عيسى جابلي - الحبر المدرار في تفصيل حكاية صاحب اللسان البتار وذكر ما كان من أمر الجعبس أبي درة المهذ

يذكر راوي هذه القصّة أنّ أحداثها جدّت بمدينة بئر الحفي في سيدي بوزيد على عهد سيف بن ذي يزن واسمه الكامل سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج، طارد الأحباش من اليمن. ويؤكد أن كلّ الشخصيات حقيقية ويشهد القراء أنه وحده المسؤول عن تبعات روايتها.
قال الراوي:
في الضاحية الشمالية من المدينة ترقّب وانتظار..
أوّل النّظر..
تجمّع الرّجال والنّساء والأطفال أمام بيت الحكيمة صالحة ينتظرون ما يكون من أمر الجعبس أبي درّة المهذار. جاء الصّحيح والمعلول عدوا ومشيا وحبوا على الأيدي والركب. لم يكن أحد مستعدا لتفويت فرصة أن يكون أول من يشاهد الجعبس وقد عاد كعهده به عمودا من أعمدة المدينة لا أحد يطاوله ولا يضاهيه. وكانوا يثقون في قدراتها كما يثقون في الشيخ علي بن عون والهادي الحفيان وسيدي عبدالقادر وسائر من حباهم الله بكرامات الأصفياء والأولياء، بل إنهم يعتبرونها من سلالة الأنبياء ويتناقلون عنها سلسلة نسب تعود إلى حجر من كلّم الطير وفهم منطق ذوات الأربع، سلسلة يحفظها الكبير والصغير. ولا أحد فقد عزيزا أو ألمّ به مرض أو حلّت به مصيبة أو طلب نجاحا أو زواجا إلا وكانت الحكيمة صالحة منقذته. امرأة في السّبعين سنّا وسرّا وبركة ويدا طيّبة لا تنزل المصائب ساحتها، لها اتصال بالبشر والجنّ والحيوان والحجر والنّبت. لذلك كان من البديهي أن تكون أول من ينظر في أمر “أبي درّة” الذي احتارت في أمره المدينة.
حكاية لسان..
كان الجعبس– وهو بهذا الاسم لذكاء وقاد يشهد له به كل من خالطه أو عاشره أو باعده أو داناه – حديث المدينة منذ أن صار في لحظة بلسان أفعى تارة يلحس به شفاهه لحس المتلمّظ، وطورا يرسله في الهواء كما الحرباء أطلقت لسانها تسحب فريسة. لم ينج من لسانه إنس أو جان. يلسع التقاة والزناة والحشّاشين ورجال الله ورجال الشّياطين.. الأطفال والرضّع والجهلة والعلماء. بل إن زوجته أسرّت لجاراتها أن نوبات اللّسع تلك كثيرا ما داهمته في فراش النّوم. وأن السرير يميد بهما بعنف ويرتج كالمحمول على عاصفة، ثم إذا الجعبس يلسع الهواء بلا هوادة. قالت لهنّ “إنّ أمره لعجيب!”. وإنها صارت مذعورة من أن تؤدّي به إحدى نوباته إلى قتلها. غير أنّ الأقدار، كما تقول، مازالت تساعدها على النّجاة.
رجل نشرة الأخبار..
كان أبو درّة – والدرة في لغة أهل البلد بكسر الدال: ذيل الديك وما شابهه من ذوات المناقير – يجلس إلى الأصدقاء والخلاّن لا يحلو لهم مجلس إلا بحضوره. يتسامرون ويضحكون، يخوضون في كل الشؤون ويمزحون، حتّى إذا ما انفض المجلس وهمّ كلّ منهم بالمغادرة، انبرى أبو درّة يسبّهم ويلعنهم صادقا ويثرثر كنشرة الأخبار، وإذا هم عادوا عاد يمدحهم ويثني على وفائهم.
كان أبو درة ممثلا بارعا ينشر الابتسامات والضحكات حيثما حلّ، يساعده على ذلك شعره الطويل الملامس كتفيه وعيناه الضيّقتان الحادّتان وقد احمرّ بياضهما بشعيرات كثيفة. ورغم أنّ هيئته لا مبالية فإن وجهه يخفي شرورا وأسرارا.
ولئن كان في أول أمره مولعا بهتك الأعراض والخوض في شؤون الخلق فإنه فيما بعد صار يهذي بلا توقف. ثم اختفى فترة من الزمن فقال بعضهم: هجّ. وقال آخرون: تاب، حتى كان يوم سمع فيه أحد الرعاة أصداء كلب ينبح في بطن الجبل. تتبع مصدر الصوت فانتهى إلى سفح يجوبه رجل ينبح. تأمله فإذا هو الجعبس أبو درة المهذار وقد طالت لحيته ودرّته فولّى منه هاربا.
