمر الذي دفعني إلى تغيير محل إقامتي، والإختفاء والتخطيط لمغادرة لا البلدة القديمة فحسب، بل كل البلاد الكبيرة.
(8) خرج عجبين من المقابلة متعرقا مستنزفا. وجد ليلى لا تزال تنتظره بعد أن فرغت من إجراءاتها.. ـ ها.. كيف كانت مقابلتك؟ ـ أرهقني الموظف كثيرا. وحدد لي مواعيد أخرى لإعادة التوطين. وأنت أين تمت إعادة توطينك. ـ أميركا. عقبالك. ـ مبروك. ومضيا في صمت إلى محطة المواصلات، في شارع جامعة الدول العربية. كان الصمت الذي لم يجرؤ أحدهما على قطعه، ينطوي على الكثير من المشاعر والأحاسيس الدافئة. بدت ليلى إلى جواره كتلميذة حييّة تهرب من عيون رفيقاتها،في نهاية اليوم الدراسي لتلقي حبيبها، الصبي الخجول، فيختلسان النظر إلى بعضيهما، دون أن يحاول أحدهما العبور، بحميمية إلى الطرف الآخر، حيث كفين ممدوتين تنتظران ملامسة دافئة. منذ قررت ليلى الإنتقال للعيش مع عجبين في شقته الصغيرة، وهي تحاول إستعادة مشاعرها المنهوبة. مشاعرها التي فقدت حيويتها منذ تلك الليلة حالكة السواد، التي داهموا فيها منزلها، وقادوها إلى معتقلهم الموحش الرهيب.. تناوبوا إغتصابها داخل غرفة التعذيب. كان عددهم يزيد في كل مرّة، وكانت احشائها تتمزق. لم يتركوها إلا بعد أن بدأ سائل صديدي عفن يسيل من داخلها. وعندما أطلقوا سراحها بعد شهر، كانت منهوبة. منهكة. ومتهالكة كقلعة مهدمة. لم تعد هي ذاتها. لفظتها أسرتها. لفظها حبيبها. لفظها تنظيمها الذي أعتقلت في سبيل أفكاره ـ لدواعي أمنية ـ متهما إياها بالخيانة. أغلقت كل الأبواب في وجهها، ففكرت في الإنتحار. وكلما تراجعت. كانت تجربة التعذيب القاسية قد أصابتها بجبن لم تعهده في نفسها. جبن منعها من قدرة التخلص من روحها. فقررت الهرب، ومغادرة البلاد الكبيرة. كان عجبين يحاول تضميد جراحاتها. يحنو عليها. تتفجر في داخله طاقات من الحنان، لم يكن يتصوّر أنه لا يزال يتمتع بها.في واقع الأمر كان كل منهما يعالج في الآخر جرحا لا يزال مفتوحا، على الأشباح والذكريات وأحلام اليقظة والكوابيس.. جرح غائر يصعب دمله. يصعب شفاء آلامه. لكنهما ظلا يحاولان ترميم هذه الكسور، وجمعها إلى بعضها. ويدركان صعوبة لحمها من جديد. فعندما تتضعضع دواخل الإنسان، تتهشم. يصبح من الصعب لملمتها من جديد، وترميمها. من السهل جدا تحطيم إنسان، لكن من الصعب إعادة بناءه مرة أخرى. ومع هذا الإدراك كانا يصران أكثر، على لأم جراحاتهما التي لا تزال نازفة. جراحاتهما الغائرة، كغابة خشم الموس في ذاكرة البلدة القديمة. هذه الغابة التي غاضت بها الأرض، فتلاشت عن الوجود، ولم يتبق منها سوى شجرة السنط العجوز. هذه الشجرة التي يحاولان الآن رعايتها بهدوء وروية، فهي ذاتهما التي أنهكها الحنين وجور السنين. بالتجارب المريرة وعذاباتها التي لا حد لها. تمددت ليلى تحته، كما كانت ترقد غابة خشم الموس الكبير، في ذاكرته المنهوبة. تمددت كأميرة مستغرقة في قيلولة الظهيرة، على أريكتها الحميمة، وهي تحلم بين الوسن والنوم العميق، فترى فيما يرى النائم دفئا ناعما يبلل بوحها. يجيئها به ولي صالح، يهبط من عالم الأفكار، ليخترق غفوتها، ويلهب أحاسيسها ومشاعرها.. إلى آخر حكايات الغرام، المشبوب في اليقظة والإستيهام.. تراه في قيلولتها، وهو فوقها كالغمام، يحدثها عن جمالها.. جمال العينة.. عيني نوار، في تمثال الرخام الصغير، وكيف تطفو فيهما الأفكار والأحاسيس والمشاعر، مثلما تطفو المويجات على سطح النهر.. تفرغ الغمامة تشنجاتها، تروي بوح اليقظة الحالمة. ونوار عروسة النيل البكر، تنأى ليبقى طيفها وحده.. طيف ليلى، التي يداعبها شجرة فشجرة، غصنا فغصن، ويهم بتقبيل طائر الجنة الملوّن وتهم به، فتتلاشى الغيمة. تصحو فلا تجد شيئا حولها. لا تجد نفسها سوى في شجرة السنط العجوز، التي تمر عليها الشتاءات الكئيبة. شتاء إثر شتاء، فتنتاب المكان تحولات عدة. يختفي عالمها الذي ألفته لعشرات السنوات، حتى طائر الجنة الملوّن يختفي. يحل محله غراب أسود اللون، ينعق مؤازرا ساكني القبور. ينعق ليصحو الموتى ويموت الاحياء. تصحو ليلى، تتلفت حولها في غرفتها. لا أحد. لا شيء سوى بلل. محض بلل. بلل محض، فتدير رأسها إلى الجدار. (9) وهج من الضوء يغمر الشقة الصغيرة. لفح من الحرارة اللاهبة. يتخلل الجو لهاث بطعم أنفاس ليلى، فيغرق عجبين في اللهاث. شعور قوي ينتابهما. نظراتهما المنكفئة، تمسك بكل خدرها تلابيب بعضها البعض. تنحسر أجفانها شيئا فشيئا إلى ذاتهما، ليذوبان في كل شيء حولهما، فتنفتح نوافذ الشقة الصغيرة. تهب لفحات الهواء القاهري المشبع بدخان عوادم السيارات. تتطاير الثياب الداخلية على الأنتريه والموكيت في الصالة الأنيقة. يزولان معا عن هذا الوجود، كضوء شمعة ختمت تراقصاتها تيارات الهواء الباردة. شمعة ينكشف ضوءها المتبدد،عن وردة أحلامها المطبقة