* ( الأهداء / إلى الصديق المبدع محمّد فري وهيئة تحرير هذا المطر الملهم ...)
الدّغفوص أبو التآليل هوّ أقرب الشّياطين إلى قلبي. ذلك أنّه لا يرشّ الماء البارد ولا يبالغ في إفزاع الزّوّار. ثمّ أنّه جاري الذي يشاركني الرّواق الثالث يمينا ويحتلّ الموقع المقابل لي تماما قرب نافورة الدّم ونسيج سلعوط, الخرتيت العملاق , الذي يعترض عربات الزّوّار ملفوفا في شريط طويل من الكتّان الأبيض بشريط لزق من البلاستيك المخلوط بذرّات الفسفور.
رائحة البخور ودخّان خشب الصندل المحروق وهي تعبق وتتصاعد ملتوية بكثافة و الأضواء المتراقصة التي تنعكس على المرايا المعلّقة عند كلّ زاويّة, توحي للوافد بالرّهبة والتّوجس وبأنّ لا شيء ثابت ولا شيء يدعو للثّقة والاطمئنان في هذا المكان المعتّم كامل الوقت.
عدّلت قناعي, وأحكمت ربط الحزام الجلديّ حول خصري جيّدا. كلّ شيء على ما يرام. اتّجهت مباشرة صوب الكرسيّ الهزّاز, وكما توقّعت, وجدت مطرقتي الخشبيّة ملقاة على الأرض. هذا الحيوان - فلادمير – يصرّ على تركها على الأرض كلّ ليلة فأضطرّ للبحث عنها طويلا في الظّلام الدّامس حين أصل أحيانا متأخّرا, بعد إغلاق الأبواب استعدادا لبدء العرض, رغم رجائي وإلحاحي المتواصل بأن يتركها لي فوق الكرسيّ الهزّاز. أحدّثه, فيهرش جرب بطنه ويحكّ البقيّة المتبقيّة من شعره المدهون بمرهم غريب كريه الرّائحة, ويردّد ببلاهة وهو يهرشّ رأسه المنتوف و المليء بالبثور … أوكي…أوكي . وكأنّني أنفخ في قربة مثقوبة.
حالما جلست, أحسست بأنّ الدغفوص أبو التآليل متغيّر ومتجهّم أكثر من المعتاد. ربّما لأنّني لم أحيّيه كعادتي, حال دخولي, كما كنت أفعل كلّ صباح. رغم أنّني غير مطالب إطلاقا بتحيّة أحد, من الزّملاء الأموات أو من الشياطين الأنصاف المبتورين, أو المردة الغلاظ بالتأكيد .
صحيح, بأنّني اعتدت منذ اليوم الأوّل على تحيّة الجميع, قبل وضع قناعي وتعديل الكرسيّ الهزّاز. ولكنّني كنت أفعل ذلك فقط من أجل التسلية, وعلى سبيل السّخرية من وضعي الغريب. ولمدارات تلك الكآبة المرّة التي تلازمني كامل الوقت منذ شهرين. بعد استقالتي من العمل.
شهران وأنا أعاني من الإفلاس التّام. لا أعني ذلك الإفلاس البرجوازي, حين تبدأ في التفكير العميق من أجل إيجاد حلّ لمصاعبك المادّيّة والتفكير في الغد. ولكنّني أقصد ذلك الإفلاس الكالح حين لا يكون بجيبك أكثر من ثلاث قطع حمراء غير صالحة لشيء, حتّى أنّك تشعر بارتياح, حين تلقى بها بما تستطيع من جهد بعيدا, أو تقذف بها عاليا صوب الغيوم.
أحيانا, كان يمرّ عليّ الأسبوع والأسابيع ولا شغل لي صباح مساء, غير التفكير في كيفية تحصيل ثمن علبة السجائر. وبالرّغم من أنّني كنت أدخّن في تلك الفترة أضعاف ما أدخّنه عادة من سجائر, فإنّني لا أعلم الآن إطلاقا من أين كنت أدبّر حالي وأوفّر المال القليل اللازم لذلك.
تعرّفت منذ اليوم الأوّل إلى جميع الزّملاء من الأحياء والأموات والشياطين والمردة والزّواحف والغيلان. فلادمير وأنا وسالمان النيجيري وكلاوس وايفان وهوكي البلغاري هم فريق الأحياء أمّا فريق الشّياطين, فيتكوّن من دغفوص أبو التآليل والجعلول الأفطس وبرباقوس الأبتر ونفّوش أبو إصبعين والرحراح والغضفور المزعنف وأبو الحرشاء التهلالي والملقوش الدنف والجابالوطي. وأمّا الدّرواع والفدسان والخبخب وطالمور وبرونصاسيس ونقشبقشا والرّغدود والتختاخي واللوزعير والتشّه والفدعسة
وخربوط العطّاس والخفجافور, فهم فريق المردة. في حين أنّ الخرتيت سلعوط وحرفوشه أمّ أربع وأربعين واللّسوعة والليماني والملقاط والدّاهش يكوّنون فريق الزّواحف والغيلان.