أبو درّة ينتمي..
قبل ذلك، كان يوم انتشرت فيه فكرة القومية العربية في أرجاء المدينة فأعجب بها أيّما إعجاب وانكبّ على مصادرها ينهل منها أصولها النظريّة القحّة ويعبّ من مأثوراتها عبّا فأتقنها بسرعة النبيه وفهم أصولها وحفظها عن ظهر قلب. وعاد إلى نفسه يؤنّبها على ما اعتنقت من أفكار خاطئة عن الآخرين، فشطب لقبه الذي يحصره في “عرش” بعينه، ونادى بالعروبة في الساحات والمعابر والأسواق والحافلات والسّيّارات، وأقام مخيّما يعرّف فيه بمبادئ القوميّة وعلّق صور عبدالناصر على الحيطان ونظم فيه شعرا غزيرا..
إنّي رأيت..
انتفض الجعبس ذات يوم من نومه يتصبب عرقا وقد نتأت من جبينه عين تتدلّى مثل الورم فذعرت لقومته زوجته النائمة في غرفة الاستقبال وهرعت إليه فإذا هو مصفرّ الوجه كمن زارته المنيّة يشهق ويتنهّد. قال:
• إنّي رأيتني..
وعجز لسانه عن الكلام فاستغفر الله ولعن الشيطان واستجمع قواه وقال:
• كنت ..
وهجرته الكلمات ثانية، فسبّ الدّين ودفعها بعيدا عنه ونهض فسقط وقام وتنحنح وحرّك رأسه كديك مذبوح وقال:
• إني أراني في برّيّة واسعة.. لا ماء ولا خضرة ولا برد.. حرّ وقرّ وأنا ألهث كالمتسلّق جبلا جريا.. يحيط بي ناس بلا ملامح وأنا أنهش لحومهم وأسمل عيونهم وأبقر بطونهم وأقضم أيديهم وأرجلهم ووجوههم وأكتافهم بأسنان حادة كمخالب الطير.. وما هي إلاّ أن يهاجمني شبح ضخم ينقضّ عليّ فما أكاد أفلت من قبضته حتّى يرتمي عليّ يدقّ عنقي دقّا كأنّني بين يدي منكر ونكير..، ثم يجيئني كائن لا هو لحم ولا هو نار فيخطف كتفيّ ويذوب..
بين يدي صالحة..
كان أبو درّة ملجم الفم مكتوف اليدين والرّجلين ملقى أمام الحكيمة بعد أن فقد القدرة على المقاومة والمناورة. وفي ركن من المنزل نادت العجوز بالبخور فانطلقت روائح الجاوي تملأ النفوس خدرا وتسكر لها الأفئدة، وتنشر الأدخنة في البيت عتمة كأشباح الذعر، ولسان العجوز يضفر الحكمة تلو الحكمة في وجه أبي درة المهذار وصوتها الجهوريّ القويّ يدوّي في أذنيه بآيات وشعر وسجع وصياح وأنين وسبّ ونهر وتوسّل. أمّا هو فكان يرتجف للأصوات التي يسمع وقد فاض لجامه عن رغوة بيضاء كالزّبد، وأما فخذ العجوز فجاثمة على عنقه تلّا من الرمل لا يملك لها ردا.
ولمّا انتهت من تلاوة ما حفظت من أوراد وحكم فكت لجامه فإذا هو يلعن الخلق يسبهم يهرف ولسان الحية ظاهر كسيف بتّار يطارد العجوز في أرجاء البيت، يهتك أستارها. ولولا أن جماعة من المشرئبّة أعناقهم داخل البيت رموا عليه شباكا من حبال فثبّتوه فربطوه ببعضها فأعادوا له لجامه لفتك بها.
أبو درّة يقرأ كفّه..
وكان أن حملوه على ظهر حمار مقيّدا بالحبال والخيوط المعدنية يطلبون بيت قارئة الكفّ التي تنبّأت لهم يوما بالنّبوغ. ذعرت آن مرآه ولكنها تماسكت وعيون القوم ترقبها. سحبت كفه من الخيوط فإذا خطوطها متشابكة كأغصان سدرة في الصحراء. تأملت الخطوط وقالت له:
• لقد ذممت خلقا كثيرا ولطالما هتكت أعراضا وتلقّيت في منامك تحذيرا وإنّ في انتظارك أيّاما غلاظا.