كالبرعم في إحكام، تفتح نفسها عن الظلمة تدريجيا، ببطء شديد. يعلو ظهر عجبين وينخفض وكممر صغير محتقن بالماء، ينحت مصبه في هدوء. وليلى تتأوه، وشيرين تغني: آه يا ليييل.. آه يا عييين... (10) العزلة الحميمة التي ألفها عجبين تتلاشى وهو يتورط شيئا فشيئا في عالم حسنين المليء بالعلاقات المشوّهة، علاقاته بأشخاص وقحين، مؤذيين يسميهم "أصدقاء". هذا العالم غير المألوف الذي لم يعتده أبدا. فحاول أن يخلق لنفسه هامشا بعيدا، يأويه دون صدام مع حسنين. لكن حسنين دون أن يدري كان يهشم هذا الهامش، باحتلاله وأصدقائه، الذين كان يشكل معهم شلة كبيرة،من الوسيمين والجميلات. وكان كلما رآه أحدهم منزويا في مكان ما، داخل اسوار الجامعة، يقتحم عليه عزلته ويقحمه في مشكلاته المزعومة، بعد أن يتأزم أمامه ليحصل على تعاطفه. هؤلاء الأصدقاء،هم ما أصبح عجبين بعد وقت طويل يطلق عليهم "الأصدقاء القدامى". أولئك الأربعة المسكونين بذاكرة البلدة القديمة، وتفسيرات الجنون. الأصدقاء الذين كان عالم عجبين وحسنين يعج بهم. هؤلاء الذين كانوا جماع متناقضات الذات الإنسانية، المعذبة والمشروخة في قوتها وهشيمها، وغثيانات ذاكرتها المعبأة بالهواجس والظنون والأوهام التي لا بداية أو نهاية لها. كان عجبين ينظر إلى هذا العالم مرتاعا كالمرعوب من شيء غامض، لكنه مخيف، لا مرئي، كالموت. شيء يراه في عيون هؤلاء الأصدقاء، كعذاب ضبابي بين ألم الروح وبهجتها، تتفاوت ضبابيته من عيون لأخرى. ففي عيني ليمياء اللامعتين بلذة النميمة، هاتين العينين اللتين عندما لا تجدان ما تريانه في الناس من أسرار لتكشفها على الملأ، تصابان بالإلتهاب والقذى، تماما كذلك الشغف الخفي في عيني هدى وحسنين التائه. كانت ليمياء ذات روح إستبدادية غريبة، لا أحد بالضبط يدرك أبعاد أو جذور هذا الإستبداد، في نفسيتها، التي شكلتها الأكاذيب والغرور والحسد. ربما تشكّل كل ذلك، كتعويض نفسي عن عالم مفقود.. عالم لطالما تمنته، وأجتهدت لتحقيقه دون أن تنجح في ذلك. عالم حبها له. جعلها تكون مع الجميع وفي ذات الوقت ضدهم. تستخدم في تغييب هذا الخط الفاصل بين "المع" و "الضد" عن عيون الآخرين جمالها الساحر، كسلطة ـ مسخ. أو طمث لحقيقة موقفها من هذا العالم، الذي تنهض فيه بقامتها الفارعة، كاحد أكثر جنيات خط الإستواء سحرا. لجمال ليمياء وقامتها الفارعة غنى أطفال اليسار كورالاتهم ـ وزعموا أنهم يغنون الوطن الحبيبة ـ وعندما أدركوا بعد وقت طويل أنانيتها، وإصابتها بكل أدواء التاريخ والجغرافيا، دبجوا على صفحات الجداريات المقالات الطوال، التي تنادي بإسقاط الطاغوت، مستخدمين هذه المفردة بالتحديد "الطاغوت" التي لطالما أحتجوا على إستعمالها لدى "مراهقي اليمين" الذين كان يطيب لهم إستخدامها بعد أن يمسحوا زعانفهم بعناية. خاطبت ليمياء بجمالها أشواق كل أفراد الشلة، وهي تمرح كعصا وجزرة في آن واحد. تدفعهم للظمأ وتتحول إلى سراب بلقع، حتى يئسوا فابتكروا مفردة "ماما" لنداءها ـ متماهين في مأزق أوديب، فقط في طبعة جديدة ـ لنداءها، كحيلة يدارون بها فشلهم الزريع في وصالها. اللعينة نالت منهم جميعا، بسلطة مفاتنها التي غيبت عقولهم، وجعلتهم يمررون مخططاتها الاستبدادية، في الهيمنة على الشلة. كانت ليمياء تشعر بفيض غريب من الغبطة، عندما ينادونها "ماما" إذ دعم هذا النداء قدرتها على التخطيط لحياتهم، والحلم بدلا عنهم. عندما تجلس إلى حسنين التائه كانت تشعره بأنه عاشقها الوحيد، فيرتبك ويرتج كيانه. ينسحب مفسحا المجال لعاصم، الذي تستدرجه مثلما تستدرج كلب بقطعة لحم عفنة، فيتسحب وراءها إلى الغابة التي تنهض في قلب الجامعة. يجلسان. تكشف عن ساقيها الممتلئين، وفخذيها الدائريين، وما أن يتهدج صوته ويقترب منها، حتى تبدأ في الصراخ، فيتجمع طلاب الدراسات العليا، وأفراد الشلة يتساءلون: ـ ماذا حدث. ـ عاصم تحرش بي.. وتبدا في الفضيحة المثيرة.. وهكذا تخرج سيرة عاصم من إطار الشلة الضيق، وتصبح على كل لسان، كانت قد استهدفته. احكمت عليه الحصار، وصوبت نحوه بإحكام. دون أن تدرك أنه بلا سمعة نهائيا، كي تقضي عليها. سمعة عاصم كدون جوان جعلت الجميع يصدقون إدعاءاتها، ويكذبون براءته، وزعمه بأنها أستدرجته إلى فخ. الإقصاء الذي مارسه أفراد الشلة على عاصم، لم يبن في داخله الإحساس بالنبذ، إذ كان هؤلاء الذين قاطعوه علنا قد ارتبطوا به سرا، كل على حدة في علاقة مريبة. حافظ عاصم على سرية هذه العلاقات بمهارة. فهو لم يكن يشعر بالنبذ أو الندم، فبطبيعته اللزجة التي تستجيب إلى الطين في داخله أكثر مما تستجيب للنور، شعر بأنه تحرر آخيرا من هذه الخزعبلات، التي تتحكم في عالم هذه الشلة. كان سعيدا، وبدا ذلك غريبا حتى لحسنين التائه. العراب الحقيقي لهذا العالم المعقد، المتشابك والشائك. هذا العالم