البانوسي بن عثمان - رجّع بعيد لصدى ضحكة مجلجلة.. قصة قصيرة

لقد حدث هذا معه. عندما قفل عشّريّته الثانية من العمر بأشهر قليلة. وفى رحلة برّية طويلة. بصحّبة رفيق له. وعبرحديث طويل. وجد نفسه. مُحاصر بين خياريّين أحّلاهما مرّ. ان ينّحاز الى دمه الى ذويه الى غُزيّته , كما قال عنها ابن الصمّة ذات قصيدة. غزيّته هذه. التي تخنّدقت بانحيازها باكرا وبدون تروّى. الى صف , كان يتصدّره ويقوده غَرِيمها التقليدي. او الوقوف الى جانب رفيق رحلته. في خندق مقابل. يسعي الى هدف من بين النتائج الحتّمية للوصول اليه. ملاحقة وتشتيت وبعثرت وتهميش هذه (الغُزيّة). لتكون ودائما على هامش الحياة واطرافها.

كان عليه ان يختار , بل قد كان فعل الاختيار. قد وقع. مع اخر الكلمات التي قفل بها رفيقه الحديث. ولم يتبقّى له من كل هذا. سوى الانحياز الى خندق الرفيق او الوقوف الى جانب غُزّيته. لقد حاول التدخل في مجرى الحديث. بغّية بعثرت صورة فعل الاختيار قبل تشكّلها.. من خلال جر الحديث الى وجه من وجوه الهزل. البعيد عن الجدْ. محاولا ان ينتهي بالحديث الى مدارج المزّح الثقيل. ويقف به عند هذا الحدْ. ليكون في هذا. مخرج له ولرفيقه. اذا ما حصحص الامر.
لكن رفيقه كان عازم على مواصلة حديثه. بصيغة ارّتسمت بكل ملامح الجدْ والمسؤولة. فما كان منه. الا ان يكون صادق مع رفيقه. وصارحه بانه. لا يقبل بعرّضه. رغم ما يحمل هذا الوضوح. من خطورة على كِليهما. فانقطع الحديث وعمّ الصمت حتى نهاية الرحلة.
تساءل بين نفسه. عبر هذا الصمت المطبق. ماذا لو انحيازه طال بالضرر رفيق رحلته؟. شغله الامر وحيرّه كثيرا. وعندما حدث هذا ووقع. ألِفَ نفسه. تجعل من جسده. مِجَنّ من لحم ودم. لتتقي به ما قد يُصيب رفيقه من ضرر. ولكن دون جدوة.

وباكتمال هذا الحديث. الذى حاول تمّيعه وبعثرته واجهاضه. وبفشل ذريع. كانت قد ارّتسمت الصورة الكاملة لفعل الاختيار. ولم يتبقى له من كل هذا. سوى فعل الانحياز. فدفع بانحيازه. الى ما كان ليرّضى بغيره. من شكّل وصاغ ميوله وذائقته وكل مرّتكزاته المعنوية, في بواكير صباه , بحاضنة تنشئته المبكّرة.
لم يجتهد كثيرا في الوصول الى اختياره. الذى جاء متكأ ومنصاع الى ما همست به. الى داخل اذنه الواعية , حاضنة تنشئه الاولى. بان يذهب الى حيت دمه الى ذويه الى غُزيّته لا الى غيرها او سواها. فهي من اختارته ودفعت به. مع بعض من ابنائها. للانخراط في هذا السلك النبيل. والذى وجد نفسه وبعد سنيين فى معّتركه. امام خيار. ما من تجرّعه بُدْ.
فتلك التي هدّهدت طفولته , زرعت طاعتها في شرايينه وما يجرى بداخلها. ورعتها وحضنتها في مُتابعة مراحل حبّوه , ومع لحظات وقوفه الاولى بخطى متعثّرة. والتي لم تستوى وتستقيم. الا بعد محاولات حثيثة منه. برفقة صيّحات تشّجعيه داعمة من تلك الحاضنة المبكّرة.
لقد وجد نفسه. بانحيازه الى دمه ذويه غزّيته. وجها لوجه مع من كان يتصدّر ذلك الصف ويقوده. في جلسة وحديث. حول الاختيار والانحياز وابعاده. استنتج وتبين من كان يجلس قُبالته حينها. بان الانحياز جاء للدم للذوي للغُزيّة. وليس له ولا الى صفّه. جاء ذلك واضحا وصريحا. عندما لاحظ من كان يُجالسه. ظهور علامات نفور. ساطعة صارت تغطى صفحة وجهه. في دلالة صامته. على عدم قبول ما يُطرح امامه.
كان الطرح يضم في محتواه. ويطالبه ايضا. بالعودة للتواصل مع الخندق المقابل. والاندماج فيه. من خلال رفيق رحّلته. وان يكون اذن وعين بداخله. نفر من العرض ومضمونه. فبادر الى رفّضه وعدم قبوله.

