1
جثة هادئة ولطيفة ،
لن ترهق ذويها باللهاث خلف طبيب الصحة ووكيل النيابة
للحصول على تصريح بالدفن،
في العتمة،
على بعد أمتار من ظهر البيت
شرقَ شجرة المشمش التى اعتاد صاحبها أن يمضي تحتها قيلولته،
في الحفرة التي لن يسموها قبراً
ستنام طيّعة دون أن تنتظر دمعة من أحد،
من يدري
ربما بعد شهرين أو ثلاثة
وفي المكان نفسه
تنبت أقحوانة
و من تلقاء نفسها
تتكفل هي بالمهمة.
2
لو أمهلتهُ الطلقةُ
لعرف أن الحروب الأربعة التي عاصرها،
زوجاتهُ الثلاث،
ولدهُ الأصغر على وجه الخصوص وهو يحبّ على يديهِ ويستعطفهُ أن يسافر معه إلى البلاد البعيدة،
كرم العنب السمّاري الذي كان يباهي به جيرانه قبل أن يرحلوا،
الحرباء التى تظل تلصفُ بالأخضر الزاهي فوق غصن العوسج ، تظن أنه لن يراها، لن يتطلع لعينيها الحجريتين وهما تدوران حول نقطة ثابتة،
عصا اللوز التي لم تعترض على دأبهِ ومشاويرهِ الطويلة رغم تآكل كعبها الجلدي، لم يصمد لشهرٍ واحدٍ بعد أن أمضى الإسكافي ساعة أو أكثر في تثبيته باللاصق والمسامير المدببة الصغيرة،
حتى رمل الدرب وحصاه، جمهوره المخلص،
كل هذا لم يكن كافياً ليقنع السلاح الذي أعطاهُ ظهره هو وصاحبه
أن الشنار لا يبول،
وأن شجرة الزيتون التي تتوسط البيت
زرعها أبوه ذات شتاء قديم
ولم يوصه بأن يقصّ لحيتها .
3
هتف في قلبه: ليست الجاذبية، لو كان نيوتن حياً لنتفت شعر ذقنه، لم يتوقف كثيراً أمام: هل كان نيوتن حليق الذقن أم كان يطلق لحيته؟ قال لنفسه: لو لم تخرب التفاحة لما سقطت من الشجرة ! لولا خرب كرم الزيتون لما شردت أسراب الدويري والحجل، لولا خربت البيوت لما رحل الناس،
.. أما الكلاب الضالة ملعونة الوالدين فقد اختفت هي الأخرى بعد أن فشل بكل الطرق في إبعادها عن حلال البيت من نعاج وماعز ودجاج، باستطاعته الآن أن يربي ما يشاء في البيت! أي بيت؟
ملعونة الوالدين لو استطاع أن يعرف إلى أين رحلت لما كان في حاجة لبراهين يثبت بها نظريته.
4
سقطت الدانة فوق سقف البيت، طبيعي أن لا ينجو شئ، أحدٌ ما كان يسعل وهو يجاهد أن يسحب ما يشبه جسداً. محكومة بالأنقاض تتكور البقايا، قاعدة أريكة هنا، قاعدة مرحاض مقلوبة على قفاها هناك، صنبور ميت، حائط يميل على وشك، فوضى بلا رئة توزع الغبار، نصف ليمونة ين حجرين، أبخرة الشاي دون أن يسأل أحد: كيف لم ينقلب الكوب على قفاه؟ كان واقفاً ما يزال كأن شيئاً لم يتغير، أو كأنه ينتظر فماً هو وحده من يدلهُ على سر علاقة الشاي بالليمون.