المتشظي. (11) عاصم أشبه بالممثلين، وعلى الرغم مما تبدوعليه بنيته الجسمانية من ضعف كان صاحب نزوات شبقية عنيفة، زكمت رائحتها كل الأُنوف حوله. خاصة عندما حبلت منه إحدى زميلاته، فما كان منه إلا أن أنكر علاقته بها. الأمر الذي جعلها تشعر بخذلان وغبن لا حد له، سمم جروح إجهاضها ودمها فماتت حسيرة، مخلفة وراءها آلاف اللعنات على عاصم وجنسه. منذ صباه كان عاصم يعاني نوعا غريبا من القلق والتوتر، دفعه للتنقل من تنظيم إلى آخر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكانت تنقلاته بحد ذاتها موضوع تساؤلات وسجالات، إذ لم يكن يخرج عن تنظيم أو ينقسم على آخر، دون ضجيج وضوضاء. هذه الضوضاء التي كان يثيرها حول خروجه او دخوله تنظيم ما. كانت تؤكد على شعوره الخفي بالضآلة، وحاجته للبروبوقندا، كنوع من التعويض النفسي لذات قدراتها أضعف، من المضي حتى النهاية. في هذه البروبوقندا كان دائما يجد متعاونين من الرجرجة والدهماء، أو معاونين مثل حسنين التائه، وأيمن وأشباههما من أرباع المثقفين. خاصة أن أيمن كان ممن إرتبطوا به في علاقة سرية لم ينجح أحد في فهمها، أو فك طلاسمها، لكن من المؤكد أنهما كانا يستعينان ببعضهما البعض، في كثير من الأمور المشبوهة، ذات الصِّلة بالتزوير للأوراق الرسمية، والترويج للمخدرات والقوادة. ما يدعم الإتجاه الذي يشير إلى أنهما كانا، على رأس شبكة غريبة بعلاقاتها الأمنية، مخصصة لإستهداف الطلاب ذوي الانتماءات السياسية. في الواقع كان أيمن يبدو كشخص بسيط في سلوكه ومعتقداته وعلاقاته، وسلس القياد. لكن مما لاشك فيه، أنه كان يخفي خلف هذا المظهر نوعا من الذكاء الإجرامي الفريد. وربما هذا ما أدركه فيه عاصم، ودفعه لإستدراجه إلى عالمه المتعفن، فشكلا معا ثنائيا غريبا بغموضه. لم يلبث أن جذب الصديقين الآخرين، فأصبح أربعتهم يشكِّلون دائرة مغلقة، لم يتمكن أحد من فتح ثغرة فيها، وظل هذا الجانب المعقد من حياة عاصم وأيمن بالذات، مخفيا بعناية وسرية عالية، لا يستطيع أحد الجزم إزاءها، أو البت في أمرها، وإدعاء أنه أدرك مفاصلها. لكن ما شاع بعدها، وبدا شبه مؤكد، هو أن عاصم ضابط في الأمن، ومسئول عن الاختراقات التي حدثت في قطاع الطلاب. وفيما تناولته التحليلات من قبل أعضاء الشلة حول أيمن، أن علاقته بأمل ما كانت لتنهض لولا الجهود الجبارة التي بذلها عاصم في سبيل ذلك. فأمل الفتاة الساذجة التي نشأت وفقا لنظام تربية كلاسيكي قاس يرتكز على (آيديولوجيا العيب والعورة). فكانت الجامعة والعمل هما المتنفسان الوحيدان لها، للشعور بأنها إنسان له خياراته المستقلة في الحياة. هذا الكبت الأزلي الذي تراكم داخلها. تفجر. فتناثرت أشلاء خجلها وحياءها. الأمر الذي أنتهى بها للإكثار من إستخدام العقاقير والأقراص المانعة للحمل. علاقة أيمن بعاصم لم تؤثر على علاقته الشخصية بعثمان ونازك. ربما بسبب تاريخية علاقتهما، فهي منذ الطفولة، ومراحل الدراسة المختلفة، وطوال هذه الفترة الطويلة ظل عثمان ميالا للهيمنة على أيمن. ربما ذلك بالتحديد ما أدى إلى إنفصام علاقتهما، في عدد من مراحل حياتهما. عندما تعمقت علاقة أيمن بعاصم أزعج هذا الأمر عثمان كثيرا، إذ شعر أن أيمن يتمرد على سلطته التاريخية عليه، الأمر الذي دفعه لمحاولة عزله عن كل الأصدقاء وتشويه سمعته، لكن لم يستطع إطباق الحصار عليه، وبعد ذلك عادت علاقتهما، إلى سياقها الطبيعي "ظاهريا" في محاولة دؤوبة منهما، لتخطي أزمة علاقتهما، تساعدهما نازك في تلطيف الأجواء بينهما، فهي بطبيعتها الرقيقة كانت تكره أجواء التوترات. هذا الميل للهدوء عند نازك هو ما جذب عجبين إليها، والتقرب منها دونا عن كل الآخريات، الأمر الذي كان يثير حفيظة ليمياء، التي كانت "تظن" أنه يترفع عليها، مغالبة مشاعرها الدافقة تجاهه دون أن تنجح. ولذلك عندما شعرت بهما يقتربان من بعضهما كثيرا، استعانت بهدى واجتمعتا بنازك، فأوغرتا صدرها ضد عجبين. لا يدري عجبين حتى الآن ما الذي "قالتاه" لها عنه بالضبط.. لكن ما لاحظه بعد ذلك على نازك، هو أنها أصبحت كلما جلس إليها، تحرص على لملمة ثيابها على جسمها، كأنها تخشى أن يهجم أو يعتدي عليها، وهكذا بدأ البرود يتآكل علاقتهما، وعندما استوثقت هدى أن ما يربط بين عجبين ونازك أصبح فاترا، محفوفا بالهواجس والمخاوف والظنون، بدأت المشاعر المنسية داخلها تستعيد مكانها أعلى طاقات القلب. فهدى منذ وقت بعيد تكابد حبها المقموع لعجبين، وتتربص مجرد فرصة مناسبة، لتشعل الحرائق في كل الأمكنة الموعودة. لكنها لم تجد ثغرة أبدا لتنفيذ خواطرها السرّية، يعبر من خلالها هذا الحب المجنون إلى عجبين في شاطئه الآخر ليحاصره، فيحسه بوضوح.