بالطّبع هناك أيضا عشرات الزملاء من الأطراف والأجزاء الأرباع والأثمان, وبالرّغم من أنّني لا أنكر أهميّة دورهم وإتقانهم المدهش للعمل, فإنّني لم أفكّر أبدا في إعطائهم أسماء خاصّة. ولم يكن ذلك عن تكبّر أو غرور, ولكنّني وبصراحة, لست مستعدّا إطلاقا لمعاملة كائنات بدون رؤوس على أنّها موجودة, رغم أنّها موجودة فعلا. والمشكلة لا تقف فقط عند حدود فقدان الرّؤوس, ولكن أيضا لكون أغلب هؤلاء السقط لا رقبة ولا صدر ولا بطن ولا حوض لهم. بل أن أغلبهم أجزاء مبتورة من أعضاء منقوصة. كتلك اليد المبتورة مثلا, والتي تتلاعب بها الجرذان الخشبيّة كامل الوقت مدحرجة إياها مرّة للأسفل ومرّة تسحبها للأعلى. أو مثل ذلك الحذاء المشدود إلى نصف ساق مسلوخة تتدلى منها أسلاك أعصاب مرتعشة. كيف اسمّيهما زملاء لي وأنا الذي ينتمي إلى أعلى طبقات الغيلان الأحياء؟ المسألة ليست مسألة غرور. بل مسألة مبدأ بالأساس. الحيّ حيّ والميّت ميّت. الكامل ليس كالجزء. ولا ينبغي خلط الأمور لمجرّد العاطفة.
طبعا ينبغي أن أكون سعيدا, أنّني وجدت عملا كهذا, بمكافأة مقدارها مئة أورو في اليوم. عشر ساعات من العمل, كلّ ساعة بمئة أورو. نعيم ورحمة من السماء في بلد يموت فيه المرء متعفّنا من الجوع إذا كان وحيدا ولا دخل ثابت له. ثمّ أن أبواب السّماء مغلقة أغلب الوقت في هذا الوقت الرصاصي, بين فخذ الخريف وقصبة شهر الآلام, ديسمبر المرّ.
كنت محبطا قبل أسبوع. ولأنّني وصلت إلى حالة لا تطاق من اليأس الشديد والإفلاس المريع. قرّرت يومها زيارة مهرجان أكتوبر. أكبر مهرجان للاحتفال بمحصول البيرّة في العالم والذي يقام طبعا بمدينة ميونخ عاصمة مقاطعة بافاريا, حيث أقيم منذ سنوات طويلة. إنّه مهرجان ضخم, تقام به الألعاب وتتراقص الأضواء فيه وتسكب كؤوس البيرّة البيضاء والصفراء, نصفها إلى الأرض والنّصف الآخر مكرّرا عند مداخل محطّات المترو والحافلات العموميّة الزرقاء بعد منتصف اللّيل, حين يتدافع الدّجاج واللّفت المقشّر المرشوش والخبز المملّح ورغوة البيرّة البيضاء في الأمعاء.
خرجت يومها أتجوّل. وحين وصلت ساحة المهرجان المكتظّة, اعترتني فكرة مجنونة. أن أسأل امرأة جميلة كانت تجلس داخل كشك بلّوري إذا ما كانوا في حاجة لمساعدين وقتيين خلال الأسبوعين المتبقيين للمهرجان. كانت تبيع تذاكر الدّخول لأحد المباني الخشبيّة الكبيرة والتي تخصّصت في تقديم عروض مثيرة لاثارة الخوف والفزع. رحلة إلى الجحيم. هكذا كان اسم العرض. أزقّة مظلمة, أعرفها وكنت في ما مضى أخشاها. تركب عربة سوداء تدخل بك في دهاليز وممرّات ضيّقة تتقافز من أركانها كائنات غريبة ومخيفة.
ابتسمت السيّدة الجميلة كاشفة عن أسنان مركّبة وأشارت صوب باب جانبي صغير عند آخر المبنى قائلة : - ” أدخل من هناك واسأل عن السيّد اوبربارغ, إنّه زوجي وأعتقد بأنّه يحتاج مساعدين. وإذا لم تجده فانتظر قليلا سيأتي خلال دقائق بالتّأكيد.”
حين دخلت كما أشارت, إعترضني كهل تبدو عليه ملامح النّبل والطيبة وسألني عن غايتي . أخبرته بأنّ السيّدة التي تبيع التذاكر أذنت لي بالدّخول للسؤال عن السيّد اوبربارغ. ابتسم وأفادني بأنّه السيّد اوبربارغ نفسه, صاحب المبنى وبأنّه يحتاج فعلا لمساعدين إضافين.
وشرح لي في بضعة جمل ما ينتظر منّي. عليك أن تلبس هذا القناع وتلعب دور فرايدي السفّاح الذي يتسلل في الأحلام ليقطّع الأوصال ويمزّق الأعضاء بوحشيّة. والمكافأة مئة أورو في اليوم إضافة لوجبتين من الأكل والمشروبات طبعا. أضاف قائلا.
في ذلك اليوم, لم يكن قد تبقى في علبة سجائري أكثر من سيجارتين. و بالرّغم من أنني كنت أنتظر أن أساعد في بيع التذاكر أو تنظيم الدّخول ولم أكن أتوقّع إطلاقا أن ألعب دور سفّاح بين غيلان وشياطين وجنّ وعفاريت مبتورة وزواحف مشطورة. في مغارات الجحيم. ولكنّني لم أتردّد لحظة واحدة في قبول الدور. متلفّظا بأقصى ما أستطيع من عبارات الشّكر. مئة أورو في اليوم . كلّ يوم. يا ربّ السّماوات والأرض ما أرحمك. رائحة فرايدي السفّاح المفوّح بعبير مئة أورو يوميّا, أرحم بكثير من رائحة جسدي المحبط المفلس الذي أحمل تابوته منذ شهرين.