وعندما نضجت وفى ثواني قليلة. مضامين الرفض والاعتذار في فَهَم وفكر. من كان يُجالسه. انتفض هذا. منهيا الحديث , وقفله قائلا. لو كان رفيقك يعرف. بان نَسَبك ينتهى الى تلك الغُزيّة. لما جاء منه ما كان. جاءت عباراته هذه في كلمات سريعة متتالية. تُخالطها نبّرة حنق. مَنّ احسّ وشعر بانكشافه وتعرّيه امام نفسه. او ربما تبيّن من كان يُجالسه. مقدار ما يحّمل الرد بالرفض. من جرّعة كافة. توحى بالانحياز الصريح لخندق رفيق الرحلة. لو لم تكن الغزّية حاضرة في المشهد.
لم ييأس من قفل الحديث بتلك العبارة. بل حاول عبر خادمه ودراعه الايمن. ذو الصلاحية الواسعة. معاودة الكرّة. جاء هذه المرة. بنبّره آمِره. تُكلّفه وتُحته بالعودة الى وصل التواصل مع الخندق المقابل. لم ينصاع للأمر. رغم معرفته بثقل تبعات ما فعل.
وعاود وعاد من جديد. وجاء هذه المرة في ثوب احد اتباعه. كان يعلّق على محياه. ابتسامة باتساع وجهه العريض. جاء. وكأنه يريد ان يجسّ ويتحسس ردة فعّله. تجاه خطوة. كان ينوى القيام بها. فبادره التابع ذو الوجه العرض. قائلا. قد علمّت من جهة مقرّبة. بانه قد تقرّر ترّفيعك وترقيتك درجة على من سواك. لم يدعّه يُكمل. بل قاطعه قبل ان ينهى حديثه. قائلا :- بانه ما كان ليرّفض الانخراط في سلوك ينّفر منه ولا يسّتسيغه. ليأتي في ما بعد. ليقبل بتعّليقه على صدرة او فوق كتفه. تبين له بعد حين من الزمن. بان محاولاتهم المتكررة تلك. كنت تسعى الى جرّه نحو مستنقعهم. واغراقه في اوحاله.

تلى تلك مرحلة اخرى تتالت خلالها. جمّلة من الأحداث. كانت تحدث معه. او تقع امامه او عن يمينه و شماله.. يلّفته حدوثها. ويُشّغله ويُتير استغرابه. ولكن ورغم هذا. لا يجد لها تفسير او تأويل. حتى جاء يوم جمعه داخل قاعة واسعة. مع لفيف واسع من رفاقه. في احد القواعد التى يرّتكز عليها متصدّر ذلك الصف وقائده. في معالجة اوجه الحياة الخشنة. التى قد يمرّ بها. كان لقاء استثنائي. تمرّكز الحديث فيه. على آت رهيب. كما ارّتسم امامه وبوضوح. بالكلمات والعبارات التي تناولته وشكّلته وصاغته. وسيعّصف هذا الآتي دون ريب. بكل ما قد تطاله يداه.
كان الحديث يكّتسى عبارات تنضح تهديد حين ووعيد احيانا. جاءت على لسان الشخصية المحورية في ذلك الاجتماع. شخصية عُرفت حينها ولقرّبها وقرابتها. من متصدّر ذلك الصف وقائده. بانها لسان حاله وقبضته الخشنة ويده الناعمة. جاء في حديثها الكثير من النقاط والتلميحات. كان بعض منها تُشير ويقيّنا. الى شخصه تلّميحا لا تصريحا. مما اضطره الى التدخل والتعليق اتنا الحديث.

ومن خلال ما تناوله اللقاء. توفر عنده كل ما يحتاجه من مفاتيح. لتفكيك غموض تلك الاحداث. التى كانت تحدث له او امامه او عن يمينه او شماله. وعرف ونتيجة لكل ما دار باللقاء. بانه كان مراقب ومتابع وعن قرّب في كل خطواته. شعر حينها بان النار قد فُتحت عليه. فالحرب اولها كلام. قرر لحظتها الانسحاب. ولكن ليس بهدوء. فالنار بالنار. واختار لذلك موعد يوم الاحتفال الكبير. والذى يُحاكى فيه الصف وقائده واتباعه. مهرجان يوم الزّينة. حيث يُحّشد الناس ضُحى. ليفّسد عليهم مداق فرّحهم. الى غصّة بمرارة العلقم. وكان له ما اراد. وان ثَمَ بعد ذلك ملاحقته. قُبض عليه. وقدف به الى ما وراء الشمس. ليقضى عشّرية من الزمان الا قليل. برفقة الخواء, وليمضي جل شِطرها الاول في حضن عزّلة انفرادية.
ثم عاد ثانيتا الى وجه الحياة. ومند ذلك الحين. كان اذا اختلى بنفسه. تستحوذ على تفكيره. وتحّتله وتشغل كل حواسه. عبارة التقطها ذات مساء. من على لسان درويش يكّتسى اسمال بالية. كان يزاحم المارة. في أحد الشوارع المكتظة بأحد المدن البعيدة. كان عندما يثقله التعب عن السير. يسّتند الدرويش بظهره الى الحائط. وهو يردد , وبصوت مسّموع. يضحك كثيرا من يضحك اخيرا. يضحك كثيرا من يضحك اخيرا. ثم يعقب ذلك. بضحكة عالية مجلّجلة. فتنّشد انظار المارة اليه. بالّتفاته باسِمة. ثم يعاود ويعودون الى حال سبيلهم..


ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...