خاصة انها ولادراكها طبيعة حياة الشلة، حرصت على ألا يبدو عليها أنها تكن أي نوع من المشاعر الخاصة تجاه عجبين، فأخفت حبها المعذِّب، ونجحت في الإلتفاف على الملاحظات الثاقبة لليمياء. في تلك الأيام أصيب عجبين بحزن لا مثيل له، حتى أنه لم يصدق فيما بعد، أنه تمكن من تخطي هذا الحزن الكبير. وفي لب هذه الأحزان سنحت لهدى فرصة يتيمة للتعبير عن حبها له.. ـ كيف وأنت تحبين عثمان؟ كان دهشا لا يصدق ما يسمعه. ـ بل أحبك أنت. ولم أحب سواك على الإطلاق. لكن عجبين ظل وفيا لعلاقاته، ولم يستجب أبدا لتحرشات هدى، التي تلت إعترافها الحار، ومضت تشعر بغبن وميل كبير لإيذائه، فأخبرته أنها وليمياء وراء إجهاض مشروع علاقته بنازك، فتعاظمت داخله الأحزان أكثر فأكثر. هذه الأحزان التي لم ينجح في تخطيها إلا بالغرق في عالم هناء المحاصر بأبخرة الجنس والجنون. هؤلاء هم الأصدقاء الأربعة: أيمن، حسنين، عثمان وعاصم.. وهذا هو عالمهم الذي لا يزال كما هو، تمر عليه الخرائف والشتاءات، ويمضي صيف فآخر وهو ـ هو ذاته..لا تغشاه عوامل التعرية فيصبح أثرا دارسا.. في هذا العالم ينتصب حسنين كأبي الهول.. ينتصب كدون كوروليوني، العراب جالسا على عرشه المهيب، يدير الجميع في خبث ودهاء.. دون أن يستطيع أحد إثبات ذلك، فقط يستشعرون أصابعه الخفية التي تحركهم من خلف الكواليس كدمي.. حيث يبدو كل شيء في الظاهر طبيعيا، وكأن أشخاص سواه يديرون هذا العالم المعقد لهذه المخلوقات، التي أصبح إسمها بعد سنوات طويلة "الأصدقاء القدامى". فحتى عندما جرت الوقائع والأحداث البارزة، كأزمة التحرش بين ليمياء وعاصم، باصدائها التي تشبه فضيحة ووتر جيت، أو مؤامرة إجهاض علاقة عجبين بنازك، والتساؤلات الحارقة حول العالم المريب لعاصم وأيمن، إلخ، إلخ.. لم يخطر على بال كثيرون أن لحسنين التائه دور في هذه الوقائع والأحداث. بل ظن عجبين أن النظام المثالي الذي يحكم الشلة، إنما قوضه هو بمكاشفة أفراد الشلة بما هم عليه ـ لاعبا دور طبيب نفسي جهبوذ ـ لكن في الواقع كان حسنين ـ كما يظن عجبين ـ يمني نفسه بلعب دور أكبر في حياة الشلة، إذ أن كل شيء حدث كان وفقا لمشيئة حسنين، حتى العالم المشبوه الذي تورط فيه عاصم وأيمن، على عكس ما كان عجبين يتصوّر، كذات متعالية ومدركة، ويكرر لنفسه في الأوقات التي تداهمه فيها الذكرى، بطيوف متلاحقة لأفراد الشلة وذاكراتهم وعوالمهم الهشة المنهوبة، والنابضة إلى حد الخفوت والتلاشي، كفقاعة ضوء لا تلبث أن تنطفيء، فلا تخلف وراءها سوى الفراغ الحالك، وغثيان الظلام والصمت، وإيحاءاتها بشبح المخاوف، والقرناء الذين يملأون مثل هذا الفضاء المعطون، في ظلمة مبتلة. (12) لم تعرف حياة عجبين في القاهرة أي درجة من درجات الإستقرار، إلا بعد أن التقى ليلى. كان مسكونا بالقلق والتوتر، وحمى الإنتقال من مكان لآخر، تنقل في: الزاوية الحمراء، الدرب الأحمر، عابدين، عين شمس، ألف مسكن، الجيزة، المهندسين، الدقي، فيصل، العاشر، الحي السابع، 6 أكتوبر والسيدة زينب. ولم تشهد حياته إستقرارا، على مكان محدد لأكثر من شهر، وربما أسابيع عدة أحيانا.. إلى أن إلتقاها فأنسته عذابات السكن الجماعي، التي تجعل الإنسان منهكا، يحن إلى خصوصيته المنتهكة. خصوصيته التي تهدرها مشاركة الآخرين في السكن، بثرثراتهم، جرائرهم، إحنهم وعداءاتهم. تهربهم من الفواتير، وغبائنهم وتواكلهم في إنجاز أعمال السكن المشترك، كل واحد منهم ينتظر أن يدخل الآخر المطبخ بدلا عنه. أو ينظف الشقة نيابة عنه. كانوا كطفيليات تبحث عن جسم مضيف، لتبدأ في فرز سمومها وإلتهام الخلايا وتشويهها واحدة تلو الأخرى، كسرطان يقضي على الجسم، قبل أن ينتبه هذا الجسم، لهذه الحالة غير المرئية من التبدد والزوال المتسارعين. مع ليلى تذوق للقاهرة طعما مختلفا. أصبح يرتاد المنتديات ويشارك فيها. أصبح يستطيع كتابة أفكاره المؤجلة. وترتيب نفسه من جديد. ثمة طعم جديد، وذائقة جديدة يتشكلان، فيتذوق كل شيء بطريقة مختلفة، عما كان عليه الحال قبل أن يلتقيها.. إذ اصبح النظام يحكم حياته، والضوء الذي يشعر به يغمر دواخله المظلمة من جديد. يتخلل عتماتها، بؤرها العميقة. تحاصره بأناقتها في كل شيء: في ثيابها، في إنتقائها لثيابه، في ذوقها، في غرفة النوم، في ترتيبها للصالة الصغيرة. أصبح يرى ليلى في كل شيء: في أصص الزهر في البلكونة، في الورد الصناعي، في المزهريات التي تملا زوايا الشقة وأركانها. كان كل شيء مع ليلى مثاليا تماما، أشبه بتجريد ذهني من أن يكون علاقة حقيقية، كائنة على أرض الواقع. ربما كان هذا العالم المثالي الذي شيداه حولهما، لصرف الأنظار بعيدا عن دواخلهما المتآكلة، المهشمة وعتماتها التي يحاولان جاهدين إيصال النور إلى أعماقها الداكنة.. ربما، وربما كان النظام الدقيق حولهما، بجماله الفائق العذوبة، ينعكس من داخلهما كظلال لجمالهما الداخلي. جمالهما الخاص الذي تولد من الألم والعذاب والبوح. هذا الجمال الذي ينعكس الآن مشكلا ظلال هادئة، تسكن نظام الشقة الصغيرة. جمال ربما ولدته التحولات التي إعترتهما، بفعل طاقة الحب والإصرار على تغيير حياتهما السابقة، والبداية من جديد. إذن كان جمالهما ينعكس في كل شيء حولهما، ويحوله إلى جمال خالص، مضيء، مشرق، يغرسه في عالم الأفكار، يحدث فيه تغييرات عميقة تتخلل الذاكرة، ذاكرة البلدة القديمة وحياة أهلها الأشبه بالغرباء. ـ أستاذ عجبين كيف تمكنت من الهرب عبر المطار؟ ـ بمساعدة شقيقي. ـ أين أختفيت قبل أن تتمكن من الهرب؟ ـ في البلدة القديمة ذاتها ـ حيث لا يتوقعون ـ بيت أحد الأقرباء. ـ هل كان هذا القريب بين الذين ساعدوك على الهرب عبر المطار؟ ـ لم يساعدني سوى شقيقي. ـ متى تزوج والداك؟ ـ لا أعرف بالتحديد، إذ لم أكن قد ولدت بعد. ـ نحن لا نمزح معك؟ ـ عندما تزوجا لم تكن هناك قسائم زواج. كان الناس يتزوجون بالنية فقط دون أوراق وإجراءات، دون تعقيدات وأسئلة. ـ اذكر لنا اسماء اخوتك وتواريخ ميلادهم، الاحياء منهم والأموات بالترتيب من الأكبر إلى الأصغر. ـ..................... ـ محل إقامة والدك ومهنته ـ البلدة القديمة. بقال. ـ صف لنا الطعام الذي كانوا يطعمونك إياه في الإعتقال قبل الآخير. ـ سندوتش فول، الملح فيه أكثر من الفول. ـ ماذا حدث بعد أن توقفوا عن تعذيبك ـ كنت أقف في زنزانتي بناء على أوامر أحدهم، فيأتي آخر بعد قليل ليأمرني بالجلوس، بعد أن يشتمني ويسألني لماذا أقف، وعندما أجلس.، ياتي آخر ليأمرني بالوقوف ويشتمني بعد أن يسألني: لماذا جلست وهكذا دواليك لساعات طويلة.. وفي الليل يطرقون على باب زنزانتي بعنف بعد كل عشرة أو سبعة دقائق لمنعي من النوم، وعندما يكفون عن ذلك يشغلون تسجيلا ـ علمت بعد أن خرجت أنه تسجيل ـ لصوت معتقلين تحت التعذيب من الواضح أن كلاب شرسة تنقض عليهم وهي تزمجر، وهم يصرخون في رعب مروِّع، بصورة تبعث على الرعب والخوف والارتياع، وتقطع نياط القلوب، إذ تمتزج صرخاتهم وتأوهاتهم مع زمجرة الكلاب الشرسة، ونباحها العدواني وصرخاتهم المرّة.. كان جوا مشحونا بالألم والخوف، العذاب واللوعة، المعطونة في آهات تبدأ توهن شيئا فشيئا كحشرجة الإحتضار.. ختم الموظف المقابلة: ـ أستاذ عجبين، انتهت كل مقابلاتنا معك، وانا الآن احمل لك أخبارا طيبة ـ أكد عليها بعربية مكسرة ـ فقد وافق المدير على إعادة توطينك في كندا. سنقوم بتحويل ملفك إلى منظمة الهجرة الدولية، بعد أن ترده إلينا سفارة كندا. عليك منذ الآن المتابعة مع منظمة الهجرة والسفارة. انتهى دورنا نحن كأمم متحدة. ـ شكرا لك. (13) في الليلة التي قرر فيها خشم الموس الكبير،وداع هذا العالم المرهق، بعد أن أطمأن على الكرسني الذي اصبح رجلا قادرا على الإعتماد على نفسه. خرج باكرا دون أن يودعه. وقف أمام قبر نوار في قلب غابته الكبيرة، فتجددت داخله تلك المشاهد البعيدة لوداعها الآخير. والأهالي يهيلون التراب على قبرها، الذي حفروه بعناية تحت شجرة السنط. كان خشم الموس يشعر لحظتها بقلبه يتحطم، يسحقه الألم والغم والمشيعون يرددون الآيات حول القبر وأشعة الشمس البهية تسقط على الاشجار الخضراء، التي توسطها القبر. كانت الدموع الساخنة تسيل على خديه، والعصافير في أشجار الغابة، تغرد خلف طائر الجنة الملون بتراتيل عذبة، تضفي على مناخ الحزن نوعا من السكينة والصفاء. شعر بروح نوار تخرج من قبرها، تطير، تحلق فوق الأشجار الخضراء إلى العالم الفسيح. رمق خشم الموس قبر نوار بنظرة آخيرة، ومضى عاقدا العزم على التجوال في البلاد الكبيرة، أبعد بكثير مما وصل إليه من قبل. لم يكن يعرف الأماكن التي يمر بها، ولا الناس ـ الذين قابلهم في تجواله ـ بأشكالهم وألوانهم المختلفة، مأواه حيث تصل به قدماه، وفي معظم الليالي تصل به قدميه إلى كومة من الحشيش الجاف، في الحقول المكشوفة على السماء الزرقاء، بقمرها الوضاء.. (14) في جلستهم الأثيرة كالمعتاد وهم يراقبون المارة بين آن وآخر تعبر على فضاء ذاكرتهم، ذكرياتهم البعيدة.. كان كل واحد منهم يحب واحدة من حسناوات الشلة، والتي كانت هي الأخرى مغرمة به. لكن لم يجرؤ أحدهم على التصريح بحبه للآخر، لذلك كانوا يقتحمون عالمه ليشكوا مواجدهم. كانوا جميعا يخشون التصريح بمشاعرهم، بسبب ما أضفاه حسنين من قداسة زائفة على الشلة في سبيل إقناع الجميع بنبالته المزعومة، إلى أن حدث ما ظل عجبين يطلق عليه "الإنفجار الأول": عندما حاول جادا تفكيك مفاصل الشلة، بتحطيم أوهامها التي تختبيء خلفها المشاعر العارمة، تحت غطاء الأصدقاء والصديقات. جلس إلى كل واحد من أفراد الشلة ـ أصدقاء حسنين ـ وحاوره مطولا، شارحا له استنتاجاته حول وضعهم الغريب. هذا الوضع الذي بمثابة تعويض نفسي، يثبت خلاله حسنين لنفسه سلطته على الآخرين، على الرغم من أنه في دخيلة نفسه كان يدرك أنها سلطة تقوم على الإبتزاز