كلّف السيد اوبربارغ أحد المساعدين من الزملاء الغيلان الأحياء, بأخذي فورا لمكان عملي. الممرّ الثالث بين دغفوص أبو الثآليل وسلعوط الخرتيت العملاق. فقدّم لي نفسه مقهقها بطريقة ماجنة لم أفهم ما الدّاعي إليها. وقال: سالمان. من نيجيريا. زميل. طالب. أعمل أيّ شيء. عامل بناء. أستاذ إنجليزيّة. نجّار. خرّاط. ممثّل أفلام جنسيّة. شاعر. كلّ شيء. قال ذلك ثم ضربني على كتفي بكفّ غليظة ضربة كادت تسقطني أرضا. وحين نظرت إليه مندهشا فهمت من تعبير وجهه المليء بالبثور بأنها طريقته في التعبير عن سعادته بوجودي معه. قلت هي مئة أورو. وسالمان ووجبتين. وتبعته وهو يقودني للممرّ الثالث. وحين وصلنا أعاد شرح دوري. اجلس على هذا الكرسيّ الهزّاز. والبس هذا القناع, وحين تمرّ بك عربة, عليك أن ترفع ذراعك اليمين هكذا, وتلوّح بالسكّين في وجوه الزوّار القابعين في العربة. ولا تنسى أن تصيح آآآآع. هذا كلّ ما في الأمر. ولكن رجاء لا تسبق هذه الرّتّيلاء – يقصد سلعوط الخرتيت- حتّي لا تفسد عليه عنصر المباغته. وحين يطفأ الضوء الأحمر ويشتعل الضوء الكاشف فيمكنك أن تصرخ.
- عليك أن تصيب الجميع بالذّعر الشديد. وخاصة الأطفال. قال. هكذا يريد السيد اوبربارغ.
أجبته بأنّني سأحاول أن أكون أرذل شيطان . فقال موضّحا لي مرّة أخرى:
- أنت تنتمي إلى فريق الغيلان وليس فريق الشياطين. أضواؤنا حمراء وأضواءهم صفراء. هذا هوّ الفرق.
- إذن سأكون غيلان عند حسن الظن. وسأجعل الأطفال يتبوّلون قبل خروجهم من العربة, عقّبت مازحا. ولكنّ سالمان كان منشغلا عنّي بتعديل أنف دغفوص أبو الثآليل المدبّب.
في البداية استهواني دوري وكنت أحس بمتعة حقيقيّة وأنا أتابع من خلال ثقبتي القناع البلاستيكيّ نظرات الفزع وتعابير الجزع الشديد في عيون ضحاياي. وكانت عبارات السباب تنزل بردا وسلاما على قلبي وتشعرني بنجاح دوري. كما أنّني لم أكن أشعر بالأسف حين يبكي الأطفال ملتصقين بأفخاذ الأمّهات. إنّهم يريدون ذلك. بل أنّني كنت أراهم من الثّقب الصغير المطلّ على الشارع وهم يجرّون أولياءهم ملحّين على الدخول لمعاقل الرّعب. فعلام إذن أشعر بالأسف. لكلّ بائع بضاعة. وبضاعتي بث الرّعب في نفوسهم. أليس هذا هوّ دوري الذي أحصل مقابل القيام به على مبلغ مئة أورو في اليوم؟ إطلاقا, لا ولن أشعر بالأسف. ثمّ أنّ السيّد اوبربارغ يريد هكذا. لست أقلّ موهبة من سلعوط الخرتيت أو دغفوص أبوالتآليل.
حقيقة لم أفهم بعد سبب تجهّم دغفوص أبو التآليل هذا الصباح. هل خيّل لي ذلك. أم هوّ إحساس غريب بأنّه أكثر من مجرّد دمية ملوّنة من البلاستيك المقوى؟
قد يكون الإرهاق الشديد, بعد أسبوع من العمل عشر ساعات في اليوم. والاستيقاظ باكرا والنوم متأخرا كلّ ليلة. من المؤكّد أنّه الإرهاق. حتّى أنّني أحسست اليوم أكثر من مرّة بأنّ سلعوط الخرتيت يختلس النظرات إلي. رغم أنّني متأكّد بأنّ وضع رأسه وحركته الميكانيكيّة لا تمكّنه من ذلك. إنّه ركّب وصنع بشكل معيّن لا يمكنه معها أن يرفع برأسه نحوي. مالذي يحدث بالممرّ الثالث؟ مالذي أصابني حتّى أشعر بأنّني متابع ؟ عيون تترصّدني في الظلام. نظرات مليئة بالحقد والشرّ أحسّها تحيط بي. شعور بأنّ مؤامرة تحاك في الخفاء ضدّي.