ولمّا وصفوا لها هيجانه وسألوها عن دوائه وما ينبغي فعله وقد أصبح وجوده خطرا على المدينة نادت بماء غربلته فوق رأسه، غير أنّه لم يمت. فقالت: لقد ساورتني ظنون بأنه مجنون وما هو بمجنون، وإن أمره لعجيب لا يقوى عليه إلاّ طبيب.
آخر الطّبّ..
كان أبو درّة المهذار قد استسلم نهائيّا ولم يعد يبدي حراكا رغم قسوة ظهر الحمار. وكانت المدينة قد اجتمعت حوله ولم يتخلف أحد. غلّقت الحوانيت والمغازات وهجرت الجوامع وخلت الساحات وأهملت النسوة المناسج والمطابخ. وكانت الكوكبة تتحرّك في اتّجاه الطبيب كأنها السيل العارم. فلم يبق غير قرار الطّبيب حميدة الذي لم يدخل مدرسة يوما ولا أجرى امتحانا ولا جالس عالما ولا رأى في حياته طبيبا ولا ارتدى بياضا، غير أنّه برع في خلع الأضراس والحجامة واهتدى إلى أخلاط من عصائر النباتات البرية التي تنبت في الجبل، فقارع بها الفقر وجها لوجه وقدم خدماته لأهل المدينة بثمن بخس فعلا صيته وانتشر خبره في الآفاق وجاءته العلل من كل الأمصار تطلب الأدواء. ولما صار إليه أبو درة علم أنه أمام امتحان عسير وأيقن بالهلاك إن لم يداوه. فإذا عجزت عقاقيره وشحّ تدبيره وخانه تفكيره فإن القوم سينكّلون به تنكيلا ولن يلقى منهم بعد اليوم جاها ولا تبجيلا. لذلك قال لهم منذ البدء:
• اعلموا أن أمر أبي درة صار أمرا جللا لا يحتمل خطأ ولا زللا، فلا يصيبنكم كلل ولا يساورنّكم ملل واصبروا وصابروا ورابطوا فلي فيه بعد كلّ هذا أمل.
ثم أخذ يخلط عقاقيره ويحقن أبا درة بالحقنة تلو الحقنة ويبعد عنه اللجام فيعود لسانه يغزل الهواء يسب الناس يعيّرهم ويثرثر بكلام لا يعلم سره إلاّ معشر الجن، فيعيد إليه لجامه ويعود إلى عقاقيره يخلطها من جديد.. ولما استنفذ ما لديه من أفكار قال لهم:
• لم يبق إلاّ آخر الطبّ..
وشقّ له الطبيب في ساحة المدينة أخدودا عظيما، واستوقد نارا فملأه جمرا غمس فيه وتدا غليظا أن يحمرّ ثمّ وضعه على إليتي الجعبس فانطلق منه دخان وعبق المكان برائحة الشواء البشري.. أما الجعبس فقد صعق حتى ظنّ القوم أنه انفلق. انتفض نفضة واحدة مزق بها الحبال. ركل الطبيب فتدحرج بعيدا وتقهقر الناس وطار الغبار وصاح صيحة فزعت لها الأسماك في البحار.
ألست…..؟!
ولما صار الجعبس إلى ساحة المدينة توسطها وصاح صيحة تجاوبت لها الأرجاء. ضرب صدره بجمعيه ضربات متتالية كما يضرب “كينغ كونغ”، قائلا:
• أنا مدينة العلم و……
ثمّ نظر حوله وتأمل الوجوه الفزعة المرتجفة الجامدة وتابع:
• وأنا بابها!
وتابع:
• أنتم مطرودون من المدينة أيها الغرباء.. أنا سيف بن ذي يزن المدينة وأنتم أحباشها.. المدينة لي وأنا أعرف من هو حقيق بالبقاء.. لا أحد غير العشيرة.
وراح يهذي بأسماء من يعرف ومن لا يعرف ينثر السباب والألقاب. وما هي إلاّ أن انشق الأفق عن رجل غضنفر جِلْفٍ عُتُلٍّ عَلَنْدَى عيناه الجحيم إذا سعّرت. تأمّله من بعيد ثمّ جاءه يسعى كأنّه جيش عرمرم. وما أن بلغه وقد تقهقر حتى أخذ يدكّه دكّا والجعبس يصطاده بلسانه ويناور بلا فائدة. ولما علم أنه لا فكاك له جعل يضرِط ضراط الحمير في الهاجرة.