العاطفي. ولم يهدأ بال عجبين إلا بعد أن صرّح كل واحد من أعضاء الشلة، عن طبيعة مشاعره تجاه الآخر، وقتها لم يجد حسنين بدا من الإعتراف بهذا الواقع الجديد، الذي فرض عليه. فحاول أن يمنح نفسه حق رعاية كل علاقة عاطفية بين إثنين، فنجح مع البعض، وفشل مع البعض الآخر. (15) اللحظة التي شعر فيها عجبين أن صداقتهما على مفترق، هي تلك اللحظة التي أكتشف فيها أن حسنين قد أقام صداقات متينة، مع كل الأشخاص الذين كان يعلم تماما أن عجبين لا يحبهم. ولم يتوقف عند هذا الحد، بل عمل جاهدا على أن يخلق بينهم وبين عجبين علاقات متينة.. فكثيرا ما كان يفرضهم عليه، ويورطه في عالمهم، دون إعطاءه فكرة مسبقة.. هكذا فحسب، يكتشف فجأة أنه تورط معهم.. عندما يستعيد عجبين الآن هذه الوقائع والأحداث، يكتشف مدى الخبث الذي طوره حسنين داخله عبر السنوات. خبث أشبه بخبث الفلاحين المصريين. خبث كان عجبين غافلا عنه لوقت طويل. إذ ظل يعتقد على الدوام، أن حسنين شخص بريء وعفوي "وعلى نياته".. طفل كبير لم تنضج إدراكاته بعد. ويوما بعد يوم أخذ يستوثق، أن استنتاجاته حول الشخصية الحقيقية لحسنين لم تكن صائبة. بات يشعر به كممثل محترف، يستطيع إخفاء حقيقة مشاعره بمهارة، تفوق مهارة أكثر المحتالين إحترافا. فأصبح كلما جلس إليه لا يشعر سوى بالصديد والقيء يسيل من داخله، حتى لو كان لحظتها يلقي نكتة. وهكذا كف عجبين عن إرتياد الأماكن، التي يتوقع أن يتواجد حسنين فيها. وصار يتجنبه بإستمرار. كان وقتها يخطط للهجرة ولا يرغب في أي نوع من المعارك. خاصة أنه لم يتبق له سوى وقت قليل ويغادر البلاد الكبيرة. يفارق كل هؤلاء الناس، الذين أزمع في داخله نسيانهم. (16) السياسة والشعر هما ما شكلا عالم عجبين خشم الموس، منذ طفولته الباكرة. الشعر وذاكرة البلدة القديمة هما ما ظلا يدفعانه لممارسة السياسة، بطريقة مختلفة عن قوانينها المخاتلة، إذ كان مقيدا بنبل الشعر وتسامي العزلة وزهدها في العابر، الطاريء. وانطوائها على الجوهري الأصيل. ربما لهذا السبب فشل عجبين كسياسي بينما نجح كشاعر. كان لا يستطيع المهادنة،أو إتخاذ مواقف ضعيفة حتى لو أراد، فردود أفعاله دائما حادة، وحتى لو حاول تقديم تنازلات، كان يفشل فيضطر إلى تغيير موقفه. لم يكن ميالا أبدا للافصاح عن مشاعره تجاه الآخرين، يفضل دائما التعبير عنها عمليا، عكس حسنين الذي كان مغرما بالتعبير عن مشاعره تجاه ما حوله، بمباشرة توحي بالابتذال. إذ يكثر من ترديد عبارات مثل: "أنا أحبك" ـ "أنت تكرهني"..، إلخ.. بداع ودون داع. كما كان مغرما باتهام الآخرين بالجنون. كان لسذاجته يتصور الجنون شيئا سهلا، مثل الشجار مع كمساري في أتوبيس، أو بقال، او سائق تاكسي. مثل السهولة التي نشرب فيها كوب ماء، أونتبول في الحمام، ونحن نتمنى لو كان هذا البول في وجه أحد الأعداء. ذاك هو العالم الذي شكل وجود حسنين، بكل ما يثيره هذا العالم من تساؤلات وأحاسيس وغثيان. فحسنين وليد ذاكرة البلدة القديمة،وموسيقى الحقيبة والأصدقاء القدامى، يختصر الحب والصداقة والجنون في مجرد التعبير بالكلام. أحيانا يشعر عجبين أنه ورط حسنين في عالمه المعقد، المتشابك. هذا العالم الذي دفعه لإقامة علاقات متينة مع أشخاص لا يشبهون عجبين، لكن تصور أنهم يشبهونه. أشخاص ليس لديهم شيء يؤمنون به. يجدون متعتهم، غاية متعتهم في الإستهزاء بكل شخص، يتخذ موقفا من عالمهم الوسخ المتهالك. عالم عاصم وأيمن وعثمان، الذي وسم شخصية حسنين بتشوهات مزمنة جعلته، يمتهن التربص بعجبين، وإحصاء الشاردة والواردة لإنتقاده، فقط ليثبت لنفسه أنه لم يعد ذلك الطفل، الذي يستحق رعايته، وأنه قادر على الإستمرار في الحياة من دونه. فكان عجبين يضحك في داخله، وهو يراقب هذا الصراع الذي ينهش دواخل صديقه. يحول آلامه إلى ضحكات ساخرة، تنطوي على مشاعر مبهمة، فمشاعره تجاه حسنين،لم تعد بذات الوضوح الذي كانت عليه، إلى أن وضحت تماما إثر انفجار حاد في وجه حسنين، بسبب استمراءه كيل الإتهامات: ـ أنت يا عجبين مفتري، وأناني وحديث نعمة. لقد تغيرت كثيرا ولم تعد أنت أنت. لم يسم عجبين مدلولات العبارات التي أطلقها حسنين في وجهه، فحسنين بعد أن وجد نفسه مقصيا بعيدا عن عالم عجبين.. عن الحياة الحقيقية.. وفشله المستمر في أن يكون له دور في هذه الحياة، لأن عجبين لم يكن يسمح له بالتدخل في شئوونه الخاصة، الأمر الذي بات يثير حفيظته، بسبب فهمه الخاص للصداقة "أنا لا أحب الناس الذين لديهم أسرار"، إذ في تقديره الخاص أن لا خصوصية وفواصل أو حدود ومسافات. الصداقة بالنسبة إليه أشبه بالفوضى والإمتلاك. مزيج من قيم متناقضة ومتعارضة، لا يربط بينها رابط، أو منطق محدد. (17) اللحظة ذاتها تتجدد، وهما على شاطيء "سيدي بشر ـ الأسكندرية". اللحظة ذاتها: حلكة الليل وهدير أمواج المتوسط