في البداية لم أصدّق عيني. صعقت. دبّ الشلل إلى كلّ أطرافي. وانساب خيط من السائل البارد بين قدميّ. دغفوص أبو التآليل ينهض ويلوّح بذراعه
نحوي ؟؟ سمعته بأذني هذه التي سيأكلها الدّود. سمعته بوضوح وهو يصيح : -” لماذا تصرخ قبل انطفاء الضوء الأحمر ؟.... أنت تفسد الشغل. ألا تفهم؟ ألا تفهم أنّ دورك بعد انطفاء ضوئي؟ ألا تريد أن تفهم”
لم تكن هناك عربة بالممرّ. ولم يكن ممكنا أن يحدث ذلك. دغفوص أبو التآليل, مثله مثل كلّ الدمى الميكانيكيّة لا يغيّر حركته. هوّ مركّب ليتحرّك نصف حركة لولبيّة حين تضغط العربة الحديديّة على سلكه الممغنط. لا أكثر ولا أقل. ثمّ أنّه لم يكن مبرمجا ليتكلّم. حتى أنّ شفتيه ملتصقتين. هوّ مبرمج لأداء حركة واحدة كانت ثابتة كامل الأسبوع الذي كنت اعدّل خلاله صيحاتي وقيامي من الكرسي الهزّاز علي حركته الميكانيكيّة الثابته. ماذا حدث بحقّ السّماء؟
صرخت بأعلى صوتي وتركت مكاني مذعورا. خرجت من الباب المقابل لسلعوط الخرتيت. في المرّة الثّانيّة
في الخارج اصطدمت بالسيّد اوبربارغ. نظر إليّ باندهاش شديد, ولمّا أخبرته بما حصل تبدّلت نظرته إلى استياء واضح وهمهم : ” مرّة أخرى الممرّ الثالث من جديد؟…هذا أمر لا يصدّق. ”
ولمّا سألته لاهثا عمّا يقصد بذلك, أجابني بأنّي الشخص الرّابع الذي يهرب هذا الأسبوع من دمية الغول – يقصد دغفوص أبو التآليل – وبأنّني الوحيد الذي بقي لمدّة أسبوع. أمّا البقيّة فقد هربوا عن العمل بالممرّ الثّالث منذ الساعات الأولى. ثمّ طبطب على كتفي بحنان أبويّ وقال لي بأنّ ذلك لأنّ دمية الغول مصنوعة بأحدث المصانع المختصّة بإسرائيل. وبأنّه اشتراها منذ أسبوعين فقط. وهي من أفضل مجموعته من الدمى. وأضاف بأنّه يفهم أنّنا – يقصد الأجانب-
تربينا على الخوف وحكايات الجدّة عن الجنّ والعفاريت. لذلك كان تأثير الظلام ولعلعة الصوت والمؤثّرات الصوتيّة إضافة لكون دمية الغول – يقصد دغفوص أبو التآليل- دمية صنعت بمنتهى الإتقان والدّقة. هذا كلّ ما في الأمر قال مضيفا, وهو يناولني كوبا من الماء
نظرت إليه متردّدا, واعتذرت عمّا حدث وأنا ألبس قناعي من جديد متّجها نحو مكان عملي.
كنت شبه متيقّن بأنّني نمت أثناء جلوسي في انتظار عربات الزوّار. وأنّ كلّ ما حدث لا يعدو أن يكون حلما تافها. سبّبه إرهاقي الشديد والدور المملّ المتكرر الذي أقوم به منذ أسبوع كامل.
حين دخلت, كان الممرّ مضاء. وقد كنت تعلّمت من خبرتي خلال أسبوع, بأنّ ذلك يعني أنّ هناك خلل وقع في بداية الممرّ الأوّل أو الثاني مما يستوجب إضاءة الأنوار لدقائق حتّى يتسنى للتقنيين إصلاح العطب. والأغلب أنّ العطب وقع كعادته عند بداية الممرّ الثّاني.
نظرت صوب الدّغفوص أبو التآليل... فإذا هوّ دمية خرقاء. دمية ملوّنة من البلاستيك. تبدو مخيفة ولكنّها دمية باردة من البلاستيك. لا أكثر ولا أقلّ.
* **
خمسة آلاف أورو من أجل دمية بلاستيكيّة خرقاء؟
لم أعتقل بمركز البوليس سوى خمس ساعات. ولكنّ نظرات عون الأمن المليئة بالسخريّة ستترك آثارها لمدّة طويلة بالتأكيد.
- سيكلّفك ما فعلت غاليا. قال عون الأمن الأشقر وهو يضيّق عينه اليسرى. خمسة آلاف أورو سعر الدمية – يقصد دغفوص أبو التآليل – إضافة للغرامة التي ستحكم بها المحكمة وتعويضات إعاقة العمل الذي تقدّم به ضدّك السيّد اوبربارغ رسميّا. سيكلّفك ما فعلت غاليا قال مرّة أخرى.
لا أذكر الآن كيف حدث ذلك. ومتى انهلت على الدغفوص أبو الثآليل بالكرسيّ الهزّاز. ولا أكاد أذكر بالتحديد كيف اقتادني أعوان الأمن إلى مركز الشرطة. غشاوة سوداء تحجب الآن كلّ ذلك.
كلّ ما أذكره بأنّني كنت كلّما سألوني, - لماذا حطّمت الدمية, أصرخ , بأنّ إسمه دغفوص أبو التآليل. وبأنّه سبّ المرحومة أمي الحاجّة هنيّة بنت عمر الربيعى ووصفها بما لا يليق.
