عبد العزيز بركة ساكن - الإبن التائه يعود إلي البيت..

ما كان جدي لأُمي عبد الكريم إدريس يعرف شيئاً عن هجرات العرب إلى إفريقيا ولا التأثير والتأثّر الذي حدث نتيجة هذه الهجرات، ولم يبحث عن تفسير معقول لشرح وضعية أسرته وحالته الغريبة والمُربِكة. فالبلالةُ قبيلة إفريقية قديمة استقرّت حول حوض بحيرة تشاد بوسط إفريقيا، وهو يتحدّث لغتها كلغة أُم، لكنه ينتمي أيضاً لقبيلة صغيرة اسمها كُوُكَا بني حسن، تقيم تحت حماية وحكم البلالة وفي أرضهم. وعندما يغني ويشعُر فإنه يفعل ذلك باللغة العربية، وحين يتشاجر ويشتم يستخدم لغة البلالة، ويسافر للحج برجليه في عشر سنوات إلى مكة المكرمة عبر باب المندب عابراً اليمن والجزيرة العربية بعطشها ووحوشها ومخافتها وجنون صحرائها إلى قبر المصطفى وبيت الله.. لكنه يؤمن بالجد برمرجيل؛ وهو رب وثني قديم لا يعرف أحد من الأسرة تاريخاً له، ولكنهم يقيمون له الطقوس ويتقرّبون إليه بالذبائح والقرابين الأخرى، وتعلمت الأسرة كل تفاصيل الطقوس من لدنه.. ثم يعود الجد من الحجاز ليقيم في إثيوبيا بمدينة «قلووج» كإثيوبي (ارتريا الآن) يتحدّث لغة البلالة والتجرنة وينتسب لقبيلة بني حسن ويدين بالإسلام ويؤمن بالجد برمرجيل الوثني في ذات الوقت. ثم يموت بشرق السودان في مدينة خشم القربة، مُسجلاً رقماً فريداً لأطول السودانيين عمراً، حيث عاش ما لا يقل عن 130 عاماً.
نعود للغة الجد وأغنياته التي ترجع إلى زمن صِباه وما قبل ميلاده أيضاً؛ أي تلك الأُغنيات التي تتوارثها المجموعة البشرية جيلاً عن جيل:
* «قالْ للبادر كان مَشَيتْ
سَلّمْ عَلي السُمري
سَلّمْ علي زُولي
سَلّمْ علي بنات دُوري وعلى الرهد البٍقُوم سُتيب
البادِر: القَمر المكْتمل، والزَّوْلُ: الشَّخصُ، يقصد به هُنا المحبوب، السُتَيب: نُوع من النبات الجذري الذي ينبت في مراقد الماء. الرَهد: هو مرقد الماء في فصل هطول الأمطار».
وإذا تفحصنا الوزن الشعري لهذه الأغنية فلا يغيب عنا أنها اعتمدت التفعيلة الحُرة وأهملت صرامة القافية وتذكِّرنا بصورة معقولة بقصيدة السياب من ناحية التوزيع الموسيقي:
«عيناك غابتا نخيل
ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر».
بل إنها أكثر تمرداً موسيقياً، حيث تم إهمال القافية في الشطرين الأول والأخير من القصيدة، وأغنية جَدي كانت قبل السياب ومجايليه من شعراء الحداثة في الشعر العربي، مثل علي أحمد باكثير ونازك الملائكة ومحمد المهدي المجذوب وغيرهم بمئات السنين إذا قلنا إنها متوارثة. إذاً هل يمكننا أن نصل إلى نهاية منطقية بأن أصول الشعر العربي ذي التفعيلات الحرة قد ظهرت في زمن بعيد جداً وفي أرض بعيدة عن بلاد ما يُعرف الآن ببلاد العرب؟ فبانتقال الشاعر من بيئته انتقل الشعر أيضاً تماشياً بما هو مُستجد. هل يمكننا أن نقول إن التأثير والتأثر كان متبادلاً بين العرب المهاجرين إلى إفريقيا والأفارقة المقيمين بالأرض العربية؟ مع العلم أن طريق القوافل القديم كان يمر غربي بحيرة شاري وهو موطن جدي. فالشعر الإفريقي القديم وأغنيات القبائل الإفريقية كانت وما زالت تتبع نسقاً للنظم الشعري كثيراً ما يهمل القافية ويعمل على موسيقى حركة الكلمات ويهتم بالمعنى أكثر من اهتمامه بالموسيقى، كما أن موسيقى الشعر - أيَّ شعر - في الأصل ما هي إلا موسيقى أنشطة وطرائق حياة المجتمع، وهي أيضاً ذات ارتباط بالإيقاع السائد في البيئة من أغنيات وأصوات ووسائل تنقل وآلات وطقوس عمل. أخذ شعراء العرب الأوائل في إفريقيا إبان هجراتهم القديمة مع طرائق الحياة موسيقاها أيضاً، وظهر ذلك في شعرهم. كما أخذ الأفارقة الدين الإسلامي، ولكنهم أيضاً وضعوا عليه أمزجتهم وأصبح ديناً إفريقياً واستنسخوا عباداتهم وآلهتهم الوثنية في دين توحيدي؛ وبذلك لا يندهش الزائر لإفريقيا اليوم من طرائق العبادة الإسلامية التي تُمزَج بالرقص وإيقاعات الطبول وتقديس الموتى والأنهر، بل اختلاط الدين الإسلامي بقوة بممارسات سحرية قديمة في المجتمعات الإفريقية وبموروثات الحضارة النوبية والفرعونية والوثنيات المُتعدّدة، وحدث أيضاً تأثير عكسي، حيث أخذ العرب المسلمون المهاجرون بمرور الوقت والتعايش يتبعون طرائق الأفارقة في الحياة والتعبّد، بل يؤمنون برموز دينية وثنية إفريقية بحتة مثل الكُجور وجالبي الأمطار وأرباب الخصوبة وغيرهم، بل أصبح بعضهم فكيان وسحرة وكجوريون. فالدين الإسلامي في إفريقيا يتسامح ويتعايش كما تتعايش اللغة العربية نفسها التي تتحوّل إلى لغة عربية إفريقية خاصة جداً، ويكفي إلقاء نظرة على اللغة السواحلية ولغة جُوبا؛ فهاتان اللغتان ليستا لغتين للأفارقة يتحدثون بها مع العرب، بل هما في الأصل لغة العرب التي تم تشكيلها لكي تصبح اللغة الوسيطة وتوصلهم بالأفارقة أصحاب المكان بعدما تم تطعيمها بلغات وقيم المكان أيضاً، فاللغة كما يقول كارل ماركس حَمّالة قيم.
أضرب مثلاً آخر: في النيل الأزرق بالسودان، وهي منطقة تعيش فيها قبيلة البُرُونْ الكبرى، وهي قبيلة إفريقية زنجية قديمة تسكن جبال إثيوبيا والأراضي المنخفضة في جنوب النيل الأزرق، واللغة السائدة في تلك الأمكنة ما يطلق عليها اليوم لغة البرتي مع وجود لغات أخرى خاصة ببطون قبلية مُتعدّدة، ولكن الغريب في الأمر أن هناك قبائل عربية هاجرت للمنطقة في عصر السلطنة الزرقاء وكان يعمل أفرادها في تجارة الذهب وبعضهم في تجارة الرق. ويوجد أفراد هذه الجماعات العربية إلى اليوم، الشيء الوحيد الذي احتفظوا به من عروبتهم هي أسماؤهم العربية فقط والمظهر الخارجي للدين الإسلامي، أما لغتهم الأم التي يتغنون بها ويكتبون بها شعرهم ويحلمون في مناماتهم بها هي لغة البرتي؛ أي لغة القوم الأصليين في المكان. أما الأغرب فإنهم - وإلى شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي - يحتفلون بعيد اسمه «جَدْعُ النارْ» وهو عيد وثني قديم لقبائل البرتي والبُرون. هل ذلك يجعلنا نؤمن بنظرية «بارتون»، التي يمكن تلخيصها «بأن الموطن الأصلي للعربي هو إفريقيا وأن القبائل
العربية بدأت هجرتها من شمال غرب إفريقيا ومن جبال الأطلس بالذات متجهة نحو الشرق، حتى إذا ما وصلت إلى أقصاه، انشطروا إلى أقسام، فقسم منهم دخل مصر والآخر عرج شمالاً واستقرّ في فلسطين وسورية، وغيرهم واصل السير واستقرّ في العراق القديم». إذا صحت هذه النظرية فإنها تبرّر الذوبان السريع للعربي حالما يحط رحاله في إفريقيا: المقصود ذوبانه لغُةً وديناً وعنصراً، حيث ما يحدث ببساطة هُو هِجرةٌ عَكْسِيةٌ أو عَودةٌ الابنِ التائهِ إلى البيتِ الذي خرج منه باسم وعاد إليه باسم آخر.

بركة ساكن
التفاعلات: فائد البكري
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...