الكبير، وتضاؤلها على الشط، إلى مويجات صغيرة سرعان ما تبدد على الساحل، مخلفة وراءها الزبد، كرغوة الصابون وليلى بين ذراعيه، على رمل الشاطيء، كأنها "العينة" بين ذراعي الكرسني، وهو يحملها مسرعا إلى البيت الكبير، مخترقا العاصفة التي تشتد حولهما، وجسميهما المبتلين بمياه مقرن النيلين، يتقطر منها البلل، وخشم الموس الكبير يحدق في ابنه والفتاة فاقدة الوعي بين ذراعيه دون أن يتبادل معه كلمة واحدة. يدخل الكرسني بالعينة إلى غرفته، يتبعه خشم الموس بثياب نوار، ومجمرة لتدفئة جسمها النحيل، دون أن يسأله عنها. اسمها.. من هي.. يخلع ثيابها المبتلة، يلبسها ثياب نوار. كل شيء يتم في صمت.. تبدأ في إستعادة وعيها.. تحاول النهوض، فيعيدها الكرسني إلى رقدتها في السرير الوثير. تنتفض بعنف وتحاول أن تتكلم، فيمنعها بإشارة حاسمة من يده. تفقد وعيها مرة أخرى. يسوي رأسها على وسادة الريش، ويسحب عليها الغطاء. ويضع مزيدا من الفحم على المجمرة، ويخرج مواربا باب الغرفة. اللحظة ذاتها في عيون خشم الموس، تتجدد ونوار تخرج من النهر، حاملة تمثالها الرخامي الصغير. تتقدم منه بصمت، وكلما خطت خطوة تجاهه خطا تجاهها خطوتين، إلى أن وجدا نفسيهما في البيت الكبير، في ذات الغرفة، التي شهدت تشكل الكرسني، كبذرة في رحم نوار.. بذرة مسقية بالود والوله وانتفاضات جسم خشم الموس الصّبي. الغرفة ذاتها التي رقدت فيها العينة، بعد سنوات طويلة. ذات المشهد يتآكله الزمن وتبدلات المكان، يحذف منه تفصيل صغير أو يضيف إليه تفصيلا آخر. الوجوه تتغير، الزمن يتغير لكن بين الوجوه والزمن، والمكان ينطوي، ما هو كامن في الدم منذ الجد الأول، ليعلن عن نفسه في هذه اللحظة المعطاءة "حيث ينطوي شاطيء البحر المتوسط الآن، على ذاكرة النيل والمقرن والبلدة القديمة، وحيث ينطوي وجدان ليلى، على ذات الإستثارة والولع القديم لنوار والعينة، وحيث يعبر خشم الموس والكرسني في مجرى الزمن فيضا من الحب في دواخل عجبين الحفيد، المسكون بطاقة هذا الجزء من الحياة والخصب على شاطيء "سيدي بشر" الأسكنراني الجميل، حيث لليل حلكة مميزة. حلكة تراها في قلب العتمة، على أضواء السفن البعيدة، والفنارات، كأنها مهموسة في هدير الموج. عالم مغاير، حميم وغامض، يحاول عجبين أن يمحو به ترويع الحروب الأهلية في بلاده الكبيرة: المجاعات، الفقر والتهميش.. هذا الترويع الذي أحتل جزءا كبيرا من ذاكرته ووجدانه، يجدد ذكريات المعتقل والتعذيب، والأصدقاء الذين كانت خياناتهم، أشد قسوة وألما من غدر الحبيب والقريب.. خياناتهم تظل تلاحقك كسهم يتغور في الفؤاد، ويظل متغورا. إن نزعته تموت، وإن تركته تموت.. خياناتهم أشد الما وعذابا من كل شيء مضى، أو سيأتي ذات يوم.. تنهض الخيانة في التقارير المكتوبة لزوار الفجر، في إستدراجات حسنين التائه له بهدؤ وروية، ليباغته على حين غرة كالعقرب، يلدغه، فتترك اللدغة سمها: هالة زرقاء في القلب. هالة كحروق أعقاب السجائر، على ظهره. ومعصميه. فينقبض وجدانه. يهرب إلى طفولته.. الرحم الذي يحميه.. تستعيده ذاكرة الكرسني وهو يتشكل في رحم نوار، على أغنياتها العذبة، وهدهداتها له في المهد. يغني خلفها طائر الجنة الملون، وعرائس النيل وحوريات البحر وأشجار الغابة و"سنطة" الحديقة الوحيدة. تظل تهدهده. ينكفيء جفناه. وتبدأ أنفاسه في الإنتظام، لتخرج كلماته ناعسة: ـ أحبك ليلى.. تهدهده على صدرها. ليلى حورية المتوسط، صنو نوار والعينة. جرح الذاكرة المتغور عميقا في زبد المويجات المتبددة على رمل سيدي بشر. نوار قربان البلدة القديمة، تمثال الرخام الجميل، في تلك البلاد البعيدة، التي استحالت إلى شيء آخر، أي شيء سوى أنها: وطن.. لمواطنين.. استحالت إلى متحف كبير. محض متحف، لعرض البؤس والألم والغدر والخيانة. المشاعر النبيلة المجهضة.. ـ أحبك ليلى.. تخرج ليلى من قلب هذا الركام كروح هائمة، لتهدهده وتزرع في جفنيه النوم الهنيء، الذي ظل يفتقده لوقت طويل.. كالكرسني أفتقد النوم لوقت طويل، وهو يراقب بيت العمدة الكبير، يتوقع خروج إبنته الجميلة "العينة" مع خدمها وحشمها، ويمضي ليسهر الليال الطوال، يخطط للقائها، غارقا في المراسيل، وخطابات الحب اللاهبة، التي لا رد عليها.. مثلما لفت انتباهه بيت العمدة الكبير، منذ أول يوم تحرر فيه من سلطة عالم خشم الموس، وخرج للتجوال في فضاءات البلدة القديمة.. العينة هي الأخرى كان بيت خشم الموس الكبير، قد لفت انتباهها.. كانا يسألان بفضول كبير كل من حولهما عن ساكني البيت الآخر، كأن روحا خفية تدفع كليهما لطرح هذه الأسئلة. تعرف على العينة قبل أن يلتقيها، مثلما عرفته قبل أن تراه. كان اهتمامهما ببعضهما البعض يتنامى وأشجار الأسئلة تنمو وتزهر. تطرح ثمراتها، لتقود الاجابات إلى اسئلة أخرى، عن الذي أغمد وجهه الغامض في الأحلام