الدّغفوص أبو التآليل هوّ أقرب الشّياطين إلى قلبي. ذلك أنّه لا يرشّ الماء البارد ولا يبالغ في إفزاع الزّوّار. ثمّ أنّه جاري الذي يشاركني الرّواق الثالث يمينا ويحتلّ الموقع المقابل لي تماما قرب نافورة الدّم ونسيج سلعوط, الخرتيت العملاق , الذي يعترض عربات الزّوّار ملفوفا في شريط طويل من الكتّان الأبيض بشريط لزق من البلاستيك المخلوط بذرّات الفسفور.
رائحة البخور ودخّان خشب الصندل المحروق وهي تعبق وتتصاعد ملتوية بكثافة و الأضواء المتراقصة التي تنعكس على المرايا المعلّقة عند كلّ زاويّة, توحي للوافد بالرّهبة والتّوجس وبأنّ لا شيء ثابت ولا شيء يدعو للثّقة والاطمئنان في هذا المكان المعتّم كامل الوقت.
عدّلت قناعي, وأحكمت ربط الحزام الجلديّ حول خصري جيّدا. كلّ شيء على ما يرام. اتّجهت مباشرة صوب الكرسيّ الهزّاز, وكما توقّعت, وجدت مطرقتي الخشبيّة ملقاة على الأرض. هذا الحيوان - فلادمير – يصرّ على تركها على الأرض كلّ ليلة فأضطرّ للبحث عنها طويلا في الظّلام الدّامس حين أصل أحيانا متأخّرا, بعد إغلاق الأبواب استعدادا لبدء العرض, رغم رجائي وإلحاحي المتواصل بأن يتركها لي فوق الكرسيّ الهزّاز. أحدّثه, فيهرش جرب بطنه ويحكّ البقيّة المتبقيّة من شعره المدهون بمرهم غريب كريه الرّائحة, ويردّد ببلاهة وهو يهرشّ رأسه المنتوف و المليء بالبثور … أوكي…أوكي . وكأنّني أنفخ في قربة مثقوبة.
حالما جلست, أحسست بأنّ الدغفوص أبو التآليل متغيّر ومتجهّم أكثر من المعتاد. ربّما لأنّني لم أحيّيه كعادتي, حال دخولي, كما كنت أفعل كلّ صباح. رغم أنّني غير مطالب إطلاقا بتحيّة أحد, من الزّملاء الأموات أو من الشياطين الأنصاف المبتورين, أو المردة الغلاظ بالتأكيد .
صحيح, بأنّني اعتدت منذ اليوم الأوّل على تحيّة الجميع, قبل وضع قناعي وتعديل الكرسيّ الهزّاز. ولكنّني كنت أفعل ذلك فقط من أجل التسلية, وعلى سبيل السّخرية من وضعي الغريب. ولمدارات تلك الكآبة المرّة التي تلازمني كامل الوقت منذ شهرين. بعد استقالتي من العمل.
شهران وأنا أعاني من الإفلاس التّام. لا أعني ذلك الإفلاس البرجوازي, حين تبدأ في التفكير العميق من أجل إيجاد حلّ لمصاعبك المادّيّة والتفكير في الغد. ولكنّني أقصد ذلك الإفلاس الكالح حين لا يكون بجيبك أكثر من ثلاث قطع حمراء غير صالحة لشيء, حتّى أنّك تشعر بارتياح, حين تلقى بها بما تستطيع من جهد بعيدا, أو تقذف بها عاليا صوب الغيوم.
أحيانا, كان يمرّ عليّ الأسبوع والأسابيع ولا شغل لي صباح مساء, غير التفكير في كيفية تحصيل ثمن علبة السجائر. وبالرّغم من أنّني كنت أدخّن في تلك الفترة أضعاف ما أدخّنه عادة من سجائر, فإنّني لا أعلم الآن إطلاقا من أين كنت أدبّر حالي وأوفّر المال القليل اللازم لذلك.
تعرّفت منذ اليوم الأوّل إلى جميع الزّملاء من الأحياء والأموات والشياطين والمردة والزّواحف والغيلان. فلادمير وأنا وسالمان النيجيري وكلاوس وايفان وهوكي البلغاري هم فريق الأحياء أمّا فريق الشّياطين, فيتكوّن من دغفوص أبو التآليل والجعلول الأفطس وبرباقوس الأبتر ونفّوش أبو إصبعين والرحراح والغضفور المزعنف وأبو الحرشاء التهلالي والملقوش الدنف والجابالوطي. وأمّا الدّرواع والفدسان والخبخب وطالمور وبرونصاسيس ونقشبقشا والرّغدود والتختاخي واللوزعير والتشّه والفدعسة
وخربوط العطّاس والخفجافور, فهم فريق المردة. في حين أنّ الخرتيت سلعوط وحرفوشه أمّ أربع وأربعين واللّسوعة والليماني والملقاط والدّاهش يكوّنون فريق الزّواحف والغيلان.