5
فاجأهُ المسلحون وهو يجلسُ فوق حجرٍ من بقايا بيتهِ، يدخن سيجارته ويجادل جاره الذي اختار حجراً أقل ارتفاعاً ليجلس فوقه حول حال البلاد البعيدة التي سيرحلان إليها، فرّ ذكران من الدويري كانا يتعاركا في الجوار، أشار كبيرهم من بعيد فهب جاره واقفاً، حرك سبابته: لا لا أنت، إلى الداخل جداً دخل نصل السبابة فحدث ما كان يخشاه، قدمُ أحدٍ غيره كانت تخطو ، " ألا تعرف أن التدخين حرام؟ " قال الملثم الذي لم يغادر السيارة فتحركت غيمة سيشكرها في وقت لاحق، دعس السيجارة تحت القدم التي عادت لتكون قدمه، مدّ علبة التبغ وهو يستعطف : "بالله عليك افرمها بيديك" أشار إليه الملثم أن يفعل هو ففعل وهو يمدّ القداحة :"حتي تتأكد أنني لن أفعل ثانية"، بودٍ هذه المرة قال كبيرهم : "احتفظ بها ربما تحتاجها"، تتابع الود فكاد أن يتورط ويقول أنه لن يمضي الليلة هنا لكن غيمة أخرى وقفت فوق رأسه ليبلع لسانه فيسأله الملثم : "مع من تقف في هذه الحرب؟"، بروحه التي دخلت إلى مخبئها قال متلعثماً : "أي حرب؟!" أشار الملثم إلى الأنقاض فتجمدت أطرافه، بإلهام من حمامة وحيدة لم تشرد مع سرب الحمام الذي كانت زوجته تربيه تمالك ما بقى من حواسه ليقول : "اسمع يا رجل لو قلت لك أنني مع الطرف الأول ربما تكون أنت من الطرف الثاني، ولو قلت لك أنني مع الطرف الثاني ربما تكون أنت من الطرف الثاني، أنا مع حلالي وأهل بيتي". ضحك الملثم وأشار للسائق فاستدارت اللاندكروز وتحركت تجر خلفها خطاً طويلاً من الغبار .
6
كل ليلةٍ تتدللُ عليه، لا جيران هناك، ولا أطفال يختبئون تحت أغطيتهم، يفتحون آذانهم على غنجها وتوسلاتها التي بالكاد يسمعها ذكر الحمام فيرتعش ريش ظهره، ويتحرك في فقصه نشواناً ؛ الليلة - بعد هذا الدويّ الذي بدأ من بعيد - لم ينادها، هي التي رمت بكامل بشرتها الخلاسية بين يديه، لا أحد يعلم من أي عتمة جاء هذا الكروان الذي أطلق صيحة أولى وأخيرة، بعد نهارين وبجهد شاق رفع العابر بقايا السقف ليجدهما ملتحمين، على وجهها بقايا ابتسامة، أما هو فكأنه كان يبكي.
أشرف العناني
مصر
جثة هادئة ولطيفة ،
لن ترهق ذويها باللهاث خلف طبيب الصحة ووكيل النيابة
للحصول على تصريح بالدفن،
في العتمة،
على بعد أمتار من ظهر البيت
شرقَ شجرة المشمش التى اعتاد صاحبها أن يمضي تحتها قيلولته،
في الحفرة التي لن يسموها قبراً
ستنام طيّعة دون أن تنتظر دمعة من أحد،
من يدري
ربما بعد شهرين أو ثلاثة
وفي المكان نفسه
تنبت أقحوانة
و من تلقاء نفسها
تتكفل هي بالمهمة.
2
لو أمهلتهُ الطلقةُ
لعرف أن الحروب الأربعة التي عاصرها،
زوجاتهُ الثلاث،
ولدهُ الأصغر على وجه الخصوص وهو يحبّ على يديهِ ويستعطفهُ أن يسافر معه إلى البلاد البعيدة،
كرم العنب السمّاري الذي كان يباهي به جيرانه قبل أن يرحلوا،
الحرباء التى تظل تلصفُ بالأخضر الزاهي فوق غصن العوسج ، تظن أنه لن يراها، لن يتطلع لعينيها الحجريتين وهما تدوران حول نقطة ثابتة،
عصا اللوز التي لم تعترض على دأبهِ ومشاويرهِ الطويلة رغم تآكل كعبها الجلدي، لم يصمد لشهرٍ واحدٍ بعد أن أمضى الإسكافي ساعة أو أكثر في تثبيته باللاصق والمسامير المدببة الصغيرة،
حتى رمل الدرب وحصاه، جمهوره المخلص،
كل هذا لم يكن كافياً ليقنع السلاح الذي أعطاهُ ظهره هو وصاحبه
أن الشنار لا يبول،
وأن شجرة الزيتون التي تتوسط البيت
زرعها أبوه ذات شتاء قديم
ولم يوصه بأن يقصّ لحيتها .