الغامضة، وذاكرته العميقة التي لا قرار لها، وملامحه غير المرئية، الغائبة في ضباب أرخبيلي داكن.. ملامحه التي شكلها الخيال كيفما يشاء.. كانت العينة تراه في أحلامها، كفارس فارع الطول. قاس الملامح وحنون. يمتطي صهوة جواد أبيض، يختطفها بعد أن ينتصر في مبارزته لحراس دار العمدة، ويمضي بها بعيدا إلى عوالم لم ترها أو تسمع بها من قبل أبدا. وعندما بدأت المكاتيب بينهما، يحملها طائر الجنة الملون، اصبحت تصوغ من كلماته شكلا وسيما وقسمات مليحة، لحبيب تقلق فحولته منامها. من هناءة الغفوة على صدر ليلى، الذي لم يهده عبث جلاوزة التعذيب، تخرج مشاعر اللجوء، تمزق غشاء الحميمية والأمان. هذا الرحم الذي أحاطته به ليلى. هذا الرحم الواسع، يغمد نفسه فيه الآن هاربا من عذاب الآخرين، أولئك اللاجئين المحزونين، الذين يملأون شوارع القاهرة، يقتاتون الجوع ويعانون التشرد والألم والإنتظار القاتل لإعادة التوطين التي صارت كحلم دونه شوك القتاد. كانوا جميعهم كالمعتقلين في سجن كبير، يسومهم سجانوه شتى ألوان العذاب والقهر والأذلال والإستعلاء، فهم جميعا مثل كل أبناء البلاد الكبيرة غير مرغوب فيهم هنا، انهم محض "عبيد، أفاركة" في نظر المصريين. مجرد سود أقل مرتبة. وبونقا بونقا وشكلاطة، إلى آخر هذه التسميات التي يطلقها عليهم الشارع العام.. انها القاهرة، حيث يتم تمييز الانسان باللون والدين. دينك ولونك يحددان انسانيتك. قبولهم لك. يتفتت الغشاء الذي صاغته ليلى، تبدد. فتزول لحظة الهناء، التي انتزعها من اعماق ذاكرة مجرى الزمن، منذ خشم الموس الكبير حتى اللحظة الحاضرة عند عجبين. على شاطيء سيدي بشر الأسكندراني، ترى هل شعر خشم الموس الكبير، بهذا الاحساس المرير من قبل؟.. هل كان احساسه بعد تحطم مرآته السحرية، وتخريب وجدان الناس ذات الاحساس، الذي دفعه للهروب ومغادرة البلاد الكبيرة؟ ترى هل هو الاحساس ذاته الذي دفع خشم الموس الكبير، إلى ترك كل شيء ومغادرته البلدة القديمة دون أن يلوي على شيء. دون ان يبين له أثر بعد ذلك والى الأبد؟ (18) الشوارع والبنايات التي أعتاد عليها، منذ وطأت أقدامه أرض البلدة الكبيرة مرة أخرى، بعد غربة أمتدت لسنوات طويلة، ما لبثت أن انطفأت فيها الجغرافيا، فعاد خارجا من أنقاض "هويته العابرة" إلى هويته الأم. حيث البلدة القديمة التي لم تعد هي ذاتها. فقد تبدل الناس والمكان، ولم يعد للوجوه القديمة من مكان. مضت أيام الغربة ببطء، والأشياء ما عادت هي الأشياء، فقد تغير كل شيء. ليس في غيابه فحسب. بل منذ خسر حسنين التائه نهائيا وإلى الأبد. منذ استوثق أن حسنين مصاب بجملة أمراض، كالغيرة والحسد والحقد. يتصارع معها. يحاول أن يتسامى عليها عبثا، فعندما تتغلب عليه يتحول إلى كائن مزعج. كان حسنين كإبن لذاكرة البلدة القديمة، ضاربة الجذور في مقرن النيلين، قد نشأ مدللا، ليس مسئولا عن أي شيء، فأسرته تتحمل عنه عبء كل شيء، حتى أعباءه الخاصة جدا. ربما لهذا السبب، كان يترفع عن خدمة الآخرين، ويحرص على أن يقوموا هم بخدمته، في كثير من الأمور التي يفترض أن ينجزها بنفسه. ظل عالم حسنين قبل أن يلتقي عجبين، هادئا بمعالمه المحدودة وذكرياته في الطفولة والصبا، مثل كل الذكريات المملة، ليس فيها شيء غير مألوف. عادية تماما، وربما لهذا السبب كانت ذكريات عجبين تدهشه. فبقدر ما كانت ذكرياته هادئة، كانت ذكريات عجبين مغموسة في الصراع، والغربة وترحال الذاكرة، في أغوار البلدة القديمة. مغموسة في الأسى واللوعة، والمغامرات الخابئة والخائبة، التي كانت تبدو لحسنين خارقة، يتمنى لو كان هو الذي خاضها، اذ يبدو له عجبين كشخصية استثنائية مدهشة بسلوكها الاسطوري وعالمها الغرائبي، المليء بالتجارب غير المتوقعة. ربما ذلك ما دفعه بعد وقت طويل، إلى نسج الكثير من الاكاذيب عن نضالاته المزعومة، وكيف أنه طورد من أجهزة الأمن، وحوصر من قبل تنظيم السلطة، الذي أحتل البلدة القديمة بكاملها، بحثا عنه، إلى آخره من ترهات وأوهام أغرق نفسه فيها، وصدقها بكثرة التكرار، كانها أحداث حقيقية جرت له، فلم يعد يشعر بأنه يكذب عندما يحكيها ببراءة كأنها أمرا هينا. كان الأصدقاء الأربعة لا يزالون يجلسون، أمام الجدار الخارجي للبيت العتيق، في قلب البلدة القديمة، عندما عبر عجبين أمامهم. وقف قبالتهم. حدق فيهم مليا، ومضى إلى حيث يطيب له الجلوس على المقهى الصغير في السوق الشعبي، الذي نهض منذ سنوات طويلة في هذا المكان: قلب البلدة القديمة.. نظر الأصدقاء الأربعة إليه بحسرة، وهو يعطيهم ظهره ويمضي دون أن يلتفت إلى الخلف. دون أن يتوقف سوى بين آن وآخر، ليلتقط ورقة أو قطعة صغيرة من الزجاج اللامع على أرض الشارع المعكر بالغبار.. القاهرة نيوجيرسي مارس/ نوفم بر 2006 من لم يتعلم دروس السبعة آلاف سنة الماضية , يبقى في العتمة . جوتة. |