بالطّبع هناك أيضا عشرات الزملاء من الأطراف والأجزاء الأرباع والأثمان, وبالرّغم من أنّني لا أنكر أهميّة دورهم وإتقانهم المدهش للعمل, فإنّني لم أفكّر أبدا في إعطائهم أسماء خاصّة. ولم يكن ذلك عن تكبّر أو غرور, ولكنّني وبصراحة, لست مستعدّا إطلاقا لمعاملة كائنات بدون رؤوس على أنّها موجودة, رغم أنّها موجودة فعلا. والمشكلة لا تقف فقط عند حدود فقدان الرّؤوس, ولكن أيضا لكون أغلب هؤلاء السقط لا رقبة ولا صدر ولا بطن ولا حوض لهم. بل أن أغلبهم أجزاء مبتورة من أعضاء منقوصة. كتلك اليد المبتورة مثلا, والتي تتلاعب بها الجرذان الخشبيّة كامل الوقت مدحرجة إياها مرّة للأسفل ومرّة تسحبها للأعلى. أو مثل ذلك الحذاء المشدود إلى نصف ساق مسلوخة تتدلى منها أسلاك أعصاب مرتعشة. كيف اسمّيهما زملاء لي وأنا الذي ينتمي إلى أعلى طبقات الغيلان الأحياء؟ المسألة ليست مسألة غرور. بل مسألة مبدأ بالأساس. الحيّ حيّ والميّت ميّت. الكامل ليس كالجزء. ولا ينبغي خلط الأمور لمجرّد العاطفة.
طبعا ينبغي أن أكون سعيدا, أنّني وجدت عملا كهذا, بمكافأة مقدارها مئة أورو في اليوم. عشر ساعات من العمل, كلّ ساعة بمئة أورو. نعيم ورحمة من السماء في بلد يموت فيه المرء متعفّنا من الجوع إذا كان وحيدا ولا دخل ثابت له. ثمّ أن أبواب السّماء مغلقة أغلب الوقت في هذا الوقت الرصاصي, بين فخذ الخريف وقصبة شهر الآلام, ديسمبر المرّ.
كنت محبطا قبل أسبوع. ولأنّني وصلت إلى حالة لا تطاق من اليأس الشديد والإفلاس المريع. قرّرت يومها زيارة مهرجان أكتوبر. أكبر مهرجان للاحتفال بمحصول البيرّة في العالم والذي يقام طبعا بمدينة ميونخ عاصمة مقاطعة بافاريا, حيث أقيم منذ سنوات طويلة. إنّه مهرجان ضخم, تقام به الألعاب وتتراقص الأضواء فيه وتسكب كؤوس البيرّة البيضاء والصفراء, نصفها إلى الأرض والنّصف الآخر مكرّرا عند مداخل محطّات المترو والحافلات العموميّة الزرقاء بعد منتصف اللّيل, حين يتدافع الدّجاج واللّفت المقشّر المرشوش والخبز المملّح ورغوة البيرّة البيضاء في الأمعاء.
خرجت يومها أتجوّل. وحين وصلت ساحة المهرجان المكتظّة, اعترتني فكرة مجنونة. أن أسأل امرأة جميلة كانت تجلس داخل كشك بلّوري إذا ما كانوا في حاجة لمساعدين وقتيين خلال الأسبوعين المتبقيين للمهرجان. كانت تبيع تذاكر الدّخول لأحد المباني الخشبيّة الكبيرة والتي تخصّصت في تقديم عروض مثيرة لاثارة الخوف والفزع. رحلة إلى الجحيم. هكذا كان اسم العرض. أزقّة مظلمة, أعرفها وكنت في ما مضى أخشاها. تركب عربة سوداء تدخل بك في دهاليز وممرّات ضيّقة تتقافز من أركانها كائنات غريبة ومخيفة.
ابتسمت السيّدة الجميلة كاشفة عن أسنان مركّبة وأشارت صوب باب جانبي صغير عند آخر المبنى قائلة : - ” أدخل من هناك واسأل عن السيّد اوبربارغ, إنّه زوجي وأعتقد بأنّه يحتاج مساعدين. وإذا لم تجده فانتظر قليلا سيأتي خلال دقائق بالتّأكيد.”
حين دخلت كما أشارت, إعترضني كهل تبدو عليه ملامح النّبل والطيبة وسألني عن غايتي . أخبرته بأنّ السيّدة التي تبيع التذاكر أذنت لي بالدّخول للسؤال عن السيّد اوبربارغ. ابتسم وأفادني بأنّه السيّد اوبربارغ نفسه, صاحب المبنى وبأنّه يحتاج فعلا لمساعدين إضافين.
وشرح لي في بضعة جمل ما ينتظر منّي. عليك أن تلبس هذا القناع وتلعب دور فرايدي السفّاح الذي يتسلل في الأحلام ليقطّع الأوصال ويمزّق الأعضاء بوحشيّة. والمكافأة مئة أورو في اليوم إضافة لوجبتين من الأكل والمشروبات طبعا. أضاف قائلا.
في ذلك اليوم, لم يكن قد تبقى في علبة سجائري أكثر من سيجارتين. و بالرّغم من أنني كنت أنتظر أن أساعد في بيع التذاكر أو تنظيم الدّخول ولم أكن أتوقّع إطلاقا أن ألعب دور سفّاح بين غيلان وشياطين وجنّ وعفاريت مبتورة وزواحف مشطورة. في مغارات الجحيم. ولكنّني لم أتردّد لحظة واحدة في قبول الدور. متلفّظا بأقصى ما أستطيع من عبارات الشّكر. مئة أورو في اليوم . كلّ يوم. يا ربّ السّماوات والأرض ما أرحمك. رائحة فرايدي السفّاح المفوّح بعبير مئة أورو يوميّا, أرحم بكثير من رائحة جسدي المحبط المفلس الذي أحمل تابوته منذ شهرين.