3
هتف في قلبه: ليست الجاذبية، لو كان نيوتن حياً لنتفت شعر ذقنه، لم يتوقف كثيراً أمام: هل كان نيوتن حليق الذقن أم كان يطلق لحيته؟ قال لنفسه: لو لم تخرب التفاحة لما سقطت من الشجرة ! لولا خرب كرم الزيتون لما شردت أسراب الدويري والحجل، لولا خربت البيوت لما رحل الناس،
.. أما الكلاب الضالة ملعونة الوالدين فقد اختفت هي الأخرى بعد أن فشل بكل الطرق في إبعادها عن حلال البيت من نعاج وماعز ودجاج، باستطاعته الآن أن يربي ما يشاء في البيت! أي بيت؟
ملعونة الوالدين لو استطاع أن يعرف إلى أين رحلت لما كان في حاجة لبراهين يثبت بها نظريته.
4
سقطت الدانة فوق سقف البيت، طبيعي أن لا ينجو شئ، أحدٌ ما كان يسعل وهو يجاهد أن يسحب ما يشبه جسداً. محكومة بالأنقاض تتكور البقايا، قاعدة أريكة هنا، قاعدة مرحاض مقلوبة على قفاها هناك، صنبور ميت، حائط يميل على وشك، فوضى بلا رئة توزع الغبار، نصف ليمونة ين حجرين، أبخرة الشاي دون أن يسأل أحد: كيف لم ينقلب الكوب على قفاه؟ كان واقفاً ما يزال كأن شيئاً لم يتغير، أو كأنه ينتظر فماً هو وحده من يدلهُ على سر علاقة الشاي بالليمون.
5
فاجأهُ المسلحون وهو يجلسُ فوق حجرٍ من بقايا بيتهِ، يدخن سيجارته ويجادل جاره الذي اختار حجراً أقل ارتفاعاً ليجلس فوقه حول حال البلاد البعيدة التي سيرحلان إليها، فرّ ذكران من الدويري كانا يتعاركا في الجوار، أشار كبيرهم من بعيد فهب جاره واقفاً، حرك سبابته: لا لا أنت، إلى الداخل جداً دخل نصل السبابة فحدث ما كان يخشاه، قدمُ أحدٍ غيره كانت تخطو ، " ألا تعرف أن التدخين حرام؟ " قال الملثم الذي لم يغادر السيارة فتحركت غيمة سيشكرها في وقت لاحق، دعس السيجارة تحت القدم التي عادت لتكون قدمه، مدّ علبة التبغ وهو يستعطف : "بالله عليك افرمها بيديك" أشار إليه الملثم أن يفعل هو ففعل وهو يمدّ القداحة :"حتي تتأكد أنني لن أفعل ثانية"، بودٍ هذه المرة قال كبيرهم : "احتفظ بها ربما تحتاجها"، تتابع الود فكاد أن يتورط ويقول أنه لن يمضي الليلة هنا لكن غيمة أخرى وقفت فوق رأسه ليبلع لسانه فيسأله الملثم : "مع من تقف في هذه الحرب؟"، بروحه التي دخلت إلى مخبئها قال متلعثماً : "أي حرب؟!" أشار الملثم إلى الأنقاض فتجمدت أطرافه، بإلهام من حمامة وحيدة لم تشرد مع سرب الحمام الذي كانت زوجته تربيه تمالك ما بقى من حواسه ليقول : "اسمع يا رجل لو قلت لك أنني مع الطرف الأول ربما تكون أنت من الطرف الثاني، ولو قلت لك أنني مع الطرف الثاني ربما تكون أنت من الطرف الثاني، أنا مع حلالي وأهل بيتي". ضحك الملثم وأشار للسائق فاستدارت اللاندكروز وتحركت تجر خلفها خطاً طويلاً من الغبار .
6
كل ليلةٍ تتدللُ عليه، لا جيران هناك، ولا أطفال يختبئون تحت أغطيتهم، يفتحون آذانهم على غنجها وتوسلاتها التي بالكاد يسمعها ذكر الحمام فيرتعش ريش ظهره، ويتحرك في فقصه نشواناً ؛ الليلة - بعد هذا الدويّ الذي بدأ من بعيد - لم ينادها، هي التي رمت بكامل بشرتها الخلاسية بين يديه، لا أحد يعلم من أي عتمة جاء هذا الكروان الذي أطلق صيحة أولى وأخيرة، بعد نهارين وبجهد شاق رفع العابر بقايا السقف ليجدهما ملتحمين، على وجهها بقايا ابتسامة، أما هو فكأنه كان يبكي.
أشرف العناني
مصر