كان الغضنفر كائنا طوالا، وكان بين رأسه وأصابع قدميه مسير يوم قيامة. يمسك أبا درة من إليتيه ودرته ويرسله في الفضاء فيسافر في المجهول يعتصر ذاكرته عسى أن يستعيد أول عهده به، غير أنه يرتطم بأحد الجدران فتسمع قرقعة ويعلو نحيبه فيخور خوار الثور ويسقط على الأرض سقوط الجندل الأصمّ. ويخطر له أن يفر فيسحبه الرجل الجحيم بيدين كذراعي جرّافة ويقبل عليه يرجّه رجّا ويقذفه في الهواء وأفواه القوم مشدوهة والأرجل تتقهقر حينا فتتعثر وتتساقط ثم تقوم فتشرئب الأعناق.
وفي سفرة من السفرات يقفز إلى ذهن الجعبس هاجس فيفر منه سؤال:
• ألست…ألست النمرود..كلّا.. يأجوج.. ألست أنت كائن الحلم… أيها الـ………. الهِرَقْلُ؟
ويأتيه الجواب ركلة ينِزّ لها بوله وبرازه. ويشتد حنق الجِلف فيرفعه إلى عينيه الحمراوين في ثانية فيذوب الجعبس ذوبانا ويظن الناس أنه أرسله إلى المجهول، وما هي إلاّ ثوان معدوداتٌ حتى تسقط منه في الساحة يد تليها قدم ويتكوم أمام أعينهم كدسا من اللحم فيحسبونه قضى. ولولا أن لسانه مازال يتحرك ببطء كلسان الثمل لَتَرَكَه العَلندَى، ولكنه يلتقط بقاياه من جديد فيقذفه قذف الكرة. بعيدا رأى الناس صومعة الجامع وقد انفجرت لما ارتطم بها الجعبس أبو درة المهذار الذي ارتد إلى الساحة من جديد، فوجد نفسه بين قدمي الرجل الجحيم بلا حراك.. فيعيد التّسآل في حرقة والأجوبةُ ركل ودكّ وفرك وحكّ..
أما عرفتموني؟
وجاء من أقصى المدينة كائن ضعيف البنية بشاربين معقوفين كحدوة البغل. يرفع يده عاليا. يتوقف الغضنفر. فيقول القادم:
• أما عرفتموني؟
ويطوف ببصره في الجموع فتتقهقر..
• أنا الخيثعور أيها الملاعين.. أَحَيّركم أمر الجعبس؟ ثكلتكم أمّهاتكم.
ويلتفت إلى الجعبس الغارق في بصاقه ودموعه وبرازه وبوله ودمائه ودموعه فيقول:
• إنّ لي عندك دينا.
ثم يقبل على الجعبس فيدكه بِجُمع يُتَعْتِعُهُ. ثم يخطف درّته خطفا كأنه الجنّ فتطفِرُ منابت شعره بالدماء. ويذوب الخيثعور كدخان الجاوي تاركا الجعبس بلا درّة بين يدي الرجل الجحيم. يسحبه إليه فيثبته ويفتح فاه ويقتلع لسانه قلع الضّرس، فيخور الجعبس بلا درة خوار البقر. ثم ينصرف الرجل الجحيم ممسكا لسان الأفعى بيده. حينها يتقدم الناس من المهذار فإذا هو ساكن صامت صمت الجثث.
كأنها الضفادع..
في الأيام التالية حاصرت المدينة ألسنة عجيبة نبتت من كل الأرجاء.. ألسنة حمراء عجيبة كاللهب تتقافز كأنها الضفادع. فقال الناس إن الرجل الجحيم ردم لسان الحية في تراب المدينة فأينع. وذكر بعضهم أن اللسان أفلت منه. وقال آخرون إن المدينة لم تنذر شيئا إثر الخلاص من لسان أبي درة المهذار.
تنويه مني أنا عيسى بن الهادي بن محمد الطيب جابلي كاتب هذه القصة: نقلت القصة حرفيا كما سمعتها من الراوي بلا زيادة ولا نقصان. وليس لي من فضل سوى أنني أضفت بعض العناوين الفرعية في متن النص. وأجزم واثقا أنّها محض خيال من صنع الراوي ولا صلة لها بمكان أو زمان.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عيسى جابلي كاتب من تونس
- الحبر المدرار في تفصيل حكاية صاحب اللسان البتار وذكر ما كان من أمر الجعبس أبي درة المهذار
الجديد [نُشر في 01/07/2015، العدد: 6، ص(87)]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...