كلّف السيد اوبربارغ أحد المساعدين من الزملاء الغيلان الأحياء, بأخذي فورا لمكان عملي. الممرّ الثالث بين دغفوص أبو الثآليل وسلعوط الخرتيت العملاق. فقدّم لي نفسه مقهقها بطريقة ماجنة لم أفهم ما الدّاعي إليها. وقال: سالمان. من نيجيريا. زميل. طالب. أعمل أيّ شيء. عامل بناء. أستاذ إنجليزيّة. نجّار. خرّاط. ممثّل أفلام جنسيّة. شاعر. كلّ شيء. قال ذلك ثم ضربني على كتفي بكفّ غليظة ضربة كادت تسقطني أرضا. وحين نظرت إليه مندهشا فهمت من تعبير وجهه المليء بالبثور بأنها طريقته في التعبير عن سعادته بوجودي معه. قلت هي مئة أورو. وسالمان ووجبتين. وتبعته وهو يقودني للممرّ الثالث. وحين وصلنا أعاد شرح دوري. اجلس على هذا الكرسيّ الهزّاز. والبس هذا القناع, وحين تمرّ بك عربة, عليك أن ترفع ذراعك اليمين هكذا, وتلوّح بالسكّين في وجوه الزوّار القابعين في العربة. ولا تنسى أن تصيح آآآآع. هذا كلّ ما في الأمر. ولكن رجاء لا تسبق هذه الرّتّيلاء – يقصد سلعوط الخرتيت- حتّي لا تفسد عليه عنصر المباغته. وحين يطفأ الضوء الأحمر ويشتعل الضوء الكاشف فيمكنك أن تصرخ.
- عليك أن تصيب الجميع بالذّعر الشديد. وخاصة الأطفال. قال. هكذا يريد السيد اوبربارغ.
أجبته بأنّني سأحاول أن أكون أرذل شيطان . فقال موضّحا لي مرّة أخرى:
- أنت تنتمي إلى فريق الغيلان وليس فريق الشياطين. أضواؤنا حمراء وأضواءهم صفراء. هذا هوّ الفرق.
- إذن سأكون غيلان عند حسن الظن. وسأجعل الأطفال يتبوّلون قبل خروجهم من العربة, عقّبت مازحا. ولكنّ سالمان كان منشغلا عنّي بتعديل أنف دغفوص أبو الثآليل المدبّب.
في البداية استهواني دوري وكنت أحس بمتعة حقيقيّة وأنا أتابع من خلال ثقبتي القناع البلاستيكيّ نظرات الفزع وتعابير الجزع الشديد في عيون ضحاياي. وكانت عبارات السباب تنزل بردا وسلاما على قلبي وتشعرني بنجاح دوري. كما أنّني لم أكن أشعر بالأسف حين يبكي الأطفال ملتصقين بأفخاذ الأمّهات. إنّهم يريدون ذلك. بل أنّني كنت أراهم من الثّقب الصغير المطلّ على الشارع وهم يجرّون أولياءهم ملحّين على الدخول لمعاقل الرّعب. فعلام إذن أشعر بالأسف. لكلّ بائع بضاعة. وبضاعتي بث الرّعب في نفوسهم. أليس هذا هوّ دوري الذي أحصل مقابل القيام به على مبلغ مئة أورو في اليوم؟ إطلاقا, لا ولن أشعر بالأسف. ثمّ أنّ السيّد اوبربارغ يريد هكذا. لست أقلّ موهبة من سلعوط الخرتيت أو دغفوص أبوالتآليل.
حقيقة لم أفهم بعد سبب تجهّم دغفوص أبو التآليل هذا الصباح. هل خيّل لي ذلك. أم هوّ إحساس غريب بأنّه أكثر من مجرّد دمية ملوّنة من البلاستيك المقوى؟
قد يكون الإرهاق الشديد, بعد أسبوع من العمل عشر ساعات في اليوم. والاستيقاظ باكرا والنوم متأخرا كلّ ليلة. من المؤكّد أنّه الإرهاق. حتّى أنّني أحسست اليوم أكثر من مرّة بأنّ سلعوط الخرتيت يختلس النظرات إلي. رغم أنّني متأكّد بأنّ وضع رأسه وحركته الميكانيكيّة لا تمكّنه من ذلك. إنّه ركّب وصنع بشكل معيّن لا يمكنه معها أن يرفع برأسه نحوي. مالذي يحدث بالممرّ الثالث؟ مالذي أصابني حتّى أشعر بأنّني متابع ؟ عيون تترصّدني في الظلام. نظرات مليئة بالحقد والشرّ أحسّها تحيط بي. شعور بأنّ مؤامرة تحاك في الخفاء ضدّي.
