جابر عصفور - وسطية الطيب صالح..

طوال معرفتي الطويلة بالطيب صالح كنت أتأكد, يوما بعد يوم, أنه رجل وسطي, ينفر من الحدية في الفكر أو الإبداع وكنت, ولا أزال, أري أن قصته القصيرة دومة ود حامد هي أقرب أعماله الأدبية في تمثيل ذوقه وميوله وطبيعة شخصيته, فالقصة تدور حول الصراع بين التحديث والتقاليد المتوارثة, فأهل القرية التي يبدو أنها تشبه القرية التي ولد فيها الطيب صالح نفسه, كانوا قد توارثوا التبرك بشجرة الدوم التي تظلل قبر ولد حامد الذي تحول إلي ما يشبه المقام الذي يتبارك به العامة في مصر, وهي تتحول إلي نوع من الرمز في السرد, وحين يقترب التحديث من القرية, وتبدو فكرة إقامة مصنع, في موضع شجرة الدوم والمقام تحدث أحداث غامضة, تنتهي كلها إلي تعطيل البناء, كأن وجود أحد النقيضين نفي للآخر ويأتي الحل الوسط بنوع من التوفيق الذي يجاور بين النقيضين,
دون أن ينحاز الراوي إلي نظرة حدية تميل إلي استئصال أحد الطرفين وهو تكييف يدفع القارئ إلي تذكر رواية قنديل أم هاشم رائعة المرحوم يحيي حقي الذي كدنا ننساه والرواية القصيرة التي صدرت من صاحبها كالطلقة تدور حول الصراع نفسه بين الحداثة والتحديث من ناحية والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي ترسخ فتغدو في وزن العقائد الدينية التي يصعب علي صاحبها التخلي عنها من ناحية مقابلة. ويتجسد ذلك في ابن الأسرة التي تقطن حي السيدة زينب التي تعيش في بركة المقام الزينبي, محمية بنفحاته الروحية, معتادة علاج أمراضها بزيت القنديل المبروك, ويذهب البطل إلي ألمانيا محملا والده التاجر مصاعب تدبير نفقات تعليمه في الخارج, ولكن الأب يتحمل المصاعب, حالما بعودة الابن الذي لابد أن يكون فخرا للأسرة, ولكي يكمل فرحة أمه وأبيه بزواجه من قريبته التي قررا رعايتها كابنتهما, ونذراها زوجة للابن بعد عودته.
ويعود الابن ليكتشف أن قريبته الموعود بها مريضة العينين, وأنها تعالج عينيها بقطرات تقطرها أمه من زيت قنديل أم هاشم التي تؤمن والمريضة أنه زيت مبارك, فيه الشفاء الأكيد ويثور الطبيب العائد من ألمانيا, مزودا بأحدث معارف طب العيون, ويرفض العلاج بزيت القنديل, بل يذهب في ثورة سخطه علي التقاليد البالية إلي حد تحطيم زيت القنديل المبارك ويبدأ علاجه المريضة بكل وسائل طب العيون الحديثة التي نجحت معه في عشرات الحالات, ولكنها لم تفلح مع قريبته وزوجته المستقبلية التي ازداد مرضها تفاقما بعد أن حطم القارورة التي تحتوي قطرات الزيت المبارك, والقنديل الذي يمتلئ به وينتهي الأمر إلي أزمة نفسية روحية لا يخرجه منها سوي عودته إلي المقام, والحصول علي قارورة جديدة من زيت القنديل التي قرر أن يجاور بين قطراتها ووسائل الطب الحديث وينجح في محاولته هذه المرة, فالمريضة اطمأنت إلي استخدام الزيت المبارك الذي توارثت الاعتقاد فيه, والدكتور إسماعيل يستغل هذا الاعتقاد ويجاور بينه والوسائل الحديثة, جامعا بين التقاليد والحداثة, موفقا بين الإيمان المتوارث والعلم الحديث المكتسب, مدركا أن هذا النوع من المجاورة أو التوفيق بين الأضداد هو الحل في المجتمعات المتخلفة التي نعيش فيها.
أذكر أنني حين قرأت قنديل أم هاشم في شبابي الباكر رفضت ما رأيته فيها وسطية, وكنت في هذه الأيام حديا أتهم كل محاولة للتوفيق بالتلفيق وزاد من ثورتي علي قنديل أم هاشم ما تحول إليه الدكتور إسماعيل نفسه الذي أصبح هليلهليا يتراكم كرشه, ويتزاحم عليه المرضي الذين صاروا يرون فيه راجل بركة وكنت أقول لنفسي كأنك يا أبا زيد ما غزوت, قاصدا إلي أن الرجل تخلي عن العلم من أجل الخرافة ولكن عندما اشتعل رأسي شيبا, وجدت نفسي أقرب إلي فهم منظور الرواية, وطيب مقصدها في المصالحة بين العلم والمعتقدات الشعبية, بدل التضاد العدائي بينهما ولذلك سهل علي فهم منطق الطيب صالح الذي كان يري ضرورة المصالحة بين النقائض المتعادية, ما ظل تقدم الأمة محتاجا إلي هذا النوع من المصالحة ولذلك كنت أداعبه, أحيانا, بتشبيهي له بالأب ياناروس الذي سعي جاهدا إلي أن يصالح بين الإخوة الأعداء الذين يجمعهم طريق الثورة في اليونان المتمردة علي استعمارها التركي,
فكان يري نوعا من القرابة بين ماركس ولينين ورموز الدين المسيحي, وكنت أداعب الطيب صالح بما كنت أداعب به صديقي اللدود حسن حنفي من أن هذا أشبه بنوع من التلفيق الفكري وكان الطيب أكثر هدوءا وصبرا علي انتقاداتي, ربما لأنه كان مدركا أنها نوع من التفكير بصوت مرتفع, والتعبير عن أسئلة مؤرقة لا تزال تسكنني ولذلك كان يبتسم, دائما, ويجيب علي طريقة الحكماء الرزينة, وبصوت لا يعرف الغضب بما يهدئ من اعتراضاتي, متسعا بأفق الوسطية في إمكان وجودها وفائدتها.
وشيئا فشيئا أدركت أن الوسطية سمة أساسية في شخصيته وأدبه, ودليل ذلك أنه قاد مصطفي سعيد الشخصية الحدية في موسم الهجرة إلي الشمال إلي الدمار, بينما أبقي علي شخصية الراوي الذي كنا نراه نقيض مصطفي سعيد في السلوك وفي الوقت نفسه فإن السيرة الروائية التي كتبها لصديقه منسي, وهي سيرة إنسان نادر علي طريقته, فيما يؤكد العنوان الذي يؤكد الاختلاف الجذري بين الطيب والمنسي, حيث الاختلاف الحدي يظل ماثلا بين الصديقين اللذين يجد كل منهما في الآخر ما ليس فيه, فيتصلان من هذا المنظور, فالطيب لم يكن ينطوي علي روح المغامرة المندفعة إلي أقصي حد, علي النقيض من منسي, الذي ظل رجلا نادرا, لكن ليس علي طريقة الطيب صالح.


جابر عصفور
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...