في البداية لم أصدّق عيني. صعقت. دبّ الشلل إلى كلّ أطرافي. وانساب خيط من السائل البارد بين قدميّ. دغفوص أبو التآليل ينهض ويلوّح بذراعه
نحوي ؟؟ سمعته بأذني هذه التي سيأكلها الدّود. سمعته بوضوح وهو يصيح : -” لماذا تصرخ قبل انطفاء الضوء الأحمر ؟.... أنت تفسد الشغل. ألا تفهم؟ ألا تفهم أنّ دورك بعد انطفاء ضوئي؟ ألا تريد أن تفهم”
لم تكن هناك عربة بالممرّ. ولم يكن ممكنا أن يحدث ذلك. دغفوص أبو التآليل, مثله مثل كلّ الدمى الميكانيكيّة لا يغيّر حركته. هوّ مركّب ليتحرّك نصف حركة لولبيّة حين تضغط العربة الحديديّة على سلكه الممغنط. لا أكثر ولا أقل. ثمّ أنّه لم يكن مبرمجا ليتكلّم. حتى أنّ شفتيه ملتصقتين. هوّ مبرمج لأداء حركة واحدة كانت ثابتة كامل الأسبوع الذي كنت اعدّل خلاله صيحاتي وقيامي من الكرسي الهزّاز علي حركته الميكانيكيّة الثابته. ماذا حدث بحقّ السّماء؟
صرخت بأعلى صوتي وتركت مكاني مذعورا. خرجت من الباب المقابل لسلعوط الخرتيت. في المرّة الثّانيّة
في الخارج اصطدمت بالسيّد اوبربارغ. نظر إليّ باندهاش شديد, ولمّا أخبرته بما حصل تبدّلت نظرته إلى استياء واضح وهمهم : ” مرّة أخرى الممرّ الثالث من جديد؟…هذا أمر لا يصدّق. ”
ولمّا سألته لاهثا عمّا يقصد بذلك, أجابني بأنّي الشخص الرّابع الذي يهرب هذا الأسبوع من دمية الغول – يقصد دغفوص أبو التآليل – وبأنّني الوحيد الذي بقي لمدّة أسبوع. أمّا البقيّة فقد هربوا عن العمل بالممرّ الثّالث منذ الساعات الأولى. ثمّ طبطب على كتفي بحنان أبويّ وقال لي بأنّ ذلك لأنّ دمية الغول مصنوعة بأحدث المصانع المختصّة بإسرائيل. وبأنّه اشتراها منذ أسبوعين فقط. وهي من أفضل مجموعته من الدمى. وأضاف بأنّه يفهم أنّنا – يقصد الأجانب-
تربينا على الخوف وحكايات الجدّة عن الجنّ والعفاريت. لذلك كان تأثير الظلام ولعلعة الصوت والمؤثّرات الصوتيّة إضافة لكون دمية الغول – يقصد دغفوص أبو التآليل- دمية صنعت بمنتهى الإتقان والدّقة. هذا كلّ ما في الأمر قال مضيفا, وهو يناولني كوبا من الماء
نظرت إليه متردّدا, واعتذرت عمّا حدث وأنا ألبس قناعي من جديد متّجها نحو مكان عملي.
كنت شبه متيقّن بأنّني نمت أثناء جلوسي في انتظار عربات الزوّار. وأنّ كلّ ما حدث لا يعدو أن يكون حلما تافها. سبّبه إرهاقي الشديد والدور المملّ المتكرر الذي أقوم به منذ أسبوع كامل.
حين دخلت, كان الممرّ مضاء. وقد كنت تعلّمت من خبرتي خلال أسبوع, بأنّ ذلك يعني أنّ هناك خلل وقع في بداية الممرّ الأوّل أو الثاني مما يستوجب إضاءة الأنوار لدقائق حتّى يتسنى للتقنيين إصلاح العطب. والأغلب أنّ العطب وقع كعادته عند بداية الممرّ الثّاني.
نظرت صوب الدّغفوص أبو التآليل... فإذا هوّ دمية خرقاء. دمية ملوّنة من البلاستيك. تبدو مخيفة ولكنّها دمية باردة من البلاستيك. لا أكثر ولا أقلّ.
* **
خمسة آلاف أورو من أجل دمية بلاستيكيّة خرقاء؟
لم أعتقل بمركز البوليس سوى خمس ساعات. ولكنّ نظرات عون الأمن المليئة بالسخريّة ستترك آثارها لمدّة طويلة بالتأكيد.
- سيكلّفك ما فعلت غاليا. قال عون الأمن الأشقر وهو يضيّق عينه اليسرى. خمسة آلاف أورو سعر الدمية – يقصد دغفوص أبو التآليل – إضافة للغرامة التي ستحكم بها المحكمة وتعويضات إعاقة العمل الذي تقدّم به ضدّك السيّد اوبربارغ رسميّا. سيكلّفك ما فعلت غاليا قال مرّة أخرى.
لا أذكر الآن كيف حدث ذلك. ومتى انهلت على الدغفوص أبو الثآليل بالكرسيّ الهزّاز. ولا أكاد أذكر بالتحديد كيف اقتادني أعوان الأمن إلى مركز الشرطة. غشاوة سوداء تحجب الآن كلّ ذلك.
كلّ ما أذكره بأنّني كنت كلّما سألوني, - لماذا حطّمت الدمية, أصرخ , بأنّ إسمه دغفوص أبو التآليل. وبأنّه سبّ المرحومة أمي الحاجّة هنيّة بنت عمر الربيعى ووصفها بما لا يليق.